mardi 25 septembre 2012

مدرسة الجمهوريّة الثّانية


              


    
(1)                        
عادوا إلى قاعات الدّرس ولا شيء ، تقريبًا ، قد تغيّر وإن تبدّل السّياق والمقام العام.
رجعوا إلى مقاعدهم ، أمام السّبورات ،قبالة من كادوا يكونون رسلاً، يحملون أحلامهم وأوهامهم ومنطق الرّبح والخسارة بديلاً من لهيب الشّغف بالمعرفة.
     خليط متنافر غائم الملامح تعمل المدرسة على اِستصفائه ومجانسته بصفتها جهازًا من الأجهزة الإيديولوجيّة  للدّولة.ولكن كيف يكون هذا الجهاز محقّقًا للغرض والدّولة لم تستعد عافيتها بل لم تجدّد ، على ما تقتضي الثّورات ، قواعد اللّعبة ؟ كيف يكون هذا الجهاز الإيديولوجي ناجعًا نافذًا وقد فتح السّياقُ الجديد ، على ما هو منتظر ، البابَ مشرعًا لرياح الأوهام العاتية وبرد اليقينيّات القارص ؟
      كأنّ المدرسة ، وقد فقدت إحداثيّاتها أو كادت ، أضحت عاجزة بدورها عن تجديد نفسها ، اِنتظارًا للمجهول أو غرقًا في موروث أوحالها من دولة الفساد أو قصورًا عن تصوّر البدائل.

(2)    
عادوا إلى قاعات الدّرس ورجعوا إلى مقاعدهم. ولكنّ الجهاز يكاد يتوقّف عن الاشتغال.
فحين نقول عن المدرسة التّونسيّة إنّها مفخرة دولة الاستقلال ليس في قولنا اِدّعاء بالباطل أو إعلاء في غير محلّه لأيّ كان.
والشّاهد بيِّنٌ لمن يريد أن يعرف ويعترف : هذه النّخبة الممتازة التي نراها في فضاءات المجتمعين السّياسي والمدني ، وفي المجالات جميعًا هي من الجني الدّاني لشجرة التّعليم  في تونس.
إنّها صورة مجسّدة لرحيق الذّكاء التّونسي و"تضحيات الأمّة" يوم كانت المدرسة مصعدًا اِجتماعيًّا ومرقاة معرفيّة تكسب أبناء "الشّعب الكريم" أجنحة يطيرون بها ليعانقوا شوق الحياة وقد تعلّقت هممهم بما وراء العرش : عرش العلم  والمدنيّة والقيم  الكونيّة.
واليوم ، بعد ثورة اِستثنائيّة صنعت المدرسةُ خميرتَها المدنيّة السّلميّة تأتي الأشباح الخارجة من قبور الفكر المتكلّس لتستبدلها بما هو شرّ منها وأضعف.
فكيف نفسّر ما عبّر عنه الدّعاة إلى تعليم سرقوا له صفة الزّيتوني من حرص على إلغاء الفنون الشّكليّة والموسيقى واللّغة الفرنسيّة وهذه ، لو ندري ، بعض ما به يتفتّح الخيال أو يرهف الحسّ أو يصْقَلُ العقل؟ 

(3)        
ليست مدرستنا في خطر بسبب من ناكري مدرسة الجمهوريّة وما بنيت عليه من مساواة وقيم جديدة لهويّة ديناميكيّة. فإن هذا إلاّ زبد سيذهب حتمًا جفاء وإن هو ثانيا إلاّ ظلال من الحقد الإيديولوجي على دولة الاستقلال  لا وقع له في منطق التاريخ وإن هو ثالثًا إلاّ مشروع فاشل لا محالة بموجب عدم مطابقته لسياق الحال حضاريًّا وعلميًّا واقتصاديًّا.
إنّ الخطر الحقيقي كامن في مدرستنا في حدّ ذاتها. إنّها مثقلة بالقرارات الخاطئة والبرامج المترهّلة وأساليب العمل البالية والعادات الفاسدة. فلا حوكمة رشيدة فيها ولا تشارك في صناعة قراراتها ولا شفافيّة في تسييرها ولا محاسبة لأهدافها ومهامّها.
والهم أنّها لم تعد فضاء يغري الأجيال الجديدة بالعيش فيها عاجزة عن منحهم متعة التّعلّم وبهجة المعرفة.
وبعد هذا ودونه إنّها مدرسة فقدت على مرّ الأيّام وظائفها التي أسندتها إليها الجمهوريّة الأولى وتحتاج إلى أن تنتقل ،في سرعة وسلاسة، إلى جهاز إيديولوجي للجمهوريّة الثّانية : جمهوريّة لحرّية بلا ضفاف ولعقل نقديّ وقّاد ولمواطنة تشاركيّة ولقيم الشّكّ المنهجي والجرأة والمبادرة.
عادوا إلى قاعات الدّرس والمدرّجات ، رجعوا إلى مقاعدهم .. في اِنتظار مدرسة جديدة تناسب المقام الاجتماعيّ والثقافي الجديد.

lundi 10 septembre 2012

خنجر آخر في قلب الحريّة الفتيّة



 1
بدأ كل شيء بشبهة سرعان ما استحالت يقينا فتبيّن في نهاية المطاف أنّها كذبة: ورطة حيكت من لحمة الدفاع عن المقدّسات وسدى تجرّؤ بعض أهل الفنّ على تلك المقدّسات.
بدأ كل شيء مع عدل منفّذ كان من حماة الحمى ضد الحاسدين الحاقدين على النظام السابق العتيد فأضحى من حماة الدين الذائدين عنه في زمن الصحوة الدينيّة التي امتطت صهوة الحكم.
ذهب في وهمه أنّ مقدسات الأمة في خطر بسبب من أعمال فنيّة في معرض العبدليّة فدعا ، من باب النهي عن المنكر، المؤمنين إلى ردّ الاعتداء الفني.
ليس يهمّ كثيرا ّان يكون الناهي عن المنكر لم يدخل فضاء للعروض الفنيّة  من قبل او ممن دخل حديثا في دين الله خارجا من جاهلية بن عليّ إلى نور ما بعد الثورة "الإسلاميّة" منتهى لا بدءا.
فالشبهة كادت تحرق البلاد ولا أحد رأى ما في المعرض عدا التلاعب ببعض الصور على الشبكات الاجتماعيّة.
2
استحالت الشبهة يقينا بعد أن جاء فصل المقال من رجالات الدولة فهل من دليل او مزيد:
فهذا وزيرنا للداخلية الشرعيّ النظيف يتحدّث في مجلسنا التأسيسيّ الموقّر بيقين جهينة عن المسّ بالمقدّسات في العبدليّة.فهل في تقارير الأمن من شكّ وقد عرف السيّد الوزير نفسه دقّتها يوم زار ، وهو المعارض في العهدين ، أروقة وزارته؟
وهؤلاء رؤساؤنا الثلاثة المنتخبون الشرعيّون يندّدون ، مجمعين مجتمعين، على لسان الجامعيّ الناطق الرسميّ لرئاسة الجمهوريّة ، عن المسّ بالمقدّسات في مشهد رائع لموحَّدين وموحِّدين.إنّها الوحدة الوطنيّة الصمّاء ضدّ...فنانين بذيئين لا يحترمون مشاعر الشعب المؤمن.
  وهذا لفيف من وزرائنا في حكومتنا الشرعيّة يؤكّدون في مؤتمر صحفيّ مشهود أنّ للمقدّسات شعبا يحميها وأنّ المجرمين المعتدين ليسوا إلاّ عصاميّين مبتدئين سينالون جزاءهم بغلق العبدلية أولا وبإحالتهم على القضاء ثانيا.وكفى المقدّسات شرّ الفنّ الهابط المستفزّ لهؤلاء المستعدّين فطريّا للاستفزاز.
3
استحالت الورطة ، حين بدأت الحقائق تظهر للناس ، إلى فضيحة صنعها من كان من المفروض أن يكون مدقّقا محقّقا لا يترك للهوى والانفعال منفذا إلى موقفه.
سقطت حجّة الطعن في الأشخاص ومعرفتهم بالفنّ فقد تبيّن ان من الفنانين العصاميّين المبتدئين أستاذة محاضرة في الفنون التشكيليّة ورئيسة قسم في أعرق معهد للفنّ التشكيليّ ببلادنا.
سقطت حجّة اللوحة المسيئة للرسول الأكرم: فقد كانت رسما معروضا في داكار أقحم بسوء نيّة في الفيديو المتلاعب به.
فهل كان وراء الورطة فالفضيحة أمر مدبّر كان يطبخ على نار هادئة أم فرصة ينبغي أن تنتهز؟
  فقد قدّم نوّاب كتلة النهضة بالمجلس التأسيسيّ مشروع قانون لتجريم المسّ بالمقدّسات بعد ذكر هذا الضرب من التجريم في مسودّة الدستور.ومن تعليلات الرسالة التوضيحيّة لدواعي هذا القانون ما حدث في العبدليّة ساهين عن قول الفقهاء: ما بني على باطل فهو باطل.
 أفلا يكفي هذه الثورة شرفا أنّها مكّنتنا ، بتوفيق من الشعبويّة السائدة وروح التديّن المتشدّد،من أن يكون لنا أوّل لاجئ سياسيّ اختار رومانيا ملجأ بسبب كتاب يمسّ بالمقدّسات بعد الحكم عليه، غيابيّا، بالسجن سبع سنوات؟.
إن هذا السعي لتجريم المقدّسات لا يخالف فحسب التوجّهات والتوصيات الأمميّة في مجال حريّة الضمير والتعبير فحسب ولكنه يفتح بالخصوص بابا لن يغلق لعدالة إيديولوجيّة تجرّم العلامة والتأويل ولا تحدّد الضحيّة إلا بشكل غائم تقريبيّ. إنّها عدالة خطيرة مستبدّة لأنّها تستدعي قيام رقابة مؤسّسية تنبني على تفسير ذاتي للمقدّس.
ألا تكفي عبرُ التاريخ وضحايا الفكر المخالف هؤلاء السياسيّين الذين يدعون التعلّق بالحرّية ولكنهم يغرسون، يوما بعد يوم، الخنجر تلو الآخر في قلبها الفتيّ؟