vendredi 26 septembre 2014

طلياني شكري المبخوت كاماسوترا بنكهة يسارية

مقال للصديق لطفي عيسى في مدوّنته "خربشات    Griffonnages

لست أدري ما الذي دفعني حيال قراءة رواية "الطلياني" لشكري المبخوت، وهو عمل روائي أول غاص بمبضع جراح ماهر في سمك سياقات الثلث الأخير من القرن الماضي، عارضا على قراءه وضمن سردية قصصية محكمة الحبك، "نثارا من [سير] جيل الخسارات المبهجة والأحلام المجهضة" تونسيا، إلى استعادة أحداث رواية الكاتب المغربي محمد الأشعري "القوس والفراشة"؟
فلئن غاب التواشج بين مضمون الحكايتين، فإن السياقات الزمنية المربكة التشابه لا يمكن أن تخطئها كل عين متدبّرة. يكفي أن تُعرض تلك السياقات على الإضاءة المركّزة، حتى نكتشف كبوات جيل ضائع أضناه التأرجح أزلا بين عالمين متخالفين دون فكاك أو رحمة.
فالفاجعة التي نزلت على رأس "يوسف الفرسيوي" المناضل اليساري ذي الأصول البربرية الألمانية حال فقدانه لفلذة كبده "ياسين" الذي راح ضحية انتسابه إلى الجماعات الإرهابية بعيد انتقاله إلى باريس لمزاولة دراساته الهندسية وتوجّهه بغتة للقتال بجبال أفغانستان حيث قضى نحبه، لا يكن أن لا  تعيدنا إلى الدوافع الحقيقة التي كانت وراء خروج المناضل اليساري "عبد الناصر" عن طوره يوم تشييع جنازة والده الوجيه "الحاج محمود"، لما انهال أمام أعين الحاضرين ضربا مبرّحا وتقريعا مقذعا على الشيخ "علاّلة" وهو من تولى إتمام مراسم لحد والده ووجيه رأس درب.
بين أحضان ريحانات متقلبات الطباع والسجايا أمضى عبد الناصر المشهور بـ"الطلياني" و"يوسف الفرسيوي" حياتهما المفتوحة على احتمالات لا متناهية، عكست تحولات مسارهما الشخصيين وتطورات السياقات التاريخية التي كيّفت طموحاتهما وحدّدت إخفاقاتهما أيضا.
تتعدد محطات قطار حياة عبد الناصر ضمن متاهة الرواية المكانية التي شيّدها شكري المبخوت بين أزقة وشعاب، ومنعرجات، وأروقة، ومنحدرات، وثنايا، ومسالك، وسكك، ومفترقات، ودروب، ومضايق وطن التونسيين، تقابلها تحولات سيرة يوسف الفرسيوي في علاقتها بالانقلاب الكلي الذي عاينه مشهد مربع الدار البيضاء - زرهون - الرباط ومراكش على إثر حصول التناوب وصعود ملك المغرب الشاب إلى سدة الحكم.
ما مدلول التحولات التي طالت فكر اليسار ونضاله جنوب المتوسط؟ ما المعنى الذي يمكن أن تكسبه المقاومة ضمن مجتمعات اجتاحتها العولمة، وشارفت على فقدان سيادتها في غفلة تامة من شعوبها؟ ما قيمة الحرية داخل مجتمعات تعاني الهشاشة المادية والنفسية، وتدار من خلال تشغيل ثقافة الوصاية وتأجيل الاعتراف بحرية الأفراد ريثما يتم الانتهاء من معركة النماء واللحاق بركب الأمم المتحضرة؟
ثم ما حقيقة القول بانغلاق قفص الهامشية على حياة المحسوبين على نخب المعرفة والرأي؟ وما وتيرة تدرّج تأثيم النجاح الفردي وانقلابه إلى ما يشبه الخطيئة الأصلية، حيث يتدحرج المثقف إلى مجرد عابث أسود يندفع قدما نحو سقوط مدوي في مستنقعات الرداءة والدناءة المعمّمتين؟
تقريظ على معنى الرثاء أو لعبة الكاماسوترا بنكهة يسارية، هو على الحقيقة العنوان الذي نعتقد اختزاله لمضامين حكايات قصها علينا كلا المؤلفين دون عجل، نقلتنا من مضاجعة الابن الضال والزعيم اليساري عبد الناصر لربة الصون والعفاف "للاّجنية" إلى معاشرة الفيلسوفة البربرية "زينة" والاستمتاع بغنج السويسرية "أنجيليكا" الفاتن والاهتبال بمتعة الخيانة الزوجية صحبة أستاذة التربية البدنية "نجلاء" والاغتباط بضم طالبة الفنون الفارعة الطويل "ريم" إلى سجل عشيقاته. يقتفي يوسف الفرسيوي في قوس محمد الأشعري وفراشته المفتون على شاكلة المناضل اليساري عبد الناصر بصاحبة الجلالة، نفس المسالك المظلمة متنقلا بين زوجته الرضيّة "هنية" وصديقته الخبيرة فاطمة وعشيقته المطلّقة ليلي.
اختار المؤلفان عن قصد الحفر في التحولات المتلاحقة التي عاينتها حداثة الدولة الوطنية المعلنة وذلك من نافدة التطورات الفارقة التي طالت مسارات حَدِيَّة، اعتقد أصحابها وبقدر غير قليل من السذاجة أن قدر قطار النضال من أجل تحقيق قيم الحداثة وفقا لمبادئ الاشتراكية الماركسية، سبيل معلومة من المستحيل أن تحيد عن مسارها قيد أنملة. فكان اصطدامها بالواقع المتقلّب مفزعا حوّل مسارات حياتها إلى ما يشبه تراجيديا فاجعة لأبطال مأساة اجتماعية تعمّد المؤلفان بعناد مهرة الرواة الحفر في ثناياها الملتويّة والتكشّف على إنسانيتها المربكة وبطولتها الموهومة وإخفاقاتها المستجّلية لطباعها البشرية.
جنوب المتوسط حيث زرقة السماء وعافية الماء يجثم فكر الجماعة الوصي على خضوع الجميع لبرد اليقين المعدم لنعمة الشك والتساؤل، لا فكاك من القبول بأنصاف الحلول المعدّلة بدهاء على عقارب ساعات تشبه حركاتها دورات الطبيعة الأزلية. لا يسار ولا يمين لا حرية ولا عبودية لا مواطنة ولا رعية لا إفراط ولا تفريط، اعتدال فجّ ومخزن يعيد إنتاج نفسه بمنتهى الدهاء والمكيدة. رحلة في عطالة الفكر والروح، نجوس عبر منعطفاتها في عاصف ذكريات عبد الناصر من مختبر تنشئته العائلية ورفاق نضاله في الجامعة ومستنقع الصحافة الموبوء الذي ساقته الظروف لمعاشرة دينصوراته، لكي نصل في الأخير إلى انكسار ألواح أشرعته وأزف روحه النزقة على صخرة الاعتداء الفاحش على طفولته الغضة.
نفس تلك الأقدار تضع بطل رواية محمد الأشعري أمام مساره العاثر الذي دفع بابنه الوحيد ياسين إلى السقوط في مخالب الإرهاب، وإصراره العبثي على استحضار روحه قصد مساءلتها بخصوص الدوافع التي جرت وحيده إلى اقتراف رزيّة بذلك الحجم من دون الحصول على شفاء للغليل. فر الفرسيوي من فجيعته المتمثلة في فقدان أمه الألمانية التي قررت بعد أن رافقت والده لسنين وضع حد لحياتها عند موقع ولّيلي الأثري المصاقب لمرقد شريف الأدارسة بزرهون، ليجد نفسه مغدورا في فلذة كبده المنتسب لخفافيش الظلام ومدبري الجرائم الإرهابية. تحت سماء الكيد المعمّم واللعنة الأبدية تعيد الحكايتان رسم عبثية أقدار من أصابوا قدرا من المعرفة متشوّفين إلى رسم أفق مفارق. يغرق والد يوسف الفريسوي في العمى بعد أن يخسر واسع الثروة والجاه، متحوّلا إلى دليل سياحة مجنون يطوف بزائريه في أركان موقع أثري مهيب، تماما مثل ما اضطر "سي عبد الحميد" مدير الصحيفة الرسمية التي آوت عبد الناصر مصحّحا مبتدأ فصُحفيا لامعا، إلى التفريط في إنسانيته في خوف مريع وجبن مخزي إلى شياطين المخزن وزبانيته. ينغلق قفص الهامشية على ذوات قلقة يدفعها مصيرها الحالك قسرا دون رضا إلى الشعور بالصغار والمهانة، فراشات ترقص في زهو حذو اللهيب المستعر لتتلظى بألسنته وتسقط في الدرك الأسفل من نيرانها.
تقريظ عبثي لمفتعل الأفراح ومسترق اللذات يتسلل من تجاويف مشاهد الحانات المعربدة والغرف المغلقة التي تغشاها روائح الانعاض وتعرّق الأجساد المتلويّة من فرط الالتحام وتدفق صنابير الشهوة، لكي يفتح أعيننا على جسامة تكلّس فكر النخب اليسارية تونسيا وغربته المؤذنة بفساد مادته طول عشرية ثمانيات القرن الماضي الحالكة. كاماسوترا باذخة تذكّرنا بأجواء "ديكامرون" بوكاش و"ساتيركون" بيترون الفاجعة، تلك التي يندفع أبطالها تحت مفعول خوف مدمّر في طواف هستيري وجنوح ماجن إلى الهروب إلى الأمام حيث لا فكاك من السقوط في الهاوية.
رواية شكري المبخوت البكر تشريح مفزع بنكهة شبقية لسياقات انحدار "نخب" اليسار الرثة تونسيا، "نخب" لم تبرح الوقوف عند محطات لم تعد تصلها بقطار اللحاق بالأمم المتحضرة أية سكة.                                        

dimanche 14 septembre 2014

شكري المبخوت وروايته الأولى التي قرأتني !

مقال الكاتب محمّد المصمولي بجريدة "الصحافة"
 بتاريخ 14 سبتمبر 2014


ليس من غاية هذه الكلمة ان تكون تحليلا او دراسة لرواية الدكتور شكري  المبخوت التي صدرت أخيرا بعنوان «الطلياني» وذلك لان هذا الركن الصحفي لا يتسع لمثل تلك المهمة وانما اردت بهذه الكلمة ان اقول فقط ان الرواية  المشار اليها قد «قرأتني»  بحجم صفحاتها التي تجاوزت الـ (340)  صفحة  من دون ان تسمح لي بالانصراف عنها او الذهاب في سبيل حالي الى غيرها من مشاغلي اليومية او غير  اليومية.
 ...نعم فهذه الرواية  قد «قرأتني»  كما قلت شأنها في هذا شأن عدد محدود جدا ونادر جدا من الروايات الجيدة التي يتصفحها القارىء فإذا بها تفرض عليه من حيث يدري او لا يدري ان يخضع لاوامر فتنة أسلوبها ولذة  نصها وغواية المواصلة لاحداثها شوقا الى معرفة مصائر  شخصياتها  او ابطالها المتحركين على بياض الصحفات بحيوية متدفقة... وطموحات متناقضة...
 ... ولقائل ان يقول متسائلا :
 - «....كيف يمكن لرواية اولى من تأليف باحث جامعي مختص او يتوفر فيها هذا السحر ومتعة النص والقدرة  على التأثير في القارئ؟
 .. واجابتي هي ان الكتب الجيدة التي «نقرأ»   قارئها هي الكتب التي تكون في المجال الاكاديمي جامعة  بين موضوعية  العلم وذاتية الفن كما في كتب الدكتور طه حسين مثلا او تكون في المجال الابداعي.. جامعة بين لذة العقل والشعر والذوق الرفيع  (كما في كتب الاستاذ محمود المسعدي مثلا).
 ... صحيح ان رواي)  التي نحن بصددها هي باكورة الانتاج الابداعي الى  حد الآن للاستاذ الجامعي شكري المبخوت الذي عرف بكتبه العلمية حول (المعنى المحال)  و(انشاء  النفي) و(الاستدلال البلاغي)وما الى ذلك من المواضيع والمسائل لكن الاصح هو ان هذا الجامعي المتألق «بتواضع العلماء»  في عضويته بعديد هيئات تحرير مجلات محكمة وغير محكمة والمعروف بمشاركاته العديدة في الندوات الفكرية والادبية  هو عالم قد حافظ دائما علىذاتية الفن في مقارباته المنهجية وبحوثه العلمية، فجمع بين رهافة الحس وصرامة العقل.. من دون ان يتحول الى انموذج الباحث الاكاديمي المتجهم على نحو بعض من نعرفهم او لا نعرفهم، عربيا أو محليا.. (بل على نحو الكاتب محمود عباس العقاد مثلا، لكن دون الارتقاء الى منزلته الرفيعة)..
«نعم، فصاحب رواية (الطلياني) ليس كاتبا متجهما، او باحثا جافا، ولو كان كذلك لما أتاح لروايته ان «تقرأني» بهذه السهولة ـ كما اعترفت ـ وانما هو هذا الأكاديمي الذي لمحت في كتاباته العلمية ملامح المبدع منذ سنة 1993 عندما أصدر كتابا بعنوان (جمالية الالفة: النص ومتقبله في التراث النقدي) او عندما أصدر، قبل ذلك او بعد ذلك، كتابا دراسيا جميلا بعنوان: «سيرة الغائب وسيرة الآتي في كتاب (الايام) لطه حسين».
.. وكيف لا يمكن «لشكري المبخوت» ان يكون هذا الكاتب الروائي المتميز.. وقد بحث في أحد مؤلفاته في «الشعرية لدوروف»<؟
***
... رواية (الطلياني) مليئة بالأحداث، وصل فيها المؤلف العهدين (البورقيبي والنوفمبري) بتحاليل ومواقف، كما وصل فيها بين غليان الجامعة والمحيط السياسي والاجتماعي والاعلامي والثقافي، وفقا لرؤية المؤلف، باعتباره من ذلك الجيل الطالبي الذي ثار على واقعه واصطدم بالقمع والاستبداد.. وجوبه بقهقهة السراب.. سواء في سبعينيات القرن العشرين او ما تلاها..
وفي هذه الرواية المثيرة التي قال فيها كاتبنا كل شيء ببراعة فائقة.. ثورة وغضب وجنس واشواق الى المثل السامية.. وقد بدأت الاحداث.. بالزقاق الاخير، وانتهت برأس الدرب، مرورا بشعاب الذكريات، والمنعرج، ورواق الوجع والألم، وغيرها من الدروب التي ظلت تسير بي على هواها، او بالأحرى على هوى شكري المبخوت، هذا الدليل المجرب، والمعلم الخبير، الذي أغتنم هذه الفرصة لأقول له: هل من مزيد أي المبدع؟ ... بعد تهنئته بمناسبة هذه الرواية!


بقلم : محمد مصمولي

lundi 1 septembre 2014

حوار حول صدور رواية الطلياني والجامعة التونسيّة

حوار أجرته سيماء المزوغي لجريدة "المغرب" بتاريخ
30/08/2014



«الطلياني» رواية جديدة صافحت الساحة الثقافية التونسية والعربية، واعتبرت منعطفا جديدا في سيرة الدكتور شكري المبخوت رئيس جامعة منوبة، الذي عهدناه أكاديميا وناقدا وباحثا و له
إطلالات عديدة في الندوات العلمية وإسهامات كثيفة في التأليف المدرسيّ والجامعي وفي معالجة قضايا تربويّة وتعليميّة ونقدية، من مؤلفاته نذكر: «سيرة الغائب» و»جمالية الألفة»، و» النص ومتقبّله في التراث النقدي»، و«إنشاء النفي»، و»الاستدلال البلاغي»، و «المعنى المحال» و «نظريّة الأعمال اللّغويّة» و «توجيه النفي في تعامله مع الجهات والأسوار» و»الروابط و دائرة الأعمال اللّغويّة»، ومن بين أعماله في الترجمة نذكر، «الشعرية لتزيفتان تودوروف» ، و»تخييل الأصول: الإسلام وكتابة الحداثة» والمعجم الموسوعيّ للتداولية». «المغرب» حاورت الدكتور شكري المبخوت بمناسبة صدور روايته الجديدة فكان لنا معه الحوار التالي:
• عرفناك ناقدا وأكاديميا، فكيف ولدت الرواية فيك؟ وكيف ولد «الطلياني»؟
ولد «الطلياني» هكذا دون أي إذن، ظاهريا من باب الصدفة ودون أن يستشير أي أحد ولكن في الحقيقة في تجربتي مع الكتابة ليس منفصلا عن مساري لكن الذي لا يعرفه الكثيرون أنني بدأت أنشر بأسماء مستعارة خصوصا شعرية والأدبية.
• لماذا بأسماء مستعارة؟
لأنني كنت أخجل مما أكتب فقط، وإلى الآن مازلت أخجل، لأن مسألة أن تكتب هي مسؤولية، وليست المعنى الخشبي، هي مسؤولية أمام القارئ ومسؤولية أمام الناس والسؤال البسيط الذي يجعلني أخجل من نفسي هو ما الذي سأضيف أمام هذا الإنتاج العظيم للإنسانية وأمام هذه الروائع القديمة والحديثة والمعاصرة. هذا هو سبب التوجس خيفة مما أكتب.
• نرجع لرواية «الطلياني»؟
ظاهريا ولدت الرواية هكذا دون أي إذن ولكن واقعيا كنت أراها شكلا آخر للتعبير عن شيء في النفس وعن موقف تبلور شيئا فشيئا في كتابات عديدة، بعضها ذو طابع صحفي، بعضها الآخر من باب البحث الأكاديمي، بعضها الثالث من باب الكتابات الثقافية التي تتناول القضايا العامة وبعضها أيضا ما يعرف بالقول الشعري.
إذن ظهرت رواية «اللطليناني» لأنها تلبي حاجة أساسية في رأيي لفهم ما نعيشه اليوم من حالة بلبلة وحالة اضطراب وتداخل. إذن اعتقادي أن الرواية هي الفضاء الكتابي الأساسي الذي يمكننا من فهم مراحل التحول ومراحل الانفلاتات ومراحل الانقلابات. فالرواية تمكننا، أو على الأقل مكنتني، من أن أجد حيّزا لفهم عوامل متداخلة اجتماعية ونفسية من خلال متابعة مسارات وصيرورات الشخصيات التي كنت أرسمها وكانت تنفلت أحيانا من بين أصابعي وتنمو بشكل ذاتي لا أتحكم فيه تماما إلا بعد التنقيح والمراجعة. إذن الرواية في رأي هي الجنس الذي يمكن أن أنقل فيه التحول والتغير الاجتماعي وأن يكون بطريقة أصدق من البحث العلمي أو الأكاديمي.
• عند كتابتك لـ «الطلياني» هل انفلتت شخصياتك منك؟ وهل البحث الأكاديمي، ونحن عهدناك ناقدا، أثّر على روايتك؟
سؤال مزدوج ولكنه ذكي في الآن نفسه، أولا بالنسبة إلى الشخصية، حين نكتب لا توجد صياغة نهائية الصياغة النهائية تكون عند ولادة النص. والشخصية لا أقول تتمرد على الكاتب، وأنا في وضعية من الوضعيات تتصرف بشكل لم أخططه، وهذا جانب المباغتة، في سلوك الشخصيات وتصوراتها وردود أفعالها داخل سياق ما، هو الذي ينشئ لحظة الكتابة لدي، هذه المتعة، متعة الاكتشاف، فأنا أكتشف بقدر ما أواجه، وهذه الجدلية بين توجيه الشخصية وبين مباغتتها للمؤلف هو أمر ممتع اكتشفته فقط في الكتابة الروائية. رغم أن شخصيات الرواية تعيش خيبات، ليس فيها بطل يمكن نعته بالإيجابي، هي خيبات وتحولات ومسارات تعيشها الشخصيات لكن سرعان ما تنقلب لأن عمق الرواية هو بيان هذا التردد الإنساني، هناك تردد في النفس الانسانية، تردد في الكتابة، تردد في رسم الشخصية، والمهم هو النتيجة العامة التي يصل إليها النص وهي أن تكون متناسقة.
• إذن هل أثّر الجانب الأكاديمي في الرواية؟
أصدقك القول أن كل الأفكار التي يمكن أن توجد في الذهن عن المقولات السلبية وعن الزمان وعن المكان والشخصيات وغير ذلك، أو كل ما يقرأ نظريا يضيع لحظة الكتابة. لا أظن – في تجربتي على الأقل – أنني لا أفكر في التقنيات بل التقنيات هي التي تنشأ أثناء الكتابة لأن هناك ذاكرة نصية وذاكرة أسلوبية تطفح على سطح الكتابة دون تفكير.
في الرواية كنت أكثر حرية، لأن فضاء الرواية وفضاء الأدب هو أساسا فضاء الحرية ولا يمكن أن توجد فيه ممنوعات والحق أن المخطوط الأول كان متمتعا بدرجة عليا من الحرية حتى في المشاهد التي تمس بالحس العام، أو التي قد تمس بصورة الأكاديمي، ولكن هناك مواقع وظيفية ممكن أن تصدر من وصف لمشهد حميمي في رواية بمثل تلك الإيروسية وهذا أمر نبهني إليه أصدقاء لأني قدمت إلى بعضهم قراءات قبل الصياغة النهائية. وأصدقك القول أني مارست بعد ذلك الرقابة الذاتية وصنصرة لبعض المواضع في العمل.
• هل تألمت من الرقابة الذاتية والصنصرة؟
لا، لم أتألم البتة، لأسباب عديدة، السبب الأول لأننا لا نكتب لأنفسنا فقط، لأن عملية الكتابة هي عملية تخاطب لذا بعض المشاهد إذا مست أناسا تثق في انفتاحهم الفكري، وفي معرفتهم بالأدب وخاصة بمعرفتهم بالمجتمع، إذا مستهم ووجدوا فيها ما يدعو فيها إلى الخجل فلا فائدة من البطولة في تقديم أشياء قد تبدو من باب إنشاء الفضيحة، أنا ابحث عن رواية تمتع ولا أبحث عن رواية تثير الفضائح.ولكن كتبت تلك المقاطع لأنها جاءت في سياقها.
• لماذا اخترت النشر في الخارج وليس في تونس؟
«دار التنوير» هي تونسية مصرية لبنانية، لأن النشر في تونس مشكلته الكبرى هي التوزيع، فلا يصل الكتاب إلى العالم العربي ومن يكتب لا يكتب للتونسيين فقط، ومن يكتب هو يكتب لأكثر من 300 مليون قارئ محتمل. هذه نقطة والنقطة الثانية أنني أخذت درسا من صديقي وأستاذي حسين الواد، فروايته التي وصلت إلى «القائمة القصيرة» لجوائز «بوبكر»، حتى ذهب إلى الإمارات كانت جميع الروايات قد بلغت من المبيعات خمسين ألف نسخة إلا رواية حسين الواد لم تكن موجودة، السبب ليس في دار النشر، بل التوزيع لأن الكتاب التونسي لا يصل، لأن السوق التونسية ضيقة وهناك معضلة كبيرة، ليست معضلة النشر كما يقال ولكن معضلة التوزيع.
وعلى الدولة هنا إذا كانت بالفعل تريد أن تدافع عن الثقافة التونسية، وما أسميه بالاستثناء التونسي، عليها أن تقوم بدورها وتتجاوز دعم الكتاب وشراء الكتب وغير ذلك، لأن هذا يفسد السوق...
• هل تعتبر وزارة الثقافة مقصّرة مع الكاتب التونسي؟
ليست وزارة الثقافة ولكن الدولة التونسية، فهناك أيضا وزارة الخارجية، فهناك بعثات دبلوماسية لا توجد لديها خطة لايصال الكتاب التونسي ليس هناك سوق حقيقية للكتاب التونسي. وهذا يجعل الكاتب يمتنع عن الكتابة لأنه كتابه لم يصدر، قلّما نجد نقدا له، قلما نجد صحافة تونسية تهتم بالكتاب الاهتمام الضروري، قلما نجد نقادا صحفيين.
• كيف تقيّم الساحة الثقافية والفكرية في تونس؟
وضعية الساحة الثقافية والفكرية اليوم في تونس جيّدة، نلاحظ مثلا في مجال الكتابة وفي السينما... نجد الحركية والرغبة في التعبير، وهذا مهم لأن في الوضع الجديد الذي نعيشه قد تحررت الأقلام... في الآن نفسه نجد أن الفوضى العارمة التي تعيشها في حياتنا تنعكس على حياتنا الفكرية والسياسية والثقافية. ولكن الأمر المهم أن جميع التيارات وقفت عند حدودها. مثلا اليوم عندما نتحدث عن الصراع العلماني الإسلامي.
أين الكتابات التي تعبّر عن هذا الصراع؟ مثلا كتب الإسلاميون، الذين تطوروا كثيرا من خلال (على الأقل) النقاشات حول الدستور في تونس أن هناك تحولات حقيقية على الأقل في الخطاب، ولكنها غير مستندة إلى تنظيرات. لنأخذ اليسار، ماذا أنتج اليسار من فكر؟! يتحول اليساريون اليوم باسم المصلحة الوطنية والوفاق إلى وطنيين بمعنى «الوطنية والقومية». أو يتخلون عن مفاهيم، دكتاتورية البروليتاريا أو غير ذلك، هل توجد تنظيرات، لذلك المدونة الإيديولوجية محدودة جدا ورغم ذلك هناك حيرة وبلبلة ونقاش أعتقد أنها مهمة ويمكن أن تُخرج شيئا جديدا..
• هل قمتم بنقد ذاتي لمؤسستكم الجامعية باعتبارك مسؤولا على رأس الجامعة؟
النقد الذاتي هو عمل مستمر بالنسبة إلى الأكاديمي وبالنسبة إلى المؤسسات، لكن المشكلة أنه لا توجد ضمن مؤسساتنا الجامعية آليات، أو ما يسمى بالتقييم الداخلي. هذا التقييم الداخلي مرحلة ضرورية ضمن التقييم الخارجي، او ما يسمى بجودة التعليم العالي. المشكلة في تونس أن في منظومتنا التعليمية الجامعية أن جميع القوانين تنص على هذا لأنها جزء من المعايير الدولية ولكن واقعيا حتى القانون الموجود بكل مساوئه غير مفعّل يعود ذلك إلى أن العلاقة بين سلطة الإشراف أي الوزارة والجامعات ثم بين الجامعات والمؤسسات كانت علاقة قائمة على مركزية مفرطة زمن الاستبداد أما بعد 2011 فإن ما وقع هو التفكك لهذه المنظومة فلم تعد الوزارة قادرة على السيطرة على المؤسسات وغير قادرة بالخصوص على الإيفاء بالتزاماتها في إزاء الجامعات، والجامعات نفس الشيء.
إذن لا بد من إعادة صياغة العلاقة بين هذه المكونات الثلاثة داخل المنظومة الجامعية، أي المؤسسة التي تسدي خدمات معينة.. وبين الجامعات وبين الوزارة.
إلى الآن مر 3 وزراء في حكومات مؤقتة ولا وزير له مشروع وتصور عن إعادة هيكلة المنظومة الجامعية.
• ما هي المقترحات التي تطرحها على وزير يريد تغيير المنظومة الجامعية؟
المقترحات كثيرة ليس هذا اللقاء كافيا، أقول لك القضية الأساسية والكبرى في المنظومة الجامعية التونسية، هي ما كنت قد ذكرت وهي إعادة صياغة العلاقة على نحو يطابق المعايير الدولية للتعليم العالي والسعي الفعلي إلى تأسيس جديد للجامعة التونسية يزيل عقبة التفكك داخل المنظومة ويقدّم مشروعا بالفعل يستطيع أن يجدد هذه المنظومة ويدفع بها إلى الأمام، إذن المقترحات التفصيلية لا فائدة من ذكرها ولكن المهم هو وجود حوار مجتمعي حقيقي حول أي جامعة نريدها طبقا للمعايير الدولية لأن المشكلات المطروحة اليوم تعود أغلبها إلى قضية طالما كتبت عنها وطالما تحدثت عنها ولكن لا توجد الآذان الصاغية وهي استقلالية الجامعة.
استقلالية الجامعات تفهم أحيانا بطريقة خاطئة ولكنها في المعايير الدولية هي حجر الزاوية لما يسمى بالحريات الأكاديمية. وهو مصطلح دقيق وله انعكاسات عديدة، نحن نفهم الحريات الأكاديمية عادة على حرية البحث والكتابة.. ولا وجود لممنوعات إلى آخره، هذا جزء هيّن وبسيط، لأنك إذا وضعت قيودا أمام البحث فإنك قتلت الجامعة ولكن أهم من هذا هناك جوانب أخرى في المفهوم وهو التسيير التشاركي بين مختلف الفاعلين في الفضاء الجامعي، بالإضافة إلى الاستقلالية الحقيقية للمؤسسات الجامعية وللجامعات.
• ما معنى الاستقلالية؟
الاستقلالية تعني استقلالية القرار الجامعي وتعني أيضا هيكليا إيجاد سلطة فعلية لرئيس الجامعة في الانتداب، انتداب الأساتذة والأعوان... بعث المشاريع داخل الجامعة وإحداث المؤسسات وتمكين الوزارة من سلطة إشراف فعلية، الوزارة واقعيا لا تشرف على شيء، إذ المسألة دائما تطرح من ناحية مادية لكن المعمول به حتى الآن التمويلات الممكنة الذاتية التي تستطيع أن تستجبيها الجامعات والمؤسسات بنفسها، القوانين الموجودة الآن تعطلها. إذن المسائل التي ينبغي التفكير فيها ويمكن إدراجها ضمن مشروع للنهوض بالتعليم العالي وضمن إرادة سياسية حقيقية هي مسألة «ما معنى استقلالية الجامعة؟» وهذه الاستقلالية ينبغي أن نعرف جميعا أنها المدخل الأساسي لما نص عليه الدستور الجديد من الحريات الأكاديمية.
• ماذا قدّمت جامعة منوبة للبحث العلمي؟
هنا أيضا نعود لسؤال التقييم، إذ أن اجابتي ستكون اجابة حدسية أكثر منها إجابة مدعمة بالأرقام وغير ذلك، عموما جامعة منوبة تتميز أساسا بأقطاب علمية وكل قطب علمي له إضافات معمقة في البحث، أشهر هذه الأقطاب هو قطب الانسانيات التي هي أساسا كلية الآداب، ولكن ننسى أن لكلية الآداب انتاجها العلمي في مستوى الماجستير وفي مستوى الدكتوراه في مستوى بحوث أساتذتها هو من أهم ما يوجد في تونس وفي المؤسسات الجامعية التونسية. وأنجبت كلية الآداب أعلاما اليوم يسيرون الحياة الثقافية في تونس ويشعون أيضا على العالم العربي وخارج العالم العربي.. ولا ننسى أيضا أن جامعة منوبة فيها المؤسسة الوحيدة لتدريس الإعلام ولتدريس الصحافة وعلوم الأخبار، كذلك لها مؤسسة متميزة وهو معهد التوثيق، ولا توجد في البحوث التوثيقية أهم مما ينتج في جامعة منوبة إلى آخره..