mercredi 22 juillet 2015

معشوق النساء...الراوية التي رفعت الإمارات عنها الحظر


غونتر أورت
 ترجمة: يوسف حجازي، قنطرة 2015 ar.qantara.de
الأديب التونسي شكري المبخوت يقدم بروايته "الطلياني" عملا يكشف آليات مرحلة بن علي وتعسفاتها، ونال مستحقا الجائزة العالمية للرواية العربية "جائزة البوكر" لعام 2015. المترجم الألماني غونتر أورت قرأ الرواية باللغة العربية ويشبّه أسلوبها العربي، في استعراضه التالي للرواية لموقع قنطرة، بـ "نبيذ معتّق ثمين لا نجده اليوم سوى عند قلة من الكتّاب".
مَنْحُ جائزة البوكر العربيَّة لسنة 2015 للأديب التونسي شكري المبخوت غير المعروف من قبل فاجأ حتى ممولي الجائزة الخليجيين، فكتابه كان محظورًا في الإمارات العربيَّة المتحدة إلى حينه، ولكن ولتجنب أيِّ حرجٍ إضافيٍ تمَّ رفعُ الحظر بسرعةٍ عن الكتاب بعد نيله الجائزة. بيد أنَّ جاذبيَّة ما هو ممنوع زادت فضول التعرُّف على ما كاد يكون محجوبًا عند جزءٍ من القراء العرب.
وأول ما نتعلمه من هذا الكتاب أنَّ الرجال الوسيمين في تونس يُسمَّون بالطليان. وعليه نجد عبد الناصر محور رواية "الطلياني" الذي تتودد له النساء باستمرار، يظهر بشكلٍ لافتٍ في أولى صفحات الرواية أثناء دفن والده أمام موكب المشيِّعيِن، ويضرب بغضبٍ جنونيٍ الإمام الذي يصلي للتو على والده ضربًا مبرحًا. هذا التصرف الأرعن الذي قام به عبد الناصر المُعلِن إلحاده ظل في البدايةِ أمرًا مخجلاً وغير مفهومٍ لجميع الحاضرين.
البحث عن السلام الشخصيّ
نتعرف على الشخصيَّة الرئيسة بعد ذلك بصفتها شخصًا يساريًا حالمًا متطرفًا وناشطًا سابقًا يتصالح تدريجيًا وبمرور السنين مع الأوضاع القائمة في تونس، ولكنه يبحث عبثًا عن سلامه الشخصي.
تتمحور الرواية من الناحية التاريخيَّة على مرحلة حكم الحبيب بورقيبة مؤسس الجمهوريَّة التونسيَّة (وحاكمها حتى 1987) وصولاً إلى سنة 1990 وترسيخ رئاسة زين العابدين بن علي الذي كان قد انقلب على بورقيبة. ولكن شكري المبخوت يصف هذه الفترة الزمنيَّة بتفصيل ودقّة يسهِّلان إلى حدٍّ بعيدٍ فهم النقاشات والنزاعات في بلدِ انطلاق الثورات العربيَّة سنة 2011، بحيث تدفع القارئ إلى استشعار قدوم الثورة. 
العيش في دولة زين العابدين بن علي البوليسيَّة: يقدم شكري المبخوت للتونسيين خدمةً جليلةً عبر استعراضه آليات مرحلةِ بن علي، بينما يضع بين أيدي القرَّاء روايةً مفهومة عالميًا تتحرك بين توثيق دولةٍ أمنيَّةٍ والسقطات العاطفيَّة الخاصة بـ "ناصر" بطل الرواية.
لا يضير المبخوت عدم انصياعه لإغراء الكتابة عن الفترة اللاحقة وعن طرد بن علي بعد هبَّة الشعب التونسي، إذ لا بد من انتظار بضعة أعوام بعد، حتى تأتي الرواية العربيَّة المثلى التي سوف تروي أحداث سنة 2011 ، حيث أنَّ التحولات في البلدان العربيَّة لم تنتهِ بعد، كما لم تصِل تونس إلى برِّ الأمان بالرغم من بعض الإنجازات الديمقراطيَّة.
إلا أنَّ شكري المبخوت يقدم للتونسيين خدمةً جليلةً عبر استعراضه آليات مرحلةِ بن علي، بينما يضع بين أيدي القرَّاء روايةً مفهومة عالميًا تتحرك بين توثيق دولةٍ أمنيَّةٍ والسقطات العاطفيَّة الخاصة بناصر بطل الرواية. وهي رواية عصريَّة بامتياز، ورواية عربيَّة غير نمطيَّة، والجدير هنا بالذِّكر أنَّ جلَّ الروايات العربيَّة غير نمطيَّة، لكننا لا نكاد نجدُ في الغرب من يلاحظ ذلك.
لغويًا تشبه نبيذًا معتقًا غالي الثمن
يقوم الكتاب على سرد أجواء الحكاية وتطور الشخصيَّة الرئيسة، وأيضًا على تكلـُّف وصف الراوي ودقته المفرطة أحيانًا بحيث لا يوفر جهداً في التفاصيل والمجازات والتناص في جمله الانسيابيَّة الطويلة والمنظّمة بإحكامٍ على الدوام.  لغته العربيَّة تشبه نبيذًا معتقًا ثمينًا لا نجده اليوم سوى عند قلةٍ من الكتَّاب، وبالرغم من ذلك لم يخفِ الكاتب النكهة المغاربيَّة، حيث استخدم كلماتٍ وعباراتٍ متأصلةٍ في شمال إفريقيا.
يصبح عبد الناصر أحد قيادات الحركة الطلابيَّة اليساريَّة المتطرفة في الجامعة، ويستشرف وقوع مواجهاتٍ مع قوى الإسلام السياسي المتنامية ومع أجهزة الدولة على حدٍّ سواء، لذا يبقى دوره الاجتماعي هامشيًا. لكن في الحركة السياسيَّة تكمن حركة العالَم، وإلى هذا العالَم تدخُل زينة طالبة الفلسفة القادمة من الأرياف، وتغدو من منظـِّري الحركة، فيُعجب عبد ناصر بجمالها الأمازيغي وأطروحاتها التجريديَّة والمنطقيَّة والمُحكَمة في الوقت نفسه. نقاشاتٌ في نظريات بيير بورديو في علم الاجتماع تدور بين الطلبة مثلها مثل النقاشات بخصوص الموقف من ماو أو لينين بوصفها شخصياتٍ تسترشد بها الثورة العالميَّة أو تفضي بها إلى طريق التيه.
النقاشُ بين عبد ناصر وزينة حول ما إذا كانت علاقتهما علاقة حب يحتل جزءًا كبيرًا من الرواية، حيث لدى زينة تحفظات، فهي مثقلةٌ بعد تعرُّضها لاغتصابٍ همجيٍ، تتهم والدها وأخاها باقترافه. لكن لكي تستطيع التدريس في الجامعة بعد التخرج يتحتم عليهما أن يتزوجا، فيعقدا قرانًا مدنيًا. وكما يمكن التوقّعُ، يزداد اغتراب بعضهما عن بعض باضطراد، ولكن بشكلٍ مؤلمٍ وبطيء.
تآخٍ مع أهون الشرور
يصبح عبد ناصر صحافيًا في إحدى الصحف الحكوميَّة، ولا يستطيع أن يبقى فيها مستقلًّا، إذ تدفعه الرقابة نحو اتخاذ مواقف ملتويةٍ مهينةٍ. بيد أنَّ التهديد الإسلاموي المتنامي دفع بمثقفين كثرٍ نحو التآخي مع النظام وجعله يظهر بصفته أهون الشرَّين. وحتى زينة المتطرِّفة سابقًا تمسي من المعجبين بـ "المنقذ" زين العابدين بن علي.
ثورة منطلقة من فوهة البندقية: في الحركات الراديكالية تكون الحركة هي كل العالم، وإلى هذا العالَم تدخُل زينة طالبة الفلسفة القادمة من الأرياف، وتغدو من منظـِّري الحركة، فيُعجب عبد ناصر بجمالها الأمازيغي وأطروحاتها التجريديَّة والمنطقيَّة والمُحكَمة في الوقت ذاته.
وأثناء استعداد زينة لامتحانات القبول، يتقرب عبد ناصر من ابنة عمها نجلاء، فينشأ عن ذلك ثاني قصة حب كبيرة في الرواية، وكذلك أطول وأجرأ مشاهد حب في الأدب العربي الحديث وأكثرها شاعريَّة في آن. فعليًا تنشأ علاقة شائكة ثلاثيَّة الأطراف، لن يُكتب لها بدورها سوى الفشل.
وبينما تتغيَّر الأجواء في تونس، حيث تزداد سطوة المجرمين ويستقطب الإسلامويون بالمساجد المتزايدة باطراد أعدادًا متزايدة من الناس، تعلم زينة أنها لم تنجح في الامتحان. ولا تتمكن من إقناع إدارة الجامعة بأنَّ فشلها لا يعود سوى إلى رفضها الانصياع لرغبات الأستاذ الجامعي الجنسيَّة، فكان هذا الإذلال الماحق العامل الحاسم بالنسبة لها لكي تدير ظهرها لتونس، فتتوجه إلى باريس حيث ينتظرها عشيقٌ طاعنٌ في السن، يحبها بتفانٍ، لكنها تضطر لأجله أنْ تتخلى عن حلمها الكبير بالعمل الأكاديمي. كما يتحطم في الوقت نفسه حلم عبد ناصر الأخير بالحب الناجح.
بعد فشل العلاقة البديلة مع نجلاء يختلُّ سلوك ناصر أكثر فأكثر. فريسته الأخيرة طالبة شابة يحاول ربطها به من خلال وعودٍ بالنجاح المهني. إلا أن غزوته الغراميَّة تصاب بفشلٍ ذريعٍ، عندما يستيقن مشهدًا من طفولته يُفسِّر للقارئ أيضًا مشهد المقبرة الذي ورد في مطلع الرواية.
تفشل الشخصيات الرئيسة في هذه الرواية بسبب استحالة الحب، وبسبب الظروف السياسيَّة والاجتماعيَّة. وقد قدَّم شكري المبخوت من خلال رواية "الطلياني" عملًا فاز بجدارة بالجائزة الكبرى لهذا العام.



شكري المبخوت: "الطلياني"، رواية عربية صدرت في القاهرة سنة 2015، 344 صفحة.

samedi 18 juillet 2015

«الطلياني» للتونسي شكري المبخوت…تذبذب مفهوم الرواية!


مبروكة علي
 القدس العربي، يوليو 10, 2015

بعيداً عن جائزة البوكر قريباً من حاجتي للقراءة، قرأت رواية «الطلياني» لشكري المبخوت مع أنني لا أنكر أن مثل هذه الجوائز تمارس تحريضاً ما عليّ بوصفي قارئة، لأبحث مبهورة بسطوتها عن سؤالي المعتاد عن هذه الرواية أو تلك التي فازت.
«الطلياني» عنوان الرواية نسبة لبطله (عبد الناصر) الشاب اليساري الذي أفرد له المبخوت جملة من الصفات الخالية من أي تشويه يذكر وأنكرَ عليه أي إحساس بالنجاح أو الاستقرار، أمّا أحداث الرواية فتدور فترة الثمانينيات أو أواخرها، تحديداً فترة إنهاء حكم بورقيبة وانقلاب بن علي، أو ما يُعرف تونسياً (تحول السابع من نوفمبر/تشرين الثاني) حيث الصراعات السياسية على أشدها والقبضة الأمنية محكمة. يدخل بك المبخوت عالم السياسة عبر أحداث كثيرة وسرد أكثر من الأكثر، إضافة لعوالم أخرى كالصحافة أنىَّ انتقل ببطله (عبد الناصر)، يشتغل ضمنها ويكتب مقالات تبارك انقلاب بن علي وعالم الثقافة أو لنقل عالم اللاثقافة لوشئتَ أيها القارئ.
الشخصيات متعددة، لبعضها حضوره الواضح والبعض الآخر بدا كالشبح… البطل (عبد الناصر) الشاب اليساري جميل الصفات، إضافة إلى مجموعة الشخوص المحيطة، كالأم المرأة المتسلطة والأب المتفاهم والأخ الأكبر الخبير الاقتصادي، وزينة الشابة اليسارية المتمردة، الخارجة عن أي ضابط واللاجنينة أولى تجارب عبدالناصر الجنسية، وصولا إلى نجلاء، الشخصيات كثر، تحضر بأدوارها المختلفة، الضرورية أحيانا والمسقطة أحيانا أخرى. الكاتب أيضا كان له حضوره حين نصبَّ ذاته راوياً عليماً بالأحداث، في حين أننا على امتداد ثلاثمئة وخمسين صفحة لم نره إلاَّ في مشهد واحد يتيم.
القارئ لرواية «الطلياني» خصوصا القارئ التونسي، سيشعر بأن الأحداث في بعضها تهمه، أقصد الصراع السياسي والحركة الطلابية تحديداً، ما دون ذلك تذهب الرواية في السرد الكثيف لا المكثف باللغة، حدَّ الشعور بأنك تركض خلف الكاتب، تركض حدَّ اللهاث فقط كي لا يفوتك شيء من تلك الأحداث الكثيرة التي شاء لها أن تكون، ولا بد من الإشارة هنا إلى أن المبخوت أدمج العامية التونسية ضمن النسق السردي، وأظنه نجح في ذلك.
السرد تتخلله الكثير من الحوارات، غير أنّها بانت خالية من أي حياة تذكر، باهتة، كأنَّ الشخوص تتحدث لبعضها بعضا وكل منها (عاطي بظهره للآخر) عكس ما يفترض للحوار أن يكون عليه ضمن النسق السردي من بث للحياة في أرواح الشخوص وإعطاء مصداقية أكثر للأحداث.
المبخوت ولإحياء شخوصه جعل لها حياة جنسية، ولأكن صادقة، أفرد لها مساحات شاسعة عبر وصف أولى تجارب «الطلياني» مع اللاجنينة زوجة علالة، وهو مايزال مراهقا وهي المرأة كاملة الأنوثة التي تكبره بمراحل عمرية وحياتية، إضافة إلى تجارب البطل مع زينة ونجلاء في ما بعد.
الجسد له بعدٌ ثابت ضمن التركيبة البشرية، ولعلي لا أبالغ إذا ما قلت: إن حياة البشر دونه أمر يستحيل وهذا لا علاقة له بالأخلاق ولا الفضيلة ولا غيرها بقدر ما هو إقرار بكافة أبعاد هذا الكائن الذي يسمى إنسانا، توظيف هكذا مفهوم يحتاج قدرة على الغوص فيه والأخذ به ضمن تفاصيل الحسية والروحية، وإلى غير ذلك مع المحافظة على قداسة غموضه الشهية.
«الطلياني» في جانب منها كانت عبارة عن سرد لمجموعة من المشاهد الحميمية فبانت كأنها (إباحية)، خلت من تلك الروح المفترض توفرها للجسد كعنصر ثابت في التكوين البشري، وهو ربما جعل الرواية تتجه إلى الملل والعسر في القراءة، إلى الدرجة التي يشعر فيها القارئ بعدم الرغبة في مواصلة فعل القراءة.
ما يعابُ على «الطلياني» أنَّ أسلوب السرد التقريريّ الذي فصل بين زمن الكتابة وزمن القصّة فصلا واعيا وكليا، يتبينه القارئ في كل لحظة من الرواية، ويجعله لا يعيشها كما ينبغي للرواية أن تُعاش، وإنما يعيشها كما يعيش الأحداث التاريخية التي قد قرأها في كتب ابن خَلدون والطبريّ مثلا . لا يصوّر شكري المبخوت المحادثات وإنما يقدّم تقريره عنها. لا يصف حالة الشخصيات في أقسى لحظات انفعالاتهم، رغم إطنابه في الوصف والتشبيه وبديع القول، وإنما يلخّص ذلك أو يجعلك تشعر بذلك. بدت القصة أشبه بمجموعة ملخصات طويلة لا تسمح للقارئ بأن يعيش القصة كما ينبغي، وإن سمحت له باكتساب صورة دقيقة عنها.
هذا الأمر انعكس على الخاتمة التي جاءت على الرغم من فجاعتها وتوقعها رتيبةً ومملةَ وغيرَ قادرة على غفران كل تلك الترهات من السرد غير المبرر والتصوير الباهت للشخوص والأحداث، حيث بالغ المبخوت في الاحتفاء بها، وأظن السبب في هذه الخاتمة المتوقعة المعتلة هو أسلوب السرد نفسه الذي اتخذه الكاتب، حيث باعد بين الرواية والقارئ.
رغم اتساع الفكرة الأساسية للرواية ـ الحركات الطلابية والصراع السياسي زمن القبضة الأمنية وقبل ما عرفته الدول في الربيع العربي ـ وجماليتها وغموضها وما تثيره من الافتراضات التحليلية والسياسية وغيرها فإنها أفلتت من يد الكاتب ليشغلَ السرد لمجرد السرد، فجاءت الرواية مخيبة للآمال، خصوصاً من كان يتوقع منها ملامسة تلك الجوانب الخفية، التي تبدو غامضة بالنسبة لعامة الناس.
في ختام قراءتي أخرج بالكثير من الأسئلة التي قد تبدو بعيدة عن الرواية ولكنها تتقاطع معها ..هل يدرك المثقفون اليوم حقا هذه التحولات التي طرأت في مجتمعاتهم؟ هل يفهمون حاجة مجتمعاتهم لفهم تلك الجوانب المخفية ضمن الحياةالعامة؟ هل هم قادرون على ملامسة واقعهم وإعادة خلقه من جديد، أذكر مرة دخلتُ في نقاش مع شاعر سوري، يكتبُ النقد أيضاً فقال: «الكاتب الحقيقي راوياً وشاعراً هو الذي يأخذ واقعه معه، يرتفع به ويهبط به، ويفعل بالقارئ ذلك، يجره إلى مرتبة الخيال، ليعيد بالخيال نفسه إنتاج واقع محايث وآخر حقيقي».
كم نحن بحاجة إلى هؤلاء الكتّاب الذينَ يعيدون إنتاج ذاتنا من خلال الواقع والخيال معاً.



قراءة في طلياني شكري المبخوت: رحلة لولبيّة في أجواء إيروسياسيّة


الحبيب بيدة
 المغرب، الخميس 09 جويلية 2015
عندما تشتدّ بك الرغبة لتصوير ما تصوّرته من خلال نوافذ كلمات تهادت فكوّنت جملا وفقرات ونصوصا، حملت صورا تعانقت فيها الأزمنة بالأمكنة، لا تملك إلّا أن تلبّي نداء الفضاء الرحب وتكتب أنت أيضا بنفس الوسائل
الحروف والكلمات والجمل والفقرات والنصوص التي تحاور الصور المبثوثة في المعاني لتفهم مقاصدها وتولّد من هذه المقاصد ما خفي عند التصوّر، وتتبّع مسار الصور. وتتّبع مسار الصور عند إنشائها لا يستطيع إليها سبيلا إلّا مصوّرها. لقد اشتدّت بي الرغبة في الكتابة عن «طلياني المبخوت» والكتابة على كتابته صعبة إذ لا ندري هل نكتب فوقها أم تحتها أم معها، ومن أين نبدأ الحديث -
والحديث من الحداثة- عن مساره اللولبي، الذي سار فيه الخطّ مستقيما حينا وملتويا حينا آخر ومنكسرا في أغلب الأحيان. وتحت هذه الإستقامة وهذا الالتواء وهذا الانكسار شبكة توقعنا بين ثناياها شوقا وعشقا، حتّى نخال أنفسنا قد وقعنا في شراكها وأصبحنا نصارع، صراعا جميلا، خيالا ووهما واقعيين، خيال الكاتب ووهمنا في واقع رواه لنا الصديق شكري وذكّرنا بتفاصيله بل بتفاصيل تفاصيله في زمن خلنا أنّنا نسيناه.
يذكّرنا الراوي كما يذكّر أفلاطون النفس التي سقطت من عليائها والتي وقعت في واقع الوهم وحملت أمانه الحياة والشعور بهذه الحياة التي لا تختلف في الشعور بها عن الجنّة التي أوقعنا منها الشيطان ساكنها مع الملائكة. فكان الإنسان الذي نسي ويبحث عن تذكّر هذا العالم الجنّي الذي يبدو الجنون فيه خلاصا. وجد في شعور «الطلياني» ومسالكه وجودا جديدا، وجود ملهم في سبيل اللقاء من جديد بهذا العالم الجنوني. إذ ونحن نقرأ ونجمع شتات أفكارنا وآليّات إدراكنا لفضاءات «الطلياني» ندرك أنّنا قد صعدنا بذاكرتنا في أجواء ماض منفلت دائما إلى مستقبله، وهو يسير في مسار لوالبيّ وإهليلجيّ فلا يستقرّ في مقام، إذ طغت أحواله على مقاماته.
الراوي والتموقع في الفضاء والمكان
وأوّل ما يطالعنا به الراوي ويجعله محلّ تساؤل عجيب وغريب هو مكانه، أين يوجد هذا الراوي هل هو وراء ستار أم هو وراء ثقب باب أم هو موجود في كلّ مكان وفي كلّ فضاء يتحرّك فيه «الطلياني»، بل يمكن أن نتخيّل من خلال الأحداث التي يرويها أنّه جنّيّ مجنون يسكن في كلّ خلايا الشخصيّة المركزيّة : شخصيّة عبد الناصر، بل ربّما ينتقل بين كلّ الشخصيّات ويسكن في كلّ
أنحاء أمكنة تحرّكها المادّي والروحي والنفسي والذاكراتي وبذلك استطاع أن يسكننا في كلّ هذه الفضاءات وجعلنا نتحرّك معه في كلّ مفردة من مفرداتها متعالقة في شبكاتها. حيث يجعلنا لا ننتبه فقط إلى دقائق هذه المفردات بل إلى تحرّك هذه الدقائق وتحريكنا لها وفق رغبتنا في التموقع بين خيوطها الرفيعة. ونشعر مع الراوي برغبة التموقع والتموضع في أمكنته لنشاهد من الثقب تارة
ونودّ اختراقه تارة أخرى، كما المارد الذي لا يريد الإنحباس في الطوطم ونودّ التحليق معه في أرجاء الفضاء المفتوح ملامسين وحاسّين ومدركين لكلّ لحظة خيال مجنّحين مع «الطلياني» ومع أفراد عائلته وجيرانه الأحبّاء والأشقياء متعاطفين حتّى مع الشيخ علالة «الكلب» الذي أدماه وهو يضع أباه محمود في القبر.
لن نعيد الحكاية المرويّة بخيال وواقع شكري المبخوت إذ نحن عاجزون عن إعادة روايتها. لكن ما نحاول الكتابة عنه هو هذه الملكة الفائقة القدرة على الحكي والمحاكاة. إذ جعلنا شكري الراوي نتماهى مع شخصيّاته ونحاول أن نتموقع في أجسادها وأرواحها وأنفسها لنشعر بلذّة حيواتها في جمالها وكمالها وجلالها، إذ لا وجود في هذه الحيوات للقبح كما لا يوجد هذا اللفظ في قواميس الفلاسفة المتصوّفين. فهي حيوات يبلغ بها الراوي درجات في السموّ الحكائي والحكوي، يجعلنا نصعد معها في ملكوت الحياة الأخرى، التي تنبع من تراجيديّتها وكوميديّتها، في هذا الزمن الذي
أصبح فيه كلّ شيء مسطّحا. ليس في رواية «الطلياني»، حسب رأينا، شخصيّة سلبيّة إذ هي شخصيّات ترقص وتتراقص على نخب حيوات وكأنّها حيّات تسعى في فضاءات مسرحيّة مسرّحة من عقالها، موهمة بحقيقتها أو هي محقّقة في وهمها، وذلك رغم اختيار المؤلّف لفضاءات مجتمعيّة وسياسيّة حاول أن يكون وفيّا لأمكنتها وأزمنتها ليظهر تجاذباتها وأزماتها وتحوّلاتها وتغيّراتها حتّى
لنكاد نجد أنفسنا في هذه الأزمنة وهذه الأمكنة التي سمّاها بأسمائها، مقاهي وأنهج وكلّيّات ومراكز عمرانيّة وغيرها. ونعتقد أنّ الذي بلغ منّا الستّين من العمر والذي عاش في العاصمة، طالبا أو موظّفا متتبّعا لأحداث سنوات السبعين والثمانين والتسعين من هذا القرن، يدرك بسهولة المتذكّر إذا لم تخنه هذه الملكة الجهنميّة كلّ تفاصيل هذه الأمكنة المرتبطة بزمنيّتها الدقيقة والتي تبدو في
أغلبها شاهدة على وفاء الراوي في ذكر الأحداث التي وقعت في شبكتها. ونعتقد أنّ المؤلّف بقدر ما كان يحاول أن يدلي برأيه وبقراءته لهذه الأحداث السياسيّة والمجتمعيّة وما حملته من أفكار متدافعة ومتجاذبة بين المعارضة اليساريّة والإسلاميّة والنظام الذي يمثّل الدولة بسلطاتها القمعيّة والبوليسيّة والدعائيّة ومنها السلطة الرابعة التي التبست بعبد الناصر وصديقه عبد الحميد الذي يمكن لكلّ قارئ للرواية معرفة شخصيّته الحقيقيّة انطلاقا من معرفته للوسط الإعلامي كما يمكن له أن يعرف بقيّة الشخصيّات التي كان من السهل كشفها.
ولا ندري من أين أتى المؤلّف بهذه التفاصيل حول تحرّكات «المناضلين السياسيين» السذّج منهم والرومنطيقيّين، مثل «الطلياني»، وتحرّكات الطلبة المشاغبين مثل زينة وكذلك محترفو السياسة من
الإنتهازيين مثل الصحبي القروي وكذلك أصحاب الكياسة من البراغماتيين والإداريين مثل عبد الحميد وسي عثمان إضافة إلى هوّاتها من الخبيثين والرديئين مثل صاحبة «منظّمة الأمّهات» منظّمة المواخير. فكلّها تفاصيل دقيقة لا يمكن أن نصل إلى إدراكها إلّا بعد بحث أكاديمي يعتمد على آليّات بحث سوسيولوجي واستطلاعي.
ولا نجد أنفسنا مهتمّين بهذه الأمور إذ ما أهمّنا هو هذه الملكة التي جعلت من ما قبل النصّ نصّا حاويا لحركة شخصيّات إيروسياسية أو جنسياسيّة وهذا بيت القصيد. إذ أراد المؤلّف أن يمتّع إحساساتنا وشعورنا الطبيعي والثقافي في نفس الآن وجعلنا نعشق السياسي إلى درجة أنّنا وقعنا في شرك تسييس العشق وتعشيق السياسي وجعلهما في تعالق متعوي. جعلنا نرغب في أن يعيش سياسيونا متعة الحبّ وأن يكون عشّاقنا من المناضلين الرومنطيقيّين وعشاق الحياة بكلّ ما تحتويه من جنون وبحث عن الانعتاق من سطحيّة اليومي وغباوته وسذاجته.
الشخوص بين الحركة واستنفار الحواس
تتحرّك شخوص الرواية، ومنها «الطلياني» وصديقه الراوي الذي يبقى شبحا «حقيقيّا» ينفذ إلى كلّ التفاصيل ويفصل ويصل للوصول إلى الأصل. يتحرّك هذا الشبح حركة أثيريّة نتحرّك معها ونعيش تجربة «الطلياني» مع نساءه التي تتميّز كلّها بأنوثة لا يمكن أن يتحرّر منها ومن إثارتها رجل لم تبق في نفسه وفي جسده سوى ذرّات تسعى إلى الحياة من جديد لتحبّ وتفرح وتحزن وتتألّم وتتمتّع وتلتذّ وترغب وتصرخ وتبكي وتبلغ شهوة عشق «هندي مستعدّ للموت عشقا».
ونتساءل، هل أنّ الشبح الذي سكن ملكات مخيّلة المؤلّف قد انبجس من أجساد وأنفس هؤلاء النسوة المتّقدات بنار الشهوة والرغبة، لتكوّن نصّ الحكاية التي يرويها بدقّة العاشق، أم أنّ الأحداث «السياسية» التي كانت فضاء لها هو هذا النصّ، أم أنّ هذا الفضاء قد أصبح هو الآخر حيّز عشق فامتزج بالرغبة واللذة معا وأمتعنا بجنونهنّ المسكون في أجسادهنّ، جنون للّا جنينة التي بدت لنا
تطلق العنان لمارد الرغبة في جسدها وجنون زينة الفيلسوفة الجميلة التي لم تشدّنا قصّة اغتصابها في طفولتها بقدر ما شدّنا إليها نباهتها الفكريّة ومشاغباتها السياسيّة إضافة إلى طرافة وعمق تعاملها الجنسياسي مع «الطلياني» الذي أحبّها لهذه الصفة فيها وهي الأنوثة الطبيعيّة الملتحمة بجنس بربري آت من جغرافيا ريفيّة، أو نجلاء هذه التي نحتها الشبح الراوي لتكون تمثال بجماليون والتي انتهت «شبه عاهرة» في ماخور محترفي السياسة ورغم ذلك فإنّها بقيت معشوقة لا لدى «الطلياني» فحسب بل لدى مدرك الرواية الذي يرى في تحرّرها اختيارا محترما بقطع النظر عن الاعتبارات المجتمعيّة. أمّا ريم هذه الفتاة التي أرادت أن تجرّب الحبّ مع بطل الرواية والتي لم يفصح المؤلّف عن امتدادها بفعل عجز «الطلياني» عن مواقعتها من دبر، للعقدة التي تحرّكت فيه وتذكّره لمحاولات اغتصابه من سي علالة.
كلّهن نساء اختار لهن المؤلّف الشبح القيرواني فضاء جغرافيّا ومجتمعيّا تونسيّا دون أن ينسى الحديث عن أنجليكا السويسريّة التي كان لها هي الأخرى حضور ولو كان باهتا لكنّه مثير للتساؤل أيضا حول ميولاتها تجاه الحبّ المناسباتي. ورغم أنّ الطلياني يمثّل الشخصيّة المركزيّة، مركز اللولب أو مقامه فإنّ الخطّ الملتوي الذي يدور حوله يحتوي هو الآخر مراكز متحوّلة تخلق هي الأخرى لوالب حولها تتفاعل وتتداخل لتكون شبكة رقشيّة غنائيّة تتموقع فيها تحوّلات وحركات إيروسياسيّة. حيث يمثّل الكلّ لوحة زخرفيّة تنبض بالحياة الوهم/واقعيّة وهذه لعمري القوى التعبيريّة التي
جعلتنا نحبّ وندرك جماليّا هذه اللوحة التي كان فيها المؤلّف مشكّلا بارعا ساهم إدراكه المرهف في رسم ونحت ونسج شخوصه لدرجة أنّنا لم نعد ننتبه أساسا للحكاية كحكي خطّي ذي مسار متواصل وممتدّ للأحداث بل ننتبه إلى مشاهد تبدو فيها كلّ الحواس الحسيّة مستنفرة، حواس البصر المفكّرة وحواس الشمّ المثارة وحواس اللمس الملتذّة وحواس اللسان المتذوّقة وحواس السمع المتّقدة، إضافة إلى حواس الحدس المخفيّة والتي تدير كلّ هذه الحواس مجتمعة.
وأخيرا وليس آخرا فقد جعلنا المؤلّف نأتلف مع كلّ حرف وكلّ كلمة وكلّ جملة قدّمها لنا مشحونة بمعاني العشق ونتمكّن منها وتتمكّن منّا، لنعيش في أجوائها التي صعدت بنا إلى ملكوت الواقع الذي رفض واقعه ليسمو من جديد، وليقول لنا إنّني لم أنس المعاني الكبرى للحياة التي اخترتها عندما رفضت الجنة ولكنّ الجنّة لا زالت في خيالي حاوية لملكات الجنّ الإله الإبيقوري ديونيسوس والجنّ الآخر الإله باشوس وهما يتلاعبان بعقول الملائكة آلهة الحبّ والجمال أفروديت وفينوس.
فالحياة تبقى حيّة تسعى ما دامت تعاش وتحمل كلّ المشاعر متقابلة ومتباينة ومتناقضة هذه المشاعر الجميلة رغم كلّ شيء.



تونس: بين التاجر الداهية والفلاح الثائر



العربي الجديد، 12 يوليو 2015

يعدّ الهادي التيمومي من أكثر المؤرّخين التّونسيّين غزارة في الإنتاج وتنوّعاً في تناول وجوه مختلفة من تاريخ تونس. وهذا وحده كاف للاهتمام بما كتبه حول تشكّل الهويّة التّونسيّة وصيرورتها. فكتابه " كيف صار التّونسيّون تونسيّين؟" يندرج ضمن مشروع بحثيّ بناه صاحبه في أناة. فقد كتب سنة 2010 عن سَنّ أوّل دستور في العالم الإسلاميّ بتونس ثمّ أردفه بدراسة عن فترة حكم بن عليّ سنة 2012. وكان قبل ذلك قد عنى بالتأريخ للفترة البورقيبيّة 2006 علاوة على أطروحته الأساسيّة في دكتوراه الدّولة حول تاريخ تونس الاجتماعيّ. هذا دون العودة إلى كتاباته المتنوّعة حول تاريخ تونس المعاصر سواء من جهة انتفاضات الفلاّحين 1994 أو نقابات الأعراف 1983 أو النّشاط الصّهيوني في تونس 1982.
انفجار الهوّيات
تميّز المشهد التونسيّ بعد 14 يناير/ كانون الثاني 2011 بهوس مرضيّ بالهويّة كان من مظاهره تمزّق التّونسيّين بين تصوّرات مختلفة لنسيجهم التاريخيّ والثقافيّ. إذ ركّزوا مرّة على البعد الإسلاميّ وثانية على البعد العربيّ وثالثة على "التّونسة" ورابعة على الأمازيغيّة. واشتدّ هذا الهوس مع صعود الإسلاميّين إلى دفّة الحكم.
وفي مواجهة مرض الهوّيّة هذا يعتقد التّيمومي أنّ الوعي التاريخيّ أشبه ما يكون بممارسة "العلاج النّفسي" الجماعيّ للتّخلّص من ثقل الماضي وبلورة الوعي بالذّات.
وفضلاً عن سياق ما بعد الثورة ناقش التيمومي، بحسّ المؤرّخ المحترف، مسألة الهوس بالهويّة في إطار أوسع هو ما شهده العالم منذ التّسعينيات من تحوّلات اقتصاديّة (العولمة) وتكنولوجيّة (الثّورة الرّقميّة) وإيديولوجيّة (صراع الحضارات وسقوط الأنظمة الشّيوعيّة وظهور ثقافات ممانعة للهيمنة الغربيّة).
والطّريف أنّ التيمومي لا يخفي توسّله بالنّظريّة الماركسيّة اللّينينيّة في كتابة التّاريخ. فهو الرّمز الأهمّ لهذه المدرسة في تونس ولكنّه ينكبّ على تحليل الخصوصيّة القوميّة الضيّقة للتّونسيّين بل يكتب في بعض المواضع تقريضاً يبلغ أحياناً مراتب عالية من الشّاعريّة. وليس خافياً على أحد أنّ اليسار التّونسيّ عبر تاريخه كان متعلّقاً بالبعد الأممي رافضاً للمفهوم القوميّ للأمّة التّونسيّة التي كانت من أعمدة الخطاب البورقيبيّ.
فهل كان التيمومي، وهو يتناول الهويّة التّونسيّة، معبّراً، بشكل ما، عن خوف اليساريّين والحداثيّين التّونسيّين عموماً من وجود نزعة أمميّة أخرى تقوم على الدّين ويمثّلها بالخصوص حزب حركة النهضة الإسلامي التوجه؟
أليس هذا ما جعله يدعو إلى "تنمية الهويّة التّونسيّة وتجديدها" في تفاعل مع القيم الحضاريّة من قبيل العلم والدّيمقراطيّة والحرّية والمساواة بين المرأة والرّجل وفصل الدّين عن الدّولة وإن كان، في ظاهر قول التيمومي، من باب "ترتيب البيت الدّاخلي التّونسيّ" الذي شاء التّاريخ أن تكون هويّة ساكنيه إسلاميّة بصفة رئيسيّة وعربيّة بصفة أساسيّة ووطنيّة تونسيّة بصفة حاسمة.

التاجر الداهية والفلاّح الثائر
صاغ التيمومي للإجابة عن سؤاله في عنوان الكتاب، فرضيّة قرأ بها تاريخ تونس مفادها: "التّاجر هو الصّانع الرّئيسي لتاريخ تونس منذ أدخل الفينيقيّون هذه البلاد في التّاريخ وبين هذا التّاجر والفلاّح تكامل تناحريّ".
فقد حضر التّاجر حضوراً طاغياً في أزهى فترتين تاريخيّتين بارزتين حضاريّاً ونقصد الفترة البونيقيّة والفترة الإسلاميّة إلى حدود الاستعمار الفرنسي 1881. فلئن كان الفينيقيّون تجّاراً فإنّ الإسلام دين تجارة.
وقد ظلّت العلاقة بين التّاجر والفلاّح تنوس بين التّعاون والتّصادم. والحاصل دائماً من ذلك هو "استثمار" التّاجر لتمرّد الفلاّح و"عجز" الفلاّح سياسيّاً. وتدلّ على ذلك عشرُ انتفاضات فلاحيّة تأكّد فيها قانون التّعاكس بين ثورة الفلاّح واستفادة التّاجر الدّاهية بدءاً من الانتفاضة الشّعبيّة الكبرى سنة 1864 (ثورة علي بن غذاهم) وصولاً إلى ثورة 14 يناير 2014 لتتواصل "مأساة الفلاّح" إلى اليوم.
في إشكالات "التّونسة" وملامحها
لا يخلو الحديث عن الشّخصيّة التّونسيّة، سواء بالمعنى القوميّ أو بالمعنى النّفسي، من توتّر ناتج عن اختلاف التّصوّرات سواء لدى القائلين بها أو الرّافضين لها. ولكن في الحالتين يبرز موقف بورقيبة المتميّز. فهو يؤمن بـِ "القوميّة التّونسيّة" و"يقلّل من أهميّة البعد العربي الإسلاميّ" ويعمل على ربط تونس بِـ "العالم الحرّ الغربيّ". ووقف كذلك ضدّ النّاصريّة التي اعتبرها "هيمنة مقنّعة على تونس وعلى غيرها من الدول العربيّة". والثابت أنّ دولة بورقيبة هي التي انتقلت بتونس من كيان ما قبل قوميّ إلى كيان قوميّ. وما كان ذلك ممكناً إلاّ بوضع مسافة مع التيّارين العروبي والإسلاميّ.
وتبرز هذه القوميّة عند التيمومي من خلال الشّخصيّة التّونسيّة التي لخّصها في أربعة عشر ملمحاً يتراوح بين الخصال الممدوحة والخصال المذمومة (الفصل الثّاني، ص43-90). وأبرزها "خلق المكايسة والتّحذلق والكلام الجميل" الذي قد ينقلب إلى "المداهنة والمماحكة والغشّ (...) والخصومات واللّجاج وتعاهد الأيمان الكاذب على الأثمان ردّاً وقبولاً". ويتمتّع التّونسيّ بـ"فضول خارق للعادة ورغبة في التّعلّم والفهم" ولكنّه في الآن نفسه ليس صبوراً للتّعمّق في الثّقافة لبحثه عن المنفعة العاجلة. ويُقْبِل التّونسيّ على الحياة ويكره "النّكد حتى في أكثر اللّحظات مأساويّة" ولكنّه يتباهى بقيم الفحولة. والمفارقة أنّ من صفاته المحمودة، حسب التيمومي، أنّه "لم يؤمن أبداً بدونيّة المرأة ذلك الإيمان المتصلّب المتشدّد". وهي سمة تبدو مناقضة لِمَا قبلها. وورث التّونسيّ عن البربر والعرب والمسلمين كرم الضّيافة. ويتميّز التّونسيّ بأنّ "مقياس صحّة أيّة فكرة هي النّجاح العمليّ". وهذه من خصال التّاجر لكنّه بالمقابل "يؤمن بالسّحر والشّعوذة". والتّونسيّ معتدل وسطيّ متسامح مسالم وهو بفضل هذه الخصائص منفتح على الآخر ويقبل المغايرة ولكنّ المفارقة أنّ هذا المسالم لا يتورّع عن "ممارسة العنف وخاصّة منه اللّفظيّ".
بيد أنّ التّيمومي يشير في سياقات أخرى من الكتاب إلى أنّ هذه الملامح المميّزة للشّخصيّة التّونسيّة لا تنفي اختلافاً بين الشّخصيّة القاعديّة للتّاجر والشّخصيّة القاعديّة للفلاّح. فلم اقتصر التيمومي على إسقاط أخلاقيّات التّاجر على عموم الشّعب التّونسيّ؟
الانتماء القوميّ التونسيّ
يمكن الإجابة عن السّؤال المركزيّ، "كيف صار التّونسيّون تونسيّين؟" من خلال مظهريْن أساسيّين أوّلهما توْنسة الغزاة وثانيهما التّبلور التّدريجي لفكرة الاستقلال وتجاوز العوائق القبليّة والعرقيّة الدّينيّة.
فقد دخلت تونس إلى الحضارة مع البونيقيّين واندرجت في مدار الإسلام بعد الفتح العربي. إذ بنى الفينيقيّون المدن وطوّروا التّجارة البحريّة وأدخلوا الكتابة وركّزوا مفهوم الدّولة من خلال دستور قرطاج وفصلوها عن الدّين وطوّروا الصّناعات والفلاحة. فترسّخ الانتماء الشّرقي للبلاد ممّا سهّل تقبّل الإسلام في بداية القرن التّاسع.
وحين جاء العرب إلى إفريقيّة اعتبرهم البربر "من أبناء البلد بالتّبنّي" وهو ما يدلّ، حسب التيمومي، على وجود هويّة تونسيّة ضمنيّة يمكن بها تفسير علاقة سكّان إفريقيّة بالغزاة والفاتحين.
وكان تتويج ذلك باستقلال الدّولة الحفصيّة لتحكم تونس مدّة قرون ثلاثة "توْنس" خلالها التّونسيّون الإسلام وتشكّلت لهجتهم واستقام لهم كيان سياسي وقام ضرب من التّوحيد الاقتصاديّ بما يعني توفّر مقوّمات التّجانس الدّيني واللّغويّ والعرقيّ والوحدة الاقتصاديّة. فكان العهد الحفصيّ بذلك أبرز علامات الهويّة التّونسيّة.
وخلال الحقبة العثمانيّة التّركيّة تتوْنس الأتراك وكوّنوا حسّاً وطنيّاً إذ سيطرت الدّولة منذ القرن 17 على المجال التّونسيّ لتكتمل ملامح هذا الوعي شبه القوميّ خلال حركة التّحديث في القرن التّاسع عشر بإحداث العلم التّونسيّ وسنّ أوّل دستور في العالم العربيّ والإسلاميّ.
تفسير النتائج بالأسباب
ينزّل التيمومي بحثه في الهويّة التّونسيّة في إطار التّاريخ الثّقافيّ. فهو يعتبر الهويّة "ذهنيّة جماعيّة" أساسها "النّظرة التي تحملها مجموعة بشريّة عن نفسها وتريد من المجموعات البشريّة الأخرى أن تعاملها بها". فتكون بهذا انتماء واعياً واختياريّاً على عكس الثّقافة.
لقد قام بتتّبع الحقبات المختلفة والأحداث المتفرّقة بحثاً عن "روح البلد" معتمداً على تمشّ منهجيّ قوامه الانطلاق من الحاضر والعودة القهقرى إلى الماضي لفهم الحاصل اليوم. ولكن ههنا تبدو المفارقة التي قد تؤدّي إلى ضرب ممّا يسمّيه المناطقة القدامى بالدور والتسلسل. فهذا الحاضر بيّن له أيضاً أنّ مسار تبلور الهويّة التّونسيّة ومفتاحها هو الشّخصيّة التّونسيّة كما زعم. وعماد هذا المسار على التّدريج محطّات ثلاث: سياسيّة مع الفينيقيّين الذين أدخلوا "البلاد في الحضارة وفي التّاريخ"، ودينيّة مع العرب المسلمين الذين أدخلوا البلاد في "بوتقة الحضارة العربيّة الإسلاميّة" واقتصاديّة منذ القرن السّادس عشر بِـ "إدماج البلاد في المنظومة الرّأسماليّة العالميّة".
فكيف تكون هذه "الروح التونسيّة"، مع ما في الكلمة من دلالات ميتافيزيقيّة، موضوع بحث في صيغ تشكلّها تاريخيّاً وتكون، في الآن نفسه، مفسّرة لقاعدة تاريخيّة كثيراً ما ركّز عليها التيمومي وقبله البشير بن سلامة مفادها أنّ احتواء الغزاة والاندماج بهم يكون على مقتضى قبولهم بالشخصيّة التونسيّة؟ أفليس هذا تفسيراً للنتائج بالأسباب؟


أنا و"الطلياني" والرواية البكر


العربي الجديد، 14 يونيو 2015
حين شكرتُ لجنة تحكيم الجائزة العالميّة للرواية العربيّة على تتويج "الطلياني" في دورة هذه السنة (2015) أكّدت أنّ هذا التتويج سيدخل بعض البهجة والغبطة على أبناء شعبي الذي لا يسمع منذ سنوات إلاّ أخبار النكد والكدر. وكان حدسي صائباً.
إذ تكفي إطلالة على الشبكات الاجتماعيّة للتأكّد من طوفان المحبّة الغامرة ومشاعر الانشراح والانتشاء بتتويج تونسيّ في زمن الخيبات الموجعة والأحلام المجهضة. ولأوّل مرّة، على ما أعلم، يستقبل أديب تونسي في مطار تونس قرطاج استقبال نجوم الفنّ وكرة القدم، فنكتشف أنّ لبعض التونسييّن حاجة إلى رموز ثقافيّة وأدبيّة وحاجة أكبر إلى الفرح والأمل.
ويعلم المقرّبون منّى أنّني حييّ بالطبع أكره الأضواء ولا أذهب إلى التلفزيونات إلاّ مكرها. فإذا بي أجد نفسي مباشرة في نشرة الأنباء الرئيسيّة للقناة الوطنيّة في الثامنة مساء أمام مليوني مشاهد! ومن اليوم التالي، انثالت عليّ التهاني من الناس العاديّين، ممّن قرأوا الرواية وممّن لم يقرأوها، في الحيّ وفي الشارع وفي المغازات وفي العمل بفضل رواية بكر، رغم ما يحفل به رصيدي البحثيّ من كتب ودراسات منشورة قبل الرواية. هكذا بصدفة صنعها السياق التاريخيّ يصبح للأدب في بلادي "نجم" و"بطل وطنيّ"!
ولئن وشّحت وزارة الثقافة صدور الكثيرين قبلي بالوسام الوطنيّ للاستحقاق، وقد تسلّمته من يدي وزيرة هي امراة مثقّفة مناضلة من التونسيّات الرائعات اللاّتي أهديت لهنّ البوكر، فإنّني لا أذكر أنّ رئيساً للجمهوريّة في تونس قد كرّم من قبل رجل أدب لم ينتم إلى المؤسّسة الرسميّة وأحزابها السياسيّة في بلد رُوي عن زعيمه الذي بنى دولته المستقلّة، محمولاً ربّما بهاجس التحديث العلمي والتكنولوجي، ما مفاده "يزّي (كفانا) من القصّة والأقصوصة"! فيا الله كيف تكذّب الوقائعُ الزعيمَ المؤسّس الذي يحفظ الشعر الفرنسيّ عن ظهر قلب لتستحيل "القصّة" باعثاً للحماسة الوطنيّة.
دعك من أفاويح الانتقاد والغيرة والحسد والنزعات القطريّة الضيّقة التي تقسّم مدينة الرواية العربيّة إلى مركز وهامش. إنّها أفاويح لا تخلو منها موائد الجوائز الأدبيّة: "رواية فاشلة فنيّاً"، "رواية مليئة بتفاصيل وزوائد لا تخدم السرد"، "الراوي في الطلياني غير مقنع"، " لم أتمّ قراءة الرواية إلاّ بشق الأنفس"، "رواية كلاسيكيّة تجاوزها السرد العربيّ" ..إلخ ..إلخ. شكراً للجميع. أخذنا علماً. فأنتم أو لجنة تحكيم البوكر لعلى هدى أو في ضلال مبين.
وعلى قدر امتناني وعرفاني للجنة تحكيم البوكر ومجلس أمنائها، وهم بجنسيّاتهم المختلفة يمثّلون قوس قزح الثقافة العربيّة، فإنّني فخور بأمور أبسط من النجوميّة. أنا معتزّ بأنّ "الطلياني" صالحت، في تونس على الأقلّ، شباباً خلت أنّهم تطبّعوا بثقافة "فاست فود" الشبكات الاجتماعيّة مع الرواية، ومعتزّ بإخوة لنا في تونس من الفرنكوفونيّين صالحتهم "الطلياني" مع الرواية التونسيّة المكتوبة بالعربيّة بقدر ما صالحت كثيراً من القرّاء النوعيّين مع الأدب الروائيّ عامّة والتونسيّ على وجه الخصوص.
وقد بلغ تعرّف لفيف من القرّاء التونسيّين على أنفسهم في شخصيّتي عبد الناصر الطلياني وزينة درجة لم تخطر لي على بال. فهذه فتاة تصرّ على أنّ "حبيبها الطلياني" موجود وعليّ أن أدلّها على مكانه. وحين أؤكّد لها صادقاً أنّه مصنوع من مداد وورق تجهش بالبكاء.
وأخرى تتنازل عن "حقّها" في أن أقدّم لها الطلياني مكتفية، عن مضض، بأن ترسل معي إليه باقة زهور. وحين أبتسم أمام إصرار الواقعات في غرام هذه الشخصيّة الفاتنة، رغم انكساراتها وخيباتها، لا يجدن من سبيل لدفعي إلى الإقرار بوجوده إلاّ "اتّهامي"، في شراسة محبّبة يائسة، بأنّني كتبت سيرتي الذاتيّة. والأغرب أنّ بعض الشبّان، وحتّى الكهول، لم يتورّعوا عن لومي بل تقريعي لأنّني لم أرحم زينة "الرائعة" فحطّمت المثال الذي تجسّده. عندها لا أجد، تطييباً لخواطرهم، إلاّ تذكيرهم بأنّ منطق السرد في الرواية لا يحتمل إلاّ أن تنتهي مجنونة أو منتحرة إلاّ أنّني أشفقت عليها فأنقذتها بالهجرة إلى فرنسا من مجتمع محافظ مدمّر للذكاء.
فما أعجب الكلمات إذ تخرج الكائنات المتخيّلة من دفّتي الكتاب إلى الواقع!


البطل وظلاله في "الطلياني"


بن أموينة عبد اللطيف (المغرب)
 العربي الجديد، 20 جوان 2015
أثارت رواية الطلياني، للكاتب والأكاديمي التونسي، شكري المبخوت، والفائزة بجائزة البوكر هذا العام، ردود أفعال متباينة في الساحة الروائية والإعلامية العربية، وحظيت بهالة من الإشادة والترحيب، مثلما قوبلت لدى بعضهم بنوع من اللامبالاة والتجاهل. وقد تابعت هذا النقاش النقدي والتوصيفي، في منابر الصحافة العربية المكتوبة والإلكترونية، حيث طرحت أسئلة حول الهواجس غير المعلنة، أمام جمهور النقاد والأكاديميين وعموم القراء والمهتمين بالرواية العربية، والتي تحكمت في منح الجائزة للروائي المبخوت، بل ذهب نقاد مصريون حد التشكيك في الكفاءة السردية للروائي، فيما نحى آخرون نحو التركيز على البعد الجغرافي (تونس مهد الربيع العربي). وشكك فريق من النقاد بأهلية أعضاء لجنة، على اعتبار أنها تضم شعراء، ليس لهم باع طويل في السرد، أو تخصص أدبي، يقدم مقاربة علمية ومنصفة للأعمال الروائية المعروضة للظفر بالجائزة، بعيداً عن منطق الاصطفافات الذي أضر بالاستحقاقات الأدبية، وبصورة الإنتاج الأدبي العربي بشكل عام. لكن، في الحقيقة إن السر الذي ينبري الجميع لإخفائه أن الخلاف بدأ، منذ فترة طويلة، يتمدد، ويتحول من مجال الكتابة والإبداع والنقد إلى حلبة غير مرئية، لتراشق جغرافي ونفسي وسياسي مقنع.
تحكي الرواية عن قصة البطل، الشاب التونسي (الطلياني)، ذي الميول اليسارية والمناضل التقدمي في فضاءات الجامعة، وكذلك الطفل الشقي والفتى المدلل في العائلة، فإن هناك جوانب أخرى موازية داخل المتن الروائي، يظهر البنية الهرمية للعائلة التونسية، فالأب هو الرمز الصامت لهذه الهرمية (رغم حضور الأم)، والأخ الأكبر هو امتداد لهذه الهرمية المحافظة، على الرغم من مستوى تعليمه العالي، وانفتاحه على الغرب، وعمله خارج الوطن.
يؤكد الوقوف على ما وراء النص الروائي، وعلى لاشعور البطل الروائي، تشظي صورة بطل الرواية، فهو اليساري الثائر والعاشق المرهف (زير النساء) والصحافي المثقف المنفتح على الحداثة الأدبية، بإبداعاتها الملهمة، وكتابها المرموقين، وهو "البرجوازي الصغير" التائه في زحمة التحولات السياسية والمجتمعية المتسارعة.
يتحرك الطلياني، إذن، في فضاء اجتماعي ضبابي، وعلاقات إنسانية غير ثابتة، تتأرجح بين الاستقرار والتوتر والعنف على المستوى العاطفي والسياسي والقيمي، في مجتمع يعيش على إيقاع الانتظارية القاتلة، ويسكنه هاجس الخوف والترقب وتحكمه القبضة البوليسية، والاحتقان السياسي بين أركان الحكم والفصائل المعارضة على مستوى الجامعات والقاعدة الاجتماعية العميقة.
إنه المجتمع المشبع بالتناقضات حد القرف، حيث مؤسسة الزواج ليست مرتبطة بالانسجام الفكري أو الاجتماعي، بل هو بنية معقدة تسلسلية من المصالح والتنازلات والتفاهمات إلى درجة المصادفة والعبث.
ويمكن اعتبار رواية الطلياني، في جميع الحالات، وثيقة ذاتية (شاهد) وسوسيولوجية وسياسية للمرحلة البورقيبية، بكل تناقضاتها ومألآتها، ومرحلة بن علي، وما أحاط بهاتين المرحلتين من قمع وفساد وخنق للحريات، ونهب لثروات تونس، ومن تجاذبات سياسية وصراع فكري بين اليسار والإسلاميين، وانتهاء بالهيمنة المروعة للبوليس السياسي على الحياة العامة والفساد والقمع وسيادة قيم النفاق والانتهازية.
ويقدم لنا المبخوت، في هذا النص الروائي، صورة تشريحية عن النخبة المهزومة والمهزوزة التي يتلاعب بها النظام لمصلحته، كيفما شاء، كما نقف عند مشاهد جارحة عن التمزق الشخصي، والتفكك الاجتماعي، ما ينذر ببداية الانهيار الكبير (الثورة)، حيث اليد الطولي للإسلاميين، المتطرفين من جهة والمجرمين والمنحرفين على جزء كبير من الأحياء الشعبية، وفرض منطقهم على الآخرين. وتستولي على البطل، في النهاية، إحساس عارم بالضياع والهزيمة، حيث يجد عزاءه في البوح الشفاف والإدمان والتسكع واللهاث خلف النساء.
إنها صورة لخسارة جيل أو جيلين بأكملهما، ليس في تونس فقط، بل في العالم العربي برمته.



الطلياني شخصية من عالمنا العربي وكلنا في الهم شرق


حوار محسن حسن
 عربيات،21/06/2015

على عكس كتاب روائيين كثر توقفوا عن الكتابة خلال ثورات الربيع العربي، قام الأديب التونسي والناقد الأكاديمي الدكتور شكري المبخوت باستلهام أحداث روايته الأولى "الطلياني" من تداعيات الثورة التونسية وإفرازاتها السياسية والإنسانية والأخلاقية، ثم كانت المفاجأة أن فازت تجربته الأولى في عالم الكتابة الروائية بالجائزة العالمية للرواية العربية "البوكر" في دورتها الثامنة للعام 2015، وهو ما منح أملاً كبيراً لأصحاب التجارب الروائية الأولى، في أنهم غير بعيدين عن مرمى الفوزة بأكبر الجوائز العالمية للرواية العربية، إذا ما حققواً في كتاباتهم الروائية مثل ما حققه المبخوت عبر "عبد الناصر الطلياني" ــ بطل روايته ــ من إثارة الأسئلة، وكشف أنماط العلاقات الإنسانية، ورصد ملامح التناقضات الاجتماعية والبشرية ضمن خريطة سلوكيات بشرية متمردة على واقعها وأخرى منساقة لهذا الواقع، وفي بناء روائي محكم ومتماسك... المبخوت رأى في حواره مع مجلة عربيات أن فوزه بالبوكر هو اعتراف أدبي بجدارة قلمه الروائي وانتقال الرواية التونسية من نطاقها المحلي إلى العالمي. جدير بالذكر أن الدكتور شكري المبخوت يشغل حالياً منصب رئيس جامعة منوبة التونسية وله مؤلفات عدة منها: سيرة الغائب سيرة الآتي، جمالية الألفة: النص ومتقبله في التراث النقدي، نظرية الأعمال اللغوية، الاستدلال البلاغي، وغيرها،  وإلى تفاصيل الحوار.
ماذا يعني الفوز بالبوكر العربية بالنسبة لك؟
هي اعتراف أدبي بالجدارة الروائية، وخروج الرواية التونسية من حيزها الجغرافي إلى الفضاء الأدبي العالمي، كما أن البوكر تمثل فرصة جيدة لانتقال كتاباتي إلى قراء متفاوتين ومختلفين عبر الترجمة والانتشار.
كيف كانت نظرتك للروايات الأخرى المنافسة على البوكر؟
كل الروايات التي وصلت للقائمة القصيرة هي روايات متميزة وتستحق القراءة، وهي الأفضل من بين الروايات التي تقدمت لنيل الجائزة، وفي الحقيقة لم أنظر إلى تلك الروايات على أنها روايات منافسة، بل باعتبارها روايات تحمل عوالم جديدة ومثيرة، وفوز الطلياني لا يعني الانتقاص من حقوق روايات أخرى نافستها على نيل الجائزة، وإلا فلا معنى للفوز والتميز.
متى وجدت نفسك مدفوعاً إلى كتابة الطلياني؟
سؤالك يعيدني إلى ذكريات جميلة ماضية، فلقد كتبت الطلياني مدفوعاً بإلحاح الكتابة وبما أثارته الثورة التونسية بأحداثها من تساؤلات كثيرة منها الإنساني والجمالي والسياسي إلى غير ذلك، فرواية الطلياني رواية جيل ومسارات مختلفة داخل هذا الجيل.
هل ترى في بطل روايتك عبد الناصر الطلياني نموذجاً عربياً متكرراً؟
لا أراه متكرراً، فهي شخصية لها ملامحها الخاصة، وفي ظني أنها تلتقي بنماذج موجودة في عالمنا العربي والإنساني، فكلنا في الهم شرق.
النقاد صرحوا بتأثير تخصصك النقدي والأكاديمي في مسار الرواية.. ما ردك؟
لهم الحق أن يقولوا ذلك، أما أنا فلا أستطيع أن أوجه صفتين بداخلي أو أفصل بين صفتي النقدية والأكاديمية وصفتي ككاتب روائي، والطلياني هو نص لشكري المبخوت، ومن حق القاريء أن ينظر إليه كما يريد، سواء بصفتي الأكاديمية أو بصفتي مواطناً أو مثقفاً أو ناقداً.
لماذا كنت حذراً من إطلاق العنان للتجريب عبر هذه الرواية؟
لم أكن حذراً، والتجريب ليس غاية في الكتابة الروائية ، والطلياني فيها تجريب وعلى النقاد أن يستخرجوا هذا التجريب، ويدركوا أنه تجريب ليس بالمفهوم السائد الآن، بل له أبعاد أخرى، فكل رواية إذا كانت فيها أسئلة جمالية وعالم محكم البناء سنجد فيها جانبا من التجريب، ولكن النقد يحلو له تحويل بعض الكلمات إلى أصنام نبحث عنها ونعبدها، في حين أن عملية كتابة الرواية هي متعة جمالية وليست لها أنماط مسبقة تحدد الكتابة فيها، سواء كانت الرواية تاريخية أو كلاسيكية أو واقعية أو غير هذا، المهم هو هل أثارت الرواية أسئلتها الجمالية أم لا؛ لذا فنحن في حاجة لأن نفهم  التجريب بطريقة جيدة.
هل عانت الطلياني كنص مكتوب من القهر السياسي والمصادرة الضمنية أو المعلنة قبل الثورة التونسية؟
أبداً، ولا يمكن أن أدعي ذلك، فلست مظلوما ولا مقهوراً، ولم تمارس علىّ أية رقابة أو مصادرة، وقد كتبت ما أردت كتابته.
كيف ترى معوقات المصالحة التاريخية بين القاريء العربي والكتاب؟
المسألة لا تبحث في إطار الكتابة والنشر والإبداع، ولكن تبحث في أثر تكوين القاريء العربي، وسبل تنمية مهاراته كلها، ومشكلة القراءة هي مشكلة مدرسة وفن وتربية في عالمنا العربي، لذا علينا تشخيص المشكلة في موضعها، وليس في النتائج، وفي أسبابها العميقة والأساسية، وليس في تبعاتها ومآلاتها. 

كيف ترى ملامح الإقبال على كتابة الرواية عربياً قياساً بكتابة الشعر وبقية الأجناس الأدبية؟
ثمة جانبان؛ الأول أن للرواية مذاق يستلهم فيه الروائي كافة الأجناس الأدبية الأخرى ويعيد صياغتها بطريقته؛ ومن ثم فهي تحتوي كل هذه الأنماط والأجناس، وهو أمر واقع في كافة الثقافات وليس في العربية وحدها؛ لذا فلا غرابة أن يكون انتشار الرواية أوسع نسبياً بالمقارنة بغيرها، الأمر الثاني أن الأجناس الأدبية الأخرى كالقصة القصيرة والشعر، تحتاج إلى ثقة الناشرين وإلى تخصيص جوائز مثل البوكر وكتارا، للاعتناء بها، وفي تقديري أن هذا يمثل خللا في المشهد الأدبي العربي ، ويجب معالجته في أقرب وقت لأن الرواية العربية أو غيرها لا يمكن أن تتطور بمعزل عن باقي الأجناس الأدبية، ونحن في أمس الحاجة إلى الشعر والقصة القصيرة والمسرح، وجميع ألوان الكتابة وليس للرواية فقط.
ما تقييمك النقدي للرواية الخليجية؟
لست معنيا على وجه الخصوص بتقييم الرواية الخليجية، لكني أعتبرها رواية مميزة، وحصول رواية "ساق البامبو" وهي رواية خليجية للكويتي سعود السنعوسي عام 2013 على البوكر ليس بالأمر الهين، وهناك أسماء روائية كبيرة في الخليج، وهذا دليل على التميز، وعلى تطور الرواية الخليجية.
كيف ترى جمهور الرواية من القراء الخليجيين؟
رغم احتكاكي الضعيف بجماهير القراء في منطقة الخليج، إلا أنني ألاحظ ما تشهده الرواية الخليجية من إقبال جماهيري على قراءتها وخاصة من العنصر النسائي، فنساء الخليج لهن ملاحظات جديدة ومفيدة وثرية، وقد لمست هذا في معرض أبو ظبي للكتاب من خلال اللقاءات الجماهيرية التي جمعت كتاب البوكر بالنوادي الأدبية في الخليج ، وهو أمر جيد وليس غريباً على المرأة الخليجية التي تلتقط ما لا يلتقطه غيرها من غايات الفن الأدبي وآفاقه.
وفق توقعاتك الخاصة متى يكون الجزء الثاني من الطلياني جاهزاً للنشر؟

هذا مرهون بأن ينال الجزء الأول حظه من النقد والقراءة والجدل والمتابعة، وبعد ذلك تكون المسألة مسألة اختيار الوقت المناسب، وهو أمر لا أتحكم فيه تماماً وإنما يكون بالاتفاق مع الناشر.