mercredi 21 octobre 2015

الطلياني نصًّا و ظاهرة



عامر بوعزّة
ليدرز 2015.10.01

حرّرت روايةُ الطّلياني المشهد الثّقافي من أسْر الشّيء المُعتاد، فقد لفتت الأنظار إليها منذ صدورها وفنّد إقبال القُرّاء عليها مزاعم النّاشرين والكُتّاب عن المجتمع الذي لا يُقرأُ خارج الدّوافع المدرسيّة، وحصدت في نفس الفترة الزّمنية جائزة «الكومار الذّهبي» للرّواية التُّونسيّة وجائزة الإبداع الأدبيّ لمعرض الكتاب الدّوليّ قبل أن تفوز بجائزة «البوكر العالميّة للرّواية العربيّة»، فأصبحت أوّل روايةٍ تونسيّة تحظى بتتويج عالميّ من هذا النّوع. وبين كتابات مُتحمّسة وأخرى مُشكّكة تحوّلت روايةُ الطّلياني إلى ظاهرة ثقافيّة تمتزج فيها أصوات النّقد والإيديولوجيا في تجاذب مُتوتّر بين داخل النّص وخارجه، أصواتٌ تعالج من زوايا مختلفة السّؤال الذي لا يقع بالضرورة في مجال النّقد الأدبيّ حول وصفة النّجاح هذه، عمّ يجعل الأثرَ الأدبيَّ حدثا قائما بذاته وعلامةً فارقةً؟"
يذكر ظاهرةُ «الرّواية الحدث» بنماذج أخرى مشابهة في الفضاء الإبداعيّ العربيّ، فقد اجتذبت «الخبز الحافي» عند صدورها باللّغة العربيّة في بداية الثّمانينات ما لم تنلهُ روايةٌ أخرى من الاهتمام لدى جمهور القُرّاء والنقّاد على حدّ سواء، وكذلك حقّقت روايةُ «ذاكرة الجسد» في التّسعينات نجاحا كبيرا وتعدّدت  طبعاتُها قبل أن تتحوّل إلى عمل تلفزيوني. وكما حدث مع محمّد شكري وأحلام مستغانمي كانت الطّلياني الرّواية الأولى في مسيرة كاتبها، و مع الرّوايات الأولى التي تُحقّق نجاحا غير مُتوقَّع تتحرّك ردودُ الفعل بالإيقاع نفسه و تتكرّر الأسئلة ذاتها: ما علاقة السّارد بالشّخصيّة و هل الرّواية سيرةٌ ذاتيّة؟ كيف كُتبت الرّواية و لماذا؟ يجيب شكري المبخوت عن هذه الأسئلة بأن الطّلياني كُتبت في فترة قصيرة دفعةً واحدةً، و يتمثّل بقول «يحيى حقّي» عن إحدى رواياته «خرجتْ كالطّلقة»، أمّا عن اقتحامه عالم الرّواية و هو الجامعيّ المهتمُّ بعلوم اللّغة و النّقد الأدبي، فقد حدث ذلك كما يقول في غمرة سياق فيه كثيرٌ من الآمال و المخاوف مُتحدّثا عن الفترة الانتقاليّة التي عاشتها البلاد إثر انتخابات 23 أكتوبر 2011 .
هكذا يضعنا شكري المبخوت بنفسه على أوّل الطّريق لفهم الظّاهرة وتفكيك أبعادها الأدبيّة والسّوسيولوجية، وهي أبعادٌ تحيلُ على ذات السّارد من جهة وانتظارات القُرّاء من جهة ثانية. ويتردّد صدى ذلك في حيثيّات جائزة البوكر حيث لم تُغفل اللّجنة أنّ هذه الرّواية هي الأولى في تجربة كاتبها بقولها: «بداية شكري المبخوت كصاحب رواية أولى مدهشة كبداية روايته ذاتها» بما يعزّز التّداخل بين الكاتب ونصّه، بين متن الرّواية وحاشيتها.
التاريخ قاعدة للمتخيّل الروائي
و يتجسّد هذا التّداخل في خطّة سرديّة تقوم على التّفاعل بين الذّات و واقعها، يؤكّد ذلك الكاتبُ بقوله: «ثمّة تفاعل بين السّياق الاجتماعي و السّياسيّ و الثّقافيّ وبين الجانب الفرديّ الحياتيّ الحميميّ، فالرّواية هي اتصال و انفصال و تفاعل بين هذين الجانبين» و قد اعتبرت حيثيّات التّتويج هذا التّفاعل «تناولا بارعا لارتباك العالم الصغير للأفراد و العالم الكبير للبلاد».
من ثمّة يبدو أنّ حجر الزّاوية في ظاهرة «الطّلياني» هو تقيُّدها بالتّاريخ السّياسي التّونسي و تناولُها فترةً مُحدّدةً تمتدُّ من نهاية الثّمانينات إلى بداية التّسعينات فيما سُمّي «سيرة اليسار» بمختلف مُكوّناته. تلك الفترة التي شهدت نهاية حكم بورقيبة وتولّي بن علي السّلطة لم تظهر من قبلُ في الرّواية التّونسية بوضوح الاّ في «حارة السُّفهاء» لعلي مصباح الذي نحا منحى الواقعيّة السّحريّة في تناوله هذا الحدث و عالجه بكيفيّة امتزجت فيها العجائبيّةُ بالكوميديا السّوداء. أما المبخوت فقد جعل من التّاريخ قاعدة للمُتخيَّل الرّوائيّ كما يحدث عادة في الرّواية التّاريخيّة، غير أن قِصر المسافة بين زمن الحَكْي وزمن الكتابة يُرجّح السّمة الواقعيّة، يتجلّى ذلك من خلال قرائن مثّلت إحالاتٍ مرجعيّةً تتراوح وظيفتها من مجرّد الوصف (قدوم بوك علي إلى العاصمة يوم النّصر في جوان 1955) إلى تشكيل ملامح الشّخصيّات الأساسيّة وتجذيرها في بيئتها الفكريّة (مؤتمر اتحاد الطلبة في قربة 1972 و أحداث الخميس الأسود 1978 و ثورة الخبز 1984 ...الخ)، بل ويُلحّ الكاتب في نسبة أبطاله إلى الزّمن التّونسيّ عندما يشير إلى صدور الملحق الأدبيّ يوم الخميس الثالث من سبتمبر سنة 1987 ومناقشة زينة بحثَها الجامعيَّ يوم الأربعاء 16 سبتمبر بقاعة صالح القرمادي دون أن يكون لتحديد التّاريخ من قيمةٍ غير التّمهيد للحدث المفصليّ (7 نوفمبر 1987) الذي سيقع بعد شهرين فقط من تلك الأحداث.
كما تَجسَّد تقييدُ المخيال في وضع الأحداث داخل أمكنة حقيقيّة معلومة منها كلّية الحقوق وكلّية 9 أفريل وباب بنات ومكتبة شارل ديغول وحانة الشّيلنغ والرّوتندة الخ. سيدفع هذا التّطابق بين الفضاء الرّوائيّ و العالم الخارجيّ إلى الإيحاء بأننا إزاء رواية تسجيليّة تُوثّق، فتختلف مستويات تقبّلها حدّ التناقض، كأن يتعلّق بها أكثرَ مُجايِلو المبخوت إذ تُولّد لديهم الإحساس بأنها تتحدّث عنهم وأنهم قد التقوا في يوم ما عبد النّاصر الطّلياني أو زينة في مكان ما و لم ينتبهوا إليهما، بينما تبدو لبعض القرّاء «منزوعة الخيال»، ويُفسّر الكاتب المصريّ أحمد ابراهيم الشريف ذلك بقوله: «الطّليانى رواية لا تثير حزنا أو فرحا، تمرّ الأحداث و تتالى دون أن تورّطك معها بالحبّ و لا بالكراهيّة دون أن تجعلك جزءا من الحكاية، دون أي أثر عاطفيّ».
شخصيّات من لحم ودم
هذا الموقفُ مناقض تماما لما ذهب إليه الكاتب التونسيّ ناجي الخشناوي في قوله: «نكتشف أن الأسماء تنفلت من كونها علامات لغويّة عابرة في سياق سرديّ، لتحيلنا على شخصيّات من لحم و دم عاشت فترة الثّمانينات و التّسعينات و تأقلمت مع متغيّاتها كلّ على طريقته، بين الانصهار و قبول الاحتواء أو البقاء على الرّبوة و الهامش» و هو الموقف ذاته الذي نجده في حيثيّات جائزة البوكر حينما اعتبرت اللّجنة شخصيّة زينة «إنجازاً فنياً فريداً تمتزج فيها الثقة و الارتباك و الشراسة والشّغف و التّماسك و الانهيار... شخصيّة لا نمطيّة لأنها مكتوبة أثناء عمليّة الكتابة لا قبلها»،
هذا الموقف يُحيل على واحدة من أهمّ خصائص الرّواية أعني الخلق الفني، ومن دلائل إعجازه أن ينفخَ الكاتبُ من روحه في الشّخصيّة المُتخيّلة فتبدو للقارئ نابضة بالحياة.
وكلُّ الرّوايات العظيمة تركت في خيال القارئ نماذج انسانيةً مُميّزة. لكنَّ المبخوت جعل من بعض الشّخصيّات صورا مطابقة لأشخاص حقيقيّين بل وأحال إلى بعض هؤلاء بجزء من الاسم، فلم يتوقف ارتباطه الوثيق بالتّاريخ عند الزّمان و المكان بل تعدّى ذلك إلى الشّخصيّات الفاعلة في تطوّر وعي عبد النّاصر الطّلياني و مساره و من أهمّها شخصيّةُ رئيس التّحرير، مما سيخلق لدى بعض القُرّاء فضولا لمعرفة هؤلاء الأشخاص في الواقع سيّما و أنّ المبخوت قد عاش تجربة الكتابة الصّحفيّة والملحق الأدبيّ في دار لابراس كما فعل بطله عبد النّاصر الطّلياني الذي ينكر أن يكون صورةً منه دون أن ينفي تماما أن يكون ناطقا باسمه في بعض الصُّور.
رواية ٲم سيرة ذاتيّة ؟
سيردّد شكري المبخوت أمام الجمهور قصّة طالبة سألته: «أين يمكن أن أجد عبد النّاصر الطّلياني؟» و سيواجه لدى بعض القُرّاء مفاضلات بين عبد النّاصر وزينة واتّهاما بأنّه قد انحاز إلى الأوّل على حساب الثّانية فيَعِدُ ضاحكا بأن يُصلح ذلك في الجزء الثّاني؟! ويعتبر أن إحساس القُرّاء بالحياة تَدِبُّ في أبطال روايته هو أهمّ ما كسبه من هذه التّجربة، ورغم تذرُّعه للصّحافة بأنّ الطّلياني روايةٌ وأنّ السّيرة الذّاتيّة تستوجب ميثاقا واضحا فإنه سيُجابَه دائما بالسُّؤال المكرّر عن علاقة المبخوت الانسان والمُثقّف اليساريّ بعبد الناصر وزينة والرّاوي وهو السُّؤال نفس الذي واجهه من قبل محمد شكري: أفعلت في حياتك حقًّا كلّ ما رويت؟ أو السّؤال المُكرّر عن خالد طوبال الذي تنفي أحلام مستغانمي وجوده الواقعيّ رغم التّشابه الواضح بينها وبين بطلة الرّواية.
في رواية الطّلياني مزيج من تقنيّات السّرد فهي تجمع بين دقّة الحكاية التّاريخيّة ونبض الرّواية الواقعيّة وفيها التّشكيل الذّهنيُّ الذي يولَدُ من تفاعل الشّخصيّات مع سياقها، وعلى هذا النّحو تُؤوَّلُ المُشادّةُ بين الطّلياني وعلاّلة الإمام وهي مفتاح السّرد بوصفها تمثيلا رمزيّا للصّراع القائم بين اليسار والاتّجاه الإسلاميّ، هذا الصّراع الذي عاشه الشّارع التّونسيّ سنة 1990 وما يزال يُلقي بظلاله على مناخ التّحوُّلات الرّاهنة في حركة لولبيّة تدور على نفسها، ذلك ما يبرّر مخاوفَ زمنِ الكتابة وآماله.
والتّهجينُ السّرديُّ هو الذي يجعل النصَّ منفتحا على مستوياتٍ مُتعدّدة من القراءة النّقدية إذا ما نظرنا إليه من زاوية النّقد الأدبيِّ المحض وهو يُمثّل أحد نقاط القوّة في الرّواية وعنصرا فقط من عناصر الظّاهرة الثّقافيّة التي تكوّنتْ حول الطّلياني لكنّه لا يُميّزها كثيرا عن تجارب أخرى في الرّواية التّونسيّة التي تُمثِّل رصيدا غنيًّا من الاتّجاهات. لقد تحوّلت الرّوايةُ إلى ظاهرة بفعل واقعيّتها وتعطّش القارئ إلى رواية كلاسيكيّة لغتُها بسيطةٌ ونسقُها خطّيٌّ. وهي ظاهرةٌ غمرت النّصّ الأدبيّ ولربّما سوف تأسره طويلا في تلابيبها كما تفعل كلُّ الرّوايات الأولى الناجحة لكُتّابها إذ تسجنهم خلف أسوارها وتجرّهم إلى إعادة إنتاجها في أجزاء متعدّدة أو بوسائط أخرى إلى أن يخفت بريقُها، و يبدو المبخوت الذي أعلن عن وجود جزء ثان للرّواية و عن تلقّيه عروضا سينمائيّةً سائرا فيهذا الطّريق المحفوف بكثير من المخاطر.

1-حوار شكري المبخوت مع صحيفة التونسية 23 ماي 2015 .
2-المرجع نفسه.
3-أحمد إبراهيم الشريف، الطّلياني رواية منزوعة الخيال 16 ماي 2015 .
4-ناجي الخشناوي، جريدة الشعب، الانكسارات المبهجة لليسار التونسي  2 أكتوبر 2014 .
5-لقاء مع شكري المبخوت ضمن فعاليات الصالون الثقافي بالدوحة  23 ماي 2015





jeudi 15 octobre 2015

الغرف كفهرس قراءة (الطلياني)





مقداد مسعود
الحوار المتمدن، العدد، 4952 بتاريخ 11 - 10 2015

تشتغل الرواية بتوقيت آواخر أيام حكم الحبيب بورقيبة، تتناول الحركة الوطنية التونسية من خلال نماذج من الطلبة اليساريين وطلبة من الاخوان المسلمين ودور السلطة ،وفي الصفحات المائة الاخيرة نكون مع حكم زين العابدين بن علي..
يمكن اعتبار العنوان الفرعي الاول (الزقاق الأخير/ ص5- 10) بوظيفة المقدمة الروائية من داخل الرواية ذاتها بعد الحدث الغرائبي والحدث بمثابة المخبوء الرئيس في الرواية ثم..سيتراجع السارد الى الخلف وينبش السارد الذاكرة الجمعية لعائلة الحاج محمود..وسيرورة الرواية كحركة المشط في شعر الانسان ...أرى المفصل الاول : خلية سردية موقوتة سيفككها السارد العليم / وهو المشارك الهامشي في مركز الحدث..تتمفصل الرواية من أنثي عشر عنوانا فرعيا ..بالنسبة لي كقارىء منتج ستكون فصول قراءتي :هي الغرف المتوزعة في الفضاء الروائي ..
(غرفة صلاح الدين)
تصور الطفل عبد الناصر ان غرفة اخيه صلاح الدين، المقفلة هي الحجرة الاربعين في ليالي ألف ليلةلأنهُ(ينزع الى البحث في الدواخل ،في الادراج، تحت الحشايا والزوايا الخفية ولم يكن يتصور أن مفتاحا بمثل تلك القيمة سيترك مبذولا، تقريباً للجميع في طبق كؤوس الشاي التي لم يرها تستعمل ابداً/31) فهو لم يكتشف المفتاح وحده بل اكتشف فصلاً اموميا جديدا (أعتبر ذلك مظهراً من مظاهر ذكاء الام في إخفاء ماتريد إخفاءه.فهي خبيرة في علم التورية والتغطية..)هل اراد الدخول ليكتشف اخاه من خلال غرفته؟ أم دخلها ليعثر على إحتياجاته هو حين كان في سن المراهق ؟ حين سيدخل الغرفة بغياب أخيه صلاح الدين ،الموجود في فرنسا كطالب بعثة : لم يلتقط عبد الناصر ضالته المنشودة ،ليس لغرفة اخية ماتنماز به على اخيه نفسه ..فالغرفة في غياب الاخ وحضوره :هي : هو ..أغني غرفته مثله فهو..(..متفوقا في دراسته متأدباً، قليل الاختلاط بأترابه.لايدخن ولايثير مشاكل في البيت .يبدو هادئا لاتُسمع منه إلاّ كلمة نعم إذا أمرته أمه أو خاطبه أبوه. ولد مثاليّ يحسد الاقرباء والجيران العائلة عليه26)..لم يجد في الغرفة سوى خيبته (خيبته كانت كبيرة .فلم يكن في القلعة أسرار عدا مايراه حين يدخل اليها بصفة عادية ..لاشيء يستحق الذكر .كتب أغلبها بالفرنسية..أوراق كثيرة وصور وكليشهات مصفّرة شفافة..كراريس قديمة، مجموعة من المجلات وملفات فيها قصاصات من الصحف وصور لاعبي كرة القدم لفريق صلاح الدين المفضّل : النادي الأفريقي 31).. إذاكانت الغرفة بهذه العادية (لِم َ يغلقون الغرفة إذن؟/32) من أين لعبد الناصر ،وهو في أوائل طراوة عمره ان يعرف سبب الاغلاق ؟ من اين لعبد الناصر ان يعرف(.. صلاح الدين أهم شخص في العائلة ويعلم الجميع أن محلّه في قلب زينب قبل زوجها محمود وان لم يجرؤ أحد على التصريح بذلك 30)..لكن في تسلله الى غرفة أخيه أمتلك سلما موسيقيا فأستعمله للعروج الذي صار علامته الموسيقية الفارقة : وأعتبره السبب في اقفال الغرفة (مجموعة إسطوانات الموسيقى ذات الحجمين الصغير والكبير على طاولة متوسطة الحجم في ركن من اركان الغرفة32) ثم صار عبد الناصر يدرّب ذائقته على سماع الموسيقى (متلبساً شخصية أخيه المسافر، حلما ان يكون مثله .وكم أحبّ خلال جلسات الاصغاء الى الموسيقى والتماثل مع الغائب المسافر ، موسيقى الجاز أكثر من غيرها من انواع الموسيقى32-33) هنا النقلة الثانية التي خطاها الاخ الصغر عبد الناصر في الغرفة فهو انتقل من الفضول الى التماهي الاخوي وتكون الموسيقا هي مرآة التراسل بين الاخ الاكبر والأخ الأصغر وبشهادة السارد العليم (لم يكن عبد الناصر يبالغ كثيرا حين ربط وجوده بوجود أخيه 23)..ستصيره غرفة الولد الاصغر مادام الولد الاكبر صلاح الدين لن يعود الى غرفته تزامن ذلك مع انغلاق الفضاء المائي النسوي العمومي ، (سلّمت له مفاتيح القلعة ليصبح سيّدها عن جدارة .فقد لاحظت لها صاحبة الحمّام، قبل ذلك بسنة تقريبا، أن الصبي أصبح يتطلع الى المستحمات ويسترق النظر والسمع إليهن في لهوهن وعبثهنّ، ولم يعد من الممكن قبوله مع الأم وبناتها الاربع عشية يوم الجمعة، الموعد الاسبوعي لطهارتهن الكبرى33)..بالمقابل وضع عبد الناصر شروطاً : (أصبح يرفض ان تلمسه إحدى أخواته أو ان تدخل عليه غرفته دون طرق الباب أو ان ترّتب فراشه أو تنظف الارضية وتزيل الغبار) وهنا النقلة الاستئذان قبل الدخول / رفض اي تغيير في الفضاء الداخلي للغرفة ..والرفض يشمل حتى السلطة المطلقة للأم التي فهمت (أنها أمام صبي من طينة مختلفة..قاومت في البداية حفاظا على سلطتها المهددة، ثم غيرت خطتها، بعد ملاسنات عديدة .صارت تتجنب مواجهته وتحرّض سي محمود عليه/34)..تغيرت رائحة الغرفة ..تغيرت حياة عبد الناصر..صار صديقا لأبية وملاسناً لأمه، عرف الجسد من خلال (للاجنينة) جاراتهم..لكنه بقي (يحب أخاه صلاح الدين ويراه في كل زاوية من الغرفة40)..ومن علياء الطابق الثاني للبيت (أصبحت لعبد الناصر مملكته الخاصة معلنا من خلالها استقلاله عن نساء البيت الشرسات عدا الصغرى يسر أحبهن الى قلبه ) والنقلة الثالثة للغرفة هي نقلة نوعية / جهوية : من الخاص الى العام / من الداخل الى الخارج ( خطرَ له ونحن تلاميذ أن ينشىء في غرفته ناديا للفن والمطلعة / 41)..هنا اصبحت الغرفة : أكاديمسا أفلاطون: من خلال شريط الكاسيت تتغذى ذائقتهم وذاكرتهم من أغاني فيروز والشيخ امام وليو فيري وجان فيرا وجاك برال ويقرأون الشعر بالعربي والفرنسي ويتناقشون في مقطع سردي من رواية..وضمن هذه النقلة الثالثة انبجست نقلة وعي حين اغتسلت ذاكراتهم برواية مكسيم غوركي (الأم) وهم يسمعون أسمه لأول مرة ..على أثرها أقترح الطلياني (أن نصبح فلاسفة !فتحول نادي الفن والمطالعة الى حلقة الفلاسفة المبتدئين .كنا نقرأ جماعيا ويوميا كتابا ضخما لجورج بولتيزر /41) وهنا ستبرز الروح القيادية لدى عبد الناصر..وسيخبرنا السارد المشارك فنعرف ان عبد الناصر انتقل من محاكاة شقيقه صلاح الدين الى محاكاة الاستاذ فتحي مدرّس اللغة الفرنسية (كان يجمع بدوره خلال السنة الدراسية بعض التلاميذ في بيته ومنهم عبد الناصر ليتحدثوا في الثقافة والادب والسياسية /42) وهذا الاستاذ السجين السابق السياسي المنتمي للأتحاد العام التونسي (هو الذي ضم عبد الناصر الى التنظيم السري42)..
 (غرفة العمليات)
تقودني غرفة عبد الناصر الى (غرفة العمليات )التي شيدها عبد الناصر ،وفق نظرية (القلب والدوائر) عبد الناصر يرى الطليعة القيادية الصلبة بمنزلة القلب في النضال الطلابي والدوائر هي أربع حلقات دفاعية تذود عن القلب..في الحلقة الاولى (..المناضلين المخلصين للأتجاه السياسي .ويحتل الدائرة الثانية الأنصار من ذوي الإمكانات البدنية الممتازة والشجاعة والجرأة والإقدام .فهم ،،ذراع الحركة المفتول،، يحمون المعلقات الحائطية ممن قد يعن لهم تمزيقها، ويكونون حواجز بشرية أمام مداخل المدرجات وقاعات الدرس حين تقرر القيادة إضراباً من الاضرابات .وتضم الدائرة الثالثة حسب نظرية عبد الناصر،من كان يسميّهم المتربصين وهم مجموعة واسعة من الرفاق الجدد يوضعون تحت التدريب. وتقتصر الدائرة الرابعة على الطلبة الذين يُكتفى بتكوينهم غير السري في مجال العمل النقابي الطلابي53)
 (حجرة سقراط )
هي(موضع الخطابة بكلية الحقوق /67) سيرغم الاستاذ الصحّبي على الترجل من هذا الموضع بعد طوقته جموح الطلبة حيث (ركض عبد النصر ورفاقه في اتجاه حجرة سقراط .كبرت الدائرة وأصوات الانفار العشرة او أكثر تكرر الشّعار المرفوع66) وفي نهاية الرواية سنعرف ان الصحبي :من عملاء السلطة )
(غرفة المدير )
في هذه الغرفة يجري التحقيق مع الطالبة زينة ..يجري اختبارها فقد (اتهمها أحد المعلمين بالغش وطلب منها بحضور مدير المدرسة ان تعترف بالحقيقة73) لكن زينة حوّلت غرفة المدير :عرين اللبوة زينة وقرأت الانشاء التي كتبته بسلاسة وكتبتْ بالعربية والفرنسية الى المدير تشكره على القلم الذي اهداه لها وتصف القلم على مدى صفحة بيضاء من الورق.. وهكذا بشهادة المدير وامام الهيئة التدريسية والتلاميذ صارت زينة (نابغة المدرسة التي شرح الله صدرها وأقسم لهم أنه سيكون لها شأن عظيم74)
 (تأنيث غرفة عبد الناصر)
زينة حين باتت في غرفة عبد الناصر توهمت ان جمالية الغرفة بصمته هو ..(وجدتها على غير المتوقع ، من غرف الطلبة، مرتبة نظيفة مليئة بالكتب والمجلات .78) ولم تشغل عقلها ان عبد الناصر يعيش مع عائلتة وانها بصمة الام واخته وصديقته يُسر ..أما هو فقد حوّل هذه الغرفة التي كانت لأخية صلاح الدين الى الضديد وبشهادة أمه وهي تدخل غرفته يوميا ..(ماهذه الفوضى..ماهذا؟ وسادة فحّام؟ ياربي متى يصبح هذا الخنزير بشراً مثل بقية الخلق ،، ياحسرة، غرفة صلاح الدين اصبحت قن دجاج34)..تلك الليلة تركها تنام وحدها في غرفته ونام مع صديقه خارج الغرفة وترك ذلك مؤثرية عالية الجودة في نفسيهما.. في الزيارة الثانية سيتأنث المكان وتتأرج رائحة الطلع منهما وهي نائمة في احضانه في غرفته وبشهادة زينة :(..شعرت معك أنني في حماية أسد لايريد بي سوءاً ولاضررا103)
 (غرفة التحقيق)
بعد ان تكسر الشرطة اضراب الطلبة الاخوانيين يزجون معهم عبد الناصر وزينة حينما كانا في نادي الجامعة ثم يرى عبد الناصر نفسه في غرفة ..(فيها طاولة كبيرة بجانبها طاولة أخرى صغيرة مخصصة لعون الرقن فوقها آلة رقن متقادمة تحدث تكتكة ً وصريراً مزعجين بمجرد النقر على لوحة الحروف .أجلسوه على كرسيّ .وقف على يمنيه ويساره عونان بزيّ مدني يحلو لهما ان يصفعاه أو يشتماه. كانا يتناوبان على اهانته وسب أمه وتحقير أبيه وعدّه من الشواذ جنسياً86) وضربة حظ تنقل عبد الناصر من الاهانة الى الاحترام حين يدخل كهل ٌ حسن الهيئة ويأمرهم ان يأخذوه الى مكتبه (غرفة المحقق)
يلاقي التقدير في هذه الغرفة (إكراماً لأنتمائهما الى الحي نفسه وانه غادر الحي منذ سنوات87) وأخبره انه سيعود الى اهله فيطلب منه عبد الناصر اطلاق سراح زينة ..ثم يتركه وحده في الغرفة فإذا بعبد الناصر يظهر كأي انسان بلا خبرة احترازية ..تمتد يده على تقارير مكتب المحقق. وسيخبره المحقق في اللقاء الثاني بمعلومات من باب الاستقواء : رأيناك تقلّب الملفات في غرفتي الحكومة تعرف ان زينة باتت في غرفتك / هنا يتشظى الشك في رفاق الطريق ..يلتقط المحقق ذلك فيعلّق : (لاتظلم رئيف فلادخل له في المسألة99)..عند نهاية المقابلة وصله صوت سي عثمان حازماً (غيّر المعينة المعينة المنزليّة .لاتقل شيئا لرئيف وزينة 100)
 (غرفة الطاهر)
مع أقتراب الامتحانات، يحتحزالطاهر زميله عبد الناصر في غرفته للمذاكرة ف لينجح وبتفوق (يصوّر الطاهر جميع الكراسات والمحاضرات مرتبة ويحتجزه في بيته طيلة الوقت اللازم ليعدّ معه الامتحان..كان الطاهر يتظاهر بأنه لم يفهم درساً أو حكماً قضائيا ..فيوهم بأنه يسأل عبد الناصر عنه وهو يفعل ذلك ليتأكد فقط من أن صديقه فهم المطلوب .ينجح عبد الناصر دائما بتفوق وعادة مايكون قبل الطاهر في الترتيب النهائي فيكون أول المهنئين ويدعوه يومها ويومها فقط الى اربع قوارير خضر لاأكثر ولاأقل في حانة94)..
 (غرفة زينة)
بيت زينة يتموضع في المجاز اللغوي ..(لم تكن الغرفة كلها تتجاوز المترين عرضاً والثلاثة أمتار طولاً.هي كل البيت 107) من هذا الفقر الشرس انبجست نبوغات زينة المعرفية وتفوقها الاكاديمي وصار المعرفي هو المعادل الموضوعي للفقر الفلاحي البئيس ..وضماد ذلك الجرح الجنسي وحدها (يدٌ على فمها تكتم انفاسها تمنعها من الصراخ والأخرى تلصق رأسها بالحائط تشل حركتها108)..وبما جرى لها هي الاقوى مقارنة بزميلها وقسيمها في الفراش والطموح و..باريس ..والانشغال بالمعرفي والنأي عن النضال الميداني..
 (غرفة إريك)
أريك في اوائل الستين انجذبت اليه زينة معرفيا وانجذب اليها ليرمم شيخوخته (قضت الليّل معه في غرفته بالنزل فأحتضنها بحنو لم تعرفه من قبل وقبّلها قبلات أذابتها وكهربت جسدها ولولا انها كانت حائضا يومها لواصلا الى الفجر خصوصا أنه كان سيغادر في الصباح الباكر288)
 (غرفة نجلاء وعبد الناصر)..
غرفة وقتية في بيت الحلاّقة / القوادة ،يستعملها عبد الناصر كنوع من الهبوط الاضطراري حتى لايستحوّذ احد المدعويين على جسد نجلاء..(نجلاء أختي. والغرفة التي سآخذكما اليها ستكون لكما متى شئتما293) سيكون البيت نفسه : المسلخ الجنسي لنجلاء ..(أصبحت جسدا بلا روح ، آلة لذة لطالبيها تتصرف بطريقة متصنّعة ..أحترفت العهر ببطاقة رسمية .أصبحت تلعب في ميادين واسعة مع قروش كبيرة في المال والسياسة ./ 294)..كأن تلك الغرفة كانت منحدرا لإمرأة كانت تتعاطى ثم انتقلت الى احترافه بمهنية عالية الجودة !!
 (غرفة ريم )
هي غرفة في بيت ناصر ،أعني في البيت الذي اشتراه شقيقه صلاح الدين ..وحوّله ناصر الى(مبغى وحانة الى ان ذهبت بعقله لأمر ما ريم300) لهذا السبب سأطلق ُ عليها غرفة ريم (حين أقترب من موضع السر أحكمت وضع يديها في مستوى العانة وقالت له : لا..لا..أنا عذراء،، استدارت . فهم أنهّا تعرض عليه شيئا آخر .جن ّ جنونه ولكنه لم يحرّك ساكنا..لم تنظر إليه .لم تفهم ماوقع .التفت إليه..وجدته شاخصا بعينيه ، شارد الذهن كمن يستذكر شيئا .سألته : مابك؟ لم يجبها .رأت قطعة الحبل مرتخية .كان ساهماً..جاثيا على ركبتيه فوق السرير .أصبح وجهه المليح كوجه شيطان رجيم .يرتعش محملقا وفجأة انهار على الفراش .ارتعدت .لم تجرؤ على سؤاله .أحتارت ماذا تفعل .أصابها ذعر كبير .لبست بسرعة ثيابها..أخذت من قاعة الجلوس حقيبتها اليدوية .غادرت الشقة .أغلقت الباب .تناهت الى سمعها غمغمة وحمحمة مرعبتين من داخل الغرفة ..316) هذه الغرفة تحولت الى بيت عنكبوت ..في استدارت ريم : انبجس المطمور في ذاكرة ناصر ..ومن هذه اللحظة يجترح السارد العليم معدنا لنصوغه مفتاحا للشفرة الصادمة في السطر الاول من الصفحة الاولى في الرواية :)لم يفهم أحد من الحاضرين في المقبرة يومها لَم تصرف عبد الناصر بذاك الشكل العنيف .ولم يجدوا حتى في صدمة موت الحاج محمود سببا في ذلك 5) ..لقد ثأر ميدانيا عبد الناصر لنفسه وكان ثأره مشوها وغامضا فهو اعتدى على الرجل الدون الذي في رجل الدين علاّلة وهنا الغموض المشروط اخلاقيا ..وبهذا الاعتداء احدث تشويها في سمعة العائلة..
بعد ماجرى في غرفة ريم .. ناصر يسر /يصر (على أنه ذِكرى رجل لم يعد قادراً على تحريك ساكن من جسد امرأة .كان مصراً /318) ..وسنعرف من خلال بوح ناصر الى صديقه السارد... حين استدارت ريم للحفاظ على عذريتها (أنثالت عليه مشاهد اعتداء علاّلة ناظر مسجد الحيّ الذي يشتغل لدى سي الشاذلي ..عما فعله الامام علالة به وهو بين الثامنة والعاشرة/318)..ومافعله علاّلة مقبوح لكنه عاطل وبشهادة للاجنينة وهي زوجة علاّلة إنها (زوجة رجل، عنّين 339) ومافعله ناصر يوم جنازة ابيه عمل مشين ايضا لأنه خارج النسق الاجتماعي والديني وهو لايفصح لشقيقه سوى بالكلام الآتي (ما أنقذني من الانهيار هو شخص بداخلي .ليس ضميرا ولانفسا لوّامة .شخص من عقل خالص ،بارد لامشاعر له ولااحاسيس ،قاطع كالسيف ..إنه بوصلتي حين تختلط السّبل .لولاه لوصلت الى الانحراف الخالص والإجرام المجاني أو لتلاشيت وانتحرت20).. لكن بعد ذلك سيكون ناصر شخصا عاديا لاعلاقة لها بالثورة ولا بالماركسية وتحديدا حين يحميه رجل الدولة سي عثمان ونفس الشيء بالنسبة لزينة حين يلتزمها الكهل الفرنسي المتصابي.. ا
الأثنان : ناصر/ زينة : كأنهما من بذرة ثورة الشباب الاوربي نفسها في 1968 التي كان يوقدها كوهين بانديت ومشتقاته سرعان ما تعقلنت كما تعقلن ريجيس دوبرية رفيق رحلة جيفار ومؤلف ثورة في الثورة ودفاعا عن الثورية ومذكرات برجوازي صغير بين نارين واربعة جدران..يبدو ناصر وزينة ومشتقاتهما استعملا الفكر التقدمي كموضة ثم انصرفوا الى مراياهم الباريسة الذاتية ..


في أصل الفتن في دار الإسلام...

"الحداثة والقرآن" لسعيد ناشيد
نشر في "العربي الجديد" بتاريخ 11 أكثوبر 2015


صدم الإخراج المشهديّ للعنف في أشدّ تجلّياته وحشيّة، مع الدواعش وأضرابهم، كثيرا من المسلمين وهم يتساءلون عن مصدر هذا المنسوب العالي من الإجرام. ولكنّ ردّ الفعل الأوّل والمتكرّر أنّ الإسلام براء من هؤلاء وأفعالهم بما يعني إخراجهم من الملّة ومواجهة تكفيرهم للمجتمع والأنظمة الحاكمة بآليّة التكفير نفسها في ضرب من التطهّر الثقافيّ من آثامهم وفضائحهم. بيد أنّ النظر الرصين خارج منطق الاندهاش والصدمة يطرح أسئلة أكثر جذريّة حول ما يجري من كراهية وحقد وعنف وترهيب قد تدكّ طمأنينة ثقافة مهزومة حضاريّا ومجتمعات غارقة في وحل ما قبل الدولة الحديثة من طائفيّة وعشائريّة وروح ثأر.
وفي هذا السياق يحمل كتاب المغربيّ سعيد ناشيد "الحداثة والقرآن" (دار التنوير، 2015) جملة من الأسئلة الحارقة عن العوامل الذاتيّة في ما يحدث بعيدا عن نظريّة المؤامرة الخارجيّة (حتّى إن وجدت!) وخارج خطاب تبرير الموروث  وتبرئته. فالكتاب يراجع العلاقة بين الإيمان بمسلّماته والحداثة بأزماتها من خلال نقد التيارات التي توظّف الدين في الصراع على السلطة. فهذه تيّارات تمثّل عند المؤلّف أصل الفتن في "دار الإسلام" من موقعة الجمل والفتنة الكبرى إلى داعش والنصرة وبوكو حرام. وهو إلى ذلك يضع التحديث السياسيّ ونتائج الثورات العلميّة والمنظومة الحقوقيّة الدوليّة أفقا لأيّ اجتهاد دينيّ جدّيّ اليوم.
الأساطير المؤسّسة للأصوليّة والسلفيّة
يمثّل تفكيك الأساطير المؤسّسة للأصوليّة والسلفيّة مدخلا للتنوير في السياق الإسلاميّ. وهذه الأساطير نتاج تطوّر تاريخيّ قام أوّل الأمر على استنطاق النصّ القرآنيّ لاستخراج الأحكام ثم تحويل السنّة إلى مصدر للتشريع مع التسليم بأنّ في القرآن الكريم بضمنيّاته حلولا للنوازل جميعا. والمفارقة أنّ هذا الجهد التأويليّ البشريّ الذي امتدّ على قرون طويلة صاغ الفقه وأسّس لمفهوم الشريعة. والشريعة عند المؤلّف ليست كلام الله ولا كلام الرسول بل هي كلام الفقهاء فتعالى ما هو بشريّ عن شروطه التاريخيّة ليتحكّم في أيّ فهم للقرآن وتنشأ الأساطير التي عمل المؤلّف على تفكيكها.
ويستند ناشيد إلى ما أسماه جورج طرابيشي بالانقلاب السنّيّ الأصحاحيّ، ويقصد به تحويل منزلة الرسول بأقواله وأفعاله إلى مرتبة تجاوز أحيانا الذات الإلهيّة، والانقلاب القرآنيّ المصحفيّ وهو يسوّي بين الوحي والمصحف العثمانيّ.
فثمّة تمييز ضروريّ لدى المؤلّف، كما لدى غيره ممّن تأثر بهم مثل عبد الكريم شروس ومحمّد مجتهد الشبستري بين كلام الله (الوحي) وما نزّل على قلب النبيّ (القرآن المحمّدي) والمصحف العثمانيّ (بما هو ثمرة الانتقال من المشافهة إلى الكتابة). وكلّ علاقة بين هذه المستويات الثلاثة إنّما هي علاقة تأويل ينفي التطابق. وتمرّ علاقة المؤمنين بالوحي بالضرورة عبر المصحف بما يجعل العودة إلى اللحظة الأولى مستحيلة استحالة عودة ماء المطر إلى الغيمة.
والمعضلة أنّ هذه المدوّنة المرجعيّة قد صيغت في مجتمع لم يشهد الدولة ولا القوانين وكانت معرفته عفويّة بلا مناهج تقيّدها وبلغة لم تصنع لها القواعد النحويّة بعد. وعلاوة على ذلك كان مجتمع التدوين يعيش وفق منظومة قيميّة أساسها الطاعة والولاء والعار والعورة والتنجيم... إلخ.
ومقابل هذا يرى ناشيد أنّ الإيمان الدينيّ "خبرة روحيّة مفتوحة على سموّ الشخص وتسامي النفس وسعة الخيال" (ص 25) وهو ما يوفّره القرآن بإيقاعه وجماليّته من ناحية وبوقعه التعبّدي الابتهالي من ناحية أخرى. وبالتقاء البعدين الجماليّ والابتهاليّ يتجسّد الروح الإلهيّ.
العقيدة والشريعة
إنّ المطلوب من تفكيك الأساطير المؤسّسة للرؤية الأصوليّة والسلفيّة إلى الدين هو تحرير الخطاب الإسلاميّ من نسيج مفاهيم العالم القديم وإرجاع الدين إلى العقيدة بعد أن هيمنت عليه عبر التاريخ الشريعة.
فالشريعة عنده نظام من الأحكام "البدويّة البدائيّة" بما فيها من حدود وقصاص وجلد ورجم وفيء وردّة وجزية وأهل ذمّة وبيعة وطاعة...إلخ.  فهي أحكام تعود إلى مرحلة ما قبل الدولة عامّة ودولة القانون خاصّة. فلمّا كانت الشريعة ثمرة اشتغال الفقهاء على المصحف لاستنباط الأحكام فهي عنده ليست من الإسلام. ومن نتائج ذلك أن غلبت الشريعة بأحكامها المتسلّطة على جانب العقيدة القائمة على التوحيد وتحرير الإنسان. وما السلفيّة عند المؤلّف إلاّ "ديانة بدائيّة أساسها عبادة الأسلاف" تقدّس النصّ في جوانبه التي ترتبط بعالم ما قبل الدولة والعلم وحقوق الإنسان فتبرز أزمتها مع قيم الحداثة وتطوّر الذهنيّات.
أمّا ما يدعو إليه ناشيد من ردّ الاعتبار إلى العقيدة فيعود إلى أنّ الإنسانيّة بحاجة إلى الله لأسباب وجوديّة ونفسيّة كأسئلة الموت والحياة وقلق العدم ولامعقوليّة الطبيعة والكون وشاعريّة الحياة. غير أنّ شرط قولها تاريخيّا ارتبط بدرجة المعرفة والأخلاق والذوق القديم لدى المخاطَبين الأوائل على نحو يلبّي حاجاتهم القيميّة والمعرفيّة القائمة على التسليم والخضوع والطاعة والعبوديّة. ولكنّ حاجات المسلم المعاصر النفسيّة والأخلاقيّة أضحت اليوم مختلفة بحكم انخراطه الفعليّ في الحداثة. وهو ما يعني ضرورة صياغة علم كلام جديد في العقيدة لتحرير صورة الله من التصوّرات التراثيّة القديمة وبناء مفهوم التوحيد دون تقديس ما يسمّيه ناشيد "نصوص الموتى". فالتصوّر التراثي للألوهيّة مع الشريعة البدويّة يستحيلان عُصابا وسواسيّا يولّد العنف الهمجيّ.
ومقابل هذا يعتقد المؤلّف أنّ التخلّص من التأويلات التي نسجت حول "إسلام النصّ" والتخلّي عن عبادة الأسلاف يمكّنان المسلم المعاصر من الرجوع إلى وظيفة الدين الأساسيّة وهي ترسيخ التوحيد في وجدان الناس وتنزيه الذات الإلهيّة مع تنزيلها في السياق الراهن بمفاهيمه وقيمه السياسيّة والحقوقيّة الجديدة من حرّيات فرديّة ومواطنة وتعدّدية وديمقراطيّة وفصل بين السلطات واحتكام إلى صناديق الاقتراع ومساواة بين الرجال والنساء... إلخ .
آيات القتال وأخلاق القرآن
ولتوضيح جانب من تصوّر المؤلّف نقدّم بعض المعطيات الواردة في "الحداثة والقرآن" حول آيات القتال. فعلى الرغم من أنّ آيات عديدة تنصّ على القتال فإنّ ناشيد لا يعتبرها أوامر عسكريّة صادرة عن الله بحيث ترتفع إلى مصاف العقيدة. فقد نزلت هذه الآيات في مجتمعات تقوم على الإغارة باعتبارها نشاطا اقتصاديّا يتجسّم في الغنيمة والفيء والسبي عرفته عرب الجزيرة كما عرفته المجتمعات التقليديّة. وهو إلى ذلك نمط إنتاج ثقافيّ يستند إلى قيم البطولة والثأر والانتقام والحماية وحتّى فنّ الرثاء. وعلى هذا يكون القتال أمرا "طبيعيّا" في السياق التواصليّ الذي نزلت فيه الآيات خصوصا مع غياب دولة الحقّ والقانون. وما كان للرسول أن يخاطب قومه، وهو يتأوّل إشارات الوحي الربانيّ، بغير هذه الآيات وقد صاغ قوله على مقتضى أساليب العرب ونظرتهم إلى الوجود والحياة.
بيد أنّ الإشكال يكمن في توظيف هذه الآيات اليوم في خطاب العنف والكراهية والتحريض على القتل مع الاستناد إلى مفاهيم الولاء والبراء لممارسة أبشع أشكال العنف ضدّ المخالفين و"الكفّار". فهذا المنطق الحربيّ يمثّل عائقا أمام بناء مجتمع الحوار والعيش المشترك والتوافق. وعلاوة على ذلك، حوّلت هذه النظرة الدين إلى عقيدة قتاليّة متناسية الموقف الأخلاقيّ القرآنيّ الذي عبّر عنه على لسان هابيل:"لئن بسطت إليّ يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك" (المائدة، الآية 28) بقدر ما تناست آيات عديدة مدارها على الصفح والعفو والغفران بعد أن أصبح كلّ من هبّ ودبّ يستقوي بغريزة الموت وشهوة الدم في انتحار جماعيّ مدمّر.
في الإيمان ومقتضات الحداثة
ليس من العسير أن نلاحظ انتشار الخطاب الدينيّ القائم على التحريض الطائفيّ وإثارة الدهماء على النساء والجهلة على المثقّفين واستخدام ذلك في تدمير الدول وإفساد الثورات. ولئن بدا هذا السلوك "مفهوما" ضمن منطق "عبادة الأسلاف" فإنّ أسئلة جذريّة ألقاها ناشيد لا يجيب عنها حتّى ما يسمّى بالإسلام الوسطيّ. من ذلك مسألة الدولة أتكون مدنيّة أم دينيّة؟ وهل ينبغي الاحتكام إلى القوانين أم إلى الشريعة؟ وهل القرآن هو الدستور؟ وهل يتساوى المرأة والرجل في كلّ شيء؟ وهل قتال غير المسلم فرض أم لا؟ وهل تزويج القاصرات من الإسلام؟ وهل تقبل الحدود التي تعتبرها المواثيق الدوليّة مهينة للكرامة البشريّة؟
إنّ هذه الأسئلة وغيرها كثير لممّا يعتبر كاشفا عن عمق تغلغل تصوّرات الشريعة في الخطاب الدينيّ بألوانه المختلفة. وهو يكشف أيضا ما طرحته الحداثة السياسيّة والحقوقيّة من عسير الأسئلة على المسلمين اليوم. فممّا يقوم عليه فكر الحداثة أنّ الإنسان سيّد نفسه يصنع كيانه ويرسم طريقه الشخصيّ بحسب طموحه وميوله ضمن تعاقد قانونيّ مع نظرائه في المجتمع يجعل الفرد في شراكة مع الجماعة لا في علاقة إذعان وخضوع.
فهذا الذي غيّرت به الحداثة وضع الإنسان وإمكاناته في الحياة إنّما هو الحرّيّة في أعمق مداليلها. لذلك فإنّ تجديد الإيمان عند ناشيد يفترض الانطلاق من مبدإ الحرّيّة لتنمية الفرد روحيّا واجتماعيّا وإشباع حاجته إلى الأمن الوجوديّ وملاءمة إيمانه مع منظومة حقوق الإنسان.
 لقد آن الأوان حسب المؤلّف لنقل مركز الثقل من الشريعة إلى العقيدة لأنّ شريعة الفقهاء ستتراجع أمام زحف الحداثة. وهنا تحديدا بهذا الإقرار المتفائل يعود السؤال المركزيّ المطروح في الكتاب. فإذا سلّمنا بتاريخيّة الشريعة وخلّصنا على مذهب القرآنيّين الدين منها وفصلنا بين الروحيّ العقديّ الشخصيّ والزمني السياسيّ الجماعيّ فهل تحلّ مشكلة العنف؟ وهل يتقلّص منسوبه بالضرورة؟ أليس العنف الذي تمارسه جماعات الإسلام الأصوليّ السلفيّ التكفيريّ حتّى بنواته التأويليّة المتخلّفة عن فهم مقتضيات الحداثة يتمّ، ويا للمفارقة، بالآلات الفتّاكة التي صنعتها الحداثة التكنولوجيّة ضمن لعبة أكبر من صراع التآويل؟

ربّما كنّا نشهد على نحو كاريكاتوري- تراجيديّ نسخة ممّا يمكن أن يصل إليه الفقر التأويليّ السطحيّ للدين من غباء وتدمير للذات. ولكنّ هذا المشهد لا يخرج عن ريح الحداثة العاتية التي تكنس أوهام القديم المتهافت بإيصاله إلى جوهر تناقضاته نفسها. 

jeudi 8 octobre 2015

رواية «الطلياني» إذ تكشف ارتباكات التلقي


محمد العباس (كاتب سعوديّ)
القدس العربي، 7 أكتوبر 2015

لم يحدث في جميع دورات الجائزة العالمية للرواية العربية «بوكر» أن تعرضت الرواية الفائزة للهجوم والانتقاص من أدبيتها واستحقاقها، كما حدث لرواية «الطلياني» لشكري المبخوت، التي حصدت الجائزة في الدورة الأخيرة في فبراير/شباط الماضي.
فقد تم الطعن في نزاهة وكفاءة لجان التحكيم في مجمل الدورات، كما نالت بعض الروايات الفائزة نصيبها من التشكيك الوقتي، أو عدم الاهتمام أصلاً بمطالعتها. وباستثناء رواية «عزازيل» ليوسف زيدان، ورواية «ساق البامبو» لسعود السنعوسي لم تحرك الروايات الأخرى الفائزة أي جدل قرائي أو نقدي يُذكر، إلا ما أعقب إعلان النتائج من سجالات سطحية وتبريرات. أما رواية المبخوت فمنذ إعلان فوزها وإلى اليوم مازالت محل اهتمام واستنكار واعتراض وإعجاب. الأمر الذي يعني في ما يعنيه أنها رواية تحظى بمقروئية واسعة.
إن لاستمرار الجدل حول أحقيتها بالجائزة، من الدلالات ما يحتّم البحث في سبب هذا الصدى الذي يفجر بدوره متوالية من التساؤلات، ليس في ما يتعلق بالجائزة والرواية فحسب، بل بطبيعة التلقي عند الإنسان العربي. فهي رواية تفتقر إلى الخيال، من منظور المحتجين على استحقاقها. باردة في عرض المشاعر والأحاسيس. انبساطية في سرديتها. شخصياتها نمطية ومكررة ومستهلكة. حبكتها على درجة من العادية. إلى آخر الاتهامات التي تنال من أدبيتها، لدرجة موضعتها في مرتبة أدنى على حافة المفاضلة مع بعض الروايات التي لم تتأهل للفوز. وكأن الروايات التي فازت في الدورات السابقة كانت جانحة في الخيال، مفعمة بالمشاعر الحارقة، مؤدية لفروض السرد كما ينبغي، محبوكة ببراعة روائية احترافية. والصحيح أن بعض تلك الروايات لم تخضع أصلاً للقراءة.
هكذا جاء التلقي الثقافي للرواية دون مستوى أفق التوقع، بحيث لم يتعادل بحال مع الاستقبال الإعلامي، حيث بات المبخوت ضيفاً ونجماً للمنابر والوسائل الإعلامية المطبوعة والمسموعة والمرئية، ليعدّد مآثر روايته وليؤدي طقوس تسويقها، كما هو الحال مع كل الروايات الفائزة. فما رآه بعض المحافظين دونجوانية كلاسيكية تمت قراءتها بمنظور إيروسياسي تحرُّري. وما أُخذ على الرواية من كثافة الجرعة الفكرية ذات المنزع الثقافي النقدي تحديداً، الذي يتحدر منه المبخوت، تعامل معه آخرون كشكل من أشكال فكرنة الرواية. وما قيل عن التسعير الجنسي الذي يستحوذ على الشخصيات، لم يكن بتصور بعض القراء إلا إثارة مدروسة لاستفزاز الحواس، واستعراض البنية المجتمعية بصورة مرآوية أمينة وصادمة وهكذا.
الرواية ليست مكتملة من ناحية البناء الفني والمعالجة الموضوعية إلى الحد الذي يمكن أن توصف بالتحفة الأدبية، ولكنها ليست على تلك الدرجة من الضعف، كما حاول بعض القراء والنقاد الحط من قدرها. فهي بمقاييس الرواية العربية التي تُكتب اليوم يمكن أن تكون من أفضل ما أنتجه الروائيون العرب. بمعنى أنها تشبه الرواية العربية في صيرورتها وتجلياتها الأخيرة. ولا تتجاوز المعايير الفنية والموضوعية التي تم تثبيتها منذ عقدين تقريباً عند تلك المحطة المزدحمة بالروائيين. بمعنى أنها نتاج البنية الفكرية العربية وما تحتمله من خصائص أدبية، ولذلك يمكن القول إنها في حالة من حالات التجاور والتماهي مع مجمل المنجز. وهو الأمر الذي يعمق التساؤل عن كم المقالات المنذورة للحد من حضورها.
يُفترض أن تكون كل رواية فائزة بجائزة محل تسابق القراء والنقاد. ويكون سقف التوقع على درجة من العلو، لأن الرواية التي تتقدم مئات الروايات وتدفع بها إلى الوراء يتأمل فيها المهتمون بأن تشكل قمة الوعي الروائي، وخلاصة فن الكتابة عبر ذلك الجنس الإبداعي. ولذلك يُقبل عليها القراء بحماسة ونهم واندفاع. ولا يتعاملون معها كأي رواية عادية. وهذا هو أحد الأسباب الجوهرية في طبيعة الاستقبال البارد المخيب لرواية «الطلياني» عند القراء الذين يتعاملون مع الرواية بموجب معايير الرواية الاصطفائية. كما أن موضوع الرواية كان له الأثر الأكبر في التلقي المرتبك. لأن الحديث عن الثقافة الحزبية وتداعياتها مسألة غير مرغوبة ولا جاذبة عند القارئ الخليجي. وهذا القارئ بالتجديد صار يشكل جبهة ذوقية عريضة في العقود الأخيرة، ولذلك تبدو الرواية في أضعف حالات استقبالها عند الخليجيين.
كذلك كون الرواية من تونس يرفع مستوى الآمال. فهي قاطرة ما يُسمى بالربيع العربي. ووجود «نداء تونس» في صدارة المشهد السياسي إلى جانب القوى التي تطرح نفسها كتيارات تقدمية تنويرية، تضع الرواية تحت هذا المنظور. لأن الرواية لا تُقرأ بمعزل عن بانوراما الحياة. ولهذا السبب قوربت الرواية بنفس طهوري حزبي، سواء من قبل القارئ الليبرالي أو المؤيد للحركات السلفية. بمعنى أن الرواية أُريد لها أن تكون مدخلاً للحالة التونسية، في حين كان المبخوت يؤسس قارئه الضمني ضمن أفق تقليدي إلى حد ما، حيث عاد بالصراع إلى بذرته الأولى. وبالتالي انغلقت الرواية كموضوع وتداعيات داخل المدار التونسي خلال الحقبة البورقيبية. ولم يجد فيها القارئ العربي سوى مفردات الحياة التونسية، بالإضافة إلى أن الروائي التونسي لا يمتلك ذلك اللوبي من القراء المتعاطفين معه مهما كان مستوى روايته، كما يتوفر في الحالة المصرية والخليجية مثلاً، الأمر الذي صعّب المهمة على المبخوت.
وربما لأن القارئ العربي وصل إلى طريق مسدود مع كم الروايات المتزاحمة وتشابه موضوعاتها وأدائياتها، كما نبت له لسان ليسائل الجوائز والقائمين عليها والروائيين أيضاً، إذ لم تعد بهرجة أول حفلة بوكرية قابلة للإعادة، كما أن طابور المكرمين في جائزة كتارا تحت عنوان الفوز مروا على المشهد مرور الكرام، وكأن الجائزة لم تحدث، إذ لم تترك الروايات الفائزة أي أثر، وهذا الصمت والتهميش المعلن يبدو في صالح رواية «الطلياني» التي لا زالت تحتل موقعها الجدلي، حيث يُختلف عليها كما يُختلف بها، خصوصاً في تونس حيث وجد المثقفون في الرواية مادة خصبة للسجال الموضوعي والفني.
ما بين صفعة عبدالناصر للإمام علالة الدرويش وآخر صفحة في الرواية يلهث القارئ وراء السر الخفي الذي سيبني المبخوت بموجبه روايته. ويتوقع أن يكون الكشف مدّوياً، ولكن النهاية تبدو مخيبة حيث التعرية الاجتماعية التقليدية لواقع رجل الدين المتحرش المخادع. وكأن المبخوت يخدع القارئ أيضاً بمفاجأة باهتة، ودون مستوى التوقع. وهو الأمر الذي أنبأ عن حسّ التسطيح للشخصيات التي استشعرها بعض القراء، على الرغم من محاولاته الذكية لرسم خط بياني فكري شعوري لزينة ونجلاء وعبدالناصر وللاجنينة وسي محمود. وسرد سيرة موجعة لحيوات تحاول الثبات والتغيير في مشهد سياسي إجتماعي رجراج، حيث الإدانة الواسعة والشاملة للأحزاب والأيديولوجيا والسلطة بنبرة شعاراتية صاخبة مغلفة برداء ثقافي سميك. أي موضعة المجتمع تحت سيف المناقدة، وهي الثيمة التي تمت معالجتها في مئات الروايات، وهذا هو بالتحديد ما جعل بعض القراء يرجحون فوزها كرواية تقليدية بنائياً وموضوعياً، أي بسبب تقليدية لجنة التحكيم.
البوكر تجيد تسويق نجومها وتوطينهم في وجدان القارئ العربي، ولكن ليس بمقدورها فرض رواية خالية من المعنى مفتقرة إلى فن الصنعة الأدبية. ورواية «الطلياني» قد تكون محظوظة ببقعة الضوء البوكرية المسلّطة عليها، إلا أنها تختزن ما يربك المتلقي ويثير فيه الرغبة للفهم والاستمتاع. وما ذلك العناد القرائي الواسع والاشتباك المستمر والمباشر مع موضوع وفنية الرواية إلا الدليل على بعض استحقاقها، فهي لا تؤرخ بقدر ما تستبطن التاريخ. وإذا كانت تبدّد جملة من العناوين الوعرة في الحياة العربية في ما يتعلق بالممارسة السياسية والعلاقات ما بين المرأة والرجل والتحولات الاجتماعية، فإنها على الأقل زرعت شخصيتين يصعب تفادي أثرهما على القارئ العربي حتى حين، عبدالناصر الملقب بالـ»الطلياني» لفرط وسامته، وزينة التي حصرت كقصبة مفكّرة، وكأن المبخوت يعمق حضور الفحل في الرواية العربية كما يحيي فاعلية المرأة المتحرّرة بالأدوات ذاتها والإيقاع ذاته. وهو الاختبار الذي ما زال القارئ العربي يراوح فيه.