mardi 31 juillet 2012

أناشيد رمضان ..تجديد الروح




-1-
   أصوات تعمّر الذاكرة ، ذاكرتنا الفرديّة والجماعيّة، قد نسمعها متى شئنا ولكنّ وقعها وإيقاعها في رمضان بعض سرّ هذا الشهر وتجربته الروحيّة الفاتنة.
   أصوات تملأ النفس خشوعا ورهبة : صوت المنشد الدينيّ يبتهل للخالق المبدع أو يدعو الواحد الأحد ،صوت بشريّ يصدح رقيقا لطيفا في تضرّعه قويّا جهوريّا في تساميه علّه يصل يبلغ السماوات العلى.
    وبصمة رمضان التي لا تمحي من الأذن تلك الرعشة الحنون في صوت الشيخ على البرّاق وهو يدعو إلى حفل الإفطار مؤذنا بغروب شمس اليوم.فلا رمضان عندي دون أذان الشيخ البرّاق.
   رمضان الأصوات حافل بهيّ شأنه شأن رمضان الروائح ومباهج العين ، وأطاييب الروح و فاكهة المعنى.
-2-
   رمضان في الإذاعات والفضائيّات شهر أيضا للمدائح النبويّة والابتهالات الدينيّة والإنشاد الذي يسبّح للملكوت ويدعو إلى قيم الإسلام وعبادة الرحمان الرحيم.
 ولا شكّ أنّ لهذا اللون من الفنّ الدينيّ تاريخا يعرفه أهل العلم بالموسيقى والمقامات والأصوات. وله أصول وقواعد تشكّلت عبر العصور وجوّدتها أجمل الأصوات العربيّة وطوّرها كبار الملحّنين والموسيقيّين. ولهذا النوع من الفنون الدينيّة خصائص وميزات ندركها حدسا وعلمها عند المختصّين والعارفين.
 ولكنّنا نحبّ ان نتحدّث عن جانب منها فحسب لافتٍ نحسب أنّنا في حاجة إلى نقده والتفكير فيه.ونقصد تلك القصائد التي يبتهل بها وتلك القطع الشعريّة التي تلحّن فتجلو الأصوات الجهوريّة معانيها.فالحقّ أنّ ما ينتهي إلى مسامعنا في رمضان وغير رمضان من غناء دينيّ بمختلف أنماطه كلماته من صنف النظم الذي يكرّر المألوف ولا يبتكر الجديد.فكأنك، لشدّة تشابهه، تسمع نصّا واحدا طويلا يجزأ إلى مقاطع في كل مرّة يغنّى منه مقطع.إنّه أشبه بما سبق لك سماعه لولا حسن هذا الصوت أو ذاك.
  ولا تثريب في الأمر لو لم تخرج الموسيقى العربيّة من قالب التكرار الطربيّ لتغامر في مفاوز الهرمونيا والتعدّد الصوتيّ.
ولا عيب في استرجاع المعاني المتداولة لو لم يخض الشعر العربي منذ ما يناهز القرن تجارب عدّة لتجديد مسالك القول وتحديث الأساليب على نحو يعبّر عمّا يعتمل في نفس الإنسان العربيّ المعاصر.

-3-
   كيف يمكن للشعر الذي يقول تجربتنا الروحيّة الفرديّة والجماعيّة ويخاطب بعدَ المقدّس فينا أن يظلّ مشدودا لطرق القدماء في القول ومنهجهم في استنباط المعاني؟
   ألا يجدر بشعرائنا ان يقولوا المقدّس ، يستلهمونه أو يطرزون على حواشيه روحانيتهم العميقة، بلغة عصرنا وعلى مقتضى أوجاع الروح وأشواقها اليوم؟
   لمَ نسمع الدين والروحانيّات بآذان الأسلاف وهم رجال ، في عصرهم ، تفاعلوا ، في عصرهم ، مع المتن الديني وجها من التفاعل، ونحن رجال  ونساء يدعونا عصرنا ، كما دعاهم ، إلى أن نحلّق بأجنحتنا الخاصّة في سماء الروح وينتظر منا اهل زماننا ان نحاور الّلغة المعجزة وما تحمله من شوق إلهيّ بلغة تساير ما في قلوب المؤمنين اليوم ..في الآن والحال التاريخيّين.
    مسافة تحتاج إلى مقايضة، إنّها المسافة القائمة بين الذاكرة التي نستعيدها استعادة تكرار قد نحنّ إليه وبين الذاكرة التي نبتكرها لنقول بها وجودنا النفسيّ ورمزيّتنا الحديثة ومغامرتنا الروحيّة.   
    

vendredi 27 juillet 2012

روح الجمهوريّة



  
-1-
تحلّ الذكرى والنخب عندنا في معمعان الأسئلة الحارقة والبحث عن التوازنات الهشّة أو الصلبة والتساؤل عن الجامع الثقافيّ بين المواطنين  الأحرار. عيد للجمهوريّة توّج منذ المجلس التأسيسيّ الأوّل مسار التحديث غير القابل للنكوص وإن شهد تعرّجات وتقلبات وأزمات.
   عيد للجمهوريّة ...يعود ولكن أبما مضى أم لأمر فيه تجديد.فالسياق جديد حقا والحلم أكبر إلاّ انّ ثقافتنا كمن يراوح مكانه منذ نصف قرن.مازلنا نسأل عن الهوية كما لو أننا ، جميعا ، أتينا من المرّيخ ، مازلنا لم نخرج من الثنائيّات القاتلة التي نعيشها متأزمين بين وهم الأصول التي لا أصل لها إلاّ في المتخيّل ومعنى التاريخ الذي يحثّ الخطى نحو الآتي القابع في ممكنات الواقع.
     ماذا نريد من جمهوريّتنا ولا وجه باديا للتراجع عنها ؟ماذا نريد من مجلسنا التأسيسيّ ليكرّس قيم الجمهوريّة الثانية كما يحلو للبعض أن يقول؟ ولكن متى استوفينا ممكنات الجمهوريّة الأولى أم هي الرغبة في القطع مع الماضي أقوى من مبدإ الواقع؟
-2-
  حين تشكّل المجلس التأسيسيّ الأوّل كانت النيّة معقودة على إنشاء ملكيّة مقيّدة بدستور.كان ذاك هو السقف المحدّد سلفا. غير ان المجلس ،وهو سيّد نفسه و حاكم بأمره مطلق يستند إلى الإرادة الشعبيّة، قلب الملكيّة إلى جمهوريّة بإرادة النخب قبل إرادة الشعب.
   فلا معنى حينئذ للاتكاء على الجموع والعدد والكثرة للانقلاب على الجمهوريّة وقيمها وعلى مدنيّة الدولة باعتبارها الصيغة الوحيدة الممكنة تاريخيّا ، دون تردّد أو تأويل أو استغفال ، للتوافق مع المعايير الدوليّة في صياغة العقود السياسيّة.
   يحقّ لعشاق الشقشقة اللفظيّة أن يتخاصموا في شأن اللائكيّة والعلمانيّة ،العلمانية الجزئيّة أو الشاملة، ولهم أن يعودوا إلى ما شاؤوا من النماذج السياسيّة عبر التاريخ ولهم أن يختاروا مرجعيّاتهم وأصول نظرهم.فلا مشاحة في الاصطلاح وإن جاز النقاش في المفاهيم ومضامين المصطلحات .
-3-
الثابت أنّ الجمهورية والديمقراطيّة لا تنبنيان إلاّ على ما هو بشريّ يعترف ببشريّته ولا تستند إلى أمر أعلى من إرادة الشعب: هذا هو الدرس الأول البسيط في المواصفات الدوليّة للأنظمة السياسيّة.وعلى الحالمين بغير هذا أن يخرجوا من اللعبة أصلا لأنّهم سيكونون في موقع من يمارس كرة القدم على مقتضى قواعد كرة اليد وأصولها.
   ولا معنى للإرادة الشعبيّة دون قيم الجمهوريّة:قيم المساواة أمام القانون وعدم التمييز مطلقا وقيمة الحريّة في التفكير والتعبير والاعتقاد وكل هذا مدنيّ في أصله وفصله.
    ولا معنى للجمهوريّة إذا لم تكن نسيجا ثقافيّا جامعا ومنظومة قيميّة مشتركة بين المواطنين الذين خرجوا من منزلة الرعايا ، عن وعي حاد بهذه القيم يعضّون عليها بالنواجذ ويعملون بهدي منها ويلتزمون بها ويذكّر بها بعضهم البعض.
ليس المهم ما سيوضع في الدستور الجديد على معنى انّه سيكون ولا شكّ تعبيرا مكثّفا عن قيم الحريّة والكرامة والعدالة والتضامن .فالرهان الأكبر اليوم في ثقافتنا السياسيّة والاجتماعيّة دائر على تجديد مفهوم المواطنة وصيغها وصورها و أشكال المشاركة وتجسيمها ،الرهان الأكبر دائر على إنشاء جمهوريّة ثانية تجعل المواطن أصل الفعل السياسيّ العام وعماد المدينة الجديدة.
وهل لنا ولإخوتنا في الوطن من اختيار غير هذا؟
 
 

mardi 17 juillet 2012

الوسطيّة و مدرسة الدولة




1
من أعاجيب ثورتنا المباركة ،كما أصبح يقال في اللّغة الخشبيّة الجديدة ،أنّها على عكس منطوق اللفظ وفحواه ثورة يتنادى الجميع فيها بالوسطيّة إلاّ من رحم ربّك في الكلام.
  فالثورة الحقّ ، في الثقافة الكونيّة إلغاء جذريّ للنظام القائم واستبداله بنظام جديد لا رجعة فيه. ولكنّنا نشهد هرولة في اتجاه مغاير لما يقتضيه هذا المفهوم من جذريّة وغلوّ وأخذ للكتاب ، كتاب الثورة، بقوّة.نشهد هرولة نحو الوسط.كلّهم أصبحوا وسطيّين فلا يمين ولا يسار ممدوحين.
   ولئن كان الوسط في الثقافة السياسيّة الحديثة ،منذ الثورة  الفرنسيّة ،بحثا عن الاعتدال بين اليمين واليسار  بعيدا عن التوجهات الراديكاليّة للثوريّين فإنّ الانزلاق التاريخيّ للتصوّر الوسطيّ جعله رديفا للتوافق والإجماع والمصلحة العامة والاعتدال. نعم وراء ذلك شيء من المثاليّة التي لا تريد ان تعترف بنفسها.
2
من استعارة فضائيّة وزّع المجال السياسيّ بها إلى وسط ويمين ويسار إلى الانجرار إلى ذمّ اليمين المحافظ وتقبيح اليسار الجذريّ ومدح الوسط المعتدل:رحلة للمفهوم تداخلت فيها الفضاءات بان أصبح لليمين وسطه ويساره ولليسار أقصاه ووسطه وللوسط كذلك نصيبه.ولكن الوسط ظلّ واسطة العقد ، في الإدراك العام، وواسطة العقد محلّ اللؤلؤة النفيسة العزيزة كما تقول المعاجم.
فبأيّ آلاء الوسطيّة تكذّبون؟
  إنّنا نشهد في ثقافتنا السياسيّة ما بعد الثورة انزلاقا آخر للمصطلح ودلالته بعد أن أخرجته الترجمة من جهة والتلاعب الإيديولوجيّ من جهة اخرى من معناه السياسيّ الحديث لتحمله على غير محامله الأصليّة.
فاستعمال مصطلح الوسطيّة في بلادنا اليوم جعله مرادفا لأجود ما في العقائد والأعمال والسلوكات والأخلاق.بحكم الدلاليّة القرآنيّة الواردة في الآية 143 من سورة البقرة " وكذلك جعلناكم أمّة وسطا".وعليها بنيت معاني العدل والعدالة والاعتدال والحقّ والخير وجميع القيم السمحاء السامية.
هي مثل عليا  أوسع من ان يحتويها نظام سياسيّ بعينه لأنّ الأحزاب ، مهما كانت " نظافتها" و" طهارتها" أضيق من أن تجسّدها.
إنّها مغازلة مفضوحة لذاكرة الكلمات أكثر من كونها تعبيرا عن واقع فكري او سياسيّ.طهارة مزعومة  يكشفها دنس السياسة اليوميّ.
3
لا ريب أن الناس أشدّ اطمئنانا لما يبعد عن الغلوّ والتطرّف وأنّهم يفضّلون عيش الثورة خبرا لا عيانا وقد يغالون في اللفظ ولكنهم لا يحبّون المغالاة في المعنى. فمما استقرّ في وجدانهم الثقافي العام أنّ خير الأمور أوسطها.
ولكن حين نرى نداء الوسطيّة يعلو على كلّ نداء ونسمع صوت الاعتدال غالبا  كلّ صوت حتّى ممن هو يمين يريد أ ن يبحث لنفسه عن يسار متطرّف أو يمين متطرّف ينتصب بينهما وسطا ، حينها يحقّ لنا ان نتساءل :أيوجد وسط حقّا؟
ألا يصبح كلّ حزب ، في دنيا السلطان عندنا كما هو الشأن عند غيرنا،وسطيّا بالضرورة ليوفّق بين الأطراف يمينا ويسارا على ما بينها من اختلاف وتعدد في الإيديولوجيا والسياسة؟
حينها الا يكون الخطاب الوسطيّ مجرّد تمرين أسلوبيّ وتجربة في التعبير تفرضها المدرسة ...مدرسة الدولة؟ 

mardi 10 juillet 2012

ثقافة الثورة




1
     كلّما سمعت حديثا عن "ثقافة الثورة" هذه الأيّام لا أدري لم تزكم أنفي روائح الإقصاء الإيديولوجي والسياسيّ فأستحضر في ذهني الثورة الثقافية الصينيّة.
     قد لا أكون ثوريّا كما ينبغي لي ان أكون في بلد شهد ثورة مدنيّة "نظيفة" صنعت الأمل ثم جعلها أبناؤها تراوح بين الأمل والخوف.
       بهدي من الكتاب الأحمر لماو تسي تونغ بدأت الثورة الثقافيّة بمقاومة الفكر المحافظ ودك حصون البيروقراطية وإسناد السلطة إلى الشباب والعمال والفلاّحين فانتهت إلى ما يشبه الحرب البشعة:تحطيم للمنحوتات والمعابد ( البوذية خاصة) وانتهاك لحرمة جامعة بيكين والاعتداء على المثقفين والفنانين.
      رفعت الثورة الثقافية الصينية شعار التطهير فغرقت في وحل الفوضى التي كادت تؤدّي إلى حرب اهليّة، لوّحت ببيارق الطهارة والنقاوة الثوريّة فوقعت في شرنقة معركة السياسيين لوضع اليد على اجهزة الدولة الإيديولوجيّة والقمعيّة.

2

    باسم الثورة والفنّ الثوريّ وثقافة الثورة وحق الشعب الثائر في ثقافة تعبّر عن أحواله مرّغت أنوف آلاف المثقفين والفنانين والمبدعين في التراب.من لم يقتل مات كمدا وغمّا.من لم يمت أوقف دماغه عن التفكير وخياله عن الإبداع.كان عليه أن يصمت إلى الأبد أو أن يبيع ضميره لشيطان الثورة الجشع.
ولنا في روسيا البلشفيّة وإيران الإسلاميّة والصين الماويّة ...وحتى الثورة الفرنسيّة شواهد على مقصلة تنصب لتقطع الرؤوس التي اينعت .. والرؤوس التي مازالت غضّة أيضا.
  والطريف أنّ أهل العلم بالثقافات وتواريخها يؤكّدون ّأنّ الانتقال الثوريّ لا ينتج بالضرورة وآليّا فنّا ثوريّا أو ثقافة ثوريّة.فالثورة في التصوّرات والذهنيّات أشدّ بطءا منها في أبنية المجتمع وهياكل السياسة.

   فمن المفارقات التي تدعو إلى تدبّر انّ الثورة الفرنسيّة مثلا أنتجت في الفنّ تيّارا كلاسيكيّا عبّر عنها على ما يقول ثقات من الدارسين.فكأنّ هذه الثورة ، وهي تعيد توزيع الثروة ورأس المال السياسيّ وتشكّل الخارطة الاجتماعيّة على صورة جديدة عجزت في الفنّ عن توليد فنّ ثوريّ يقولها.

3

أيّ فنّ يحتاج إليه شعبنا في نشوة ثورته بآمالها ومخاوفها ،بانتظاراتها وخيباتها ؟
 أيّ فنّ يحتاج إليه شعبنا بعيدا عن منطق الإملاءات و"الينبغيّات" التي لا تنتج ثقافة بل تصنع المقاصل ووسائل الإقصاء؟
    في مجتمع محافظ يعيش توتّرا في صلته بذاكرته وفصاما منذرا بالخطر في علاقته بواقعه ،
 في مجتمع تتجاذبه أوهام التاريخ وأخيلته وقسوة الحداثة المعطوبة التي لم تزدها مشهديّة العالم المعاصر إلا قسوة،
في مجتمع بهذه الملامح والخصائص ،ليس للفنّ إلاّ أن يشتغل على الفرح اليوميّ ليفكّك الأنساق الكليّة الخانقة والأنظمة المغلقة.
ليس له إلاّ أن يحتفي بطيّبات ما رزقنا اللّه ومباهج الحياة حتى يغذّي النفوس المعذّبة والقلوب الكليلة حبورا ومسرّات،
ليس له إلاّ ان يكون ، كما هو شأن الفنّ الأصيل دائما، مقاومة للموت وصروف الزمن وأهواله وأغواله.
فلنستلهم  صوت الثورة المجلجل الذي هدى شعبه إلى شعار " إذا الشعب يوما اراد الحياة..."،
صوت الشابي الذي قال استكمالا لبيته الثوريّ : " إلى النور.. فالنور عذب جميل"
  إنّ حبّ الحياة هو الأساس المكين لإرادة الحياة.. وهو مبتدأ الحريّة وخبرها.

lundi 2 juillet 2012

روح اللّغات




 1
 في المقعد التاسع والعشرين من قبّة الأكاديميّة الفرنسيّة يجلس العربيّ الثاني الذي دخل إلى عالم الخالدين.بعد الجزائريّة آسيا جبّار فُتح الباب للبنانيّ امين معلوف.
  دخل إلى معبد الّغة الفرنسيّة بالراء التي لا ينطقها على سمت أهل باريس اليوم.ربّما أراد ان يذكّر الفرنسيّين بأصل نطقهم للراء أو ربّما أراد أن يؤكّد من داخل الحصن الحصين للفرنسيّة أنه من أبناء لغة الضاد ...والراء والغين أيضا.
لنتذكّر ،والذكرى عماد الثقافات، أنّ صاحب جائزة غنكور لسنة 1993  من الذين نقدوا الفرنكوفونيّة منذ سنوات.فرآها أشبه بجدار فصل عنصريّ.قال ذلك في بيان وقّعه مع ثلّة من أبرز المؤلفين الذين يكتبون بالفرنسية وسموه بــ" من أجل أدب-عالميّ بالفرنسيّة".
 مفارقة محيّرة لمن يطمئنّ لإجاباته الجاهزة عن أسئلة اللّغة والهوّيّة ،لمن يحلم بلغة نقيّة لا تنازعها لغة أخرى ولا تخالطها عجمة ولمن يركن إلى هويّة يمكن أن تكون "قاتلة" بعبارة امين معلوف.
2
يستنكر بعض أهل الصفاء والنقاء اللغويين عندنا ،باسم الهوية،ما نعيشه في بلادنا من ثنائيّة لغويّة.يطلقون صيحات الفزع وصرخات العار:فاللغة مسكن الثقافة وعنوان الهوية والسيادة القومية.
غير أن في التاريخ ، كالعادة ، عبرا تحتاج إلى نظر وتدبّر.
يثبت تاريخ بلادنا الثقافي أنّ الرغبة في اللّغات الأجنبيّة لم تأت بإرادة دولة الاستقلال ومدرستها الحديثة مع ما سمي بمشروع المسعدي.إنّها رغبة النخبة الاصلاحية التونسية منذ مدرسة باردو الحربيّة والصادقية بالخصوص.فلغة الآخر بعض أسرار قوته العلمية والتقنية وتفوّقه في الابتكار المعرفيّ والتجديد الثقافي.ولكن المركب انزلق بالراكبين جميعا.إذ لم توجد إلى حدّ الآن لغة منفصلة عن روح ثقافتها.
ولم تعمّ الرغبة في لغات الآخرين إلاّ حين نادى المصلحون المتنورون من أبناء التعليم الزيتوني بنشر اللغات الأجنبيّة.فقد عاينوا انغلاق الدرس الزيتوني على ثقافة التكرار والاجترار.
 ففي المسالة وجه من الاضطرار وآخر من الاختيار.ولكن الثابت في الحالتين أن بابا واسعا قد انفتح لتطوير العربيّة نفسها.وهنا مكمن المفارقة الطريفة الدالّة.
3
لقد تطوّرت لغة الجاحظ فاتسعت آفاق القول فيها.بدأت آلة تحديث العربيّة تتحرّك ليستكشف بها أهلُها أوساع الثقافة الحديثة.ولكنّ تطوّرها لم يحدث على أيدي ذوي اللسان الواحد مهما تكن فصاحته وطلاقتهم.كان ذلك بأيدي مزدوجي اللسان الّذين يحسنون نطق الراء بصفاتها الصوتية المعروفة في شعر العرب وفي القرآن الكريم والراء الباريسيّة في آن واحد.
تعامل صوتي في ظاهره أمّا باطنه فتنويع ثقافي مؤلم أحيانا ، متوتّر أحيانا أخرى ولكنه مخصب دائما.إنّنا أمام تدرّب على قول الوجود والأشياء مرهق شيّق مثير بتلعثمه مثقل بتردّده ولكنه فاتح دائما لسبل بكر في المعنى.
  والذين طوّروا العربيّة كذلك هم من يحقّ لنا أن نسمّيهم بأحاديّي اللسان مزدوجي الثقافة.نقصد أمثال الحدّاد بنداء الحريّة الاجتماعيّة المجلجل في أرجاء العشرينات من القرن الماضي، ونقصد أمثال الشابي الذي نفخ في العربيّة مطلقا روحا من التجديد خفّاقة.
 ولم يكن أمام مدرسة الاستقلال إلاّ ان تواصل السير في هذا الاتجاه الذي ولّد أجمل الأفكار في الثقافة التونسيّة وأخصبها.فليست اللّغات في حدّ ذاتها مهمة بل الأهمّ الروح التي تسكنها .وهذه الروح آفاق من ثقافة ثريّة تقولها اللغة وتعمل على استكشاف ممكناتها.