mercredi 29 octobre 2014

تراجيديا اليسار التونسي ولعنة الأصول...

تراجيديا اليسار التونسي في رواية "الطلياني" لشكري المبخوت:
لعنة الأصول...

فرج الحوار*
 (جريدة "آخر خبر" بتاريخ 29 أكتوبر 2014)

اختار شكري المبخوت لروايته الأولى عنوان "الطلياني". ومن المعلوم في مجال السرديات أن من وظائف العنوان وضع القارئ في حالة تقبل أو اشتهاء(fonction apéritive). ومن خاصيات هذا الضرب من العناوين ("الموضوعاتيّة" (thématiques) حسب توصيف جيرار جينات) أنه يعيّن بوضوح موضوع الرواية، وهو هنا يركز على ذات فردية، وليس على حدث أو ظاهرة في حياة هذا الفرد أو في حياة المجموعة التي ينتمي إليها. وأنا أروم من هذا القول التأكيد ابتداء أنّ رواية "الطلياني"، خلافا لما قد يذهب في ظن البعض، ليست رواية تاريخية بالمعنى الاصطلاحي للكلمة، وإن لم تخل من إشارات تاريخية محدّدة تهم تونس وشعبها، أو فئات محددة من الشعب التونسي، سأفصل فيها القول لاحقا.
والحقيقة أنه لا وجود لرواية مقطوعة الصلة بالتاريخ، فكل نصّ سردي يندرج بالضرورة في إطار زمانيّ - مكاني محدّد وثيق الصلة بمحيطه المباشر أو بالمحيط الإنساني العام. ولو أخذنا بهذه القاعدة العامة لجاز لنا اعتبار كل الروايات، بدون استثناء، روايات تاريخية. وليس الحال كذلك طبعا، وإلاّ لكانت روائع الآثار السردية على مر التاريخ (نخص بالذكر منها روايات بلزاك وفلوبير وزولا وموباسان وألبرتو مورافيا وجون إرفينق ونجيب محفوط وحنا مينا وغيرهم) مجرد شهادات تاريخية. هذا دون اعتبار أن للرواية التاريخية مقوماتها التي لا نجد لها أثرا في رواية "الطلياني".
وأولى وجوه الاختلاف، وأهمها في نظري، أن بطل رواية شكري المبخوت  المشار إليه في العنوان هو شخصية من ورق، يختلف جذريا عن الأعلام التاريخية أو المجموعات البشرية التي نص عليها المتن الروائي، نخص بالذكر منها بورقيبة ومزالي زين العابدين بن علي والإسلاميين وأقصى اليسار.
وثاني وجوه الاختلاف أننا، مع "الطلياني"، إزاء رواية عاطفية تتمحور أحداثها الأساسية حول سيرة الزوج "عبد الناصر" و"زينة". وقد كان بالإمكان أن يُفسَح مكان في عنوان الرواية لـ "زينة"، فيكون، بدل "الطلياني"، "الطلياني وزينة" أو "زينة والطلياني"، قياسا على "قيس وليلى"، و"تريستن وإيزوت"، و"روميو وجوليات"، و"بول وفرجيني"، وغيرها من روايات الحب العالمية الشهيرة.
من التاريخ إلى الرمز
والحقيقة أن مسألة تحديد النوع الذي ينتمي إليه مؤلف شكري المبخوت ليس مجرد أمر شكلي، وذلك لأن تنزيل الرواية في خانة الروايات التاريخية - وهي قليلة في تراثنا السردي التونسي - سيجردها حتما من أبعادها الرمزية الهامة ويختزلها في جانبها التأريخي البحت للفترة المتأخرة من العهد البورقيبي وفاتحة عهد خليفته زين العابدين بن علي. ولو كان هذا المراد فعلا، لما كان موضوع "الحب" - أو انعدام الحب واستحالته - الموضوع الأبرز للرواية. من ذلك التباين الواضح في أسلوب المتن الروائي، فهو تقريري، إلى حدّ الإملال أحيانا، في الأجزاء التي تتناول الأحداث التاريخية بشكل مباشر، وهو طريف شيّق متألق في حديثه عن لواعج النفس وآلامها، وأسرار الجنس ومباهجه وعذاباته، كما يتبين ذلك بجلاء في الصفحات الرائقة التي تصف علاقات عبد الناصر بـ "للا جنينة"، و"نجلاء" و، إلى حد ما، بـ "زينة".    
والرواية، في اهتمامها بالتاريخ، لم تعتمد منهجية المؤرخين، ولا منهجية كتاب الرواية التاريخية، بل ركزت على السلوك الإيديولوجي المتزمت "لأصوليي" اليمين واليسار على حد السواء، وأبرزت التطابق الكامل في مناهج عملهما وفي خطابهما في الوسط الجامعي بصورة خاصّة. وكان لشخصية "زينة" دور كبير في الكشف عن هذا الاتفاق العجيب وفي إبراز نتائجه الخطيرة، وخاصة منها ما له علاقة بالعنف اللفظي (وبعده الرمزي في رمي المرأة المخالفة بالعهر، يشترك في ذلك رموز النظام (الشرطة) مع ممثلي اليمن الإسلامي واليسار الماركسي) أو العملي تحت مسمّيي "الجهاد" أو "العنف الثوري"، كما يفصح عن ذلك مشروع تصفية "زينة" من قبل التنظيم اليساري الذي ينتمي إليه عبد الناصر، ومشروع تصفية هذا الأخير في مرحلة لاحقة.
وفي الرّواية تأكيد واضح على البعد الاستبدادي "الغيبي" في الإيديولوجية "السلفية" (الدينية والماركسية)، فكلتاهما تصادر "الحقيقة" باسم "السلف الصالح"، وكلتاهما تصادر حق الاختلاف وحق التعبير الذي يترتب عنه. هذا التطابق نلمسه بشكل واضح في سلوك "عبد الناصر" مع "زينة" وإلزامها بلجم ملكة "النقد" فيها، انسجاما مع انتمائها اليساري المعلن. ولو لا عامل "الحب" الذي غير مجرى العلاقة بين الشخصيتين، ملمحا إلى تغلب الذاتي على الموضوعي - لكانت "زينة" صفيت فعلا من قبل أعدائها الإيديولوجيين، ممثلين - وهنا المفارقة - في اليساريين والإسلاميين.
وقد غير الحب مجرى حياة الشخصيتين معا، وكان له أثره الحاسم في حياة "عبد الناصر" بصورة خاصة إذ أتاح له فرصة الخروج من سجن "التنظيم" وربقته إلى الفضاء الاجتماعي الواسع. هذا الطور الجديد في حياة البطل المعلن (éponyme) للرواية هو الذي أفصح عن حجم القطيعة بين "المعارضة" والواقع المعيش الذي تطمح لتغييره، والنظام السياسي القائم بصورة خاصة. ويفصح هذا الطور كذلك عن زيف معارف المعارضة وتهافت تحاليلها وقصورها الفاضح في إدراك أبسط الحقائق المادية، والاقتصادية منها بشكل أساسي. فليس من المبالغة في شيء القول بأن "عبد الناصر" أدرك حقيقة طبيعة النظام القائم وأسلوبه في الحكم - أي طابعه الاستبدادي - عبر علاقته الوطيدة بالإعلامي عبد الحميد، أي بأحد أبرز رموز النظام.
ويندرج في نفس السياق ما قيل عن الشرطة وطريقة عملها، خاصة فيما يتعلّق بقضيتي "الولاء" و"العمالة" للنظام، كما يتضح كذلك في سلوك ضابط الشرطة "عثمان"والرئيس المدير العام عبد الحميد والرقيب أبو السعود. يتبين من ذلك أن الدولة هي جهاز متناسق لا يقبل بمبدإ "المعارضة". وعليه فإنه لا وجود لحقيقة في ذاتها (بما في ذلك الظواهر المادية المباشرة)، وإنما الحقيقة هي ما يراه الجهاز، ويقره التجسيد البشري له ممثلا في شخص الرئيس. هذه الحقيقة البديهية هي التي تقود "حراس الهيكل" من أمثال "أبي السعود"، وهي التي تفسر أن لا شيء تغير في طبيعة عمل هؤلاء بعد "التحول المبارك".     
لا شك أن لكل ما تقدم أهميته ودوره الأكيد في المتن الروائي. وما يتعين التأكيد عليه في هذا الصدد أن هذه الظواهر ليست مهمة في ذاتها بالنسبة للروائي، خلافا لما هو عليه الحال بالنسبة للمؤرخ، بل إن أهميتها تتمثل أساسا في كونها تمثل إحدى المراحل الهامة في مسيرة الشخصية المركزية للرواية، ممثلة في الطلياني وزينة معا، وليس في الطلياني وحده، كما يريد أن يوهمنا المؤلف، مع فارق واضح لصالح زينة على مستوى الوعي والالتزام الفكري واحترام الآخر والقبول بحقه في الاختلاف. وليس أدل على ذلك - على المستوى الرمزي - من أن هاتين الشخصيتين ارتبطتا - شكليا على الأقل لأن "الصداق" غير الزواج في نظر "زينة" - برابط "الزواج"، وأصبحا بموجب ذلك فاعلا مثنى (actant duel)، منخرطا في نفس السيرورة، ومنتظما في نفس المصير، مستلهما نفس المبادئ.
فشل الملحمة.. خيبة اليسار
غير أن هذه "الملحمة" (باعتبار أن قصة الحب انطلقت خلال مواجهة - أي حرب - حامية مع الشرطة في حرم كلية الآداب) آلت إلى فشل ذريع، لعلّه في وجه من وجوهه تعبير عن فشل اليسار برمته. ولهذا الفشل أسبابه الخفية التي أفصح عنها البناء الملغز للرواية. وقد أعلن عن هذا اللغز في مفتتحها، وصرِّح بحله في خاتمتها. ويتمثل هذا "اللغز" في ما يمكن تسميته بـ "لعنة الأصول" التي تزرع في الذات، في سن مبكر، بذور الخضوع والخنوع والعار والمهانة. وثمة اتفاق بهذا الخصوص بين طرفي الفاعل المثنى (عبد الناصر وزينة). فأن يكون الطفل - باعتباره إنسان المستقبل وقوامه، وبغض النظر عن جنسه - فريسة سهلة للأب أو الأخ أو الجار، يغتصبونه إشباعا لشهواتهم البهيمية، أو تنفيسا عن شذوذ متأصل فيهم، يعني أن العنف هو أساس العلاقات في هذا الضرب من المجتمعات غير السويّة التي تواري عقدها وأمراضها المزمنة وراء أقنعة سميكة من الحياء والتدين والأخلاقيات الزائفة.  
و"الاغتصاب"، في بعديه المادي والرمزي، هو إخضاع للطفل وإخصاء لنوازع التحقق الذاتي فيه، وإرغامه تبعا لذلك على القبول بدور التابع الذليل للماسكين بزمام السلطة على اختلاف مواقعهم، وإرغامه لاحقا على القبول بدور "الرعية" التي لا نجاة لها إلا في الطاعة العمياء لأولي الأمر. وقد أفصح عن هذه الحقيقة الفاجعة عبد الحميد، الناطق باسم النظام والمعبر الوفي عن إيديولوجيته، عندما اعترف لعبد الناصر أن النظام القائم عدو لدود للذكاء والنبوغ والتفوق، يقتلعها حيثما وجدت. هذا الضرب من الاغتصاب هو الذي اكتشفه الفاعل المثنى في الطور الثاني من حياته (وتحديدا في الوسطين المهني بالنسبة لعبد الناصر والجامعي بالنسبة لزينة)، وهو، في الآن نفسه، مكمل ضروري وتتويج للاغتصاب المادي الذي تعرض له كلاهما في طفولته.
رواية الاغتصاب المعمّم
ويجب الانتباه، في هذا الإطار، أن مكوني الفاعل المثنى يشتركان في سمة مميزة هامة ممثلة في الجمال الجسماني أولا، والفكري ثانيا. ولهذه الجزئية أهمية كبرى لأنها تغني، فيما تعني، أنه لا مكان، في عالم الرداءة والقبح الواقعيين، للجمال إلا في موقع "الضحية". لذلك تعرض "عبد الناصر" طفلا لمحاولة اغتصاب، واغتصبت "زينة" من قبل أبيها أو أخيها، واغتصبت "نجلاء" عندما استدرجت إلى عالم البغاء، واغتصبت البلاد تباعا من حكامها الحاليين والمسقبليين، وفي مقدمتهم الإسلاميون، الماسكين بمصيرها اليوم.
 ثمة إذن لعنة "ثقافية" أو "حضاريّة" تكرس الاغتصاب وتمارسه باعتباره الحق الطبيعي للأقوياء والمتنفذين. وثمة لعنة "ثقافية" أخرى  تكرس، باسم الثوابت الأزلية، القبح والرداءة كما تجسدهما في الرواية شخصية الإمام الشيخ "علالة"، وهو رمز الإسلامي بامتياز. هذه اللعنة الماحقة هي التي تلاحق الجمال داخلنا، وفي محيطنا المباشر، لأنها ترى فيه خطرا يتهدد وجودها. ومن وجوه هذه اللعنة، وأبعدها نكاية، تلك التي تختزل الإنسان في عضو من أعضائه، يستوي في ذلك الرجل والمرأة.
وقد أصابت لعنة الأصول عبد الناصر وزيّنت له أن يتماهى مع جلاده القديم ويتحول بدوره إلى مغتصب مبتز. ولكن ضحيته "ريم" نجت من براثنه بفضل "العجز" الذي أحاق به على حين غرة فعطل فيه "سلطانه" الجنسي. ولعل هذا "العجز"، الذي لم يجد له هو نفسه تفسيرا، هو رد الفعل اللاواعي للمناضل فيه، المناهض لكل أشكال التسلط والاستبداد، وهو بالتالي رفض للتردي الأخلاقي والقيمي الذي يرمز إليه هذا العمل المشين. وليس ينقص من فداحة "الجريمة"، التي كاد عبد الناصر يقترفها، أن "الضحية" كانت راضية بهذا الدور بدافع الطمع. وما من شك في أن هذا "العجز" المباغت جنب عبد الناصر الوقوع في وهدة البهيمية، وأنقذ فيه حسّه الإنساني.      
إنّ الفشل إذن هو، في جانب كبير منه على الأقل، نتاج هذه اللعنة، حتى إنها تتحول إلى نوع من القدريّة الضاغطة التي تتفنن في إنتاج أسباب التراجع والتردي يمينا ويسارا، في أشكال مختلفة ظاهريا. وليس أدل على ذلك من تفشي جرثوم الجهوية والعشائرية في الإيديولوجية اليسارية الماركسية (انظر بالخصوص ص: 66)، وتحول خطاب "المعارضة"، الدينية والمدنية منها على حد السواء، إلى "لغة خشبية"، قوامها القوالب الجاهزة والاستعارات الميتة، لا تختلف شكلا ومضمونا عن خطاب النظام الذي تروم الإطاحة به.  والفشل هو، في النهاية، النتاج الطبيعي للجهاز الضابط لمختلف مظاهر الحياة في مجتمع الظواهر البائسة، حيث لا مكان إلا للماسكين بالنفوذ في مختلف أشكاله، فلا فرق، في هذا الإطار، بين عبد الحميد وأبو السعود وبين الأستاذ الجامعي الذي حكم على "زينة" بالفشل عقابا لها على امتناعها عنه. في نظام كهذا، يطمح إلى "مومسة" الإنسان بدنيا وفكريا، يعتبر رفض "الاغتصاب" جريمة لا تغتفر. وقد دفعت "زينة" غاليا ثمن هذه "الثورة".    
التراجيديا وانتصار جهاز الدولة
لقد كانت "الهامشية" هي مآل "الطلياني" بعد ما أدرك أن لا أفق للطموح والحياة خارج مجال "الحلال"، كما أراده الجهاز وقدره، باعتباره الإله الخفي الذي يمسك بمقادير الناس جميعا، بما في ذلك رأس النظام البائد نفسه عندما أودى بعزّه الانقلاب الطبي الذي جاء بخليفته إلى سدة الحكم. ويتضح هكذا أن لا وجود لشيء خارج الجهاز نفسه باعتباره تجسيدا للنظام أو الدولة. وهذا ما عناه ضابط الشرطة "عثمان" عندما أكد للطلياني أن الشرطة هي حامية "للدولة"، وليست حامية لحزب معين. وهذا هو بالضبط ما أدركه الرقيب أبو السعود عندما واصل عمله، بعد "التحول المبارك"، وفقا لنفس التراتيب المعمول بها سابقا بتعلة أنه لم يتصل بما يفيد إلغاءها. ويتضح هكذا أن "الجهاز" هو المستفيد الوحيد من التحولات و"الثورات"، وهو ما نلمسه اليوم بشكل واضح في سلوك الحكام الجدد للبلاد وفي محاولاتهم المحمومة لوضع اليد على "الجهاز" والتحكم فيه.   
وما من شك في أن النهاية المأساوية لمكوني الفاعل المثنى "عبد الناصر" و"زينة" هي الدليل على انتصار "الجهاز"، ودليل إضافي على نجاحه في "تدجين" هذين "الثائرين"، وإرغامهما على القبول بالاغتصاب والرضا به، معلنا بذلك نهاية الحلم الجميل الذي كان هذا الزوج المتميز، صنو آدم وحواء اللذين سيجددان الكون ويزيلان منه مظاهر القبح والرداءة، يطمحان لتحقيقه، فانتهى الأمر بزينة إلى القبول بدور "العاهر" والتابع معا، وانتهى الأمر بعبد الناصر بوهيميا منبتا يبحث عن النجاة والسلوى - ولا سلوى ولا نجاة - في الملذات الحسية التي أغرقته في حالة من البلادة الفكرية ضاعفت من عزلته عن محيطه العائلي والاجتماعي.
إنّ الطابع التراجيدي الواضح في مسيرة الشخصية المركزية في الرواية، بمكونيها الذكوري والأنثوي، هو قدر كل الذوات القلقة، الطامحة للانعتاق من سلطان الثوابت، في بحثها الدؤوب، وفقا لمقولة غولدمان الشهيرة، عن قيم أصيلة جميلة في عالم متدهور موبوء. وليس أدل على التراجيديا من الموت، وقد كان الموت، في بعده الرمزي، هو مآل آدم وحواء التونسيين المسميين الطلياني وزينة. ويشير موتهما هذا إلى انحسار أفق "الأنوار" الذي بشر به كل منهما على طريقته الخاصّة، ممثلا في مشروع اليسار كما تبلور في المحيط الجامعي.
إنّ فشل الفيلسوفة "زينة" يرمز إلى اندحار العقلانية وانتصار الفكر "الغيبي" الأصولي مجددا، ويرمز في النهاية إلى فشل مشروع "النهضة". وإنه لمن سخرية الأقدار أن أصبحت لفظة "النهضة" اليوم العنوان المميز للأصولية الدينية التي تبشر بالخراب والخسران والموت، وتنادي بالقضاء المبرم على التاريخ والحضارة في واقع عربي وإسلامي بائس خيمت عليه "الأنوار" الداعشيّة الدامسة والمدمّرة.          
   

* روائيّ وأستاذ  في كلية الآداب والعلوم الإنسانية بسوسة

ذاك التـونســي المتحـــرّر...

مقال عادل البرينصي عن رواية «الطلياني» بجريدة "الصحافة" بتاريخ 28 أكتوبر 2014



بنظرة المثقف الناقد كما ورد في الصفحة 60 من الرواية «..المثقف عندي من ينقد دون حسابات، ينقد كل شيء... يطلق النار على كل ما يتحرّك... يطرح الأزمة بالسؤال والاستفهام. يخلخل السائد...» يعود بنا الأستاذ شكري المبخوت ـ بفعل تحديد إطار زماني ومكاني واضح الى فترة الثمانينات في العاصمة التونسية، ليصف لنا الحياة في المدينة العتيقة بتفاصيلها وتفرعاتها وشغفها وطبيعة العلاقات الاجتماعية فيها، بأسرار بيوتها وبتنوع شخوصها بحميميتها وصراعاتها، بمسرّاتها وأفراحها...
كما يجعلك تعيش ـ إن لم تعشه طبعا ـ واقعا حياتيا في العاصمة وصراعا سياسيا تجلّى خاصة في الجامعة التونسية بين اليسار والسلطة وبين اليسار والاسلاميين...
فعندما تقرأ رواية «الطلياني» تستفزّك  الى حدّ التوتّر، تحيلك على أشخاص حقيقيين، عرفتهم وعايشتهم وتحدثت معهم، تحيلك الى واقع يعيش  في مخيلتك ولازالت آثاره حاضرة معك... بل أكثر من ذلك فإن شخصية أبو السعود «ج» شخصية واقعية لم يبتدعها الكاتب ولم ينتجها هكذا...
وهنا يبرز البعد الواقعي في رواية «الطلياني» وهو وإن بدا توجها معتادا عليه في الكثير من الروايات العالمية إلاّ أن شكري المبخوت قد التزم بالواقع وبالوقائع وبالشخصيات الى حدود يشعرك بأنّك أمام رواية تاريخية أو مذكرات شخصية للكاتب او لأصدقاء قريبين منه.
وبلغة نراها لا تختلف في عاميتها وبنيتها المبسطة، عن لغة الأدب الرومانسي المتميزة بالشاعرية المطلقة وبسهولة التعبير كالتي نطالعها في أشعار بودلير  (Baudelaire) أو ألفراد «دوموساي» (Musset) أو أشعار وروايات فيكتور هيغو (Hugo) وبقدرة الكاتب البلاغية يستطيع القارئ ان يفهم العديد من الألفاظ والتسميات والمفاهيم والتوجهات والتيارات وغيرها من المصطلحات التي كانت سائدة في واقع اجتماعي ـ سياسي متحرك، كما يستطيع أن يطّلع على أسماء العديد من الكتّاب والمفكرين الذين ربما قرأ لهم الكاتب واطّلع على أفكارهم وتأثيرهم ثم انتقدهم...
رواية «الطلياني» ليست هذا فقط فهي كذلك رواية وجودية تتجسد من خلال شخصيات حائرة تبحث عن حقيقة وجودها وعن المعنى الحقيقي للحياة، فشخصية عبد الناصر ورقيّة شخصيتان متحررتان بأتمّ معنى الكلمة رغم القيود الاجتماعية والنفسية والاقتصادية والفكرية التي تكبلهما... شخصيتان تمثلان الحرية وتفلتان من كلّ قيد على حد تعبير الفيلسوف تايلور.
ربّما لا تسمح ورقة واحدة في صحيفة ان نأتي على كل ما جاء في رواية الطلياني ـ لكن المهم أن أول رواية لشكري المبخوت قد حددت مكانة للكاتب ضمن الروائيين العرب والعالميين، فإذا كان علاء الأصواني قد وفق من خلال رواية شيكاغو أن يعطي صورة عن الواقع السياسي في مصر قبل الثورة فإن شكري المبخوت قد مكّن الأجيال الجديدة من الطلبة والمثقفين الذين تستهويهم فكرة العمل السياسي ان يطلعوا على الخلفيات التاريخية للواقع السياسي الحالي، أليس غريبا ان تصدر روايتي «شيكاغو» و«الطلياني» بعد سقوط النظامين في مصر وتونس.
رواية «الطلياني» فيها جوانب عديدة وحيوات متنوعة ولعل أهمها واقع العمل الصحفي زمن الإنتقال من الحكم البورقيبي الى نظام بن علي، وهو ما يجعلني أعتبر جانبا من «رواية الطلياني» بمثابة شريط وثائقي عن جريدة حكومية عمومية لا زالت تبحث عن هويتها الى حد اليوم.


إذا أردت أن تفهم الحراك السياسي الذي كان في الجامعة التونسية زمن الثمانينات والذي تستمر تداعياته الى اليوم، فيمكن لرواية «الطلياني» الصادرة حديثا لصاحبها شكري المبخوت أن تشرح لك الصراع وتحيلك على الاطّلاع على بعض المفاهيم والايديولوجيات، اليسارية واليمينية والقومية وغيرها...

عادل البرينصي

mercredi 22 octobre 2014

«الطلياني» لشكري مبخوت رواية الانكسارات وألذّ الخسارات....

مقال شكري الباصومي بجريدة "الصحافة" بتاريخ 22 أكتوبر 2014

منذ البداية كشف المبخوت عن نواياه : القادح شاب يحدث صدمة ورجة في المقبرة يوم دفن والده حين انهال ضربا وشتما على الإمام علالة حتى أدماه . رافضا الإعتذار، قائلا لمن لامه : « تعرف كما يعرفون أني لا أصلّي ولا أصوم"
ويشرع الروائي في تقديم تفاصيل حول شخصية عبد الناصر كما يصفه محيطه ضحية الكتب الفاسدة وأصدقاء السوء وهو بوهيمي فاسد الاخلاق يعاقر الخمر اما هو كما رد على والده ذات حنق : « لا سيد لي....لقـد تركت لكم أخلاق العبيد".
لماذا هاج عبد الناصر وفعل فعلته التي أدانها الجميع ؟ ولماذا خنس الإمام ولم يرد ؟
لماذا غفل الروائي طيلة مساحات من الرواية عن العودة إلى الموضوع وكأنه عرضيّ وأوغل في رسم ملامح شقيق عبد الناصر الذي أورثه بعض خصاله وايضا محل سكنى
و« الخطوات الاولى » في مدرسة الجسد .
الطلياني كان فتنة ، وجماله استثنائي وهذا مهد له الروائي لنعيش معه لوحات عشق راقية ومتنوعة كأنها فصول من الـ « كاما سوترا » لكنها بمذاق يساري طعّمه الروائي بمفردات دينية موغلة في تضاريس الجسد وتمفصلاته الباذخة .
بكل اللغات
الرواية ليست تأريخا لبعض الفترات بالجامعة التونسية ولا لصفحات من نضالات اليسار وصراعه المزدوج مع السلطة الحاكمة وخصومها من اليمين. وان كانت تعبق بتفاصيل مهمة عما جرى ، حتى خلنا شكري المبخوت قد حن لتلك الاجواء وكاد ينساق مع تلك التفاصيل بأسلوب يكاد يلامس التقرير. « الطلياني » الذي « توحمت أمه على فتيات الراي اونو » هو « المصمصة الاخيرة كما تقول أمه » مفتخرة به...
من كان يتوقع ان الفارس اليساري المعتز بنفسه المؤمن بأن اليسار هو المنقذ وزينة التي تعرف عليها طالبة لبؤة بالف رجل ....من كان يصدق انهما ضحيتان للإغتصاب ؟
زينة ما زالت تذكر « السكين من اللحم يخترقها » وعبد الناصر لم يغفر لمن حاول اغتصابه فعلته حتى وان كانت « آلته معطوبة » كما قيل له للتهوين عليه....
احلام مجهضة ....وأجساد مغتصبة كما الافكار.....
عالم خصب رتع فيه شكري مبخوت كما شاء وتنقل من محور الى آخر يقوده راو غامض يظهر ويختفي وفق مشيئة الكاتب الذي كان سيدا ساردا ...
عالم الافكار والصراعات السياسية وعالم الصحافة وايضا ملحمة للجسد بامتياز.....
الجسد حمال الانكسارات والفتوة، هو مخبر بل مجال لامتصاص كل الخيبات لكنه ايضا عالم الأحلام المتجددة ...
لم يكن شكري المبخوت وهو يتقلب بين  « حريم الطلياني » يتابع سيرة تائه يلهث وراء تعويض ما ضاع انما كان يؤسس لعالم من السحر ...عالم الفتنة والاحتفال بالجسد....
من خبرة للا جنينة الى  اليسارية العنيدة زينة الى طراوة السويسرية الفاتنة انجليكا الى استاذة التربية البدنية الى فارعة الجمال ريم...عالم يعبق شهوة وشبقا وطراوة....
لقد تفنن شكري المبخوت في هذا العالم الذي استغله افضل استغلال ليمزج التأوهات بعذابات الحاضر :
شبق بكل لغات الأزمنة بدءا بـ « العُسيلة » وفي ذلك إحالة على الحديث النبوي أي المضاجعة بلذة....وأصله :
"
حتى يذوق عسيلتك وتذوقي عسيلته » وأيضا  « اجعلوا القبلة رسولا بينكم ».....أو قوله : «كان يتدرب عليها يوميا يتحكم في فرسه حين تجنح أو يدعوها إلى الصهيل حتى يبلغ بها سدرة منتهى ....اللذة ...».
كأنها براق....لأن « سدرة المنتهى » كما وردت في القرآن كانت تخص واقعة الاسراء.
 
بل إنه استغل المقولات الفلسفية ليثري عالمه الشبقي : « لا ينزل الى نهر اللذة مرتين الا اذا اختلف النهران» .
هذا المخزون اللغوي غرف منه المبخوت مدللا على عمق ثقافته فهو ستشهد بـ  « الخورنق والسدير» ويوظف عجزا من شعر المنخل اليشكري  :
«
وأحبها وتحبني وتحب ناقتها بعيري ».
وكذلك قوله :
 «
فاذا سكرت فانني رب الخورنق والسدير ..وإذا صحوت فإنني رب الشويهة والبعير».
ولقد استطاع المبخوت التوفيق بين معجمين مختلفين وألف بينّهما بامتياز....
لغة عريقة وامثال وظفها وعربها وهذبها لتستحيل مقولات راقية ....وقد حفلت الرواية بها :
«
لماذا يشتري  بقرة والحليب متوفر في السوق ؟ » أو « الجار اوصى عليه الرسول »...أو  « كان لسانه يغزل الحرير »  أو «خذها من شبعان إذا جاع» .... أو «الماء يجري تحت رجليه »....أو «لا سبيل لترك الديك سارحا بين الدجاج ».
انكسار
رواية « الطلياني» هي رواية الانكسار فعبد الناصر وزينة اليساريان القويان الحالمان  افترقا . وتحطمت احلامهما على واقع لا يمتلكانه ومثلما انتقدت زينة اليسارية اليساري عبد الناصر قبل طلاقهما ساخرة : «مناضل طبقي وزعيم طلابي يأكل جراد البحر ويعيش عيشة البورجوازية ».
ثم تهاجمه من جديد وقد صار رئيس تحرير جريدة رسمية : « تعمل كلب حراسة في أحد أجهزة النظام الإيديولوجية» . ولم ينس هو الآخر أن ينتقدها : « دنيا والله مناضلة يسارية تمد يدها يوم العلم لتتسلم من السفاح بن علي جائزة  رئيس الجمهورية».
لم يكن الانكسار والأحلام المغتصبة حكرا على اليسار بل كان رموز النظام المأزومين .
وكانت زينة اليسارية الشرسة تهاجم رفاقها واليمينيين ممن تصفهم بـ  « الخوانجية » :
«
لستم مختلفين كثيرا عنهم فلكل جهله المقدس وأصوله الكاذبة » . وفي موقع آخر :« تتحدثون عن هوية ميتة لا تعرفونها »...
ولعل الجملة القادحة والتي كشفت عن هشاشة الطلياني اصطدامه بعالم لم يكن يعرفه...
عالم المعيشة وتكاليفها : « اكتشف ارتفاع الاسعار الذي كان يتحدث عنه  في الجامعة ولا يعرفه » .
ويمكن القول ان المبخوت قد أمسك بتلابيب السرد ونجح في ترويض اللغة  لكن كثرة المنعرجات في الرواية من نقد للجامعة وعفنها وكذلك دنيا القذارة في عالم الصحافة... حكمت على المبخوت ان يذعن لها وهذا ما يبرر طول الرواية النسبي...
ويمكن القول إن  « الطلياني » أعلنت عن ولادة روائي يحذق فن القص ...رغم غموض الراوي وحضوره المتقلب وغير المفهوم أحيانا في الرواية.
شكري الباصومي


lundi 6 octobre 2014

الانكسارات المبهجة لليسار التونسي...

عن رواية "الطلياني" للكاتب التونسي شكري المبخوت
جريدة " الشعب بتاريخ 2 أكتوبر 2014 

بقلم ناجي الخشناوي



سطّر الكاتب شكري المبخوت روايته "الطلياني" (دار التنوير للطباعة والنشر بلبنان)، بهندسة لغوية اخترقت بمختلف الصراعات، الذاتية أو الثنائية أو الجماعية، السياقات الثقافية والسياسية والاجتماعية والفكرية لزمن الحكاية. غير أن هذه الهندسة تنفلت من أطرها المضبوطة بالأيام والأشهر والسنوات، ولا تنضبط إلى
 مرحلتها تلك بقدر ما يمنحها الكاتب أفقا يمتدّ إلى ما نحن فيه اليوم. فسطوة زمن الكتابة، كتابة الرواية، لا يأكل الوقت الفاصل، فقط، بين زمن الحكي وزمن الكتابة، بل هو يتغذّى منه وينمو على دقائق التفاصيل التي نعيشها في راهننا رغم أنه توقّف "في أواخر شهر جوان أو بداية شهر جويلية من سنة 1990 ". ويكفي أن نطالع عناوين فصول الرواية (12 فصلا) ليلتبس علينا ما حدث وما يحدث، ونتبيّن أنّ الخيط شفيف جدا بين "فجر السابع من نوفمبر" و"الربيع العربي"، بين قدوم بن علي وهروبه. وواضح أن الكاتب شكري المبخوت تخيّر جيّدا عناوين الفصول وشحنها بدلالات وإحالات يستحيل معها فهم ما حدث بعد 14 جانفي 2011 دون الرجوع إلى مارس 1986 عندما عقد الإسلاميون ما سموه "مؤتمر الحسم" ودون الرجوع إلى يوم 7 نوفمبر 1987. فــ"الزقاق الأخير" قد يكون تنبّه إليه الطلياني في أحاديثه مع "سي عبد الحميد" في فصل "السكّة المقفلة"، وقد يكون "مفترق الطرق" فيما نعيشه اليوم، خاصة بعد اغتيال الشهيدين شكري بلعيد ومحمّد البراهمي، قد يكون ذاك الحدث الفارق الذي حدث في فصل "المنعرج" عندما لم ينضبط "الرفيق عبد الناصر الطلياني" لتعليمات "الرفيق الأستاذ المحامي ص.ق"... وقد يكون فصل "رأس الدرب" ذاك الذي يتعرّى فيه الطلياني ويطرح العقدة النفسية وما ولّدته من عُقد لاحقة أحرقت بيادر التفاؤل التي حرثها طيلة سنواته الثلاثين وهو محاط بالجهل المقدّس، قد يكون هو عصب الرواية ومنتهاها أو هو "الحلم المستعصي" لدى الكاتب شكري المبخوت... فوحدها لحظة المكاشفة كفيلة بالخلاص... وحدها الكفيلة بتحرير الفرد لذاته. فالطلياني الذي يستبسل في حلمه بتحرير الآخر، المجتمع، يفشل في تحرير ذاته، وهذه أم المعضلات لدى اليسار التونسي، هذا اليسار "الذي يجسّ في مزابل اللينينية والستالينية العفنة"، مثله مثل الإسلاميين الذين يريدون تحرير الأمة وهم "يقدسون الأفكار المحنّطة، أفكار مدرس تربية إسلامية محدود الذكاء، أو معلم من أرياف مصر ولا يقدسون الخالق.".
وان جاز لنا التأويل، حول التباس زمن الحكي بزمن الكتابة، فقد نجد محملا له داخل الرواية، فعبد الناصر سيصبح صحفيا لامعا بفضل المشكلة/المفتاح بينه وبين "سي عبد الحميد" المدير العام لأعرق صحيفة حكومية، وهي مشكلة "مطابقة الأزمنة" التي كانت جسرا للطلياني ليتحوّل من مجرّد مصحح أخطاء بالجريدة إلى أبرز صحافييها رغم مقص وعيون الرقيب أبو السعود. فمطابقة الأزمنة في الفرنسيّة (
La concordance des temps) وإن كانت دلالاتها لغوية صرفة، إلا أنها لا تخلو من الإشارات البعيدة لالتباس زمن الرواية وزمن كتابتها. إنّ وجه رواية "الطلياني" التحوّل من نظام بورقيبة إلى نظام بن عليّ ولكنّ قفاها ما تعيشه تونس الثورة من محاولة اغتصاب لحلم الحرّيّة يجد جذوره في تلك الفترة التي اختارها الكاتب إطارا لروايته.
وتماما مثلما نُلقي الحصاة الصغيرة وسط بركة الماء الهادئة لنتلهّى بمتابعة الدوائر وهي تتناسل متوسّعة لتؤوب إلى نقطة البداية، دفع الكاتب التونسي شكري المبخوت الحكي على لسان راويه من نقطة النهاية لتتوسّع دوائر الحكي وسياقاته، فلا نتلهّى بمتابعة الدوائر بقدر ما نتورّط فيها ونحن نتقفّى نهاية هذا "الطلياني" الذي جعل من حركة العنف التي أتاها في المقبرة، "علكة يلوكها أفراد العائلة... وتستذكرها الجارات... ويستعيدها أبناء الحي".
ويمنحنا الكاتب شفرة راويته منذ البداية، الإمام الشيخ علاّلة الدرويش، لكنّه يأسرنا بسلاسة السرد وتناسل الأحداث والمتغيّرات، يبني منها متواليات من المستغلقات تحول دون فك هذه الشفرة إلا عندما نبلغ "رأس الدرب"، الفصل الأخير، فنكتشف ساعتها نسق الدائرة العكسية التي كتبها شكري المبخوت عندما شرع يرسمها من "الزقاق الأخير". فمن المقبرة، التي ندفن فيها عادة أسرارنا وأوجاعنا انفتح "الصندوق الأسود" لعبد الناصر.ع أو "الطلياني"، ومن المقبرة أيضا ستفوح روائح الجثث... جثث اليسار واليمين وما يجمعهما من مدّ وجزر، جثث المتصاحفين والمتثاقفين منحدرين في قذارتهم... ستفوح رائحة بقايا نظام بورقيبة المستأسد... وتفوح رائحة "جثة" زين العابدين بن علي و"عهده المبارك" منذ "فجر التغيير"... ستفوح كل الروائح العطنة وسط مربع جغرافي واضح المعالم والحدود (تونس العاصمة تحديدا) وستنتشر ذات الروائح في مثلث زمني مرعب لكأنه مثلّث بارمودا (من 1986 إلى 1990)...
تفوح كل الروائح العطنة ولا تبقى سوى رائحة "للاّجنينة" شفرة مضادة يستجير بها الطلياني وتستجير به. ويتركنا شكري المبخوت مقطّعي الأوصال أمام هذا الطلياني: أواحد هو أم متعدّد... أمنّا ومن واقعنا، أم هو من خيال الكاتب... أنحبّه أم نكرهه... أنتعاطف معه ونشفق عليه أم نتشفّى منه... أنغار منه ونحسده أم ننكره ونتبرّأ منه...
الشخصية الرواية
دون استعراض لغوي مفرط أو مفضوح لكاتب متمرّس باللغة، متنا وحواشي، وبقدرة فائقة على السرد المتأني والسّلس، يشرع الكاتب في رسم ملامح البطل الذي استحوذ على عنوان الرواية ومتنها. ومثل المخرج السينمائي يستخدم الكاتب شكري المبخوت تقنية "ترافلينغ" (
Travelling) الورائي ليشكّل "هويّة" عبد الناصر الطلياني من زوايا مختلفة ويرسم ملامح البطل الذي استحوذ على عنوان الرواية ومتنها، فهو "رماد" لوقار الحاج محمود والده، وهو مثل "هبّاطة" الميناء و"بانديّة" الحي بسرواله الدجينز وسترته الدّنقري... وهو أيضا "كافر" بسبب "الكتب الفاسدة التي كان يقرؤها منذ صغره، كتب تدعو إلى الكفر والفساد والعياذ بالله" مثلما تصفه أخته جويدة، وخو أيضا مثلما يعترف هو بنفسه "إنني لا أصلي ولا أصوم"، وهو حسب أمّه "ولد حرام" لم يفلح سوى في خُلطة السوء من صعاليك الجامعة، وهو بوهيمي لدى خاله، متأصّل فيه الفساد الأخلاقي... وحدها "للاّ جنينة"، الشفرة الثانية في الرواية، انتصرت له عندما قالت: "لو كنت مكانه لفعلت أكثر ممّا فعل". ولن نفهم موقفها إلا بإنهاء الحكاية/الرواية عندما نكتشف القاسم المشترك بينها وبين "الطلياني"، الذي سيعترف لنا، في حوار باطني، بأنه يرى حياته "مسارا من التلاشي والخيبات والخيانات الصغيرة والتبريرات الحقيرة"... حياة غيّر مسارها علاّلة الدرويش بآلته المعطّلة، وبها أيضا غيّر مسار "للاجنينة"... هكذا هم دائما الضحايا ينتصرون لبعضهم البعض...
الغزارة المشهدية
يجد قارئ رواية "الطلياني" نفسه أمام كتابة سينمائية محكمة البناء، بحبكتها وأزمتها وانفراجها، بالحركة البطيئة أو السريعة للكاميرا. ورغم أن السرد يستأثر بالمساحة الأكبر إلا أنه كان دوما دافعا نحو الحركة في نسقها التصاعدي المفخّخ بالانعطافات اللامنتظرة. فالكاتب شكري مبخوت كتب روايته بالكاميرا، وحرص على بناء هيكلها بطريقة المقطع/المشهد، وفي سرد أحداثها على الحركة المتوالية، وفي رسم الشخصيات اعتمد على وصف الخارجي وتحريك الداخلي.
إن رواية "الطلياني" تمثّل نموذجا قويا للرواية/المشهد، رواية نبصرها ونشاهدها أكثر مما نقرأها، رغم أن الكاتب ظل يدور في فلك السينما التونسية، فالفضاءات المغلقة مثّلت الأمكنة الرئيسية في الرواية، وهي من أهم ميزات السينما التونسية، كما أنها تحيل على المدينة العتيقة كما في أغلب الأفلام التونسية.
رواية الطلياني، كانت أيضا احتفالية باذخة، مثل الأفلام التونسية، بالجسد وبكل ما هو دوينيزوسي، ويكفي أن نشاهد/نقرأ حركات عبد الناصر وهو يدلك ظهر زينة في الحمّام، (في الصفحة 239). فالتصوير الدقيق والحركات المتأنية في هذا المشهد لا يحيلان على الغريزي بقدر ما تتدفّق فيهما الصورة لتعيد الاعتبار للجسد. فالمشهد يبدو مناجاة صاخبة، رغم الصمت، بين الظهر واليد، أو هو لحظة بعث لوجود آخر وتأسيس لفلسفة الماهية. ولئن استوعب هذا المشهد، كغيره من أغلب المشاهد، العمق السينمائي إلا أنه أنتج السيمياء الخاصة به في وحدته ونظامه أفليست "السينما الحقيقية هي التي تصنع الحلم، تحكي لك حكاية أين منها بلادة غودار وأمثاله" (الطلياني صفحة 155).
ومثلما تتحرك كاميرا السينما التونسية في مواجهة واقع معقّد ومتحرّك، حرّك الكاتب شكري المبخوت قلمه في مواجهة نفس الواقع بعقده النفسية والاجتماعية والسياسية والفكرية. فزنا المحارم الذي تعرضت له زينة بسكين اللحم العائلي، والاغتصاب الذي طال الطلياني من الإمام مثلا بؤرة السرد في الرواية والفعل القادح لمَا ترتّب بعده من أفعال وسلوكيات ومواقف. لكنّ الاغتصاب يتجاوز، في الرواية، بعده الجسدي لينفتح على الاغتصاب السياسي (التنظيمات السياسية المتكلسة) والاغتصاب الفكري/الثقافي (الواقع الصحافي المتصحّر والمنضبط لسلطة الرقيب) والاغتصاب الاجتماعي (العلاقات المهترئة والهشة)...
ذاكرة تأبى المصادرة
مثّلت الذاكرة، المادة الرئيسية في رواية الطلياني. فالكاتب شكري مبخوت استعاد أجواء الثمانينات والتسعينات بأدق تفاصيلها ولحظاتها الفارقة، في التأسيس والتدمير على حد السّواء. بيد أنّ الذاكرة المستعادة تتجاوز النوستالجيا والحنين لزمن ما أو مكان ما أو شخص بعينه، بل هي ذاكرة تخترق زمنها وأمكنتها وشخوصها وتتحرر من سلطة الجدران...
ذاكرة ثلاثية الإبعاد، ذاكرة يسترجعها الراوي والبطل، وذاكرة يسترجعها ويكتبها الكاتب وينقذها بخياله الروائي فلا يجعل التأريخ والتوثيق يستحوذان عليها، ولا يترك الرواية تستأثر بها أيضا. وكأن شكري المبخوت يأبى أن تُصادر ذاكرته وذاكرة الجيل الذي عاشه رغم أزمة الخطاب وأزمة الممارسة التي لازمته أو التبست به. وهنا يكبح الكاتب جماحه واندفاعه، ليقدّم ضمن روايته "درسا" في النقد الذاتي والنقد الموضوعي والمراجعات الفكرية والسلوكية عبر شخصية الطلياني التي رسمها وقدّمها للقارئ في روايته بعيدا عن التوصيفات الانتصارية أو البطولية، وأيضا دون الوقوع في الانهزامية، وهذه أيضا من نقاط ارتكاز وقوة الرواية. فشكري مبخوت صنع ما يشبه "ملحمة" بشخصية عبد الناصر التي لا نقدر على تبين الخيط الفاصل فيها بين انتصاره وانكساره... فهو مثل لاعب النرد، يخسر قليلا ويربح قليلا، غير أن السياق العام للرواية يشي منذ بدايته بخفوت الوهج، وهج اليسار ووهج القيم ووهج الأحلام... خفوت لم يُقبره الكاتب تماما... مثلما لم يُقبر الطلياني أفكاره وقيمه، وإن بدت ذاهبة نحو مصيرها طيلة الرواية. 
تنمو الحركة السردية في رواية الذاكرة، بين زمن أوّل تعلو فيه الحركة والفعل وزمن ثان للتأمّل ومراجعة الذات في صمت. وتلعب الذاكرة وظيفة تجميع وتنظيم تفاصيلها. وعندما يكتمل المشهد نكتشف أن الأسماء تنفلت من كونها علامات لغوية عابرة في سياق سردي، لتحيلنا على شخصيات من لحم ودم عاشت فترة الثمانينات والتسعينات وتأقلمت مع متغيراتها كل على طريقته، بين الانصهار وقبول الاحتواء أو البقاء على الربوة والهامش... وهي شخصيات تعترضنا اليوم، بعد "الربيع العربي"، فنتهجّى الكثير من ملامحها وتفاصيلها مثلما نحتتها رواية "الطلياني".


vendredi 3 octobre 2014

خارج الإطار الزماني لرواية "الطلياني"



عرفتُ الجامعة خارج الإطار الزماني لرواية "الطلياني" لشكري المبخوت، أي في العشرية الأولى من هذا القرن، لكن بقايا روائح وألوان ما تحدث عنهُ الراوي كنتُ قد عشتُها في كلية الآداب بمنوبة، بل ربما كنتُ شاهدًا، كما كان الراوي –وهو عميد الكلية حينها- على حالة الاحتضار التي كانت تعيشها الحركة الطلابية، فأي من الخُطباء لا يُذكرني بطلياني المبخوت، لا في هيأته ولا في خطاباته، أما زينة الفيلسوفة فحلمٌ بعيدُ المنال.

لا أعرفُ حالة صخرة سقراط بكلية الحقوق، لكني أعرفُ أن الخطباء في ساحة كلية منوبة كانوا مدعاةً للسخرية أو الإشفاق عند عموم الطلبة. الرفيق الذي شارف على الأربعين يصيحُ أو يزعقُ فينا غاضبٍا يائسًا، يُخاطب جماهير الطلاب التي لم تتجاوز عشرة طلاب أو "أنفار" بلغة البوليس الجامعي الذي كان علينا تحيتهُ كُل صباح، أغلبهم من الرفاق، يُخبر عن بطولات طلبة كليتنا، قلعة النضال التي أهداها كما يقول لتونس "القائد الزعيم صدام حسين
". يذكر أسماء لم نكن نعرفها، رغم تكرار ذكرها في كُل الاجتماعات العامة تقريبًا، "حمة الهمامي"، "عز الدين زعتور"...يفضحُ ممارسات وفساد نظام بن علي وزبانيتهُ، من الطرابلسية وصولاً إلى الحجامة. 

تُعجني جرأتهُ، لكنني كنت في حركة لا إرادية كلما تجرأ على النظام ورجاله، أنظُر قلقًا إلى الواقفين بجانبي، فربما يكون أحدهُم مخبرًا عند سي عُثمان، يُسجلُ أسماء الطلبة الذين حضروا الاجتماع، أو حتى بدا عليهم الاهتمام بما يقول هذا الرفيق.

 إنهُ خوف جيل كامل مُصاب بعمى الألوان، جيل وقع تهجينهُ كي لا يرى إلا اللون البنفسجي. كذلك هو خوف أنبنى على ما كنا نسمعهُ من خيانات بعض الرفاق، فذاك الذي يسُب النظام صباحًا مساءً، تبين أنهُ قواد سي عثمان. أما ذاك الخطيب البارع، المُهلهل الثياب، فهو يناضل كما ذكر لي أحد الرفاق من أجل شراء صوته بوظيفة في سلك التعليم. 


الفقرُ كافر وطاقة الإنسان على التحمل محدودة، لكن سقطات الرفاق تبقى دائمًا مؤسفة وُمُخيبة. من صخرة سقراط ورفاق حلقات النقاش الفلسفية إلى كرسي جريدة حكومية ورفقة سي عبد الحميد. من طلياني يُضرب المثل في قدرته على فضح النظام إلى مُصحح أو بالأحرى مُرقع لعورات ذاك النظام. من زينة الفيلسوفة الناقدة للجميع والمُتأففة عن أفكارهم المُحنطة حد التقديس، إلى زينة أنانية، ربما أكثر أنانية من أي نظام ليبرالي كانت تنتقدهُ، فلم تنفع في الواقع مطالعاتها الكثيرة عن الاشتراكية، ولا معرفتها بفلسفة الأنوار. من رفيق يفضحُ فساد رجال النظام في ساحة كلية الآداب بمنوبة إلى رفيق يغشُ في قاعة الامتحان.

رواية الطلياني رسمت صورة لتناقضات مُجتمع كامل، تبدأ بتناقضات المسيرة الشخصية لأبطال الرواية، أي تحديدًا الطلياني وزينة، رغم أننا لا نفهم بصفة كلية أسباب سقوطهما، فهل هي حقًا الحاجة المادية رغم تواصل مساعدات الأخ صلاح الدين أو "الدوائر المالية العالمية" -كما يسميه الطلياني- أم هي النعرة الرجولية الشرقية التي لم تقتلها كل الكتب التحررية في أن الرجال قوامون على النساء؟ 

وزينة لماذا اتسمت بكل هذه الأنانية مع زوجها أو حتى صاحبها، وهي التي لم تكن تنظر إلى الصداق إلا على أساس أنهُ إجراء قانوني؟ هل هو طموحها الجارف؟ أم أن للأمر علاقة بحادثة "ليلة سكين اللحم"؟ هل جعلتها هذه الحادثة تحتقر كُل الرجال حتى حبيبها الذي لم يبخل عليها لا بالحب ولا بالمال، بل ربما كانت بداية سقوطهِ أو تدجينهِ من أجل عينيها؟

في خضم مسيرة سقوط أبطال الرواية يُقدم لنا المبخوت تشكيلة من التناقضات الاجتماعية الحادة، فيكشف في غُرفة صلاح الدين، ومنزل للا جنينة... زيف المُحافظة الظاهرية التي يدعيها المُجتمع. كما يكشف من خلال شخصية العنيّن الشيخ علالة الإمام عن النفاق الإيماني لرهط كبير من العُبّاد.

لئن وقع تكثيف الجانب الشبقي أو الجنسي في الرواية-حد المبالغة في بعض الأحيان- فإنهُ يُعبر عن بُعد جمالي وقدرة هائلة على الوصف. كما أنهُ يعبر عن مشكلة مزمنة وتناقض أساسي عاشهُ ومازال المُجتمع التونسي، أي المسألة الجنسية، فتعرُض بطلي الرواية إلى تحرش جنسي في مرحلة الطفولة، يؤكد أهمية هذه المسألة في طرح الراوي.


 لم تفلح عملية التحديث التي عاشها المُجتمع التونسي في التخفيف من حالة الكبت الجنسي، بل أن هذا التحديث الجزئي قد عمّقها. فالجسد المُشتهى خرج من المنزل، وأصبح في مرمى نظرات رواد المقاهي، المُتأوهين حينًا والمُحترقين 
أحيانًا أخرىمن جمال تلك الصبية، هؤلاء الذين يُحبون أن يغزوا في مُغامراتهم الليلية كُل الأجساد الحرة، لكنهم عند الزواج يريدون جسدًا مُغلقًا بالشمع الأحمر.

في نفس الإطار لعل الراوي أراد من خلال حادثة تحرش الأستاذ الجامعي بطالبتهِ زينة، أن يبرز أن حالة الكبت المرضي هذه، ليست حكرًا على فئة مُعينة: ريفية كانت أم حضرية، جاهلة أو مُتعلمة، بل هي سُوسة تنخر المُجتمع بكُل طبقاته وفضاءاته، من مِيضَأة الجامع إلى حرم الجامعة.

لم تكن نهاية الرواية حاسمة لا في مصير الطلياني  أو في مصير زينة، بل رُبما يُلمح الحديث عن مسار الطلياني في منتصف التسعينات، إلى جزء ثاني من الرواية، فرغم ضحالة عشرية التسعينات -على الأقل من وجهة النظر السياسية- فهناك دائمًا ما يدون، خصوصًا في تطوير سي عبد الحميد ومن معهُ لفنون عديدة من فنون التمجيد، الترقيع والتشويه. 

كذلك فإن ماكينة طحن الذكاء وتحطيم الناجحين لم تتعطل إلى اليوم، فالبطاقة عدد 3 مازالت ضرورية لأي وظيفة. أستاذ زينة مازال مكتبهُ مفتوحًا لكُل الطالبات. مُجتمعات النفاق مازالت تحافظُ على توازناتها وقوانينها المافيوية. أما الرفاق الصادقون –والخائنون- فمازالوا يصيحون "خبز حرية، كرامة وطنية".

الكيخوتي
03 أكتوبر 2014