dimanche 22 avril 2012

ربيع الهوية المأزومة أو خريف الثقافة المدنيّة



                                                                                      
لا أعرف من ابتدع استعارة الربيع للتعبير عما تشهده بعض البلدان العربية من حراك اجتماعيّ وانقلاب سياسي.ولا أدري كيف استدعت هذه الاستعارة، على سبيل التضاد، استعارة الخريف لأداء وجوه من الحال التي أفضى إليها ذاك الحراك.غير أن الحديث عن الخريف العربيّ جاء ، على الأرجح من باب التوجّس من هيمنة التيارات الدينيّة المحافظة على الفضاء السياسيّ و المجال الاجتماعيّ هيمنة ستفضي لا محالة إلى تحويل مطالب الحرية والكرامة إلى مطالب أخرى.وربّما أدّت إلى التركيز في أحسن الأحوال على مسائل ومحاور ما كانت في الأصل من دواعي الاحتجاج الذي اندلع في تونس على الأقلّ.
   أهي دورة الفصول الثقافية والإيديولوجيّة التي بدأت بربيع مدنيّ تزيّن نهاراته شمس الحرّيّات المنشودة وتحلّي لياليه المقمرة نجوم الكرامة لتنتهي إلى خريف دينيّ تتردّد فيه عواصف الهوّيّة المأزومة؟
   لنا أن نواصل ترشيح الاستعارة لنتوه في مفاوز التخييل وفيافي التأويل.ولكنه من الأجدر أن نجرّد الاستعارة ونحقّقها .ففي هذا الزمن العربيّ الجديد عامّة ،والوقت التونسي تخصيصا، مهما يكن موقعنا وموقفنا ،تدور المعاني على مستقبل ثقافتنا والنظام القيميّ والتصوّري الذي يشدّ مجتمعاتنا.
    بدأ كل شيء منذ أن وصل المشروع الاجتماعي والثقافي التونسي إلى حلقة مفرغة لم يعد معها من الممكن لجدول " الإنجازات " و " المكاسب"، بلغة النظام السياسي والإعلاميّ السائد، أن يكون أكثر انفتاحا وثراء.
    خمسون عاما من عمر الدولة التونسيّة بتردّدها بين المعاني المدنيّة الجديدة وتبريرها للتحديث أحيانا بالمعجم الدينيّ.هكذا اختار زعيم الدولة الوطنيّة ، دولة الاستقلال، الحبيب بورقيبة أن يصنع الحداثة التونسيّة، وهو المثقّف والحقوقيّ خرّيج الجامعات الفرنسيّة، على نمط شبيه بالنمط الفرنسيّ ولكن بتوظيف الدين مثلما توظّفه الأنظمة التقليديّة المحافظة لتمنع دخول الأفكار الحديثة.ولم يكن " الزعيم" نسخة تونسيّة من الزعيم التركيّ كمال أتاتورك ولائكيّته الجذريّة ، على ما يزعم خصومه من الإسلاميّين وعلى ما كفره به بعض مشائخ الوهابيّة،فهو لم يعاد يوما الدين وإن أقصى الناطقين باسمه. ولم يقبل تطبيق الفهم الحرفيّ للشريعة معتصما بالقراءة المقاصديّة المتجذّرة في البيئة المغاربيّة المتشبّعة بإرث اجتهاديّ بعضه أندلسيّ وبعضه الآخر زيتونيّ لأوّل جامعة إسلاميّة (جامع الزيتونة  المعمور).فاستغلّ الزعيم الحداثيّ المجتهد ذلك الإرث، بقدر استغلاله للإرث الإصلاحيّ التونسيّ الحديث  لخدمة مشروع التحديث الاجتماعي وبناء الدولة المدنيّة.فجاءت إنجازاته في مجال الأحوال الشخصيّة والأسرة وتحرير المرأة قائمة على اجتهادات الفقهاء من المذهبين المالكي والحنفيّ في جلّها.وأعمق تعبير عن هذه الإرادة الجامحة التوفيقيّة الفصل الأوّل من دستور الجمهوريّة الفتيّة الذي أحكم بورقيبة صياغته بذكاء نادر جمّع أطياف المجتمع كلّها:" تونس دولة ،حرّة ،مستقلّة ، ذات سيادة ، الإسلام دينها والعربيّة لغتها ..."
    إنّها منزلة بين منزلتين لم تكن خالية من ذكاء سياسيّ وفهم براغماتيّ للمرحلة التاريخيّة ولكنها أنشأت ، من حيث تدري أو لا تدري، في سيرورتها نقيضها المكبوت والمهمّش الذي كان يترصّد الفرصة ليرفع صوته خصوصا بعد فشل السياسات الاقتصاديّة والاجتماعيّة.
     وحين بدأ هذا الصوت المخرس يمهمه، أثار في البدء استهزاء النخب الحديثة ولعنة آلة التحديث المسنودة بسلطة الدولة ثم سرعان ما بدأت المخاوف من قدرتها على إنتاج خطاب ثوريّ مناهض لدولة التنوير يعبئ الناس ضدّ مشروع الاستثناء التونسيّ في العالم العربيّ : منعا لتعدّد الزوجات و إقرارا للتبنّي وتوجّها نحو المساواة بين الجنسين وإلغاء للمحاكم الشرعيّة بتوحيد القضاء...إلخ.
   ولئن استطاع جهاز الدولة الماسك الوحيد بشرعيّة العنف أن يكمّم الأفواه ويضحّي بشباب إخوانيّ التكوين على مذبح الحداثة المبتورة المعطوبة، فإنّه ثقافيّا كان أعجز عن أن يدير في الفضاء العام ، على نحو سلميّ، الصراع بين تيارات التحديث ونزعات التنوير وتيارات العودة إلى الأصول والدفاع عن تصوّر محافظ للهوّيّة العربيّة الإسلاميّة.
    والمفارقة انّ هذا الإخماد لنار السجال الفكري صحبه إخماد لكلّ صوت دينيّ أو مدنيّ من أهل اليسار واليمين وحتّى الوسط، لتحتكر الدولة – الحزب الدينَ والحداثةَ  وتوزّع خيراتهما الرمزيّة على هوى الحاكم بأمره.فكان الحاصل مسخا لم يرض هذا الطرف ولا ذاك:دولة تدّعي المدنيّة ولكنّها توظّف الخطاب الدينيّ لصياغة إسلام رسميّ فقير معرفيّا وتدّعي التحديث ولكنّها عاجزة بمشائخها ومثقّفيها ونخبها عن تقديم قراءة مجتهدة متناسقة للمتن الإسلاميّ.
    أصوات ضعيفة تتلعثم ولا تجد إلى ماء القول الصافي  سبيلا.فعبّرت بذلك عن مأزقها التاريخيّ وعجزها المزدوج : عجز عن مرافقة الحركيّة الثقافيّة والاجتماعيّة بسبب احتكار الدولة – الحزب للفضاءات جميعا وعجز عن تجاوز التناقضات الصارخة بسبب غياب إيديولوجيّة جامعة و قيامها وصيّة على المجتمع والثروة والفكر والسياسة والدين.أتوجد شموليّة أقوى من هذا في عهد الزعيم بعد أن أضاف إليها خلفه المتوجّس خيفة من كلّ شيء قبضة أمنيّة حديديّة؟
   والمفارقة الأخرى أنّ دولة الخَلَف أدخلت إلى الخطاب السياسي التونسيّ ، لملء الفراغ الإيديولوجيّ للحزب المهيمن على كلّ شيء تقريبا ، مفردات الخطاب الكونيّ حول حقوق الإنسان والديمقراطيّة والحرّيّات وتكافؤ الفرص وغيرها من خلاصات الذكاء الإنسانيّ المتجسّدة في الإعلانات والمواثيق والمعاهدات الدوليّة.فأسهم دون قصد ولا شكّ في نشر ثقافة الحرّيّة والكرامة الإنسانيّة والحقوق لدى فئات واسعة من مجتمع شاب مشرئبّ الأعناق بموجب التاريخ والجغرافيا إلى "العالم الحرّ" ، منفتح نحتت وعيه وفكره إحدى مفاخر دولة الاستقلال : المدرسة والجامعة التونسيّة.
    يخطئ من يعتقد أنّ " الربيع التونسيّ" ، من جهة الوعي على الأقلّ ، كان صدفة.فالبون بائن بين الثقافة المنتشرة الدائرة على الحريّات والكرامة ( وهما الشعاران الأساسيّان في جميع الأحداث التي اعتملت في البلاد) وبين الواقع الذي يبرزه الخطاب السياسيّ المتهافت والخطاب الإعلاميّ المتخشّب: دولة مزهوّة بهيمنتها وتماسكها الموهوم وواقع يضيّق الأنفاس على الجميع دون رأسمال حقيقيّ أو رمزيّ يصرّفه الناس في حياتهم.هذه هي الخميرة التي صنعت منها خمرة الثورة وخبزها في قدّاس مهيب ذات صباح مشمس من شهر جانفي.
   بعيد ذلك اليوم الاستثنائيّ بدأ الجسم الاجتماعيّ يتنفّس بعد سنوات من المسكّنات والإخماد وضروب العلاجات الوقتيّة فأخرج علله وأمراضه:أوجاع الهوّيّة المأزومة وأنماط من التديّن المستوردة من فضائيّات فقهاء الظلام وبائعي الأوهام والاستيهامات و أصوات مبحوحة في السياسة والفكر.لقد بدت الحداثة المعطوبة ، في أحسن الأحوال، أقلّ تجذّرا ممّا ذهب في وهم الحداثيّين.
    غير أنّ العلاقة بين الهوّيّة المأزومة والتحديث المبتور ليست بالحدّة التي يريد البعض أن يبرزها.فقد شمل مسار التحديث الجميع بما في ذلك أعداؤه الظاهرون.إذ اجتمعت ثقافة المجتمع التونسيّ ، وإن بدرجات متفاوتة، في ملتقى القيم والمبادئ الحديثة إلاّ قلّة تشذّ لتؤكّد القاعدة.
     فإذا تركنا جانبا المناورات السياسيّة والجدالات المفتعلة لاختبار ردود الفعل أو لفت الأنظار عن القضايا الكبرى ألفينا ما يشبه الإجماع على رفض الاستبداد باسم الدين والحديث عن مدنيّة الدولة والدفاع عن حقوق المرأة ومكتسباتها الحداثيّة والتداول على السلطة التي تستمدّ من الشعب والحرّيّات العامة والفرديّة وحقوق الإنسان المختلفة بأجيالها المختلفة .والجميع يدّعي وصلا بالعروبة لغة وبالإسلام دينا للدولة وللشعب مع تنصيص على ضرورة الانفتاح على اللّغات الأخرى ورفض القراءة الحرفيّة للنّصّ الإسلاميّ.
    والواقع أنّ هذا الاتفاق الصريح في أغلبه والضمنيّ في بعض جوانبه لا يدعو إلى الاطمئنان من جهة الرهانات الثقافيّة وحدّتها.فهو في أحيان كثير رهين حسابات الربح والخسارة السياسيّين بسبب ضعف المرجعيّات الفكريّة والأخلاقيّة .
     فلا القائلون بالمرجعيّة الدينيّة يملكون من الممارسة النظريّة والرصيد الفكريّ والكتابات المتداولة ما يكفي لصياغة تصوّرات متماسكة تخرجهم وتخرج أنصارهم من ثقافة السماع والقراءات الإخوانيّة والسلفيّة والعقائديّة المنغلقة لتؤسّس فكرا إسلاميّا حديثا يؤصّل المبادئ المدنيّة في التربة الدينيّة.
   ولا أهل اليسار، بتنويعاته المختلفة القوميّة والأمميّة، بقادرين على التفاعل الجدّيّ المخصب مع المسألة الاجتماعيّة في تعقّدها وإنتاج تصوّرات مناسبة عن منوال التنمية وعلى التخلّي الجذريّ عن جميع المفاهيم المتّصلة بثقافة الاستبداد والمناهضة للحرّيّات الفرديّة في المتون التي يعودون إليها.
    ولا الليبيراليّون والحقوقيّون استطاعوا أن يخرجوا عن المعالجة القانونيّة الضيّقة للنصوص ليجذّروا في الثقافة العربيّة الإسلاميّة مفاهيم الحريّة والحقوق وينشؤوا خطابا حقوقيّا متفاعلا مع الرصيد الثقافي الحاصل في المجتمع.
   إنّه ربيع تونسيّ ، وربّما عربيّ، دون كتاب ومدوّنة للفكر الذي يقول الحرّيّة ويصوغ خطاب الكرامة ويوضّح الرهانات ويفتح الآفاق ويجذّر التصوّرات.ربيع تونسيّ مكتوب بدم العفويّة التي لا تدوم تحت ضغط اليوميّ والعابر وبأجساد انعتقت من سجنها وصنعت التاريخ  ولكنها لا ترى تأصيلها الفكريّ رغم الصراع على نمطين اجتماعيّين متضادّين.
   وإذا صحّ وصفنا لحالنا وحال الربيع الذي نفض الخطاف المبشّر به جناحيه والخريف الذي بدأت في السماء المكفهرّة تلوح سحبه ورياحه فإنّنا نكون بعيدين عن معنى النقض الذي تحمله مفردة الثورة و دلالة التأسيس التي تستلزمها.
    فمادامت الثقافة الجامعة البانية مبهمة متلعثمة متردّدة، فلا معنى للربيع ،وإنّما هو ولا شكّ خريف التفكير الكسول المستعدّ أبدا إلى النكوص والاطمئنان إلى الثوابت والمستقرّ من القيم والمبادئ والتصوّرات.
   إنّ قدر الربيع التونسيّ أن يجد في مدنيّته أسس تصوّرات جديدة خلاّقة تبني ثقافة أخرى يحتاج إليها التونسيّون بقدر حاجة العرب تاريخيّا إليها.فقد وصل المشروع التونسيّ الاستثنائيّ إلى مأزق لا يمكن أن يكون حلّه في التصوّرات المحافظة التي ولّدها فقاومته ثمّ بدت منتصرة عليه سياسيّا لا فكريّا.و لا يمكن للحلّ أن يكون في نزعات التحديث القانونيّ الفوقيّ والسياسيّ السطحيّ دون ثقافة تمسّ العمق الاجتماعيّ.
   غير أنّ الحديث عن تعبير الدولة ومنظوماتها القانونيّة والسياسيّة عن ثقافة الشعب وهوّيّته حديث خرافة لا يأخذ بعين الاعتبار دور الدولة ونخبها المبدعة في صياغة الوعي الجمعيّ، والحديث عن التطابق مع المعايير الدوليّة في بناء الحقوق والسياسات دون أخذ الخصائص الحضاريّة وتنزيلها في التاريخ والثقافة حديث غرّ لم يفهم جدليّة الكونيّ والخصوصيّ.
   إنّه مسار ثقافيّ جديد ممكن لا شيء يضمن الشروع فيه مادمنا نشهد صياح الديكة ولعبة الضحيّة والجلاّد بتغيير مستمرّ للأدوار السمجة.ولا بديل باديا غير فتح فضاء التفكير العموميّ المشترك لكتابة نصّ الثورة الحقيقيّة بعمقها الثقافي الخصيب لا بأشكال سياسيّة لن تعيد على الأرجح، إن مباشرة وإن مداورة ، إلاّ صناعة الاستبداد ولو بعد حين.
   حينها ، وحينها فقط ، سيصطفّ على هامش الحوار الجادّ وبجانب حلبة الصراع الفكريّ العاجزون ثقافيّا والمنغلقون فكريّا والقاصرون إبداعيّا .سيجدون أنفسهم  في العراء ينمّون عزلتهم معرفيّا وأخلاقيّا وإيديولوجيّا .
   حينها ،وحينها فقط ، يمكن تحقيق استعارة الربيع وتثبيتها في الواقع واستبعاد استعارة الخريف بجميع إيحاءاتها السالبة.والأرجح أنّنا سنعرف خلال ذلك قرّ الشتاء وعواصفه وقيظ الصيف ولفح هجيرته.
بعيدا عن التفاؤل والتشاؤم وما بينهما ،لا شيء يطمئن ...لا شيء مكتسب ...فالباب مفتوح للممكنات جميعا بما فيها انقلاب الربيع المدنيّ ربيعا للاستبداد باسم الدين.حينها ستتساقط الأوراق من شجرة الحلم الخضراء معلنة،للأسف، عن خريف طويل طويل.
                                                     

lundi 9 avril 2012

إلى السيّد وزير الداخليّة


سيدي الوزير ،
    أهدي إليك بمناسبة عيد الشهداء وبداية السقوط الأخلاقي لمن وصلوا إلى كرسي الوزارة بفضل المظاهرات غير المرخّص لها في شارع الحبيب بورقيبة هذين البيتين للشاعر التونسي منوّر صمادح وقد كتبهما بعيد الاستقلال .
    وأشهد انّ القمع غير المبرّر الذي رأيته اليوم في أحياز شارع الزعيم يجعلني أقول في ما بيني وبين نفسي " ما أشبه اليوم بالبارحة " وأردّد قول القائل إنّ التاريخ فعلا "يعيد نفسه في شكل مهزلة أو مأساة".


                                   عهدي به جدّا فكان مزاحا       بدأ الضحيّة وانتهى السفاحا
البابُ فتّحه الذين استشهدوا     فلمن تُرى قد سلّموا المفتاحَا

           

mardi 3 avril 2012

انتهى الحفل الانتخابي ، ثمّ ماذا؟





    انتهت انتخابات ممثّلي الطّلبة بالمجالس العلميّة بمفاجآت سارّة للجميع تقريبا. فأمّا طلبة الاتّحاد العام لطلبة تونس (المحسوب على اليسار) فقد اعتبر النّتائج نصرا تاريخيّا يؤكّد وقوف النّخبة ضدّ النّهضة ومشروعها الاجتماعي والسّياسي وأمّا طلبة الاتّحاد العام التونسي للطّلبة ، المحسوب على الإسلاميّين و المدعوم صراحة من شباب حركة النّهضة ، فقد اعتبر النّتائج مشرّفة له بعد عقدين تقريبا من المنع و القمع .و أمّا سلطة الإشراف فقد سجّلت بارتياح كبير انتهاء الانتخابات دون مشاكل تذكر و أمّا رؤساء الجامعات و المسؤولون على المؤسّسات ، مديرين و عمداء ، فقد تنفّسوا ،والحقّ يقال، الصّعداء لأنّ التوقّعات كانت منذرة بعنف كبير بين اليساريّين والإسلاميّين.
انتهى الحفل وخرجت جميع الأطراف منتشية. ولست أريد أن أكون مفسدا لهذه الفرحة ولا لهذا الانتشاء. فقط أودّ أن أبرز ما أراه جزءا فارغا من الكأس. فقد ثبت ضعف مشاركة الطّلبة في اختيار ممثليهم في هيكل بيداغوجي وعلميّ محوريّ في حياة المؤسسات الجامعية إذ لم تتجاوز النسبة وطنيّا خمس الطّلبة المسجّلين بل سجّلنا ،للأسف ، عزوفا من طلبة بعض المؤسّسات عن التّرشّح أصلا لتمثيل زملائهم.
ولئن ركّز المعلّقون على التّنافس بين الاتّحادين الطّلاّبيين فإنّ الواقع الجامعيّ يؤكّد الحضور القويّ ، ترشّحا وفوزا ، لمن اختاروا تسمية أنفسهم بالطّلبة المستقلّين. وهم الفائز الأكبر في انتخابات 15 مارس 2012 من حيث العدد. والواقع أنّنا لا نثق تماما في هذه الاستقلالية لأنّها تضمّ فعليا طيفا واسعا يمتدّ من طلبة التّجمّع سابقا إلى الطّلبة السّلفيين دون أن ننفي عددا ممّن لا يجد في شعارات اليسار ولا اليمين ما يعبّر عن اختياراته.
غير أنّ السّؤال الذي يدعو فعلا إلى التفكير هو : إلى أيّ مدى يمكن لهؤلاء الفائزين أن يمثّلوا زملاءهم ويعبّروا عن شواغلهم ويبلّغوا آراءهم ويدافعوا عنها ويساهموا في حلّ ما أمكن من مشاكلهم ؟ وإلى أيّ مدى يمكنهم أن يكونوا في الآن نفسه مؤثّرين في زملائهم قادرين على تأطيرهم وبلورة تصوّرات بيداغوجية وجامعية جزئية في كلّ مؤسّسة أو كلّية تهمّ المنظومة كلّها ؟
إنّ وراء هذا السّؤال سؤالا أهمّ مداره على كيفية خروج ممثّلي الطّلبة بالمجالس العلمية من منزلة "الملاحظ" في أحسن الأحوال، إلى منزلة الشريك الفاعل ذي الدّور الأساسي في القرار الجامعي. وإذا نظرنا إلى الأمر نظرا موضوعيا وجدنا خلطا قد يكون مبرّرا عمليّا بين العمل النّقابي في الوسط الجامعي ومهامّ ممثّلي الطّلبة بالمجالس العلمية. فلئن كان النّشاط النّقابي متعدّد المحاور متّصلا بقضايا كبرى تخصّ الطّلبة جميعا وتتجاوز كل مؤسّسة على حدة (كالسّكن والتّنقّل والمنح والتّربصات والصّحة وآفاق التشغيل ومنظومة التكوين...إلخ ) فإنّ التّمثيل الطّلاّبي داخل المؤسّسات أعلق بالقضايا الخصوصيّة والمشاركة في حياة المؤسّسة وهياكلها الدّاخلية من أقسام بيداغوجية ومجالس تأديب وفضّ للمشاكل الفردية والجماعية الطارئة وإيجاد صيغ سليمة للتّواصل بين الطّلبة والإدارة من جهة وبينهم وبين الأساتذة من جهة أخرى.
إنّ تعقّد مشاكل الطّلبة وتراكمها منذ عقود وانشغال النّاشطين النّقابيين بالجانب السّياسي لمقاومة الدّكتاتورية ومسار القطيعة التّنظيمية والسّياسية التي تولّدت عن حركة فيفري 1972 وغيرها من المعطيات قد شلّت فعليا العمل النّقابي بالجامعة وأضعفت قدرة الاتّحاد العام لطلبة تونس عن تحقيق مكاسب حقيقيّة للطّلبة تارة بسبب تعنّت النظام وتارة أخرى بسبب رغبة بعض مكوّناته عمّا يعدّ ، عندهم باسم الثوريّة،عملا إصلاحيا. فخسر الطّلبة ليزداد بؤسهم وخسر الاتّحاد ليزداد تشرذما وراديكالية لا تتجاوز الشعارات.
 والحاجة اليوم ماسّة لردّ الاعتبار إلى العمل النّقابي وفتح الملفّات الحارقة ومعالجة المشاكل المزمنة خدمة للطّالب وللجامعة ولمستقبل النّخبة التونسية. وبالمقابل فإنّنا نحتاج إلى إعادة النّظر في صيغ التّمثيل الطّلابي بالمجالس العلمية والأقسام البيداغوجية وآليات العمل الطلابي بالجامعة عموما.
من ذلك أن تشريك الطلبة تشريكا ناجعا وتمثيلهم تمثيلا فعليّا لا يمكن أن يظلا على الصّورة المعمول بها حاليا. فالرّأي يتّجه نحو اختيار ممثّلي الطّلبة في مستويات متعدّدة.
 أوّلها مستوى كلّ فريق من فرق التّدريس حتى يكون الطّالب المنتخب من زملائه ممثّلا لفريقه أمام إدارة القسم والأساتذة. وثانيها مستوى سنوات الدراسة داخل القسم الواحد ليصبح الطالب المنتخب من بين ممثلي الفرق المحاورَ المباشرَ لرئيس القسم في كل ما يتّصل بسير الدروس والعلاقات بين الطلبة والأساتذة والمشاكل الطارئة في الاختبارات والامتحانات. وثالثها مستوى المعهد العالي أو المدرسة أو الكلّية ليكون الطالب المنتخب من بين ممثّلي الأقسام ممثّلا للطّلبة في المجلس العلمي. حينها ستتوفّر للطّلبة والإدارة معا عبر الديمقراطية المباشرة ومن خلال المشاركة القاعدية في كلّ فريق وفي كلّ قسم صيغ مرنة للتّواصل والتّحاور في قضايا الطلبة وشواغلهم.
 وهي صيغ ستمكّن في ظنّنا، إذا عاضدها العمل النّقابي بعد هيكلة جميع الأجزاء أو جلّها ، وتدعيم العمل الجمعياتي ، وتطوير عمل النّوادي المختلفة ، من تغيير جذري في الحياة الجامعية و تتيح إمكانات أوسع لتناول القضايا ومعالجة المسائل فرديا وجماعيا على نحو تشاركي يكون الطلبة وممثّلوهم فيه فاعلين مؤثّرين .
لقد انتهى الحفل ، حفل انتخابات ممثّلي الطّلبة ، وانتصر المنتصرون وانهزم المنهزمون ولكن مسألة التّمثيل الطّلاّبي والدفاع عن حقوق الطلبة عامة وحقهم في المشاركة تظلّ في حاجة إلى تدبّر و تفكير.