dimanche 19 février 2012

رسالة إلى طالبتي التي تزوّجت عرفيّا


رسالة إلى طالبتي التي تزوّجت عرفيّا

منّوبة في 13 فيفري 2012
 تحيّة طيبة
    أكتب إليك بعد أن قرأت في إحدى الصحف السيارة حديثا نسب إليك ونسبك لكلّيّة الآداب بمنوبة.و من المرجّح أنّني لم أدرّسك ولكن اسمحي لي أن أعتبرك من طالباتي مادمت مسؤولا عنك جامعيّا ولو من الناحية الإداريّة والأكاديميّة على الأقلّ.
   لا أدري إن كان عليّ أن أهنئك بزواجك عرفيّا من زميل لك بقسم الفرنسيّة وإن لم أكن راضيا  عن هذه الصيغة من صيغ الارتباط بيد أنّك تعلّمت ولا شكّ في دروس الفلسفة بالمعهد  معنى الحرّيّة في الاختيار وتحمّل المسؤوليّة في ما تقدمين عليه بخيره وشرّه.وفي الحالات جميعا لم أكتب إليك لألومك أو لأدينك أو لأتهمك أو لأنتصب واعظا بليدا بل لأفضي إليك ببعض ما عنّ لي من خواطر وأنا أقرأ تبريرك لما أقدمت عليه داعيا لك بالسعادة والهناء والتوازن النفسيّ والتمتع بمباهج الحياة فعلى الأرض حقّا ما يستحقّ الحياة كما قال الشاعر.فلا تبتئسي لما تسمعين من الناس متديّنين وغير متديّنين من نقد وانتقاد وقلّة تفهّم لدوافعك وإن كان منهم مخاطبك في هذه الرسالة.لقد اخترت سبيلا أخرى غير السبيل المسطورة فلا تضيعي على الأقلّ القصد الذي قصدت والهدف الذي رسمت.
ابنتي العزيزة،
   قرأت عنك أنّك أقدمت على الزواج عرفيّا لتلبية حاجتك الجنسيّة وما تشعرين به نحو صديقك ابتعادا منك عن المعاصي والمحظورات والمحرّمات والعلاقات غير المشروعة دينيّا.وفسّرت اختيارك لهذه الصيغة في الارتباط تفسيرا اقتصاديّا على اعتباره أنّه زواج لا يتطلّب إنفاقا ولا ولائم ولا غيرها من المصاريف التي أصبحت ثقيلة عليك وعلى أبناء جيلك كما كانت،والحقّ يقال، ثقيلة على الأجيال التي سبقتكم.
   أودّ بدءا أن أعبّر لك عن تفهّمي لك عميق التفهّم وربّما فهمت منك شيئا غير الذي قصدت.فقد صدمت بموقفك هذا مجتمعا ونخبا توهّمت أنّها مطمئنّة بفضل منظومة حقوقيّة متطوّرة على حقوق المرأة والأسرة لذلك اندهش أهل الحداثة والفكر اليساري وأحفاد الزعيم الخالد الحبيب بورقيبة من هذه الحلول كما انزعج الذين يتبعون السراط السنيّ المالكيّ القويم  ممّا أقدمت عليه فهم لا يذهبون إلى ما يذهب إليه أهل الملل والنحل والمذاهب الأخرى من شيعة وسلفيّة طلعت لهم من الفضائيّات كالعفاريت ولا رادّ لها عندهم.
    لذلك وجّهت إليك سهام النقد باسم القانون.فقد خالفت ما تنصّ عليه مجلّة الأحوال الشخصيّة من منع للزواج بغير الصيغة الرسميّة.ووجّهت إليك سهام النقد باسم المدافعين عن حقوق المرأة لأنّ ما أقدمت عليه يسقط عمليّا حقوقا لك، قد لا تعرفينها أو لا تتصوّرين أهميّتها عندك في قادم الأيام، كالنفقة والاعتراف بالأبناء وحقّك في الإرث ولو لم يكن تناصفا وغير ذلك من الحقوق التي كفلها لك القانون التونسيّ. ووجّهت إليك أيضا من جهة ثالثة ضروب من النقد باسم الإسلام الذي يوجب عند من نقدك إشهار الزواج وإلا اعتبر دعارة مقنّعة.
    أعرف أنّ الأمر ثقيل عليك لكثرة السهام من كلّ صوب ولكنني متأكّد من أنّك ستواصلين مغامرتك عنادا نفهمه ممّن هم في سنّك من جهة وتعبيرا ، من جهة أخرى، عن طاقة فيك كامنة على الاحتجاج والإصرار على الدفاع عن النفس رأينا صورة منها يوم تمسكّت بالدراسة وإجراء الامتحانات دون التخلّي على النقاب.
   ولا أخفي عليك أنّك في وضعيّة صعبة أرجو لك أن تجدي لها بذكائك مخرجا.فللصدام مع المجتمع والدولة ثمن باهظ لا أتمنّاه لك.فاحذري مثل هذا الصدام ولا تعوّلي كثيرا على نقابك الذي تخفين به وجهك عن المجتمع.فالدولة تزيل الحجب والأنقبة جميعا متى شاءت ومتى لزم الأمر. ولا يغرّنّك ما يدور في الوسط الضيّق الذي وجدت نفسك فيه لأنّه وسط مقطوع عن الواقع يعيش ما عاشته عبر التاريخ المجموعات المغلقة التي لا تزيدها قلّة مريديها إلاّ توهما للقوّة والحقّ وهي أوهى من بيوت العنكبوت.ولا يذهبنّ في وهمك أنني أخيفك أو أهدّدك بالدولة وقوّتها فأنا معك يهمني أمرك لأسباب سأفصلها في ما سيأتي ولست ممن يدعوك إلى ما لا ترغبين فيه.
ابنتي العزيزة،
   أصدقك القول أنّك ، بقطع النظر عن النقد الذي وجه إليك ولأمثالك، قد طرحت عليّ شخصيّا وعلى النخب التونسيّة وعلى المجتمع سؤالا خطيرا مهمّا لم يجد له من نقدك إلاّ ردودا جاهزة أعترف لك أنّها تعبّر عن خوف منك أكثر ممّا تعبّر عن تفهّم وسعي إلى إيجاد الجواب الذي يريحك ويريح من يفكّر بأسلوبك.
    لقد قلت لنا بلغة متلعثمة وإن بدت واضحة وبخطاب مأزوم وإن بدا واثقا من نفسه: "كيف تريدونني أن أوفّق بين شهوة الجسد والغريزة التي ركّبها اللّه فيّ وحقّي في المتعة الجنسيّة وبين أحكامكم عن الزنا وتجريمه وركام المحرّمات الدنيّة والقانونيّة ونفاق المجتمع المهووس بالجنس ، المتسربل بالتقوى الكاذبة ؟".
   وأصدقك القول مرّة أخرى أنّك على حقّ.وأحب أن أصارحك بأنّك بسؤالك هذا قد أدخلت عليّ بعض السرور ومزيد الشعور بالفخر ببنات تونس الرائعات وأنت منهنّ.
     فربّما فاتك أنّ مثل هذه الجرأة في طرح مسألة متعة المرأة الجنسيّة، وهي مما أقرّه الإسلام للمرأة على ما أعلم دون غيره من الأديان،لا يمكنها أن تصدر إلاّ من بنت من بنات المدرسة التونسيّة التي علّمت المرأة التونسيّة ففاقت نسبة الطالبات في التعليم العالي نسبة زملائها الذكور وتجاوزتهم في النتائج الممتازة ونسب النجاح الدراسيّ.فصوتك الذي اعتبره بعض المبكوتين المهووسين برائحة الأنثى عورة صوت قويّ حديث رغم الإهاب الدينيّ الذي يغلّفه.
    وهو صوت نشاز في العالم الإسلاميّ الذي يقمع المرأة ويسكتها خوفا من جرأتها ومن فتنة قولها لا من جسدها وأنوثتها فحسب.إنّه جبن الرجل الضعيف المتحكّم بالترهيب والتخويف في رقاب النساء وليس حرصه على الدين وتعاليمه.فأنت يا بنيّتي وإن كنت منتقبة أو متحجّبة ممّن وضعت فيه مدرسو تونس الحديثة من الجرأة والعقل النقديّ ما لا يستطيع إنس أو جنّي أن يخرجه من قلبك.فعظّي على دينك بالنواجذ كما تعظّين ، من حيث تشعرين أو لا تشعرين، على حداثتك الأصيلة بالنواجذ أيضا وإن كره الكارهون.
    وربّما فاتك أيضا ، وهو أمر أجد لك فيه الأعذار كلّها لعيب فينا نحن أساتذتك لا فيك، أنّك ابنة كلّيّة الآداب بمنّوبة.وهي كلّيّة من مفاخر منظومة التعليم العالي ببلادنا رغم كلّ ما يكال لها من اتهامات بعضها صحيح و كثيرها كاذب. وهذه الكليّة كما تعرفين يتوسّطها نصب سمّاه مجلسها العلميّ منذ سنوات " مشكاة الأنوار" فجمعوا بذلك بين عنوان كتاب للعقل الجبّار الذي مثّله حجّة الإسلام أبو حامد الغزالي وبين الإيحاء المقصود إلى العقل النقديّ الحديث الذي أنتجه عصر الأنوار الغربيّ.فكنت ، وأنت ابنة قسم الفرنسيّة بكلّيّة الآداب ، جامعة بين النورين:نور الدين الموافق للفطرة ونور العقل في أقوى تجلّياته رغم السواد الذي تلتحفين.ولكن لا يعرف المرء بلباسه ولا يدلّ اللباس على حقيقة المرء على ما هو شائع قولا وعيانا. 
     لقد فاتك الأمران معا ولكن لم يفتك أن تعبّري بلغة تبدو للغافل المتسرّع لغة الظلام عن سؤال من أسئلة الأنوار التي تخرج من مشكاة النفس اّلإنسانيّة المتشوّقة للحياة والمتعة وطيّبات ما رزقنا الخالق المبدع.لذلك أنا فخور بك، يا بنيّتي، وإن خالفتُ ما اخترت لك من سبل في اللباس والزواج وما استقرّ عندك من فهم للدين والشريعة.
   والحقّ أنّ من ينقدك اليوم لم يقدّم لك إجابات شافية عن سؤالك.فما فعلت لا يرقى إلى الأخطار التي يمثّلها الاغتصاب والتحرّش الجنسيّ والمتاجرة بأجساد النساء واستغلالهنّ جنسيّا بل لا يبلغ صورا من العلاقات الجنسيّة المريعة كزواج المحارم و ما ينتج عنه من أبناء والاعتداء الشنيع على الأطفال والقاصرين والقاصرات بل الاتصال الجنسيّ، نساء ورجالا، بالحيوانات الأليفة في بعض أريافنا التونسيّة بالخصوص.واسألوا القضاة ومراكز الشرطة والحرس والأطباء إن كنتم لا تصدّقون.
     وهي ظواهر لا تعود كما يريد الأتقياء، من السلفيّين وغير السلفيّين، إيهامنا بذلك إلى خروج المرأة إلى الحياة الاجتماعيّة ولا إلى تدهور الأخلاق. ففي كتب الفقه، يوم كان الفقهاء يعرفون مجتمعاتهم ويعملون على حلّ مشاكلها، وفي كتب الأدب شعرا ونثرا أدلّة وشواهد أخبار ونوادر تبرز أنّ الأمر لا يتّصل بحجب المرأة في البيت.
   ولا تنزعجي يا بنيّتي فأنا ، وإن اختلفت معك في ما ذكرته لك ، أشهد أن ما فعلته شبيه ، بما يسمّيه بعض من نقدك بما نعرفه في بلادنا أمس واليوم من علاقات تسمّى حرّة ومعاشرة زوجيّة دون عقد وخيانات زوجيّة أساسها تعدّد العلاقات الجنسيّة وغير هذا من الظواهر.وهو شائع منتشر عندنا وعند غيرنا من المجتمعات الإسلاميّة التي لا تجرأ على أن تنظر إلى واقعها مدّعية التديّن وتحكيم الشريعة.وهو شائع أيضا لدى الجميع بقطع النظر عن انتماءاتهم الإيديولوجيّة والفكريّة دينيّها ولائكيّها ولا فرق إلاّ في التبرير الذي يستند أحيانا إلى آيات غير بيّنات من ماركس وفرويد وإيريك فروم وغيرهم أو إلى فتاوى بائسة يطلقها من نصبوا أنفسهم علماء بالدين يبحثون عن ختان البنات و الزواج بالرضيع و إرضاع الكبير وغيرها من المسائل التافهة الخطيرة ليكشفوا عن أمراضهم الجنسيّة وهوسهم بالجسد الذي يدعون إلى قمعه وحجبه.
طالبتي العزيزة،
     ما يخفيه كلامك وما لا نريد أن نعترف به هو أنّنا مجتمعات مكبوتة مهووسة بالجنس ولكن ثقافة التحريم والخوف والتستّر على المعاصي تمنعها من أن ترى نفسها في المرآة.إنّها مجتمعات تعيش بؤسا جنسيّا معمّما وتدّعي في الآن نفسه طهرانيّة كاذبة باسم الدين فلا تجد لها من مخرج إلا مخالفة تعاليم الدين في السرّ لقوّة الغريزة التي لا تعرف لها تصريفا وفق المجاري السائدة أو استمرار الكبت وما يحمله معه من عذاب صامت وألم عميق ووجع ممضّ.
    لهذا يا بنيّتي لا أدينك ولا أقسو عليك بقدر قسوتي على من  يزعمون أنهم رعاة القيم والدين وحماة القانون ومصالح المجتمع.فقد كفّوا منذ أمد بعيد عن الإصغاء إليكم وإلى الناس  وأصبحوا يدعونكم إلى ما استنبطته عقول الأسلاف وأودعوه كتبهم ناسين أنّهم كانوا رجالا وهم اليوم ينبغي أن يكونوا رجالا يجدّدون القول الدينيّ على ما تقتضيه أسئلتكم.بل لعلّهم يحتاجون إلى أن يفكّروا بما تشعر به المرأة التي تطالب باسم الإسلام نفسه بحقوقها التي منحها لها الخالق بما في ذلك الحقّ في الجسد والتصرّف فيه والحقّ في المتعة شأنها شأن الرجل لتخرج من منزلة الوعاء الذي يفرغ فيه فقهاء الكبت سموم هلوساتهم.فلئن لم تبرز عندنا فقيهات فإنّ قراءة الدين من وجهة نظر المرأة المقموعة أمر ممكن ولا جدال.
    و الواقع يا بنيّتي أنّ الإجابات الموجودة عن سؤالك هي بضاعة قديمة تكتفي بتذكيرك وأخواتك بالتعفّف والإكثار من الصلاة وغضّ البصر والتحذير من الزنا والمعاصي والتهديد بالنار وبئس المصير.
     ولا يذهبنّ في وهمك أنّ الزواج العرفيّ حلّ كما قد توهمت.نعم قد يحلّ جانبا من مشكلتك الجنسيّة ولو ظرفيّا ولكنه يا بنيّتي صيغة في الارتباط تدلّ على أنانيّة الرجل وانتهازيّته وجبنه.فهو لا يرتضي هذه الصيغة لأخته أو ابنته ولا يريد أن يتحمّل مسؤوليّته والإيفاء بالتزاماته الأخلاقيّة بإزائك ( أن يسكن إليك دون نيّة الانفصال مسبقا احتراما لذاتك وكرامتك الإنسانيّة لا استجابة لشهواته الجنسيّة) والاجتماعيّة ( أن يحمي حقوقك عند الإنجاب والميراث وحقوق طفلك ومكانتك الاجتماعيّة باعتبارك امرأة قد تشتهي الأمومة يوما من الأيام) والاقتصاديّة ( أن يكون قادرا على التعاون معك في التغلّب على مصاعب الحياة وما تتطلّبه ماديّا إن لم نتحدّث عن القوامة التي يعرفها في الكتب ويباهي بها ولكنه لا يتحمّل تبعاتها).
   لقد بذلت يا بنيّتي من حيث لا تشعرين جسدك لمن لا يحترم ذاتك وكرامتك ولا يراك إلاّ جسدا يفرغ فيه كبته مع تفصّ من جميع الالتزامات باسم تصوّر عن الدين لا يرى أبعد من حلّ مشكلته الجنسيّة على حسابك.
ابنتي العزيزة،
 اعرف أن لغة المنع والتحريم والتجريم والعقاب والتهديد في خطاب السياسة وخطاب الدين لم تعد تنفع مع جيلكم، جيل الثورة.ورجائي أن يتفطّن رجال الدين عندنا من أهل السنة المالكيّة بالخصوص إلى ذلك ليشرعوا في التخفّف من القوالب الجاهزة الموروثة ويفكروا في قضاياكم بلغة جديدة أقرب إلى الحياة التي تنشدون : حياة الحرّيّة والتفتّح العقليّ والفكر والجسدي والجنسيّ في إطار المساواة بين المواطنين المؤمنين وغير المؤمنين مهما كان جنسهم عند الولادة مع الرفق أكثر ببناتنا اللاتي يحملن تاريخا مرعبا من الاضطهاد الجنسيّ والنظرة الدونيّة وإيجاد الحلول المبرّرة دينيّا على حسابهنّ.فأنا، يا بنيّتي، ممّن يعتقدون أنّ لرجال الدين دورا ،شأنهم شأن مختلف الفاعلين الاجتماعيّين ، في إيجاد الحلول لمشاكل الناس وبالخصوص لشبابنا المتديّن على نحو يجمع بين الدين والدنيا جمعا لا يغلّب الدين ليخسر أبناؤنا الدنيا ولا يجعل دنياهم تسير على غير هدى.
    وفي انتظار ذلك اعترف لك أنني لا أملك لسؤالك جوابا وإن كنت أحدس حدسا أنّ الأمور لا يمكن أن تكون على ما اخترت ففي ما اخترت من الشرور الممكنة لكينونتك وكرامتك أكثر من الخير الذي تتوقّعين  أو المنفعة التي تبحثين عنها.ورغم ذلك أكرّر لك أنني أتفهمّك و أتعاطف معك فأنت ضحيّة مجتمع مكبوت منافق ولست جلاّدا يريد أن يحطّم منظومة الحداثة التونسيّة على ما قد يبدو من ردود فعل ناقديك.
      سلاما يا بنيّتي لنفسك التواقة المريدة.
        
    

jeudi 2 février 2012

الجامعة والسياسة



مثل الرجل الذي أراد أن يغيظ زوجته
( صدر في العدد الثاني من مجلّة " أكاديميا " ، فيفري ، 2012)

  

  يروي طه حسين في سيرته الذاتية أنّ طلبة الجامعة المصريّة  
    الفتيّة أضربوا في بداية القرن الماضي بسبب إعلان إيطاليا
    الحرب على تركيا وغزوها لطرابلس. وكان صاحب الدرس
     المستشرق الإيطالي كارل نيلّينو فقال لطلبته "مثلكم مثل 
     الذي أراد أن يغيظ إمرأته فخصى نفسه".



    وحتى لا نبالغ في الانحياز لموقف قد يبدو للبعض قائما، في سياقه المخصوص، على حميّة قوميّة من نيلينو، وقد يبدو للبعض الآخر، خارج سياقه، أقرب إلى الوعظ والإرشاد منه إلى التفهّم الواقعي للجامعة في علاقتها بالمواقف السياسيّة فإنّ تاريخنا وتواريخ غيرنا تشهد على دور الطلبة ومؤسساتهم الجامعية في الاحتجاج السياسي ومقاومة الظلم والاستبداد والدفاع عن الحقوق. فلم تكن الجامعة ،عندنا وعند غيرنا، بمعزل عن السياسة.

غير أنّ الوجه الآخر من العملة أنّ الجامعة وجدت نفسها في بعض الفترات رهينة صراعات بين تيارات سياسية تخوض معاركها في ساحاتها. وهو أمر لا يمكن فصله عن انزلاق دولة الاستقلال إلى نظام قوامه هيمنة الحزب الحاكم على مؤسسات الدولة منذ بداية الستينات وصياغته لمجتمع يقوم على ما سمّي بالحزب الدولة. فنتج عن ذلك، شيئا فشيئا،خنق المجتمع السياسي باحتكار الفضاء العام ومنع المجتمع المدني من التنظّم للتعبير عن شواغله. وما الأزمة الطويلة التي عاشها، وما يزال، الاتحاد العام لطلبة تونس منذ ، وما المنع ىالذي تعرّض إليه الاتحاد العام التونسي للطلبة إلاّ شاهدان من شواهد هذه السياسة المستبدّة.
ولذلك كان الجامعيّون، قبل الرابع عشر من جانفي، يتفهّمون اتخاذ بعض التيارات السياسية اليسارية والقومية والإسلامية لساحات الجامعات متنفّسا للتعبير السياسي ويغضّون الطرف أحيانا عن تجاوزات غير مقبولة لأنّ مهمّتهم الجامعيّة تقتضي منهم ترشيد النضال الطلابي ومرافقة تلك الطاقات الهائلة التي تنطوي عليها النّخب الطلاّبية.
لقد كانت ساحات المؤسسات الجامعيّة الكبرى ببلادنا مشاتل لتخريج الخطباء الذين نرى اليوم عددًا منهم في الأحزاب السياسية الناشئة بعد الثورة ونرى عددًا آخر من الاتجاهات جميعا يساهمون في المشهد الإعلامي والسياسي ويشرفون على بعض هياكل الدولة فيمدّونها بالخبرة السياسية اللاّزمة لتسيير دواليبها، ونرى فريقا ثالثا في المجلس التأسيسي بأغلبيّته ومعارضته. وهذا شرف للجامعة يعتزّ به الجامعيّون بمختلف أجيالهم.

فقد كانت آليّات المرافقة والمساندة والتوجيه والترشيد بواسطة الحوار والإقناع أساس التعامل بين النّخبة الجامعيّة أساتذة وطلبة. وساهمت هذه الآليّات في أغلب الأحيان في رسم قواعد للتعايش داخل الحرم الجامعي. وهي قواعد مثلت حصيلة الأزمات التي عاشتها الجامعة التونسية منذ أواخر الستينات إلى اليوم. وأوّلها التوازن بين الحق في الاحتجاج بالأشكال القانونية المتاحة وبين الحقّ في الدراسة لمن يرفض الإضراب أو الاعتصام أو غيرهما من أشكال الاحتجاج وثانيها التخلّي عن العنف بين الفرقاء السياسيين والنقابيين والتمسّك بأصول العمل والحوار السياسيين بعيدا عن الثّلب والتّجريح والتّهجّم على الأشخاص. فالطالب المناضل نقابيا وسياسيا يحتاج إلى أخلاقيات للنضال احتراما للفضاء الجامعي، أوّلا وقبل كلّ شيء، وإبراز الطابع النوعي لتحرّكاته باعتباره من النخبة.
أما القاعدة الثالثة فهي الامتناع عن المرض الطّفولي للعمل النقابي الذي ظهر في بداية النضال النّقابي في جميع بلدان العالم وهو تهشيم ممتلكات المؤسّسة وتجهيزاتها.

وتشهد التجربة أنّه لم يكن من المتيسّر دائما الالتزام بهذا الخطّ الأحمر أو ذاك. لأنّ مرتادي الجامعة الذين يشكّلون المجموعات النقابية والسياسية متعدّدة مشاربهم ويختلفون في تكوينهم الفكري ولا يمتلكون دائما الحسّ النقابي السليم والوعي السياسي الكافي والأسس النظرية المناسبة. فقد عرفت الجامعة أجيالا مختلفة وتيارات متعدّدة تنبت أحيانا كالفطر وتنقسم داخلها إلى مجموعات بطريقة سرطانية تتحمّل الجامعة في نهاية المطاف انعكاساتها.
ولكن ّالناظر ولو بسرعة ودون إلمام مدقّق بالتيارات السياسية منذ سبعينات القرن الماضي، دون أن يكون بالضرورة من المؤرّخين أو المعايشين لهذه التيارات، يلاحظ بيسر أنّنا نشهد، منذ أربعين عاما، في كلّ عقد تقريبا، ظهور مجموعات متطرّفة ،من اليمين واليسار على حدّ السّواء، تحمل أفكارا جديدة غريبة وتتبنّى سلوكات في التعبير عن آرائها لا تخلو من حدّة وعنف. وفي كلّ مرّة نكتشف بعض الحقائق المرّة التي أصبحت بمثابة المبادئ في فهم ما يعتمل في الجامعة من تيارات.
فإذا وجدت شقّا متطرّفا فاسأل عمّن يقف وراءه خارج الحرم الجامعي. وإذا سألت وجدت أجندا غير جامعيّة لمواجهة النظام القائم يتّخذ أصحابها ساحة الجامعة ملجأ بسبب انسداد آفاق العمل السياسي في الفضاء العمومي أو لعجز جذريّ عن العمل الشعبيّ أو لاكتساح الفضاء الجامعي بعد اكتساح مواقع أخرى في المجتمع. فرهان بعض المجموعات السياسية على الجامعة هو رهان لفرض إرادتها وتصوّراتها على مؤسسة تضمّ شبانا يحملون طاقة هائلة على الفعل ويتميّزون بقدرة أكبر على التأثّر بحكم المرحلة النفسية والفكرية التي يعيشونها. هذا إذا لم نلق بالاً لمناورات النّظام السّياسي والأمني القائم واندساس عناصر منه داخل المجموعات المغلقة.

ولا أريد في هذا السياق التذكير بالصّدامات العنيفة بين مجموعات طلاّبية وطلبة الحزب الحاكم بعهديه ولا بتعطيل الدروس لفترات طويلة ولا بإلغاء بعض دورات الامتحان ولا بالمعارك الدامية بين الطلبة أنفسهم ولا بالتدخّل العنيف لقوى الأمن ولا باحتجاز بعض العمداء والمديرين ولا بالاعتداء على أساتذة ولا باستعمال الهياكل النقابيّة والمصلّيات في المؤسسات الجامعية لأغراض حزبيّة وسياسية ولا بالاعتصامات ولا بمن ذهب ضحيّة العنف البوليسيّ والعنف بين الطلبة المنتمين لتيارات سياسية مختلفة ولا بمن حرموا من الدراسة بالتجنيد أو الطرد أو السّجن ولا بمن قتلوا ولا بمن دمّروا مستقبلهم العلمي والاجتماعي جرّاء أفكار لا أظنّهم مازالوا يؤمنون بها اليوم.
إنّ التّداخل البغيض بين السّياسة والعمل النّقابيّ في الجامعة آلية جهنّمية تدمّر الأفراد وتقضي على أحلامهم وتعطّل المؤسسات الجامعيّة عن أداء مهامّها في التكوين والبحث وتوفير النخب اللاّزمة للبلاد. ولكنّها في الحالات جميعا، وهذا هو الدرس المهمّ، ليس فيها نفع لا قليل ولا كثير، للأحزاب والمجموعات السياسية التي تقف وراءها. فمنطق العمل السّياسي بما فيه من شهوة إلى السلطة وقدرة على الفعل الاجتماعي والسّياسي يرتبط بالفضاء العامّ وبالمجتمع السّياسيّ والمدنيّ وليس بمؤسّسة إنتاج المعرفة وتداولها وتجديدها. فلا نعرف في التّاريخ حزبا وصل إلى السّلطة عن طريق الضّغط السّياسي من خلال ذراعه الطلاّبيّة أو عن طريق الهيمنة على الجامعة أساتذة وطلبة. فَلْتَكُفَّ المجموعات السّياسية عن السّذاجة في فهم السّياسة ولِتُغَيِّرْ ما بنفسها بدل التشبّث بأضغاث الأحلام.

إنّ هشاشة الجامعة، باعتبارها مفتوحة للجميع دون استثناء في المبدإ، طبقيا أو جنسيا أو سياسيا أو نقابيّا، هو، وياللمفارقة، مصدر قوّتها. فهي مؤسسات تخدم المجتمع كلّه، بما في ذلك، الأحزاب من خلال مدّها بالنّخب الفكريّة والعلميّة والتقنيّة.
ومن وجوه القوّة في الجامعة، ويحسبها البعض ضعفا، أنّها تقبل جميع الإيديولوجيات والأفكار والآراء والمذاهب والمعتقدات والتّصوّرات، بما في ذلك الغريبة والشاذّة، ولكنّها تلتزم بمواصفات في تناولها تناولا تحدّده المراسم العلميّة التي اتّفقت عليها المجموعة العلميّة الدوليّة وتضبطه التقاليد الجامعيّة.
وكلّ من يطمع في فرض تصوّراته على العلم الحديث فاشل ولا جدال، فشلَ الستالينيّة في فرض تصوّرات للعلم وصفت بالماركسية أو فشل بعض الفرق الدينيّة الإسلاميّة ماضيا وحاضرا في فرض رؤيتها للتاريخ أو للنّصوص الدينيّة وحتى لبعض المسائل التي حسمها العلم الحديث.
فإلى أين نريد أن نذهب بجامعتنا في سياقنا السّياسي الجديد ؟
إنّ الجامعة في لفظها ومعناها رابط يجمع ولا يفرّق وهي في لفظها الأعجميّ تتّصل بالمفاهيم والقيم والمناهج الكونية والكلّية لذلك فما نطالب به الجامعيّين قبل السّياسيّين وطلبتنا بمختلف نزعاتهم ومشاربهم قبل قياداتهم السّياسيّة هو التمسّك بالميثاق الضّمنيّ الذي تقوم عليه الجامعة مهما كانت الظروف والقوى المتدخّلة الآن وهنا.
فرهانات الجامعة ليست سياسية حزبيّة ولكنّها ذات طابع كونيّ في سوق للتعليم العالي مفتوحة وأمام تطوّر سريع مذهل للمعرفة.
وليعلم أهل السياسة عندنا أنّ كلّ تدخّل في الشّأن الجامعي بالتحرّكات الاحتجاجية المختلفة إنّما هو تقليص من قدرة مؤسّساتنا على مواكبة المستجدّات اليومية. فتأخّرنا الحاصل عن قطار المعرفة الحديثة كبير ولم يعد لنا الوقت لمزيد إضاعة الجهود في حلّ مشاكل لا يد للجامعيين طلبة وأساتذة فيها.

لقد تفهّمنا في الجامعة ظروف الاستبداد التي حرمت الجميع من حقوقهم وتمكّنّا من أن نحافظ في الحرم الجامعي على هامش للحرّية والاستقلاليّة النسبيّة رغم كلّ الضغوطات. لذلك وجد طلبتنا فيه ملجأ حين صودر الفضاء العام.ولكننا بعد الثورة لا نجد من المقبول ولا من المعقول أن تكون جامعتنا، جامعة الجميع، ميدانا لمعركة مهما كانت مفرداتها بين الفرقاء السياسيين والإيديولوجيين. إنّها تتّسع للجميع ولكن بشروطها لا بشروط هذا الطرف السياسي أو ذاك التوجّه الإيديولوجيّ وشروط الجامعة بسيطة هيّنة: الحرّيات الأكاديميّة والتقاليد الجامعيّة.
غير أنّنا لا نريد العودة إلى منطق التّصحّر الفكري والفقر السّياسيّ ومنع العمل النّقابي والجمعياتي والمدني بالجامعة على ما شهدنا في العقود السّابقة. لذلك نحن ندعو طلبتنا إلى أن يكونوا ضميرنا الحيّ باستنباط وسائل للنضال والاحتجاج السلميّ دفاعا عن حقوقهم وتحسينا لوضعيتهم ومعالجة مشاكلهم المادية والبيداغوجية وما أكثرها!، والتعبير عن مواقفهم وآرائهم الفكرية والإيديولوجية والسياسيّة في الفضاء الجامعي. لهم أن يتنظّموا نقابيا كما يشاؤون وأمامهم فرص عديدة لبعث جمعيات ونوادٍ فاعلة ناجعة يخدمون بها مجتمعهم وجامعتهم ويطوّرون فيها حسّهم المدنيّ.
كيف يمكن أن يدافع طلبتنا عن حقوقهم دون إيقاف للدّرس وتعطيل للمؤسسة ؟ هذا هو السؤال.
كيف يمكن أن ينتظم طلبتنا سياسيّا وأن يمارسوا ما هم به مقتنعون إيديولوجيا دون أن تصبح الجامعة رهينة لهذا الفريق السياسي أو لذاك التيار الإيديولوجي؟ هذا هو السّؤال.
والإجابة عنه، لا تكون في تقديرنا، إلاّ بعقد جامعيّ تلتزم به الأطراف الجامعيّة والسّياسية. ولكنّه عقد لا يحتاج إلى أن يكون مكتوبا لأنّه الأصل في الجامعة وتستمدّه من التقاليد. فلا ننسى أننا أخذنا مفهوم الجامعة من الغرب ولسنا في حاجة إلى إعادة ابتكار العجلة كما يقول الفرنجة ولا نريد لبعضنا قليل الرّأي فكريّا ،ضيّق الأفق سياسيّا أن يفعل ما فعله الرجل الذي أراد أن يغيظ امرأته فخصى نفسه على ما روى نيلينو لطلبة الجامعة المصريّة.