mardi 13 août 2013

المكابرة والمقامرة والمغامرة


1
لعلّهم اتفقوا أو هم بصدد التوافق. لا يهمّ ذلك كثبرا. ستمرّ العاصفة، ولو مؤقّتا، لتبقى الآثار محفورة عميقا في الوجدان والواقع. فما حدث،كلّ ما حدث، مع مجلسنا التأسيسيّ الخارج من صناديق الانتخابات مكلّلا بشرعيّة بلا ضفاف ومع مؤسّستي الرئاسة والحكومة الناشئتين عن منطق الغنيمة والمحاصصة يدعو إلى العجب من السلوك السياسيّ الجديد للهواة والمزايدين والمتعطّشين للحكم ويدعو كذلك إلى السخط على الفشل الذريع في الالتزامات والعهود على الأقلّ. ورغم ذلك لا نسمع إلاّ لغة المكابرة والغرور السياسيّ والابتزاز العاطفيّ أُضيفت إليها بعضُ أفاويح الثوريّة الزائفة والديمقراطيّة الصندوقيّة حصرا والمؤامرة الخفيّة والانقلابيّة البائسة وشيءٌ من ملح الوطنيّة المنجّية من المحاسبة. لغة تدعو إلى الغثيان والتقزّز.
لتطئمنّ قلوب حكّامنا جميعا ولتمت معارضتنا بغيظها فلست أُعنى بالشرعيّة المهترئة ولا بالتفسير التآمري للفشل ولست أدعو إلى حلّ الحكومة ولا الرئاسة. لست مغامرا ولا مكابرا. ولكنّني أعجب في خضمّ هذا كلّه من سوء التقدير والعجز عن رؤية الواقع الحالي في تحوّلاته والسياق الإقليميّ والدوليّ في حركيّته.
فقد وارى المشيّعون جثّة الشهيد محمّد البراهمي في تلك الحفرة المظلمة ولكنّهم واروا أيضا وبالخصوص جسما سياسيّا قد تعفّن منذ أمد، منذ اغتيال الشهيد الآخر شكري بلعيد على الأقلّ. فقد انتهت صلوحيّته ونجاعته حين كابر المكابرون وتبيّن أنّهم صورة أخرى، ضمن منطق وضع اليد على غنيمة رمزيّة الثورة وأجهزة الدولة، من التجمّع المنحلّ. فقد خرجوا من التعبير عن بعض المجتمع إلى التمكين للجماعة. وكان ذلك إيذانا، عندنا، بالانقلاب الواقع لا بالانقلاب المحتمل.
2
لست أعجب إلاّ من الارتباك الذي دفع سياسيّين ووزراء ونوابا من مجلسنا الشرعيّ إلى التعامل مع جريمة الاغتيال كما لو أنّها جريمة قتل عاديّة جديرة بصفحات الجرائم والمحاكم في أحسن الأحوال. فيتكفّل بها الأمن تحقيقا والقضاء إنفاذا للحقوق وكفى اللّه السياسيّين شرّ التفكير والتدبّر وتحمّل المسؤوليّات جميعا. بل بلغ العيّ السياسيّ والفجاجة الأخلاقيّة ببعضهم إلى أن أنكر كلّ مسؤوليّة للفريق الحاكم في الاغتيال كأنّ الأمر متعلّق بدفع تهمة فحسب والدليل، عندهم، أنّ هذا يحدث في جميع البلدان والديمقراطيّات. منطق مضحك إلى حدّ البكاء المرّ على المنحدر الذي بلغناه.
لقد اتفق الجميع على أنّه اغتيال سياسيّ بكلّ وضوح وبساطة. وهو ضرب من الجرائم التي لا يُكتفى فيها بتحديد الفاعلين وضبط الدوافع ليغلق الملفّ. إذ الفارق النوعيّ بين الجريمة العاديّة والجريمة السياسيّة يكمن في أنّ الأولى تكتفي بذاتها وتنتهي بانتهاء الكشف عن ملابساتها ولكنّ للثانية سياقا تتنزّل فيه قبل وقوعها وأثناء حدوثها وكلّ ما يترتّب عنها من نتائج ومسؤوليّات.
3
ليكن: حزب الأغلبيّة بريء من دم الشهيدين مادامت السلفيّة الحمار القصير الذي يركبه كلّ راكب، والمغامرون المتمرّدون يحاكون جماعة الانقلاب المصريّ ولكنّ تونس ليست مصر وسيفشل الذين يكيدون للصناديق والشرعيّة الأبديّة.
ليكن ما تشاؤون ولكن من يتحمّل كلّ هذا الدم؟ من تراخى وبرّر ودافع عن المجرمين ومشاريع المجرمين أفرادا ومجموعات؟ من انزلق لسانه أكثر من مرّة ليكشف عن تصوّرات عنيفة أصيلة في تصوّراته الفكريّة وفي كلّ مرّة يخرج ناطق متلعثم ليوضّح المقاصد في حين أنّ النصّ محكم صريح؟ من رفض التوقيع على ميثاق مناهضة العنف؟ من عطّل كتابة الدستور باعتراضاته على ما ثبت في منظومة الحقوق والحرّيّات الكونيّة وتخوّفاته من أن نصبح مثل الغرب الكافر؟  وللأسئلة أن تتوالد في وصف حالتنا وسياق الاغتيال السياسيّ ولو على نحو إنكاريّ.
ليكن ما يشاؤون ولكنّني محتار في تسمية كلّ هذا: رعونة، غطرسة، غباء، غرور سياسيّ صندوقيّ ، ابتزاز، صلف، مكابرة، مقامرة،حماقة، قصر نظر...ولكم أن تواصلوا البحث في التسميات.

ولكنّ الثابت أن الأخطاء تكاثرت ولم تعد المقامرة والمكابرة تنفعان. فالأرجح أنّ رياح الجغرافيا السياسيّة التي أوصلت حكّامنا إلى كراسيهم قد تغيّرت بعد أن عجزوا، كما عجز نظراؤهم الذين حوّلوا ربيع العرب إلى خريف مخيف، عن الإيفاء بتعهّدين أساسيّين في اللّغة الدوليّة: اجتثاث الإرهاب وبناء الديمقراطيّة. إذا صحّ هذا فالمكابرة، في سياق الحال، رديف للمقامرة وقد تمهّد لمغامرة غير مأمونة العواقب.