samedi 18 juillet 2015

النّهايات المأساويّة في رواية الطّلياني لشكري المبخوت


عباس سليمان
أدب فن،  17 - 07 - 2015

كثيرون هم الذين تحوّلوا من القصّة إلى الرّواية وكثيرون هم الذين جاؤوا الرّواية من الشّعر ولكنّ الذين دخلوا أبوابها من دنيا  النّقد والبحث قليلون جدّا ولعلّ الكاتب التّونسي “شكري المبخوت”  واحد منهم فقد فاجأ المبخوت بعد رحلة أكاديمية ثريّة ومتنوّعة القرّاء  بروايته الأولى التي سمّاها “الطلياني” وشغل بها السّاحة الأدبيّة واستطاعت روايته هذه أن تنال  جائزة البوكر العربية.**
قرأنا رواية الطّلياني فانفتحت أمامنا أبواب للبحث لا حصر لها لعلّ أهمّها فتنة الحكي والإشتغال على التّفاصيل الدّقيقة وتوظيف التّاريخ ّولكنّ ما سنهتمّ به في هذه الورقة هو النّهايات المأساويّة التي لاقتها شخصيّات الرّواية وما لتلك النّهايات من دلالات .
تنفتح الرّواية على لغز مأتاه حيرة جميع من حضر جنازة” الحاج محمود” ممّا أتاه ابنه “عبد  النّاصر” المسمّى أيضا الطّلياني الذي فاجأ الجميع في المقبرة  والمقامُ مقام خشوع ورهبة باعتداء عنيف على “الشّيخ علّالة” الإمام:
تعالى الصّخب واختلطت الأصوات :”الإمام غارق في دمائه “،”عبد النّاصر الطّلياني ضرب الإمام “،”لقد جنّ ابن الحاج محمود المسكين “،”  لا أدري ماذا وقع لا أرى إلّا الإمام ينزف فمه دما “…(7ص )
ولئن اختلفت المسارات وتشتّت الطّرق واختلفت الرّؤى والاتّجاهات فإنّ جلّ الشّخصيات تقريبا قد لاقت مصائر مأساويّة لعلّ السّؤال عن تأويلها سيفرض نفسه بعد أن نأتي عليها ونبيّنها.
الطّلياني
عبد النّاصر”  شابّ لقّب لوسامته وجاذبيّته بالطّلياني، ينحدر من عائلة برجوازيّة ،دخل الجامعة وانتمى إلى الحركة الطّلابية اليساريّة ليصبح واحدا من قادتها… التقى في رحاب الجامعة “زينة” طالبة الفلسفة التي لفتت إليها كلّ الأنظار بذكائها وجودة نقاشاتها ونقدها لفكر وسلوك كلّ من اليمينيّن واليسارييّن… أحبّها وأصبحت مدار اهتمامه وآل بهما الأمر إلى زواج لم يعلن ولكنّ ذلك الزّواج لم يمنع الطّلياني من أن يخونها مع صديقتها “نجلاء” ومع أخريات … بدأت نهاية حياتهما معا بالبرود واللّامبالاة وانتهت إلى الطّلاق.. وكان”عبد  الناصر” قبل أن يطلّق “زينة” أو تطلّقه قد طلّق النّضال السّياسي والنّقابي وارتمي في أحضان جريدة ناطقة باسم الحزب الحاكم.
كان الطّلياني شعلة نشاط طلّابيّ ونقابيّ وكان معارضا شرسا ويساريّا متطرّفا تعرّض مرارا إلى الضّرب والعنف من قبل البوليس ولكنّه أصبح صحفيّا من صحفيّي الدّولة …وكان عاشقا لزينة هائما بها فأصبح يتلذّذ بخيانتها  قبل أن يصبح طليقها رغم أنفه وكان سيجمعه بها طفل من صلبه فإذا “زينة” تختار وحدها دون استشارته أن تجهضه  وكان رجلا مقتدرا بدنيّا فأصبحت لقاءاته الغراميّة تنتهي بالفشل وبالعجز .
نهاية مأساويّة ساقت إليها الرّواية بطلها بعد أن طوّحت به بين تونس وفرنسا وبعد أن وضعته بين أيادي نساء كثيرات وبعد أن بوّأته زعيما وخطيبا ، نهاية تتعدّى مصير “عبد الناصر الطّلياني” لتنسحب على تيّار  فكريّ قائم بذاته فشل في أن يجمع حوله التّونسيّين  وعلى  مرحلة نقابيّة  من أهمّ مراحل تاريخ تونس ترجّل فرسانها تمهيدا للإرتماء في أحضان مرحلة جديدة.. نهاية تنسحب أيضا على فترة حكم بورقيبة التي امتدّت لأكثر من ثلاثين سنة.
زينة
فتاة من إحدى قرى الشّمال الغربي جاءت تدرس الفلسفة وأصبحت مثالا في إدارة النّقاش وفي إقناع الطّلبة برؤاها وهي ترى أنّ الثّقافة تتمثّل في طرح الأسئلة وفي  زعزعة السّائد وفي نقد كلّ من علينا نقده من اليمين كان أم  من اليسار… واجهت عصا البوليس وواجهت التحرّش الجنسي وواجهت حتّى التّهديد بالتّصفية الجسديّة… استطاعت أن تنال شهادة الأستاذيّة في الفلسفة وعيّنت بتلك الشّهادة مدرّسة في أحد المعاهد ولكنّ حصولها على تلكم الشّهادة لم  يكن في حدود طموحها فانبرت تواصل البحث جريا وراء شهادة التّبريز.  كان ذلك على حساب حياتها الزّوجية وعلى حساب صحّتها وعائلتها غير أنّ الرّاوي يختار لـ”زينة” بعد كلّ مجهوداتها وانكبابها على البحث وعلى ما تتمتّع به من ذكاء وفطنة وطموح  الإخفاق في الحصول على الشّهادة معلّلا الإخفاق بعدد ضعيف أسنده إليها أستاذ طلبها إليه فأبت وبعزوفها بعد ذلك عن الدّراسة والامتحانات .
تصرّ “زينة” على الطّلاق وتناله فتنتهي بذلك قصّة حبّ كبير ويوضع حدّ  لعشرة حفرت تفاصيلها في ذاكرة القارئ حفرا …تسافر إلى فرنسا ولكنّ سفرها لا يدرّ عليها نجاحا علميّا ولا حتّى اجتماعيّا إذ لم يكن في ذلك السّفر غير الزّواج بباحث فرنسيّ يكبرها سنّا ولا تربط بينه وبينها وشائج حبّ ولا تفاهم ولا احترام .
نهاية مأساويّة أخرى لا تتناغم مع ما خصّ به الّرّاوي شخصيّة “زينة” من شغف بالعلم وحبّ للبحث وطموح نحو مراتب عليا .
 الشّخصيّات الأخرى
   وغير بعيد عن مصيريْ كلّ من “زينة” و”عبد النّاصر” ،يلاقي كلّ من “الحاج الشّاذلي بن ي.” و”للّا جنينة” وزوجها “الشّيخ علّالة” و”نجلاء” مصائر مأساويّة .فالأوّل ينتهي إلى الموت كمدا بعد ما أخبره “صلاح الدّين ” بسيرة ابنته “للّا جنينة ”  : ” ربّما كنت سببا في تزويجها من “علّالة الدّرويش” أو سببا في وفاة والدها ولكنّي لا أريد أن أدفع فاتورة مبغى “الحاج الشّاذلي ” ، الكلّ دخله مجّانا مرّات ومرّات “ (ص 22) و”للّا جنينة” على جمالها وفتنتها وصغر سنّها تنتهي زوجة لرجل عنّين وتظلّ طول الوقت في بحث مستمرّ عمّن   يوفّر لها المتعة الجسديّة  حتّى يصل بها الأمر إلى اصطياد فتيان الحيّ… والشّيخ “علّالة” على كونه مضطلعا بمهمّة إمامة النّاس في الصّلاة وقراءة الأدعية والتّكفّل بشؤون من تتوفّاه المنيّة  فإنّ ما تعرّض له يوم جنازة “الحاج محمود” كان إهانة لا حدّ لها إذ ضُرب وعُنّف وسُبّ وشُتِم على مرأى من كلّ من حضر الموكب … وأمّا “نجلاء” فلم توفّق في زيجتها وطُلّقت ثمّ رمّمت حياتها بعلاقة حبّ وشهوة ربطتها مع الطّلياني، علاقة سرعان ما كشفتها “زينة” قبل أن تؤول إلى الفشل ثمّ  إلى النّسيان .
على سبيل الخاتمة
  لا تقدّم رواية “شكري المبخوت” أجوبة إنّما هي من الرّوايات التي  تطرح أسئلة على درجة عالية من العمق  ولا تكتفي بحكي ممتع سهل منساب- وإن بدا كذلك في ظاهره – بل تقدّم حكيا مستفزّا يحمل القارئ على العودة إلى التّاريخ وعلى تأويل المواقف وعلى ربط الأحداث وعلى التّفكير والبحث… هي رواية مرحلة بأكملها مع ما في تلك المرحلة من دلالات ومن تحوّلات كبرى ومن تغيير في وجهات النّظر ومن نهايات مأساويّة لئن بدت مرتبطة بالشّخصيّات  فإنّها تتجاوزها بعيدا لتنسحب محلّيّا على مرحلة حكم “بورقــيبة ” التي امتدّت على ثلاثين عاما كاملة ولتنسحب عالميّا على المرحلة الاشتراكيّة التي تمّت الإشارة في أكثر من موقع إلى فشلها واندحارها ،ها “صلاح الدّين” الخبير الاقتصادي الكبير يسأل أخاه “عبد النّاصر” مازحا أو كالمازح وهو يودّعه قاصدا سويســــــــرا : ” هل تأكّدت من انتصار الرّأسماليّة ومن الهزيمة النّكراء لاشتراكيّة الفقر والبؤس أيّها الحالم المخدوع ؟


** نشير إلى أنّ عديد المنابر الإعلاميّة والثّقافيّة قد نظّمت لقاءات احتفاء بصدور رواية المبخوت وبحصولها على جائزة البوكر .

Aucun commentaire: