jeudi 29 janvier 2015

"Attalyani" : Le roman de la Tunisie moderne

'
Chokri Mabkhout
kapitalis 26 janvier 2015.

Par Samir Messali

'Attaliani'' est le roman d'une génération, celles des années 70-80, éprise de liberté et de progrès, mais soumise aux affres de la dictature.
La rentrée littéraire de cette année a été marquée par la parution d'''Attaliani'' (éd. Attanouir), roman en langue arabe de Chokri Mabkhout, qui, comme les bons romans, vous accroche dès le premier chapitre et vous ne le lâchez qu'après l'avoir terminé.
Le roman relate le parcours du turbulent Abdennaceur, beau comme un Italien (d'où le titre du roman) et rebelle, qui commence dans la maison familiale de Bab Jedid, quartier populaire au centre-ville de Tunis, où, très jeune, il réussit, grâce à sa forte personnalité, à échapper à l'autorité maternelle et à imposer son indépendance.
Devenu par la suite leader du mouvement de la gauche estudiantine, il fait la connaissance, lors d'une arrestation, avec Zina, une étudiante rebelle comme lui, originaire d'un village du nord-ouest, dont il tombe amoureux et avec laquelle il finit par se marier.
Pour gagner sa vie et subvenir aux besoins de son jeune couple, Abdennaceur finit par quitter la faculté et devient journaliste dans un journal du gouvernement.
L'histoire continue avec la relation tendue entre Abdennaceur et Zina, dont la grande détermination à réussir ses études finit par fragiliser le couple. Elle continue aussi avec l'ascension professionnelle d'Abdennaceur et sa relation privilégiée avec le directeur du journal, qui lui permet d'avoir une fenêtre sur les rouages du régime, d'abord celui de Bourguiba en fin de règne et ensuite celui de Ben Ali.
Le roman relate aussi, en filigrane, l'histoire de la gauche tunisienne, ses combats et ses désillusions, face au pouvoir, d'abord, et, ensuite, face à la montée des islamistes, à l'université, dans la société et sur la scène politique.
'
'Attaliani'', dont le récit commence à Bab Jedid et s'achève dans un appartement du quartier huppé Ennasr, décrit aussi, au fil des pages, la croissance urbaine de la ville de Tunis et la lente décadence de la vie sociale dans la vieille médina, peu à peu abandonnée par ses habitants.

Ce qui fait l'originalité de ce roman, c'est le tableau fouillé que brosse l'auteur d'une société tunisienne en pleine mutation. Tout y passe: les relations humaines, les ambitions, l'argent, la sexualité...
Grâce à sa grande maîtrise de la langue arabe, Chokri Mabkhout parvient à décrire les situations les plus complexes, les sentiments les plus ambigus et même les rapports sexuels les plus chauds sans tomber dans la vulgarité du voyeurisme.
Le tableau social brossé est presque complet: le vieillard impuissant, la femme insatisfaite, la divorcée experte, la novice en quête de sensations fortes, jusqu'à la tentative de viol ou le viol de mineurs... L'auteur déroule son miroir avec un souci de vérité et une justesse de ton qui donnent à son roman une saveur particulière.
Bref, ''Attaliani'' est le roman d'une ville, Tunis, d'une société tunisienne tiraillée entre la tradition et la modernité, et d'une génération, celles des années 70-80, éprise de liberté et de progrès, mais soumise aux affres de la dictature.

vendredi 23 janvier 2015

الطلياني قراءة للفكر اليساري


ابراهيم بن صالح: رواية الطلياني قراءة للفكر اليساري



ما استخلصته من قراءة الرواية أن اليسار يحمل بذرة عاهة في أصل تكوينه وهذه العاهة تتمثل في
 تبني إيديولوجيات ثورية لا سبيل إلى أن تتماهى مع الطبقات الإجتماعية المحرومة والكادحة وإنما هي لتتجاوز نقائص
فردية و عاهات اجتماعية، بحيث كانت الإيديولوجية الثورية هي التي سمحت باللقاء بين الشخصيتين «البلدية، عبد ناصر وزينة» الفتاة الريفية وعندما سقطت المنظومة الاشتراكية في أواخر الثمانينات لم تعد تقوم وظيفتها في تجسير العلاقة بين الشخصيتين فبرزت العاهات الاجتماعية المتأصلة وهي «ريفي بلدي» وصار البحث من جديد عن الهوية «الفردية» فإذا «بزينة» تتخلى عن الإيديولوجيا الثورية وصارت تبحث عن الأجنبي الذي يرمز إلى عالم الحريات الفردية أما «عبد الناصر» فقد انكفأ على نفسه واستحالت مشكلته الاجتماعية مشكلة وجودية إذ اليسار يحتاج إلى مراجعة نفسه في التعامل مع الواقع.
إن رواية الطلياني هي لحظة تقويم لمسيرة اليسار ودعوة إلى مراجعة اختياراته ومواقفه حتى لا تكون نهايته نهاية «زينة وعبد الناصر». ولابد أن أشير إلى أن الروائي شكري المبخوت في رده على سؤال لبعض الحاضرات لماذا جعلت الشخصيات اليسارية شخصيات فاسدة أخلاقيا؟ كان رده : «أنا لا أكتب عن مناضل يظهر في مظهر السوبرمان الذي لا يضعف في كل الأوضاع ويصمد في كل الظروف أو ليست له حياة وجدانية حميمية. المناضل عندي إنسان والإنسان له تركيبة من القوة والضعف المتداخلين فليس هناك أبيض وأسود أو خير وشر أو فضيلة ورذيلة وإنما الإنسان له عدة أبعاد وفيه من كل شيء إلا أنه يكون في جهاد مستمر ضد نفسه أحيانا. ثم يضيف المبخوت الإنسان المناضل الكامل غير موجود في نظري وإذا وجد لا أكتب عنه أنا أكتب عن المناضل الإنسان الذي يؤمن بالفرد والقيم الفردية والحريات الفردية.

الطلياني لحظة تقويم مسيرة اليسار


الطلياني لحظة تقويم مسيرة اليسار و دعوة إلى مراجعة اختياراته: الطليانيّ سيرة أم رواية ؟


نظمت جمعية الدراسات الأدبية بصفاقس زمسية ثقافية تولّى خلالها الأستاذ أحمد السماوي تقديم قراءة في رواية شكري المبخوت «الطلياني» بحضور الروائي وعدد هام من مثقفي الجهة.
وعن هذه الرواية قال السماوي: «بنية رواية الطلياني للأستاذ شكري المبخوت تذكّر ببنية الرواية البوليسيّة وإن ليس ثمّة جريمة ولا تحقيق بل لغزٌ يجعل الراوي كالمرويّ له وراء فكّه. ولا يُفَكّ اللغز إلاّ في آخر الرواية. ووجود حكاية وقيام الرواية على لغز وتوافر حبكة جيّدة هي كلّها عوامل لنجاح الرواية في إمتاعها لقارئها وفي جعله يدرك ذلك ويشعر به.
بيد أنّ الرواية التي نهجت النهج البوليسيّ في الاستقصاء وعرفت شكل البناء الهرميّ في المسرح أو الملحمة تُلبِس على قارئها إذ لا يدري إلى أيّ نوع سرديّ ينسبها، إلى الروائيّ أم إلى السيريّ أم إلى السير ذاتي؟ ثمّة كثيرٌ من المعطيات تيسّر انتماءها إلى الرواية. ولا أدلّ على ذلك من الإشارة النصّيّة على غلاف الكتاب ومن قيام النصّ على سرد بضمير الغائب تارة، فإذا
الراوي غفلٌ أي مجهولٌ، وبضمير المتكلّم، فإذا بالراوي سيرذاتيّ. أمّا السيريّ فيبرهن عليه سَوْق الراوي من الذاكرة أو ممّا أبلغته إياّه الشخصيّتان الرئيستان عبدُ الناصر وزينة من معلومات تخصّ شخصيْهما ونضالَهما طالبيْن في صفوف اليسار وعملَهما في الصحافة أو في التدريس. وأهمّ ما ألحّ عليه الراوي في كلامه على صديقيْه عيشُهما في صباهما وظلّ ذلك بمثابة الوشم الذي طبعهما. فآل أمر ناصر إلى أن يدمن الخمرة والنساء ويتنكّر لماضيه اليساريّ النشط. أمّا زينة فأبت أن تُبقِيَ على علاقة الزواج بناصر وأصرّت على الطلاق منه لتتزوّج إيريك ش. الفرنسيّ. وأمّا السيرذاتيّ فيتجلّى من خلال حضور الراوي بضمير المتكلّم من حين إلى آخر ليثبت أنّه موجود متكلِّما، وإن غادر الحكاية والسردً. ويتجلّى ذلك في وقوفه من صنيع صديقيْه موقف المقوّم والمعلِّق.
وفي هذه الرواية طغيانٌ واضحٌ للخطاب الواقعيّ. فالراوي يعمل على أن يمّحي من التلفّظ ما وسعه، ويصرّ على التسمية ما أمكن، ويورد من التواريخ الدقيقة والتفاصيل المضبوطة ما لا يرتاب معه القارئ في أنّ الحكاية كذلك جرت. ولئن كانت شخصيّات الرواية كثيرةً عدّاً فإنّ ما يميّزها هو دورانها جميعاً حول محور هو الشخصيّة الرئيسة عبدِ الناصر. فهو ينهض بأدوار عديدة ويظهر في اللحظات الحرجة التي تمر بها حبكة الرواية. إلاّ أن شخصيّة زينة لا تقلّ عن شخصيّة ناصر قيمةً، وكذا أمر الراوي الخفيّ الاسم على امتداد الرواية. فهو على صلة متينة بالشخصيّتيْن الأخرييْن يعرف عنهما أكثر ممّا يعرف أحدهما عن الأخرى. وهو لهذا السبب، يستنكف من كلّيّة حضوره ومن كلّيّة معرفته، فيخفّف منهما باستناده إلى أطراف أخرى يستقي منها معارفه حتّى يثبت أنّه لا يفوق البشر قيمة كما هو شأن الراوي الكلّيّ المعرفة عادة. ورغم سعيه ذاك، يظلّ دوماً عاجزاً عن شكم نفسه.
ولعلّ تماهيه أحياناً مع الشخصيّة أن يخفّف من غلواء هذا التطرّف في المعرفة، فيبدي ارتياباً أو ترجيحاً أو تعويما لفكرة مّا. وإذا ما لم يتماه سمح للشخصيّة بأن تبدي رأيها مباشرة. وقد يسرّد أحيانا آراءها. وهو، في كلّ الأحوال، يبغي تأثيراً في سامعه عبر تقديمه صورة عن نفسه مرضيّةً. وما يميّزه أساساً هو وقوفه من صديقيْه موقف الحاني المعجب بشجاعتهما الراغب في أن يكون الوئام سيّد الموقف بينهما؛ لكنّه لا ينفكّ يعبّر عن خشيته من أنّ مصيرهما المحتوم، وهو السقوط، سيكون آخر عهدهما بالحياة المشتركة. والمهمّ هو أنّ الليلة الفاصلة بين بقائهما على وئام وانفراط عقدهما هي ليلة السابع من نوفمبر والتي فيها يعدّ بن علي للانقلاب على بورقيبة. فإذا هذه الليلة الواردُ الكلام عليها في وسط الرواية أي في أوج الحبكة تستدعيها لحظةُ السبّ والضرب اللذين حصلا في المقبرة إبّان دفن الميّت أبي ناصر لتكون وجها من وجوه التفسير لهذه الواقعة.

jeudi 15 janvier 2015

الطلياني : في زمن الغصب

الطلياني : في زمن الغصب


                                            بقلم:شعبان الحرباوي

ليس باليسير على الرّوائي أن يستحضر التاريخ بكثافة أو أن يجعل منه رافدا سرديا هاما في أعماله الابداعية لأنّ المزاوجة بين وقائع موثّقة وأخرى من صنع الخيال تبدو عملية فنيّة مضنية. هذا فضلا عن صعوبة تصريف الأحداث الحقيقية روائيا، إذ هي مادة سردية سميكة قلّما تترك في نسيجها فجوات للإبداع: شخوصها مُكْتَمِلة و وقائعها ثابتة لا تقبل التّطويع. لذلك لا يجرؤ الروائيون  غالبا على اقتحام قلعة التاريخ إلاّ في فترة متأخّرة من مسيرتهم  وبعد مخاتلته عبر تجارب روائية عديدة. لقد روّض  الكوبي ليوناردو بادورا،مثلا، تاريخ بلاده المعاصر طويلا، فبث منه شذرات ،هنا وهناك، في نصوصه قبل أن  يخوض فيه رأسا في"النجمة و النخلة" ، وكابد عبء التحقيق والتوثيق ليصوغ اغتيال الزعبم الشيوعي تروتسكي صياغة فنية ممتعة في عمله قبل الأخير " الرّجل الذي كان يحبّ الكلاب."
كانت تتجاذبني كل هذه الأفكار عندما شرعت في قراءة رواية " الطلياني "الصادرة بدار التنوير للطباعة و النشر في 2014. يسرد فيها صاحبها محنة الثنائي  عبد الناصر و زينة مُسْتَجليا جوانب عديدة من تاريخ تونس في العقد الأخير من القرن الماضي. ولا أخفي إنّي جئتُ الكتابَ مُتَهيَبا ربّما بفعل المفاجأة. وأيضا لما تنطوي عليه هذه التجربة من مجازفة حقيقية. ف"الطلياني" رواية بِكْرٌ لأستاذ  لامع ترسّخت قدمه في حقل البحث الجامعي.  لكن  يبدو أنّه حذا  حذو زميله حسين الواد،  فنزع عن نفسه عباءة الأكاديمي ليخوض غمار الكتابة الابداعية.  على كلّ، وفي حدود ما أعلم، لم تكن مشاغل المبخوت الفكرية  المُعْلَنة  تؤشر من بعيد أو من قريب عن انخراطه (عن تورّطه) في ا لإبداع  الرّوائي تحديدا.
تبدأ الرّواية من حيث انتهت الحكاية: في موكب دفن والده بمقبرة الجلاّز،  يعتدي عبد الناصر، شٌهِرَ الطلياني،  على جارهم  الإمام علاّلة بالعنف الشديد وهو يؤبّن الفقيد. فتُحْدِث فِعْلتُه الشنيعة صدمة كبيرة لدى أفراد عائلة المرحوم سي محمود وأهل الحي و تثير استغرابهم الشديد كما تثير فضول  القارئ وتشدّه الى  النّص طلبا في المزيد من الوقائع. يستعرض الرّاوي، في سرد استرجاعي، الأحداث بحثا عن الأسباب والحيثيات، فيطوف في حياة  صديقه  ورفيق دربه عبد الناصر  ليغوص في جوانبها المُعتَّمة بكثير من التأني والصبر إلى أن يبوح الطلياني، في الصفحات الأخيرة من الكتاب، بسرّه الدفين، فيسرد له بعسر شديد و لكن بكل دقّة "نازلة السقيفة" وكيف استفرد به علاّلة  في طفولته واغتصبه ذات قيلولة.
تتنزّل واقعة السقيفة في الرّواية منزلة  الحدث المحوري لا لأنّها تحتلّ مفاصل القصّة فحسب بل لأنّها أيضا ظلّت مطمورة طويلا  في  ذاكرة عبد الناصر لم يقدر على الافصاح عنها؛ فبات شبح علاّلة  حاضرا-غائبا في متن الرّواية، يتوارى   خلف الأحداث والسّنين  لكن سرعان ما  يطفو من جديد كلّما تقاطعت الدوائر وجرّت عبد الناصر إلى فضاءات الطفولة الأولى وشخوصها وروائحها بالمدينة العتيقة. تعاني حبيبة الطلياني، زينة ،هي أيضا، تبعات اغتصاب تعرّضت إليه و هي صبية في كوخهم بريف نفزة عندما أقدم أخوها أو أبوها على   فض بكارتها ليلا في غفوة من نومها . فكانت نازلة الكوخ الأليمة. ثم حلّت بها محنة ثانية في سنّ الشباب و برحاب الجامعة: تحرّش بها  أستاذ الفلسفة واستعمل  سلطته لإسقاطها في مناظرة التبريز بعد أن رفضت مضاجعته.
بيد أنّ شكري المبخوت، وإن أولى الجوانب النفسية اهتماما مخصوصا، فإنّه سعى في هذا السرد  الإسترجاعي واللولبي إلى نسج روابط خفية بين مسارات فردية  يتداخل فيها الاعتداء الجنسي  بأشكال من الغَصْب المجتمعي، فجعل  من الاغتصاب ظاهرة متعّددة الجوانب تتخطّى  المدلول اللغوي للكلمة لتفضح حالات من الانتهاك يختلط فيها الجنسي بالقيمي، المادي بالرمزي و الفردي بالجمعي. الغصب حاضر في رواية" الطلياني" حضورا مكثفا: بصوره، بمعجمه  وبكلّ تفرّعاته الدلالية وآثاره الكارثية. ما حدث لزينة  في الكلّية، على سبيل المثال،  دمّر مستقبلها العلمي الواعد وخرّب حياتها العاطفية والزوجية . فمنذ رسوبها، بدأ انحدارها في هوّة لم تعرف قرارا. والحال نفسه بالنسبة إلى للاّ جنينة، التي زوّجها أبوها بعلالّة العنّين فهُتِك سِتْرُها و اختلت كل موازينها لتُدْمِن، مقهورة، على مضاجعة الصبيان جهرا بعدما كانت أيقونة الحي جمالا ومنزلة.
لكنّ زمرة المُنتَهَكين في الرّواية تزداد اتساعا لتشمل كٌلَّ من طاله "الأخذُ عُنوَة"  لا سيما في المجالين الفكري والسياسي . إنّها بلوى قديمة في تونس.استفحلت  عدواها زمن الجنرال الجاهل زين العابدين بن علي. لقد برع عبد الحميد، الرّئيس المدير العام للجريدة الرسمية، طيلة مسيرته الصحفية في التماهي مع السلطة القديمة، ثمّ مع الجديدة. وأجاد فنّ "التقفيف" لهما تباعا. بيد أنّه كان  يشعر دوما في أعماقه بخيبة المغلوب على أمره بعدما دجّنه النظام الأسبق وأجهز المُغتَصِبُ الجديد للسلطة، سنة 1987، على ما تبقّى من حلمه المهني وطموحه الفكري.  وقد أسرّ لعبد الناصر  بهذا الإحساس السلبي الذي لا يقلّ مهانة عن شعور المفعول به جنسيا. قال عبد الحميد لعبد الناصر على انفراد مبرّرا معاشرته القسرية لنظام لايقبل إلاّ بالمثقف المُومِس و الصحافي الخنوع :" طبعا كلّنا براغ في هذه الآلة الضخمة،آلة تعميم  التفاهة والكذب. أنا طيلة حياتي لم أعرف مهنة  غير هذه. ماذا تريدني أن أفعل؟ خبزة مرّة، وفصام عليّ أن أتحمّل  مسؤوليته و إلاّ جُنِنتُ فأُنقَل إلى مستشف "الرّازي" أو أنتحر أو أصبح معارضا. و كلّها ضروب من الجنون لا أقدر عليها. لقد صفّر القطار  وانطلق مسرعا منذ مدّة. .
كثيرا ما ينخرط  الصديقان، عبد الحميد و الطلياني، في خطاب تجريحي فاحش يجْلِد الذّات،  يقرّح  البلاد و العباد، وكأنّهما يثأران لنفسيهما من عجز الجميع  عن صدّ العُنْوة السافرة، أوبالأحرى،  كأنّ الاغتصاب بات في أذهانهم معطى تاريخيا أو  قدرا  محتوما: " لهذه البلاد قابلية للفتح والإخضاع، ركبها القرطاجنّيون و الوندال و الرومان و الفاتحون والشيعة والخوارج وبنو هلال و الأتراك والإسبان و الفرنسيون. توجّعت قليلا لكنّها  كانت تحتضنهم بصدر رحب. و رغم قشور  المحافظة والتّديّن  ظلّت تمارس عهرها و لا تطلب إلاّ  الستر".
تشكّل السياقات السياسية و الاجتماعية في التسعينات الزمن المرجع للرواية وقد اتّسمت أساسا ب"صعود الإسلاميين وتحوّلهم الى قوّة ضاربة  في الجامعة و المجتمع" من جهة،  وبإرساء بن علي لنظام الاستبداد و الليبرالية المتوحشة في تونس، من جهة ثانية. إذا استثنينا روايتين أو ثلاث، يجوز القول إن هذه الفترة الدّقيقة من تاريخنا   لم تحض بعد ، كمادة سردية،  بالاهتمام المأمول   ربّما لأنّها قريبة من حاضرنا ولا تزال ممتدّة فينا  بكوابيسها و مآسيها . فإذا ركّز شكري الميخوت  على الجوانب  السياسية (سقوط نظام" المجاهد الأكبر"- السابع من نوفمبر- الحملات المتتالية ضد المعارضين، إلخ.)، فليس شغفا منه بالتوثيق التاريخي بل لحرصه على تثبيت الشخوص في زمنها وشدّها إليه،  عساه  أن يبْنِيَ بينهم و بيننا تلك المسافة الصحّية والنقدية الضرورية.  وفي واقع الأمر، فإنّ رواية "الطلياني" لا تؤرخ لأحداث  بعينها  فقط بقدر ما ترصد ظاهرة العنف السياسي الذي استفحل بالجامعة  بين رفاق عبد الناصر اليساريين و طلبة الاتجاه الإسلامي  و كيف توخّى النظام  القمع أسلوبا مُمَنْهَجا  إزاء الحركتين، لا سيما تجاه  الإسلاميين.
في  رصده للصراع الأيديولوجي الدّائر بالجامعة التونسية آنذاك، توقّف شكري المبخوت طويلا عند تجلّيات الخطاب الطلاّبي الذي اتّسم يمينا ويسارا  بإقصائية مُفْرِطة وتحجّر فكري غير مسبوقين. وسعى جاهدا إلى إخراجه إخراجا روائيا يقلّل من  نُتُوءَاته الحادّة و يخفّف من وطأته على القارئ، رغم أنّ تلك الأطروحات كانت ولا تزال  عسيرة الهضم، قراءة وفهما، وكأني بذلك الخطاب السِّجالي والمُحَنَّط،، بشقّيه، يرفض التطبيع مع التاريخ و لا  يروم حتّى  أن يناله شرف المعالجة الرّوائية.
لكن وجب التوكيد في هذا الباب على أنّ المبخوت اعتمد في سرده للأحداث السياسية الكبرى( سقوط بورقيبة و صعود بن علي، إلخ.) مقاربة باطنية،  فالوقائع  الكبرى تُروَى في النص  وقد استبطنتها الشخوص الرئيسية لتطفو في السرد طفوا مُشبَعة  بما يعتمل في أعماق زينة وموسومة بمتعاعب الطلياني. تتواتر أخبار الإيقافات بالجامعة  في متن الرّواية، بيد أنّ الرّاوي لم  يصوّر منها الاّ مشهدا وحيدا واختزلها كلّها  في تجربة شخصية عاشها عبد الناصر من داخل مكتب الأبحاث بمركز القرجاني. كذلك الأمر بالنسبة لأمهات الأحداث السياسية حيث يتكفّل بالخوض فيها عبد الحميد  أثناء  لقاءاته المنفردة  و مآدبه الليلية مع أمين سرّه عبد الناصر. بين  الحدث و الآخر، بين مركز البوليس و مكاتب الجريدة، بين تحقيقات عبد الناصر و تعليقات مديره يُعَادُ روائيّا  نسجُ خيوط الحقبة التاريخية عبر التجربة الذاتية للشخوص.
لقد تكرّرت عبارة" الدرب"وبعض مترادفاتها  في عناوين الفصول . فمن " الزقاق الأخير" الى " رأس الدرب"،  تمرّ حكاية عبد الناصر مع زينة بمنعرجات" و"دروب ملتوية" و"مسالك موحشة" ومنحدرات. وكثيرا ما  تصطدم ب"سكك مقفلة"،  شأنها شأن السياقات العامة وإن اختلفت الزوايا والمستويات. فكثرة الدروب المعطلة إنما تُحيل على  متاهة فكرية وعاطفية واجتماعية باتت تمثّل، بعد افتراق الطلياني و زينة، الخيط الوحيد الذي يربط بين بطلي الرّواية: لقد  قطعت زينة المهاجرة  كل صلة بتونس وانقطعت أخبارها وذهبت ريحها. أمّا الطلياني فإنّه يعاني من  وحشة الأمكنة  وضياع   وجودي لم يعرفهما  حتى في أحلك أيام النضال بالجامعة. كما نال  نصيبَه من الغصب الفكري إذ اضطُرّ إلى الانخراط مهزوما في ركاب "المُطَبّلين" بعدما تبيّن، في الآخر، أنّ حياته لا تعدو أن تكون" مسارا من التلاشي و الخيبات و الخيانات الصغيرة".
رغم أنّه " قد أضاع الجهات الست"، كما يقرّ بذلك صديقه الرّاوي، فالطلياني أبعد من يكون عن صورة المثقّف النمطي الذي كثيرا ما تدفعه هزائمه الى التّبرّم من الحياة، بل هو شديد التعلّق بملذّاتها جميعا، وبجسد  الأنثى  تحديدا. في  رواية شكري المبخوت،  يتمتّع الجسد  بحضور لا يخلو من مفارقة لافتة: فإذا كان يحمل، عند جل الشخوص، ذكرى انتهاك أو اغتصاب أو إهمال جنسي، وهو بالتالي  مصدر وجع  لا يخبو وتشوّهات نفسية لا تنمحي أبدا،  فللجسد  أيضا صولاته وأوقاته البهيّة. لم يتوانى الرّاوي في الاحتفاء بها  إذ ركّز على تصوير مشاهد حميمية متواترة بين عبد الناصر وزينة، وبينه وبين نجلاء  تعبّر بزخمها  الجنسي والعاطفي عن ضرب من ضروب المقاومة درءا للانحباس العام ودفاعا عن متعة الجنس  كآخر مربع لفرحة الحياة.  لذلك كلّه تكاد تكون العلاقة الجنسية  الركنَ المضيء الوحيد  في مسيرة كل هؤلاء المأزومين لا سيما الطلياني الذي بقي يتوفّر على  رغبة هوجاء تستنفر الحواس وعلى فحولة تهزّ جسدي زينة و نجلاء هزّا. فعبد الناصر، كما تراه زينة:" شهوة موقوتة لا تعرف متى تنفجر ولا تترك في الجسد مكانا لا تصله  الحروق اللذيذة والشظايا القاتلة"، " تجوس يداه في ملمسها ( زينة) الليّن،تصبح غصنا أخضر يتلوّى كلما مسّته ريح الرّغبة" وتتجلّى، لمسا واعتصارا،  مواطن الفتنة في جسمها الملتهب عبر  "ألاعيب اليدين والرجلين وتنويع الوضعيات  اعتلاء واستفالا". لكن هذا البعد الأيروتيقي للجسد  يفقد شيئا من جذوته والمشهد كثيرا من نضارته في النّص عندما يستعيد  المبخوت، لوصف التناغم الجنسي والحسي بين الطلياني ونجلاء، صورة  الفرس الجموح وراكبها الفارس القدير. إنّ تواتر هذه الصورة النمطية القديمة في جنبات الكتاب،على شاعريتها الكبيرة،لا تعاضد مسعى الكاتب لتأسيس لغة سردية مخصوصة.
لقد طوّع شكري المبخوت حقبة التسعينات و ذوّب جانبا من مادّتها  التاريخية الصّلبة  في ثنايا النص. فصاغها كمناخات عامة وفردية في الآن نفسه تلعب فيها الأحداث السياسية الكبرى دور المفاتيح دون أن تضاهي، روائيا، طقوس حكاية الطلياني و زينة الممتعة.  كما فعّل درايته الدقيقة  بمُدَوّنة الحب العربية لتعميق تجربة عبد الناصرالعاطفية و الوجودية. لكن،  بقدرما نثمّن، كقرّاء، الثقافة الأدبية والفكرية التي تسند رواية "الطلياني" و تثريها لغة و تصوّرا، نعوّل على حسّ المبخوت النقدي لنزع الأحجبة البلاغية عن الجسد و عن هوامله في أعماله اللاحقة.

* شكري المبخوت،" الطلياني" ، دار التنوير للطباعة و النشر، تونس،346 صفحة 2014 .

* مقال نشر بموقع "آداب تونسيّة" / "Lettres Tunisiennes"



mercredi 14 janvier 2015

الآثار التي تتركها الأرجل المتعبة أهمّ من الطرق...

الشعارات التي رفعت خلال الرp;hvبيع اجتماعيّ
حوار مع موقع "المدن"

أجراه عبد الدايم السلاّمي





تمثّل رواية "الطلياني" شكري المبخوت الصادرة عن دار التنوير في صائفة 2014 باكورة إنتاجه الأدبيّ الذي فاجأ به الوسط الأدبيّ التونسيّ خصوصا أنّه من الوجوه الأكاديميّة والثقافيّة التونسيّة المعروفة ووصلت الى اللائحة الطويلة في مسابقة بوكر للرواية العربية. وقد عرف بترجماته المختصّة في النقد الأدبيّ واللسانيّات وكتبه ومقالاته البحثيّة في التداوليّة ونشاطه الثقافيّ والإعلاميّ سواء بكتابة عمود أسبوعيّ في الصحف التونسيّة أو بالإشراف على مجلّة "أكاديميا" الثقافيّة التي تعنى بالحياة الجامعيّة أو إدارة مجلّة "حوليّات الجامعة التونسيّة" المختصّة في البحث العلميّ. وهو إلى ذلك عميد سابق لكلية الآداب والفنون والإنسانيّات بمنوبة الشهيرة ويشغل حاليّا خطّة رئيس جامعة منوبة. وسيصدر سنة 2015 رواية ثانية عنوانها "باغندا" وكرّاسا شعريّا بعنوان "سيرة وهم". في هذا الحوار، نتعرّف آراء شكري المبخوت في الرواية والنقد وأدب الجوائز وعلاقة المثقّف بالثورة والحياة السياسية.

 
تبدو روايات الأكاديميّين التونسيّين مصنوعة وفق شروط النظريات السرديّة، وهو ما يجعلها قليلة الماء الإبداعيّ. فهل يُعدّ احتفاء القراء الكبير بروايتك "الطلياني" دلالة على أنها قد نجت من "لعنة" الأكاديميا؟

 
هذا موقف شائع من إسهامات الأكاديميّين الروائيّة وزعم منتشر لا نجدهما إلاّ في تونس! والحال أنّ الأمثلة العالميّة والعربيّة والتونسيّة عن الأكاديميّين الذين دخلوا عالم الرواية وأنتجوا أعمالا متميّزة أو محترمة أكثر من أن تحصر. غير أنّني لا أعتقد أنّ كلّ ما يكتبه الأكاديميّون هو جيّد لسبب بسيط: فجميع الروائيّين والشعراء عصاميّون بالضرورة إذا اعتبرت العصاميّة مقابلة للأكاديميّة. وحتّى ورشات الكتابة والمؤلّفات التي تزعم أنّها أدلّة للكتابة (وقد ترجمت دليلا منها) لا تصنع أدباء بقدر ما تجعلهم أشدّ وعيا بمخاطر فعل الإبداع ورهاناته. وعلى ذلك لك أن تقيس ما ينتجه غير الأكاديميّين. فالانتماء الأكاديميّ ليس شرطا لجودة الإبداع والعكس صحيح أيضا.

أمّا بالنسبة إلى رواية "الطلياني" فقد لقيت فعلا حظوة لدى أصناف مختلفة من القرّاء التونسيّين والعرب فاجأتني شخصيّا رغم يقيني أنّها رواية لا يمكن للقارئ أن يتركها قبل أن يبلغ نهايتها. ولا يعود ذلك إلى أنّني ملمّ بعض الإلمام بالنظريّات السرديّة بل يعود أساسا إلى أنّني كتبت رواية كما أنتظر شخصيّا أن تكون الروايات. لقد طرحت بظاهر اليد، لأسباب ذوقيّة تتّصل باختياراتي كقارئ، ما لا أميل إليه في الكتابة السرديّة واخترت أن أحكي حكاية مشوّقة مليئة بالحياة تسائل وتترك الشخوص تعبّر عن تردّداتها وحيرتها وأوجاعها. وأعتقد أنّ القرّاء رأوا ملامح من إنسانيّتهم في هذا العمل فتفاعلوا معه. والوصفة بسيطة جدّا: لا تكتب إلاّ ما تحبّ أن تقرأه عند غيرك من الكتّاب. قد يعود ذلك إلى أنّني أرى نصّي، وأنا أكتب، بعين القارئ الذي يسكنني. أعترف أنّها مسافة محفوفة بالمخاطر. لكنّني كتبت رواية لنفسي فوجدت قرّاء يلتقون معي في انتظاراتهم وتوقّعاتهم من العقد الروائيّ. قد يكون في هذا بعض الإجابة عن سؤالك وليتدبّر الأمر النقّاد.
 لكنّ روايتك "الطلياني" مليئة بالخيبات والانكسارات والشخصيّات المحطّمة...

 نعم ما وصفت به الرواية صحيح في جانب منه.. وصحيح أيضا أنّها رواية مبهجة رغم هذه الخيبات.. ففيها احتفاء بالحياة وتعلّق بمباهجها وفيها كما لاحظ النقّاد إيروسيّة جذّابة واستحضار لروح التمرّد والطموح والإرادة والانتشاء لدى الشباب.. فأبطالها شبّان حالمون تجرفهم الحياة.. أنا لا أرى فيها الخيبات إلاّ بقدر ما تشفّ تلك الخيبات عن حبّ الحياة بما فيها من التقاء الشغف والقوّة الخلاّقة وفواعل الانكسار وهدم اللذّات.. لم أخطّط لأرسم أبطالا "إيجابيّين"، إن صحّ التعبير، فقد ولّى زمن البطولات الكاذبة بل اقتفيت مسارات أناس في وضعّيات محدّدة، أناس كانوا يسيرون، كما تشير عناوين بعض الفصول، في مسالك موحشة ومضايق وأزقّة وأروقة للوجع والحلم ومفترقات وسكك مقفلة لكنّهم رغم ذلك يحثّون الخطى... فالخطوات في هذه الرواية والآثار التي تتركها الأرجل المتعبة أهمّ من الطرق نفسها.

-
فتحت الثورة التونسية الباب واسعا أمام نقد الأنظمة التي كانت تحكم الناس، فهل تدخل روايتك "الطلياني" في إطار محاكمة منك لإيديولوجية اليسار التونسي الذي ظلّ "يجسّ في مزابل اللينينية والستالينية العفنة" كما قلت على لسان بطلتك "زينة"؟

 
ركّز كثير من القرّاء ومن كتبوا عن "الطلياني" على نقد اليسار وإيديولوجيّته. وهم ليسوا مخطئين في ذلك رغم أنّ الرواية أبعد شأوا في المستوى الرمزيّ منها واحتمالات تأويلها. ربّما ما لفت انتباههم أنّها رواية تخلّت عن رسم النمط النضاليّ الممجّد لليساريّ المقموع الباحث عن العدالة والمؤمن بالتغيير الذي يضحّي من أجل مبدأ. فما يجده القارئ هو شخصيّات قلقة تمنح لبطلها اليساريّ عمقا إنسانيّا يجعله يحلم وينهزم ويحبّ ويخون ويضعف ويقاوم وغير ذلك ممّا يسم الإنسان الواقعيّ لا المثال الموهوم. وربّما كان الأساسيّ في هذا النقد لليسار دائرا على مفهوم حرّيّة الفرد والاضطلاع بجراحه واستيهاماته و"لعنة أصوله" كما قال أحد نقّاد الرواية. وهذه الحرّيّة الجذريّة، حرّيّة الفرد، لم يولها اليسار التونسيّ اهتمامه مكتفيا بالدعوة إلى تحرير المجتمع بمناضلين مهزومين منذ البدء.

 
ما مدى صواب القول بأن مؤسّسة النقد العربي ظلّت حبيسة مدارج الجامعة ولم تنزل إلى شوارع الكتابة، وأنّ ما يكتب فيها لا يزيد عن كونه تطبيقات مدرسيّة صارمة لا تخدم المُنجَز الإبداعيَّ؟

 
لا يمكن حصر مؤسّسة النقد في ضرب منه هو النقد الجامعيّ وإن كان هذا النقد هو أهمّ ما ينتجه النقّاد العرب. والسبب بسيط يعود إلى أنّ الجامعة هي موطن إنتاج المعرفة بالأدب ولها تقاليدها وقواعدها ومقتضياتها التي تبدو صارمة وأحيانا تبعث على الضجر. ولكنّ المطلوب من النقد الجامعيّ المختصّ لا يتطابق بالضرورة مع انتظارات عموم المتأدّبين والمتابعين للشأن الثقافيّ. فالأغراض التي تعلّق بالنقد الجامعيّ متعدّدة ولا تحقّق بالضرورة التواصل مع القطاعات العريضة من المثقّفين وبالخصوص الأدباء والمبدعين. ربّما كان الإشكال عائدا إلى شيء آخر غير ما أسميته أنت بالتطبيقات المدرسيّة الصارمة. فهناك غياب لأصناف أخرى من معالجة النصّ الأدبيّ والإبداعيّ ومقاربته بأدوات وذائقة أشدّ التصاقا بما في الأدب من طابع تفاعليّ. فالنقد الأدبيّ الصحفي مثلا فنّ قائم الذات نجده في كبريات المجلاّت والملاحق الثقافيّة العالميّة ولكنّنا في عالمنا العربيّ يندر أن نجد صحفيّا بنى شهرته على النقد الأدبيّ الصحفيّ. والمفارقة أنّ الأدباء الذين يتبرّمون، عن حقّ في أغلب الأحيان، من النقد الجامعيّ تجدهم فرحين أيّما فرح إذا درّس أحد أقسام العربيّة في الجامعات عملا من أعمالهم أو كتب أحد الأكاديميّين عنه "بحثا" صارما يطبّق فيه مقولات أكل عليها الدهر أحيانا وشرب. هنا لا ألوم المبدعين.. ولكن ثمّة خلط لدى عدد من زملائنا الأكاديميّن بين الخطاب الأكاديميّ عن الأدب والخطاب الثقافيّ والإعلاميّ بما يسبّب بلبلة في الأذهان فيضعف من قيمة النقد الجامعيّ ولا يبلغ، في الآن نفسه، ما يبلغه النقد الصحفيّ الثقافيّ من متانة وقيمة. مرّة أخرى سوء التفاهم يسود العلاقة بين مؤسّسة الجامعة والمؤسّسة الثقافيّة لأنّ الوعي بالحدود وشروط التفاعل محدود في ظنّي.

 
في تهافت أغلب الأعمال الفائزة بالجوائز الأدبية العربية ما حفز الكثيرين على التشكيك في نزاهة تلك الجوائز وفي حياد لجان تحكيمها، وهو تشكيك يجعلنا نتساءل عن جدوى الجوائز بالنسبة إلى المبدع؟

 
ليس الأمر في ظنّي على ما وصفت بالضرورة. فقد شاركت في لجان للجوائز وجلّها اشتغلت بطريقة مرضية. فقبل الحكم على نزاهة اللجان ينبغي النظر في الأعمال المرشّحة لأنّ المسألة نسبيّة. ولكن هذا لا يعني أنّ بعض اللجان خالية من الحسابات الضيّقة والأساليب الملتوية والاعتبارات الشخصيّة. وقد فضحت بعض هذه الألاعيب حين وجدت ما أعلنته بعض اللّجان غير منصف، ولم أتردّد من موقع أخلاقي وأدبيّ في التنديد بذلك. بيد أنّني لا أعتقد أنّ أغلب الأعمال التي حصدت الجوائز في تونس أو في العالم العربيّ تفتقد إلى المعقوليّة. فجلّ الروايات التي حازت على البوكر العربيّ مثلا محترمة وهي جديرة بها. على الأدباء أن يتخلّوا شيئا ما عن نرجسيّتهم. فالرهان ليس ماليّا بقدر ما هو أدبيّ ورمزيّ مهما تكن قيمة الجائزة. ثمّ إنّ نظام الجوائز جزء من المؤسّسة الأدبيّة، بالمعنى السوسيولوجيّ، وهي مؤسّسة مازالت في حالة إرساء وبناء في عالمنا العربيّ وتحتاج إلى تدعيم. ولا أظنّ أنّ مثل هذا التشكيك المنهجيّ سيضيف شيئا. فحتّى نوبل للآداب لم تخل من هذا النقد والاحتجاج لكنّ الثابت أنّ الحائزين عليها، في أغلبهم على الأقلّ، من كبار الكتّاب. أمّا ما عدا ذلك فهو أمر مطروح للنقاش على أسس جماليّة وأدبيّة وثقافيّة لا ذاتيّة نرجسيّة.

 
تُحيل وقائع الربيع العربي على اهتراء سلطة المثقَّفين بعدما تجاوزتهم جموعُ شعوبهم إلى الثورة على الواقع والتجرُّؤِ على انتهاك ما فيه من قداسات سياسية. فهل من سبيل يلوذ بها المثقّف، إن صحّ هذا المعطى، لإعادة سلطانه الرمزي لدى مجموعته الاجتماعية؟

 
لا أعتقد أنّ المسألة بهذه الحدّة رغم ما قيل عن غياب المثقّفين والقيادات والأحزاب والوعي العفويّ للجماهير... فلا ننسى أنّ الشعارات التي رفعت خلال الربيع العربيّ، قبل أن يجتاحه الإخوان بشعارات الهويّة المريضة المأزومة، تعبّر عن وعي مواطني اجتماعيّ لا يمكن أن يكون بمثل تلك العفويّة المزعومة. إلاّ أنّ فعل الثقافة وتأثيرها بطيئان لا يكادان يلمسان. علينا ألاّ ننسى مثلا أنّ مفاهيم الحرّيّة والديمقراطيّة والكرامة.. مفاهيم حديثة بمحمولها السائد اليوم وهي نتيجة اشتغال ثقافيّ ونظريّ مهمّ. في تونس مثلا قام بالثورة أبناء مدرسة الجمهوريّة الحديثة الذين ربّاهم وثقّفهم رجال ونساء حملوا قيم الحرّيّة والكرامة ولقّنوها لهم ولا ننسى أنّ لمصر أو سوريا تقاليد ثقافيّة حداثيّة عريقة. وحين ننظر اليوم نجد المثقّفين، في تونس على الأقلّ، يؤدّون، مهما قيل، وظائف كبرى من خلال مساهمتهم النوعيّة في عمل جمعيّات المجتمع المدنيّ ووسائل الإعلام وحتّى في المجلس التأسيسيّ عند صياغة الدستور. أنسيت أنّ أهمّ ما في المنظومة الحقوقيّة الكونيّة مضمّن في الدستور التونسيّ الجديد بما في ذلك حرّيّة الضمير؟ أتعتقد أنّ هذا أمر متاح للجميع؟ أليس هو من صنع المثقّفين الواعين المتعلّقين بقيمة الحرّيّة؟ وأصدقك القول أنّني شخصيّا تعلّمت عن الديمقراطيّة والحقوق والحرّيّات ونظام الحكم من رجال القانون التونسيّين في تدخّلاتهم وجدالاتهم المكتوبة والمرئيّة والمسموعة أكثر ممّا تعلّمت من الكتب. لقد أدّوا دورا بيداغوجيّا تربويّا لا يمكن أن يؤدّيه إلاّ المثقّفون. علينا أن نكون رحماء بمثقّفينا وألاّ نسقط عليهم أوهامنا وتصوّراتنا وتبرّمنا من السياسيّين وأكاذيبهم.. لا شعب يمكنه أن يدخل مدارات الحداثة دون نخبة مثقّفة مهما بدت حركة الجماهير عفويّة. ربّما ثمّة تغيّر في وظائف المثقّفين ومكانتهم وصورهم ومسالكهم في التأثير، ربّما تغيّرت سلطتهم وأضحت أخفى ولكنّها ستظلّ قائمة على نحو من الأنحاء.

 
كيف تقيّم أداء السياسيّين في تونس؟ هل تثق في خطاباتهم؟

  ماذا تطلب من لاعب كرة قدم ظلّ على مقعد البدلاء دون تدريب لمدّة تفوق العشرين عاما ثمّ أقحمه المدرّب للعب في مباراة مصيريّة؟ هكذا هي حال سياسيّينا بعد أن قضى الرئيس الأسبق على كلّ حياة سياسيّة.. لكن هذا لا ينفي أنّ أداء الطبقة السياسيّة في تونس ضعيف ومترّدد ومخيّب للآمال في مجمله لكنّ المشهد السياسيّ التونسيّ ما يزال في حالة تشكّل ونحن نحتاج إلى ولادة طبقة سياسيّة جديدة. أمّا مسألة الثقة في خطاب السياسيّين فأعتقد أنّ الأمر يتّصل بالوظيفة النقديّة للمثقّف عموما وموقعه الأخلاقيّ المتجاوز للحسابات الحزبيّة وشهوة السلطة. ففي اعتقادي أهمّ ما جاءت به الثورة التونسيّة هو قيام السلطة المضادّة لأوّل مرّة في تاريخنا.. وشخصيّا اخترت موقعي منذ البداية ضمن هذه السلطة لريبة متأصّلة فيّ من السياسة والسياسيّين...