jeudi 30 mai 2013

الجامع والجامعة




1
لا أجد اسما لما وقع غير الضحك على الذقون.
وقعت القصّة في رحاب جامع الزيتونة المعمور بعد أن خرج عن سيطرة الدولة ووزارتها الراعية للشأن الدينيّ. كان ذلك بمناسبة الذكرى الأولى لما سمّي باستئناف التعليم الزيتونيّ الأصليّ. وليس في الحدث ما يدعو إلى الدهشة فهو نتيجة منطقيّة لمسار سابق متواصل. لكنّ الطريف هو أنّ من نصّب نفسه، في غمرة الفلتان ونشوة الحرّيّة إماما أعظم، اكتسب هذه السنة شرعيّة اغتصاب الإمامة من النبيّ الأكرم مباشرة. فقد فكّر الإمام المنتصب تلقائيّا في التخلّي عن المنصب المغتصب لكنّ الرسول زاره في المنام ليثنيه عن عزمه داعيا إيّاه إلى مواصلة رسالته التطهيريّة للجامع حتّى يستعيد عافيته العلميّة.
بيد أنّ هذا الشيخ الإمام لا يُعرف له نسبٌ عائليّ شريف يشرّع له ،كما شرّع لمن سبقه، الإمامةَ  ولا يُذكر له تأليفٌ علميّ أو اجتهاد فقهيّ يستند إليه في الأحقيّة التي زعمها. فقطْ تمّت الأمور في غفلة من الجميع ثمّ، لأمر مّا، باركه وزيرا التربية والتعليم العالي والشيخ الأكبر زعيم الحزب الحاكم في البلاد رضي الله عنه. وهاهو منذ أيّام يضيف إلى مباركة السلطة السياسيّة شرعيّةً نبويّةً وإن كانت في المنام.
هذا شأن الجامع وشيوخه نعرضه ولا رأي لنا فيه غير الاستغفار والحوقلة وكلاهما لا يهمّان أحدا غير من أنشأهما على وجه الدعاء أو غيره من الوجوه التي قد يحملان عليها في مثل هذه المقامات. ولسنا نهتمّ في هذا بالخصوص بتحديد الذقون التي ضحك عليها الشيخ ولكنّنا سننتظر من سيضحك في نهاية الحكاية السمجة ضحكا كالبكاء.
2
 ما يعنينا من حفل إحياء الذكرى الأولى لما سمّى باستئناف التعليم الزيتونيّ إنّما هو تعبير أحد مهندسينا البارعين العاملين في أرقى مراكز البحث الأمريكيّة عن نيّته في إحداث " جامعة زيتونيّة لعلوم الطبّ والهندسة" ( كذا!).
نعم خرّيج المدرسة الوطنيّة للمهندسين بتونس وابن مدرسة الجمهوريّة الحديثة والباحث في جامعات كندا والولايات المتحد الأمريكيّة تأخذه الحميّة، حميّة مّا، فيلقي الكلام على عواهنه.
نتفهّم أن يكون الوفاء لأب زيتونيّ كان يصحّح المصاحف المطبوعة في بلادنا عاملا من عوامل الحماسة، و قد نجد في رمزيّة الجامع الأعظم ومكانته في القلوب ما يبرّر هذه الحميّة ولكن أن تنقلب الحميّة والحماسة إلى جامعة للطب والهندسة فدون ذلك، في تقديرنا، خرط القتاد كما كانت تقول العرب أو لعلّه مصداق لحكمة الأجداد "إنّ البلاء موكّل بالمنطق".
فإذا كانت الزيتونة رأسمال رمزيّا مشتركا فكلّ جامعاتنا زيتونيّة بمعنى من المعاني أصلها أضحى، منذ نصف قرن، ثابتا وهي ترنو إلى أن تعانق فروعُها السماء وإن لم يكن من الممكن، في عصرنا هذا، أن تكون لا شرقيّة ولا غربيّة إلاّ على معنى أنّ العلم كونيّ كلّيّ.
 أمّا إذا كان القصد من وعد المهندس البارع تدريس الطبّ والهندسة تحت إشراف نظارة الجامع المتكوّنة من شيوخ لا يفقهون إلاّ في الدّين، وهذا من باب المسامحة وحسن الظنّ، فهو لممّا يخالف نواميس الجامعات ومعاييرها في العالم كلّه فيكون لنا اسم ولا مسمّى تحته. والأرجح أنّه من باب اللّغو الذي لا يصدر عن عاقل يعرف العلم والتعليم والبحث والجامعة وكيفيّة تسيير شؤونها.
3
 إنّ الجامعات اليوم، لمن يطلب النهضة العلميّة الحقّ، ليست بناءات وأموالا وتسميات. بل هي أساليب في إدارة الشأن الجامعيّ بيداغوجيّا وأكاديميّا، وهي كفاءات من أرفع طراز وبرامج ومسارات دراسيّة لها مواصفات دوليّة وبحوث وإنتاج علميّ نظريّ وتطبيقيّ وترقيات على أساس منشورات علميّة محكّمة في مجلاّت عالميّة يصدر أغلبها بالأنجليزيّة أساسا.
فإذا كان مهندسنا البارع في علم الحيل، أو الميكانيكا كما تقول الفرنجة، قد باع الحضور الكريم من الشيوخ، على سبيل الحماسة التي يدعو إليها المقام، فقد حقّق غايته في الإشباع النفسيّ لمن استضافه وكرّمه وكرّم والده الشيخ وإذا كان جادّا في قوله فليس لنا إلاّ أن نحوقل ونستغفر مرّة أخرى.
فالجامعة مفهوم حديث، وهي غير الجامع، ومؤسّسة لا يُدرّس فيها إلاّ ما اتفقت عليه الجماعة العلميّة العالميّة. فما الهندسة التي ستدرّس في الجامعة الزيتونيّة الموعودة ولا نجدها في مدارس الهندسة المنتشرة بالبلاد؟ وما نوع الطبّ الذي لا تحترم جامعاتُنا الحاليّة قواعدَه وفنونه ومراسمه؟
إنّ لجامعاتنا ولمنظومة التعليم في بلادنا من العلل والأمراض ما يكفي. وهي تتطلّب، بعد عقد النيّة وصحّة العزم والإرادة السياسيّة الواضحة، وقتا طويلا وجهدا سخيّا لعلاجها. ولا أظنّنا نحتاج، خصوصا من نوابغنا الذين خبروا حقيقة العلم المنتج النافع لدى صنّاعه، أن يشاركوا في حفل صبغ العلم والتكنولوجيا بالإيديولوجيّات الزائفة والهوّيّات المأزومة حتّى لا يكون المآل مزيدا من الضحك على الذقون فنجد أنفسنا جميعا مع آخر الضاحكين ...ضحكا كالبكاء. 

mardi 21 mai 2013

تدريب على حرّيّة الضمير


1
واقع لا تحظئه العين المجردة: سوق للأفكار تنتصب يوميّا في بلادنا، أفكار متعدّدة المصادر والمراجع، صراع على المعنى و تأويله حادّ.كلّ يدّعي وصلا بالحقّ الحقيقة البشريّ أو المتعالي. كلٌّ يرى فرقته، بخلفياتها السماوية أو الأرضية، ناجية لا محالة و يرى، متأسّفا، أنّ أغلب الناس لا يعلمون.
و الحاصل أنّ هذا يعكّر صفو الفكر و يدخل سوس الشك في النفوس فيدمّر التوازن الثقافيّ العام ويشوّش بلغة أهل السلطة و قوانينها "صفو النظام العام". 
تضيع البوصلات جميعا بما يبعث في الوجدان إحساسا بالإساءة إلى الآخرين في اعتقاداتهم أو أخلاقهم أو ثوابتهم ومقدّساتهم.
تدور عجلة الاتهامات المتبادلة. كلٌّ يتهم غيره باستيراد الأفكار من الغرب المخرّب للعقول أو من جزيرة العرب الناشرة لأشدّ ما في البداوة من انغلاق فكريّ و تشدّد روحيّ.و الضحيّة في الحالات جميعا واحدة: أسس التعايش و التسامح بغرس بذرة الحقد و التمييز و الكراهيّة و العنف باسم الدين في الأغلب الأعمّ و ضدّه أحيانا.
ما ننساه دائما أنّ الرهان سياسيّ و ليس فكريّا لأنّ الثقافة تقوم على المجادلة بالحسنى ولأنّ الفكر يحوّل طاقة العنف الماديّ غير المحتمل إلى حجاج محمود في الفضاء العام.
2
 منذ سنة، يقبع في السجون التونسية شابّ في المهدية حكم عليه بسبع سنوات و نصف.
 منذ سنة، غادر شاب آخر البلاد فاراّ من الحكم القضائي نفسه طالبا اللجوء السياسي.
و التهمة هي " التجاهر عمدا بالفحش وترويج  نشريات و كتابات أجنبية المصدر و غيرها من شأنها تعكير صفو النظام العام و النيل من الأخلاق الحميدة والإساءة للغير عبر الشبكات العمومية للاتصالات" بحسب منطوق مجلة الاتّصالات المتقادمة التي وضعها الدكتاتور لتحصين عرشه.
و الطريف هو منطلق القضية .فقد رفعها مواطن كريم وأحد المحامين متّهمين الشابّيْن بالمسّ بالمقدسات و التحريض على الفتنة .ممّا تسبب لهما في " ضرر معنوي حادّ".
والوقائع عنيدة لا تقبل الدحض : تحرير كتاب بذئ يهاجم الدين الحنيف وإعادة نشر صور كاريكاتوريّة تسيء إلى النبيّ الأكرم من قبيل الصور الدانماركية و صور "شارلي هبدو".
و الأطراف أمران: أوّلهما إقرار المتّهمين بذلك و اعتبارهما له تعبيرا عن "معتقدات شخصية لا غير" والثاني رفض دفاع المحامين عنه و سكوت جلّ المدافعين عن حقوق الإنسان وهو أمر مفهوم في سياق سياسي يعتمد الصراع فيه على الشحن الديني و توظيف العقائد والمقدّسات.
3
بقيت أسئلة عديدة معلّقة : هل يعتبر هذا الشابّ سجين رأي؟ أم إنّه يستحقّ العقاب بسبب تعمّده الإساءة للمقدسات؟ هل يندرج ما قام به في باب حريّة الضمير والتفكير و التعبير؟ أم أنه من باب التجديف و الهرطقة و الكفر؟
هب أنّ الشابّين يعانيان من " رهاب الإسلام" و يعبّران عن " كراهية للذات" الثقافيّة، وقد اعترفا بإلحادهما، فهل يجوز في مجتمعنا ألاّ يكون للمرء دين؟ هل يحقّ له أن يبدّل دينه؟
هل الفيصل في المجتمعات الديمقراطية هو نوع الفكر المعبّر عنه أم هو بثّ الحقد و التحريض على الكراهية و التمييز واستعمال العنف والحثّ عليه؟ 
هل تحمي حقوق الإنسان الأفراد و حقوقهم في التعبير والتفكير أم تحمي أنظمة الاعتقاد المختلفة؟ هل الحقّ في حريّة التعبير مطلق كما تزعم الدول الديمقراطية أم هو مقيّد باحترام مشاعر المؤمنين إذا أحسّوا بمساس بمقدّساتهم؟
هل ينطبق هذا الإحساس على أصحاب الديانة الواحدة داخليّا أم بين الديانات المختلفة التي ترى نفسها على حقّ و غيرها على باطل ؟ لنتذكر فقط أنّ الأمر لا يخصّنا نحن المسلمين فحسب وإنما الإشكال عالميّ في كلّ دين و بين الأديان جميعا.
ما دمنا بلا دستور فعلى نوّابنا الأفاضل في المجلس التأسيسي الموقّر أن ينظروا في الأمر.
 ما دام لنا رئيس، وإن كان مؤقّتا، فليتذكر أن هؤلاء أيضا أبناؤنا وليتصرّف كما شاء بمنطق الحقوقيّ المبدئي على ما هو مأمول أو بمنطق الحساب السياسيّ على ما يفعل الآن في شأن هذه القضيّة. فكلا الأمرين من صلاحيّاته...الفرديّة.
فقط لنتذكر جميعا أن جابر الماجري و غازي الباجي لم يأتيا من المريخ هما أيضا و لنفكّر لحظة كم من جابر و غازي خارج السجون أو في المنافي. فالرهان أكبر من هذين الشابّين .ولا فرق، حقوقيّا وقانونيا وأخلاقيا، بين أن يسجن المرء من أجل الدفاع عن اعتقاده الدينيّ أو بسبب نقد الاعتقادات الدينيّة .

mardi 14 mai 2013

ثقافة الإرهاب



1
أخيرا، بعد لأي، وجد جلّ التونسيّين عدوّهم المشترك. فأطلقوا العنان لحماسة وطنيّة تتردّد في أعطافها أصداء من خطاب مصمٍّ سبق لنا سماعه.وجدوا قطعة لحم طازجة ينهشونها في لهفة وتناغم غائم.ومن باب الصدفة لا غير كان اسم هذا العدوّ هو الإرهاب السلفيّ.
فجأة تبدّل كلّ شيء. لم يعودوا يبشّرون بثقافة لا تمثّل خطرا ولا عادوا ضحايا لقانون الإرهاب الظالم الذي وضعه الحاكم المستبدّ. بدأت الجوقة تردّد أهازيج الوحدة الوطنيّة الصمّاء والدفاع عن الدولة وتمجيد جيشنا الباسل وأسود أمننا الوطنيّ.
هكذا، بعد أن سال دم وبُترت أرجل وشُوّهت وجوه أصبح المنادون بثقافة جديدة قطعانا من الحالمين بجنّات عدن يتدرّبون على تجسيم كوابيس شيوخ يصولون، ولا رقيب في جوامعنا، ولآخرين فتحت لهم القاعات الشرفيّة، صاروا مجرمين لا يفقهون سماحة الدين الحنيف ويتأوّلونه على وجوه لا تمتّ له بصلة، استحالوا دمى تحرّكها أياد خفيّة لنشر الجهالات وإفشال حكومتنا الفاشلة أصلا. فجأة تبيّن أنهم ليسوا فزّاعة من صنع الإعلام ومبالغاته ونواياه السيّئة وليسوا أزلاما.كانوا وهاهم هنا.
ما يتناساه بعض المشاركين ، طوعا أو كرها، في هذه الجوقة، بعد صمت مريب أو دفاع بائس مناور، أنّ المسألة أبعد شأوا ولا شيء يوقف هؤلاء. فلا العلَمُ علَمهم ولا النشيد نشيدُهم ولا المجال الجغرافيّ مجالُهم ولا الدولة دولتُهم ولا الرموز رموزُهم.هم جند اللّه الغرباء بيننا في المكان والزمان والمعنى يرنّ في ذاكرتهم الحديث الشهير مُهدهِدا مفعما بالأمل :" طوبى للغرباء".
2
أخيرا أصبح لدينا، ككلّ الشعوب العظيمة المحسودة، عدوّ مشترك نعلّق على شمّاعته قبحنا وفشلنا ونتأكّد في مرآته من نصاعة وطنيّتنا وصفاء وحدتنا. لنا عدوّ ينكّل به بعضُنا ليؤكّد صحّة تنبيهه السابق لنا ويتنكّر له بعضُنا الآخر بعد أن برّر ودافع.
لقد تأكّدنا أخيرا أنّهم يروننا لم نغادر الجاهليّة الجهلاء وهم يريدون فتحنا ثانية لنشر نور الله في قلوب أعمتها العلمانيةُ والديمقراطية والسلع الفكريّة الوافدة. ثبت لديهم أنّ جندنا ورجالَ أمننا طواغيت تحمي الكافرين وتصدّ المجاهدين في سبيل إعلاء كلمة اللّه.
والغريب أنّ كلّ شيء كان واضحا منذ البدء، منذ أمد. الخطاطة معروفة مألوفة، جرّبت من قبل فثبتت. فلم التعجّب؟ ولم الدهشة؟ أجديد حقّا ما نشاهده؟
منذ سنوات قليلة منّا من مات دفاعا عن الدولة ضدّ هؤلاء أنفسهم ومنّا من شجب واستنكر ومنّا من رحّب وتعاطف باسم مقاومة الدكتاتور. فما الذي تغيّر يا ترى؟ عودوا إلى صحائف تلك الأيام وقارنوا ما كان يقال وما يقال اليوم. نعَمْ رحل الدكتاتور ولكنّ العَلَمَ وقتها هو العلم الآن والنشيد هو النشيد والدولة هي الدولة.فلمَ يتكرّر الخطأ نفسه؟ مرّة أخرى ما الذي تغيّر؟
3
ثمّة شيء جوهريّ وراء هذا كلّه: هل ترفض ثقافتنا السياسيّة السائدة تغيير هيئة الدولة ونظام الحكم بالسلاح ؟ دعك من صريح اللّفظ وانظر بعين العقل إلى المعاني.
لنتدرّب على استحضار بعض ما علق بالذاكرة من نوازل وأحداث مشابهة .
منذ أسابيع أحيى عدد من مواطنينا الكرام ذكرى إعدام بعض من رفعوا، في أوائل الثمانينات، السلاح  في وجه الجيش التونسيّ قادمين من ليبيا لتنعم تونس باللّجان الثوريّة على النمط القذّافي. فأصبح زعيمُ العصابة ، في حفل ترميم الذاكرة المشروخة، شهيدا من أجل الوطن ومقاوما لدكتاتوريّة بورقيبة.
قبله بسنوات كثيرة، مباشرة بعيد الاستقلال، قامت مجموعة من المدنيّين والعسكريّين بمحاولة انقلابيّة أضحت اليوم لدى البعض حركة ثوريّة قامت ضدّ النظام البورقيبيّ الخائن العميل. فاستحقّ المشاركون فيها صفة المناضلين الأشاوس المدافعين عن هويّة البلاد وعروبتها وإسلامها.
في بداية الألفيّة اعتدتْ خليّة من خلايا القاعدة على معبد الغريبة في جزيرة السياحة التونسيّة، وفي أواسط العشريّة الأولى منها عمدت مجموعة إلى استعمال السلاح في ضواحي العاصمة.حوكموا ثمّ تمتّعوا بالعفو التشريعي العام ووُظّف بعضُهم، على سبيل جبر الضرر، منذ أسابيع قليلة.
منذ أشهر، عاد شابّ من العراق في تابوت بعد إعدامه. أعدّزا له ما يليق بالأبطال من استقبال وتأبين. اعتبروه مجاهدا قاوم الاستعمار الأمريكي والهيمنة الشيعيّة وسيحتسبه المولى ضمن الشهداء.ولهذا الشاب أشباه في إفغانستان وسوريا وليبيا ومالي والجزائر ما طمنا بلدا يصدّر الأبطال الذائدين عن بيضة الإسلام.
ليعد كلّ واحدٍ إلى نفسه يحادثها حتّى يتأكّد ممّا يدين به اليوم  مَنْ يوجدون في جبال الشعانبي. فإذا صحّ عندك ما سبق أو بعضه كنت تبرّر ولا ريب، من حيث تدري أو لا تدري، ما يحدث اليوم من إرهاب مقيت وإن تغيّرت الجهات والأسماء والدوافع والإيديولوجيّات. تثبّت مليّا قبل أن تشارك في وليمة نهش لحم السلفيّة الجهاديّة المتاح اليوم بالمجان. تأكّد قبل أن تشرب على أنخاب الروح الوطنيّة السامية.  

dimanche 12 mai 2013

دستور الورقة البيضاء



1
لم يكن ثمّة من سبب وجيه للانطلاق من ورقة بيضاء في كتابة الدستور عدا ما يحمله مفهوم الثورة ذاته من معنى القطيعة والانفصال والبداية من أرض محروقة.
ثمّة ولا شكّ في كلّ نزعة ثوريّة حلمٌ بالتأسيس على فراغ، وبياضٌ ملازم للطهارة. ثمّة في كل ثورة اشتهاءُ الولادةِ من جديد بما في الولادة من نقاء وصفاء وبراءة.
بيد أن التاريخ بتعقّده ومكره ومنطقه يأبى الفصل، وإن شبّه لنا، ويكره الفراغ ويمدّ لسانه هازئا بالطهرانيّة المبالغ فيها.
والحقّ أن اليسار التونسيّ الفاشل المغرم عبر تاريخه بالطهر الثوريّ الكاذب، الحالم بمدينة لسنا متأكّدين من أنّها فاضلة حقّا، هو الذي بدأ فكرة التأسيس، مجلسا ولجانا لحماية الثورة ودستورا يعيد صياغة المواطنة والدولة بدأ حتّى بإفساد اجتماعات الخصوم بعد الثورة.
مزايداتٌ في سوق الأحلام الجميلة الشيّقة سرعان ما أصبحت وبالا على من استنبطها و صدّقها ثمّ رواها ونشرها بين النّاس.
كان اليسار يتوهّم، كعادته، أنّه الناطق الرّسميّ باسم الثورة حتّى لكأنّ نضال أجيال متعاقبة منه عذاباته وأدبيّاته واحتجاجه المتواصل يمنحه شرعيّة الحديث عن الجماهير والشعوب والفقراء والمضطهدين. وهاهو اليوم يحلم، مجرّد حلم بائس، بأن يبقى بعض الماضي الذي يراه مشرقا أمام زحف من يعتبرهم فقهاء الظلام. فلا شيء نهائيّا في التاريخ الذي قد يكون لولبيّا لا خطيّا يتّجه إلى الأمام ...إلى ميتافيزيقا التقدّم.
كم يلزم هذا اليسار الغبيّ الذي لم يغادر مربّع الوهم من الوقت كي يدرك أنّ شعبا ربعه في فقر مدقع وأكثر من ثلثه لا يفكّك حرفا سيدافع، حتما، عن حقّه في الجهل المقدّس وإيمان العجائز؟
كم يلزمه من الوقت ليدرك أنّ الأغلبيّة اليوم تعبير أمين عن عجز حداثة معطوبة عن تحديث العقول والإرادات وعن خطاب ثوريّ بليد منقول من الكتب الحمراء التي أكلتها الجرذان؟
2
جاؤوا من هناك، من المنافي التي استجاروا بها من رمضاء القمع. وجدوا في تلك الديار دساتير تحترم الكائن البشريّ وحرّيّاته باسم حقوق كونيّة مكفولة للجميع. وحين عادوا من المنافي ليسرقوا الدماء والأحلام مستعيدين كوابيسهم القديمة طفِقوا يشكّكون في كونيّة الحقوق التي تمتّعوا بها هناك في الغرب الكافر. ..حين عادوا بين ظهرانينا تذكّروا أصولهم الصافية الموهومة وهوّيّتهم النادرة العزيزة وخصوصيّتهم الثقافيّة الرائعة المتطوّرة.
تذكّروا فجأة أنّ شعبهم الفقير الجاهل أو المتعلّم الميسور، على حدّ السواء، لا يستحقّ بعض ما تمتّعوا به ...هناك في دار الصليب. هكذا أخذوا يناورون من أجل غرس بذرة الاستبداد الدينيّ في دستور أراده غيرهم ورقة بيضاء فاستغلّوا الفرصة السانحة ليسوّدوه بما في بواطن الكتب الصفراء من قديم القيم وفاسد التصوّرات.
هكذا هي الإرادة الشعبيّة التي تولّد الأغلبيّة فتصبح البداية من أرض محروقة إعلانا عن الانتقام من مسار التحديث ورموزه ومن الدولة وقيمها الجمهوريّة المستوردة. لتموتوا إذن بغيظكم..موتوا بالسمّ الذي وضعتموه في الورقة البيضاء.
3
لم يكن ثمّة من سبب للانطلاق من الورقة البيضاء عدا الوهم والحلم. فلن ننسى، أيّها الرفاق المناضلون المبدئيّون جدّا، أياديكم البيضاء علينا. لقد سوّدتم وجوهنا أمام الأمم.
 نعْمَ الخصوصيّات الثقافيّة التي تأبى لنا أن نكون مثل خلق اللّه حريّةً وكرامةً. لتحيى الدولة الاستبداديّة الناشئة باسم الواحد الأحد ومندوبيه على الأرض. ولتتمتّعوا بدستوركم الجديد الأبيض وأوراقه البيضاء: أوراق بيضاء تنضح ثوريّة ادّعاها اليسار الواهم الخائب ، وسعي إلى محو التاريخ الحديث حتّى تصبح البلاد ورقة بيضاء يكتب فيها الذين يدّعون الخوف من المولى القدير استبدادهم الآتي.
فلتموتوا جميعا بأوهامكم ..لهذه الأرض ذاكرتها الخصبة ودستورها الأصيل..ففيها حقّا ما يستحقّ الحياة.
                                      

mercredi 1 mai 2013

الملاليم و الأحذية


من تاريخ الاحتجاج السلمي



(1)       
سيسجل التاريخ،تاريخ الاحتجاج، ما يلي :
    حين بدأ نوابنا الأفاضل في مجلسنا التأسيسي يناقشون رواتبهم و منحهم، بالعملة التونسية لأغلبهم أو بالعملة الأجنبية لقلة منهم، ذهب جمع من المواطنين إلى مقرّ المجلس الموقّر و طفقوا يرشقونه بملاليم حقيرة.
كان ذلك عنوانا للاحتجاج السلميّ لا يخلو من رمزية ثريّة وإبداع طريف. لقد قال المحتجون في غير ما تلعثم: "أعرناكم ألسنتنا لتعبّروا عما يجيش بصدورنا فنطقتم بألسنتكم عمّا يثري رصيدكم في البنوك".
يومها سُمع صوت هاتف من خلل رنين القطع النقدية المنثورة أمام المجلس التأسيسي يحاكي "العابرين في الكلام العابر":
     " خذوا ما تبقى لنا من مال وملاليم فأنتم ما عدتم أهلا لثقتنا .
خذوا أموالكم و ارحلوا أيّها المؤقتون في دستور مؤقت
اسحبوا منحكم من لحمنا و انصرفوا
اسرقوا ما شئتم من روعة الحلم و بقايا الأمل
كدّسوا أوهامكم في صناديق فارغة و انصرفوا
أعيدوا عقرب الوقت إلى شرعيّة مهترئة
أو إلى إيقاع حذاء الدكتاتور الجديد
آن أن تنصرفوا
آن أن تخرجوا من واقعنا و ذكرياتنا المرة"

(2)
سجّل التاريخ، تاريخ الاحتجاج، ما يلي:
حين عجزت وزيرة حتى عن بيع الكلام المتعاطف للضحايا من الأطفال المغتصبين و النساء المهدّدات في حرمتهن الجسديّة، ذهب جمع من المواطنين أمام وزارة المرأة لرشق واجهتها بالأحذية القديمة .
كان عنوانا آخر للاحتجاج السلمي يحمل من الرموز والإبداع ما يكفي للتعبير عن الغضب.
 تطريز على الرجم باعتباره جزءا من مناسك ضاربة في القدم تستعيد الدينيّ لمواجهة بذاءة السياسة، رجم لحماية الطفولة و الأسرة في تونس، تعبير عن الاحتقار و تأكيد للدونية بأحذية جعلت للأرجل التي نطأ بها الأرض فإذا بها ترشق على من وُضع في رأس وزارة لصيانة حقوق الضعفاء من الأطفال و النساء .
 يومها سُمع هاتف من خلل وقع الأحذية على حائط الوزارة و الطوار يستحضر " سوق القرية":
"إليك سيدتي،
ما يناسب مواقفك العطنة و تصريحاتك المهلهلة
من قديم الأحذية المتروكة المهملة.
فحشٌ و اعتداءات حقيرة و ذباب
و أحذية  يتداولون رشقها،
 ووزيرة تحدّق في الفراغ
في مطلع العام الجديد
يداي تمتلئان حتما بالنقود
لكن الطريق إلى الجحيم
من جنّة الفردوس أقرب
و العائدون من الكتب القديمة
صرْعاهم أبناؤنا و أجسادُ النساء
فلن يصلح العطار ما قد أفسده الدهر الغشوم
أبدا على أشكالها تقع الطيور
و البحر لا يقوى على غسيل الخطايا و الدموع"

(3)
    سجل المؤرّخون من قبلُ هجرة جماعية لأهالي مدينة تونسية احتجاجا على واليها الذي اعتصم بالحجر و المباني: "خذ المدينة، قالوا له، ولكنّنا لن نخفض لك جناح الذلّ".
    سجل الإخباريّون احتجاج المواطنين على وزيرة أنقذتها من العزل أحزاب تمارس السياسة بمنطق الصلاة صفا واحدا مستويا وراء الإمام. و لكن الرسالة بينة:" خذي الوزارة، قالوا لها، فحرائرنا و أطفالنا في بؤبؤ العين".
   سجل أحفاد ابن خلدون احتجاج المواطنين على نوّابهم المطالبين بنصيبهم من كعكة المال والجاه اللذيذة: " خذوا ملاليمنا القليلة واخرجوا أيها المؤقّتون من وقتنا وانصرفوا"
    حقّا هذه البلاد شجرة مباركة وارفة الظلال لا شرقية و لا غربية، يكاد ضوء احتجاجها المبدع ينقدح ويضئ و لو لم تمسسه نار.