mardi 26 février 2013

في الوعي الزائف




1
لا أعرف لم استقرّ رأيي على الاكتفاء بتعريف للإيديولوجيا ، من بين تعريفات كثيرة، على أنّها وعي زائف.ولست أدري إن كان ما وقر في الذهن مفهوما مطابقا للمعرَّف أم هو استعارة أمكنني ترشيحُها كلّما شغّلتُ عبارة " الوعي الزائف".وما الفرق ما دمنا بالاستعارات نحيا كما قال الاخر؟
يتداعى مع العبارة نثارٌ من الكلمات كالوهم والخطإ والإخفاء والكذب والتحريف والتمثلات غير المطابقة للواقع والتجنيح بالخيال بعيدا والاغتراب وما إلى ذلك.فترى صاحب الإيديولوجيا ، وهو سادرٌ في وهمه منافحٌ عنه،كالسائر بين الناس على رأسه، بيننا ومعنا يتحرّك فنراه مقلوبا كصورته المنتقشة على شبكيّة العين.

2
وَلّ وجهك حيث شئت تَرَ إخوة وأصدقاء ورفقة يكابرون ويعاندون معتقدين أنّ قولهم هو الحقّ الحقيقة التي لا يأتيها باطل أو يداخلها شكّ من خلفها أو من بين يديها.ينطقون بالكاذب من الأقوال ، كذبا منطقيّا لا اخلاقيّا،في طمأنينة حمقاء جازمين كأنّهم رسل لا تنطق عن الهوى.
تأمّل حولك تجدْ في عوالم الثقافة والأفكار والآراء ظنّيّات تُخرج مُخرج اليقين.فإذا كذّبتها الوقائع ، والوقائع عنيدة،سدر الزائفون المزيّفون في غيّهم وزادوا تمسّكا بما يرهفون.
ما معنى أن يتكلّم أحدهم ، وهو مستأمن على صياغة الدستور لجيلين على الأقلّ، ليزيّف مسار التاريخ مستهينا بالذكاء البشريّ على محدوديّته فيعتبر كونيّة حقوق الإنسان أمرا خلافيّا؟
قد نعتذر له بحدود ثقافته وضيق أفقه وتوهّمه التضادّ بين الخصوصيّة الثقافيّة وكونيّة الأفكار الكبرى ، قد نعتذر له أخلاقيّا بحسن النيّة وسلامة الطويّة ولكنّنا لسنا مجبرين على مشاركته في صياغة وعي زائف بالتاريخ .
إنّ صاحب الوعي الزائف كتلميذ أحمق غبيّ فهم الذرس فهما خاطئا ورغم ذلك يجادل أستاذه ومرجعيّاته الفلسفيّة والفكريّة بتعلّة أنّ مؤدّب القرية لقّنه عكس ما يقول الأستاذ حين كان يحفظ بعض قصار السور دون أن يفقه تأويلها.
هكذا يصنعون أوهامهم بالأسانيد دون قراءة المتون  ، بالثقة في الرجال وأشباههم وجرحهم وتعديلهم لا بإعمال النظر والاجتهاد والتفقّه في نصّ الواقع ومتن الثقافة .يرون العالم بالمقلوب لأنّ معلّما ما في قرية نائية من قرى الفقر الماديّ والروحيّ رأى دينه بعقل ضعيف من ثقب باب ذهب في وهمه أنّه يفتح على العالم كلّه ما كان منه وما سوف يكون.
تتوالد الأوهام وتتناسل الأخطاء من الأنساق المغلقة التي لا تترك هوامش في الصفحة او حواشي للمتون.صوت واحد يعلو فيها يجادل في همسٍ طواحين أعداء وأفكار لا يزيد جدالُهم إلاّ إصرارا على ارتكاب الأخطاء وتنمية الأوهام والزيف.تكتمل الدائرة ولا منفذَ باديا ليفكّر الفكر في نفسه أو يراجع ويتراجع أو يعدّل وينقّح و يحوّر.تنقلب الدائرة حلقة مفرغة لا تكسرها إلاّ تحوّلات الواقع العاصف فيختبئ في دائرة أضيق إمعانا في الوهم والخطإ.
3
تأمّل ما يقال منذ سنتين.خزعبلات بمفردات متنوّعة وحفل تنكّريّ لأفكار بائسة تستعيد عريق الأوهام وقديم الأكاذيب ببلاغة رثّة متقادمة تستجلب هيبتَها من غموضها والتباسها عاجزة عن أن تستفيد في صياغتها من منجزات علوم الخطاب كي تؤثّر أو تقنع أو تغيّر الواقع تغييرا حقيقيّا.
خطابات منفصلة تماما عن الواقع ، تحمل معها أصداء بعيدة باهتة لا ألق فيها ولا بهجة ولا مرح تريد أن تضع الإيديولوجيا السائدة بزيفها الموروث على محكّ إيديولوجيّات أشدَّ غربة وتغريبا للإنسان عن إنسانيّته : وعي زائف يزايد عليه وعي أشدّ زيفا والناس في رعبهم يرتعدون وفي البحث عن لقمة عيشهم يتخبّطون.
ارحمونا من وعيكم الزائف .خذوا أوهامكم وارحلوا إلى قرى الزيف التي بها تحلمون.دعوا المدن لأهلها الذين تعلّموا الشكّ والنقد في جمهوريّة المعنى يقاومون اغترابهم ويثقّفون حلمهم.
ارحلوا أو اخرجوا من جبّة الشيخ المؤدّب الواهم الحاقد العاجز عن فهم التاريخ لعلّكم تستعيدون الإحساس بإيقاع التاريخ .لقد انتهت صلاحيّة نهر الدموع المكلّل بالورود الذابلة منذ عقود.

mardi 12 février 2013

ما لا يعرفه القتلة...





في الشارع الرئيسيّ نفسه، الشارع الذي مرّت منه سيّارة الإسعاف حاملة الجثمان كانا يسيران. في أماسي الصيف حين يخفت الحرّ يمارسان هواية المشّائين ولكن في الجادة التي تتوسّط شارع الزعيم.
هناك ، لو تشهد ذاكرة الأشجار ، لو تعلّمنا منطق العصافير التي تردّد إلى الآن حديثهما كانت تحلّق أحلام الشابّين بعالم أجمل وأعدل.
كان يصنعان من الكلمات وشواهد الكتب ومزيج الأفكار القديمة والجديدة والأشعار الرائعة جنّة الإنسان على الأرض ، يبحثان في خريطة العالم التي يفكّكانها ويعيدان تركيبها عن المسالك الموصلة ويحدّدان المدن الفاتنة التي لم تظهر بعد.
كان يستنطقان التواريخ والأحداث والوقائع كأنهما عاشاها بمآسيها وأفراحها ، كأنّهما عاصرا أوجاع المقموعين والمضطهدين والثائرين جميعا.يركّبان من نثار المعلومات عن تاريخ الثورات ومآسي البشريّة التي تجرجر وراءها تراثا بذيئا من البربريّة صورا من البطولات الدمويّة والعذابات المتكرّرة.يبنيان بها، وفيها، أملا بعيدا يشحذ فيهما إحساسا أقوى فأقوى بأن الإنسانيّة لم تدخل بعد مدينة المعنى التاريخي العميق الأصيل.كأنّ للتاريخ غائيّةً يسير إليها قُدُما بدونها يتواصل السقوط في أرذل صيغ الاستعباد والاستغلال وإهانة كرامة الإنسان.
كانا يتنقّلان من ثقافة العرب إلى الأفكار الرائعة الآتية من بعيد ، من مدن لم يزوراها أبدا.يشعران صادقيْن بأنّ الإنسان واحد وأن الفكر حديقة متنوّعة خلاّبة وبستان يتيح لهما متعة النظر والتأمّل في عبقريّة الإنسان:الإنسان الحالم التوّاق الخارج عن طوق حدوده ليعانق ما وراء العرش : عرش الخير والجمال والعدل ،بحثا عن مطلق آخر لم يُكتب بعد ، عن القصيدة التي تختزل الجوهريّ ، قصيدة لا تقال بل تعاش ،لا انفصال فيها بين القول والفعل،قصيدة تُنشأ خارج شروط الاغتراب الإنسانيّ وبعيدا عن قيد الضرورة.
كان يحبّان مخطوطات 1948  لماركس الهيغليّ الشابّ.ينقمان على ألتوسير وقراءته الجافّة لأجمل الأحلام باسم العلم وتمييزه عن الإيديولوجيا باعتبارها وعيا زائفا.ويعودان لإنصاف الرجل حين يحلّل أجهزة الدولة الإيديولوجيّة.
كان يختلفان في أمر ستالين ولينين وتروتسكي وماوتسي تونغ  وكاوتسكي وروزا لوكسمبورغ كأنّهما بعض أفراد عائلتيهما.أسماء وأفكار ومواقف تنثال هكذا من الذاكرة.قرآ نصوصَهما أو بعضها وفي أثناء ذلك كانا يطوّران كفاءتهما في الجدال والحجاج واللّجاج .
يتفقان على معاودة القراءة والتدقيق والتحقيق .يقطعان الجدل الذي يحتدّ دون أن يقطع الخلافُ حبلَ الحوار والودّ والإعجاب بالعقل النقديّ الوقّاد .
يستريحان في ظلال ما يجمعهما.يصدح صوت أحد الشكرييْن بما تيسّر من شعر درويش أو أدونيس او ناظم حكمت أو بوشكين أو بودلير او المتنبّي او النواسيّ... وبقيّة العصابة .قد يقرأ أحدهما للآخر قصيدته الجديدة: لو غيّرت هذه الكلمة بتلك لكان أفضل، لو تركت القافية في ذاك السطر لكان أنسب ، لو حذفت هذا المقطع لكان أقوى إيحاء.ولا سبيل لرفض رأي الناقد الحصيف فهما يعرفان أسرار الكتابة ، أو هكذا شبّه لهما، ويثقان في حساسيّتهما الشعريّة المشتركة التي قرّبت بينهما في الفكر والحياة.
ومن أجمل اللّحظات حين يعنّ للفقيد الشهيد أن يستظهر بعض محفوظه من القرآن الكريم.ما يزال يذكر الحديث الممتع عن الآية الكريمة من سورة الكهف :( قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا) و عن الفرق بينها وبين ما جاء في سورة لقمان : ( ولو أنّ ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله إن الله عزيز حكيم) .   عادا إلى التفاسير وظلاّ يستجليان وجوها من التآويل كان أحدهما يحبّ رأي المتصوّفة في تخريجها ويعارضه الآخر برأي العلاّمة صاحب التحرير والتنوير في تلخيصه الفذّ النبيه لأجمل الآراء عن الآيتين.
لم يكونا يريان التضادّ بين الأفكار والسياقات ومقامات الخطابات.كان يتأمّلان خلاصة الذكاء البشريّ وتجسّداته وتشكّلاته المختلفة.يتمتّعان بتنوّع الأقوال وتموّجاتها وبتلك الثروات المتاحة للجميع على مائدة الفكر البشريّ الباذخة الفاخرة.
تعرّفا على بعضهما في الأزمات ،في أثناء ما شهدته بداية ثمانينات القرن الماضي من حركة تلمذيّة.جيل جديد من أبناء مدرسة الجمهوريّة و أبناء الحيرة التي تُغلّف أحيانا بيقينيّات تشبه المطلقات.ولكنّ الرؤية الشعريّة العميقة للكون والشعور الإنسانيّ الفيّاض بواجب العمل على سعادة البشر ورفض القهر والاستعباد لم يمنعا اختلاف السبل بينهما لشجاعة عند هذا او التزام عند ذاك أو بحث لا يتوقّف  أو تردّد في مفترقات طرق  أو طبع شخصيّ يكره التفكير العموميّ أو شكّ يولّد شكّا في اليقين السابق.جيل حيرة لم يفقد حيرته حتّى في أشدّ لحظات اليقين.
كان آخر هاتف من الفقيد إليّ :" عد إلى كتابة الشعر. أعرف أنّك ستقول أجمل قصيدة عن أحلى لحظة شعريّة نعيشها رغم كلّ ما يقع".
ما لم يكن يعرفه الفقيد أنّه رغم افتراق السبل ما زال في ذاكرتي ،كما ظلّ منذ ثلاثين عاما، بيتا جميلا في قصيدتي التونسيّة.
ما لا يعرفه القتلة أنّ شكري صنع مجده بالكلمات التي قرأها وكتبها وقالها خطيبا مصقعا أمّا سلاحهم الحقير فهو لا يحبّر في كتاب الحياة جملة مفيدة فلن تنفد كلمات الحقيقة ولو قتلوا عددا من أشباهه ونظرائه.
رحم اللّه شكري بلعيد لقد كان أعظم من قتلته.