samedi 27 février 2016

الرواية أقدر على تصوير الصراع وكشف المسارات في تعرّجاتها وتردّداتها


            


حوار : عبد الله المتقي، مجلّة أعناب


نالت رواية “الطلياني” في دوتها الثامنة لهذه السنة بالجائزة العالمية للرواية في دورتها الثامنة لهذه السنة ، للعام 2015.
باعتبارها أفضل عمل روائي نُشر خلال الاثني عشر شهراً الماضية، وجرى اختيارها من بين 180 رواية مرشحة تتوزع على 15 بلداً عربياً، وعلى هامش هذا التتويج لشكري  وللرواية التونسية ، كان لنا معه هذا الحوار لمجلة أعناب:
بداءة … ماذا عن تلك الحوادث التي ورطتك في متاهة الكلمة؟
أنا متورّط منذ أكثر من ثلاثين عاما في تلك المتاهة الرائقة المدوّخة ، وما الحوادث التي تشير إليها إلاّ بعض الحوافز للتأمّل، وتدبّر الصيغ القوليّة المناسبة. فنحن نختار هذا الجنس أو ذاك من أجناس الكلام بحسب الموضوع والهاجس الذي يستبدّ بنا.
أنت باحث أكاديمي أولا، ثم روائي ثانية، كيف عشت هذا العبور للرواية؟
كان عبورا سلسا جدّا بحكم أنّ اشتغالي الأساسيّ أكاديميّا منصبّ على التداوليّة والخطاب والبلاغة. إنّ قولة الجاحظ التي حفظناها مدرسيّا “لكلّ مقام مقال”، تجمع جوهر فعل القول والكتابة وما علينا إلاّ أن نتبع مقتضياتها واستلزاماتها.
فبإزاء الرواية لا تنفع القواعد الأكاديميّة بل لعلّها لا تصلح إلاّ رقيبا على الكاتب من داخله ليبتعد عمّا تحمله سيول القول المتدفّقة من سذاجة أو اندفاع مفرط أو نزعة إلى الشعر لا أعتقد أن الرواية تحتمله كثيرا. تلك الأكاديميّات تتضمّن بدورها الخيال والدقّة شانها شان الرواية وهو ما ييسّر العبور من جنس إلى آخر.
وكيف تشكّلت لديك الرغبة في كتابة “الطالياني”؟ من أين جئت بهذا العنوان، كيف اخترته؟ ومن أي ورشة أتيت به؟
لم أخطّط لشيء، جاء الأمر في ظاهره عفوا، وفرضت الرواية نفسها عليّ، لأنّها أقدر على تصوير الصراع وكشف المسارات في تعرّجاتها وتردّداتها. وليست تسمية الرواية باعتبارها عتبة من عتبات النصّ، إلاّ التقاطا للفظ ملتبسة جذّابة في ما بدا لي، حمّالة لأوجه من المعنى بعضها يلمس لمسا في سطح الرواية ،وبعضها يحتاج إلى الحفر في طبقات رمزيّة منه. لقد كان مخبّأ بشكل مفضوح في ورشة الرواية نفسها وفي الذاكرة التي كتبتها ونهل منها النصّ.
 بداية الرواية هي نهايتها … ما الحكاية؟
ليس في الأمر أيّ حكاية هكذا ولدت بمثابة لغز يتطلّب حلاّ كما هو الحال في الرواية البوليسيّة مثلا. ثمّة دائما في البناء السرديّ ممكنات واحتمالات علينا أن نختار منها ونوجّهها هذه الوجهة أو تلك وندفع بمنطقها الداخليّ إلى نهايته. وحين استنفدت المكونات السرديّة احتمالاتها انغلقت الرواية على نفسها وجاءت النهاية لتعود إلى نقطة البدء كشفا وبيانا. طبعا هي لعبة سرديّة لشدّ القارئ ليس من جهة مضمون الحكاية وتفسير المشهد الافتتاحي بل من جهة أهمّ عندي هي مسارات الطلياني ومسيرته باعتباره بؤرة تجتمع فيها صور عديدة للشخصيّات في النصّ او لنقل باعتباره محور لعبة المرايا في النصّ.
الجنس والخيانة… غطاء لإخفاقات جيل ،هروب من التسلط، أم تعرية لمرموز مرحلة؟ وما دلالات معاني هذا الحضور للجسد في “الطلياني”؟
الأجساد المقهورة في الواقع العربي عموما أكثر عددا وأعمق جراحا ممّا يوجد في الطلياني ولكنّ نفاقنا المعمّم لا يحبّ أن يرى نفسه في مرآة السرد أو هو يصيبنا بشيء من الخوف. لا أعتبر الرواية مبنيّة على الإثارة في تناولها لمسائل الجسد والجنس ولكنها تسعى إلى إبراز التوازي بين إخفاقاتنا في الحياة جميعا وإخفاقنا الأساسيّ في أن نكون أجسادا حرّة تتحرّك خارج إسار التمثّلات الزائفة للجسد والقيود الاجتماعيّة الصارمة. فأنا ممن يعتقدون ان تحرير الجسد محرار لا مناص منه للحريّة في أشمل معانيها.
التاريخ كان إطارا ضروريا للبناء السردي في الرواية ، بالمناسبة ، أسألك عن الرواية والتاريخ، أية علاقة؟
لم أسع إلى كتابة رواية تاريخيّة ولكنّ بعض القراء الذين لم يعيشوا فترة الانتقال من العهد البورقيبي إلى العهد النوفمبري رأوا فيها جانبا من تاريخ لم يكتب بعد. وهذا امر طريف عمدي طرافة رأي عبّر عنه صديق باحث في الأنتروبولوجيا بإحدى الجامعات الكنديّة حين لاحظ لي انّ الرواية تتضمّن معطيات أنتروبولوجيّة دقيقة. هذا أيضا يبهجني. ولكنّني أؤكّد دائما أن التاريخ او المعطيات التاريخيّة في حدّ ذاتها لا يمكنها أن تكون معينا تنهل منه الرواية إلاّ إذا صهر في مصهر التخييل بحسب قوانين الرواية. والهم من ذلك هو ما تضيفه الرؤية الروائيّة إلى ذلك التاريخ من تفاعلات البشر ممثّلين في الشخصيّات لنّ الرواية تقول لنا ما لا يقوله التاريخ أي معاناة الناس وردود أفعالهم النفسيّة وتحوّلاتهم كأفراد.
كيف يقرأ سي شكري مبخوت فوزه بجائزة الكومار أولا؟ والبوكر ثانية؟
قبلهما كانت جائزة معرض الكتاب بتونس. ببساطة وجدت الرواية حظوة كبيرة لدى لجان تحكيم الجوائز الثلاث بقدر ما وجدتها لدى القرّاء وربّما يحتاج ذلك إلى تساؤل أعمق عن سرّ هذه الحظوة. وأكبر ظنّي أن الرواية قدّمت للناس، علاوة على أسلوب سردها وحبكتها التي وصفت أحيانا بالكلاسيكيّة واعتبرت أحيانا أخرى واقعيّة، نماذج من شخصيّات يتعرّفون فيها على أنفسهم خصوصا شخصيّة عبد الناصر ثم زينة. فهي من الشخصيّات المركّبة المعبّرة عن بعض تردّدات الإنسان.
ماذا عن المشهد الروائي بتونس بعد الثورة ؟
هناك دفق سرديّ كبير وأعمال عديدة ناجحة وطريفة. هو مشهد يتحرّك في اتجاهات شتّى يبشّر بشيء جديد ما يزال غامضا يحتاج إلى درس وتحليل ولكنّ النقد الجادّ لا يتابعه دائما على الوجه المطلوب ثقافيّا وأكاديميّا.
ما هي أخر الأخبار عن تحويل “الطلياني” إلى شريط سينمائي ؟

مازالت المقترحات قيد الدرس فهي تتساوى في جدّيتها والمطلوب النظر في الضمانات التي يقدّمها المنتجون من حيث الإمكانات الماليّة واللوجستيّة والآجال الزمنيّة.

samedi 20 février 2016

ولا يتوقف العميد عن إثارة الشغب



عن مجموعة السيدة الرئيسة لشكري المبخوت

محمّد السباعي، روائيّ مصريّ

تطالعنا جاكلين بروك زوجة بيكاسو الثانية على الغلاف الامامي وهي اللوحة التي رسمها بيكاسو عام 1954م بعنوان جاكلين مع الورود لكن اللوحة كانت على الغلاف بدون المربعات التي تحوي الورود كانت جاكلين فقط بلا ورود، وكتب العنوان مكان الورود"السيدة الرئيسة" على سطرين، وكأن الغلاف يعكس السيدة رئيسة بلا ورود، وحيدة مرفوعة الرأس طويلة العنق.
أما الغلاف الخلفي اقتباس جذاب من قصة "السيدة الرئيسة" يوحي بقصة رومانسية لحد كبير، وغير مكتوب من أي قصة من المجموعة كان هذا الاقتباس، فمن راقه عليه البحث عنه داخل المجموعة.
يبدأ المبخوت مجموعته بقصة بعنوان "صورة سيادته" صغيرة الحجم وأقصد القصة وليس الصورة، سريعة الإيقاع، ولأنها تجريدية فيمكن رؤيتها من أكثر من زاوية وإلباسها ما في الهوى من انطباعات حول تأويلها، وفي نفس الوقت إن قرأناها كما هي دون تأويل فهي مباشرة المعنى والمفهوم مما يأخذنا لمقصود واضح... وفي اختيار القصة الأولى والعنوان الأول يضع المبخوت منهجاً خفيا يربط المجموعة "سيادته" فيبدأ بصورة سيادته ويأخذنا للتعرف في قصة أخرى على "إعلام سيادته" و"صحافة سيادته" سخرية وتهكم من واقع لا يمكن إنكاره لا يضخمه "العميد" بل ينقله بتجريد من شوائبه ليطل واضحاً، وقبل تملل القارئ من فساد "سيادته" المنعكس في صور متعددة يطل خيط آخر يضاف لعصر "سيادته" اليمين الظلامي واليسار التائه، فننتقل من أعلى الجبل من "صورة سيادته" لنمر بقلب مؤسسات سيادته نازلين حتى الوادي... المجتمع في عصر "سيادته"... الضوابط والشواغل... المحددات... وحتى ما آل إليه الطموح بعد رحيل "سيادته" ماذا ترك؟ ومن حمل الإرث؟ أو نهبه... هذا متروك للقارئ ليقرر فيه... وعندما نصل للقصة الأخيرة "السيدة الرئيسة" والتي نصل إليها بنسق يجعلنا نتوقع أنها حول السيدة الأولى أو سيدة "سيادته" فنجدنا أمام قصة من نوع آخر ربما سيلاحق ذئاب الرجال المبخوت بعدها لفضحه كتابهم الأسود في اصطياد الأنثى... أساليب الشيطان المثقف في الصيد والتخلي... سيبتسم الكثيرون عند قراءتها... الاحتياج... توفير مناخ القبول... الحصول والتمتع... ثم الخروج الآمن... وبعد الانفعال وإلقاء اللوم على اليساري المتسلق والمستغل للطبقة المتوسطة "برغبتها" وفقا لما يعرفه عن احتياجاتها ومخاوفها... فيتحصل هو على المتعة المجانية ويترك لها الكثير من الألم بالإضافة لبعض المتعة التي رغبتها، ويجعل هروبها منه من وجهة نظرها هو قمة الانتصار فهو مريض، عنيف ومستبد... وصفته هي بكلب السلطة وقد تكون أخفت في سريرتها الأسوأ... وبعد امتصاص موجة الغضب تتبين حقائق أخرى... الطبقة المتوسطة العاملة الفاعلة، قلب الدولة وعمودها... تحتاج وجدانيا لمثل هذا المثقف لا تحتاجه شيطاناً لكنها تحتاجه، فهو من يستطيع باتساع رؤيته أن يحتوي طموحاتها ويؤمن مخاوفها... لكنه شيطان... فهل عليها الرضوخ لمن يعرف مفاتيحها أن يعبث بها ويلهو؟... هي لن تقبل أن تسلم جسدها لمن لم يحتل عقلها... ومن دون هذا الشيطان مهما بلغت قدرتهم الجسدية لن يصلوا بها لقمة نشوتها الجسدية لقصورهم في إمتاع عقلها... فهل هذا هو المتاح لطبقة كاملة؟ إما الرضا بالأقل أوالتنازل للشيطان المثقف؟ هل بتلك الطبقة من يمكنه أن يحتل وجدان "فائزة"؟ أم ستظل هي الفائزة في طبقتها والمؤمنة بدورها وأن تقبل النقص الوجداني والاحتياج الشعوري؟ أم عليها قبول المغامرات المتقطعة المتابعدة أو المتقاربة مع الشياطين المثقفة؟ أم ستتحول كما قال لها "عبد الناصر" لعاهرة بتغير وتطور احتياجاتها؟ كالعادة لا يغلق "المبخوت" الأبواب من خلفه بل يترك الكثير من المفاتيح للعديد من الأسئلة التي تقود بدورها للمزيد منها...
الشخصية الرئيسية في المجموعة هي شخصية اعتبارية "سيادته"، والحدث له حدود زمان ومكان داخل تونس أثناء وما بعد فترة ولاية "سيادته" والدافع هو استفزاز العقول للسؤال... أما الوسيلة فهي لغته الخاصة التي تلعب دورا مهماً في المجموعة مفردات محلية قليلة تركيبات لغوية بسيطة ومباشرة كمن يحكي لكل الأعمار، لا يعتمد على الاستعارات ولا يعتمد على قوالب مستهلكة فلن نجد إلا أقل من صوابع اليد الواحدة أذكر منها "الأفاعي وسمها الزعاف" وأذكر أيضا "انطللق السهم ولا سبيل لعودته للقوس" ولا أذكر المزيد، كما يظهر اهتمام المبخوت بالشخصيات من خلال اللغة فلكل شخصية بقدر الإمكان لغتها الخاصة المعبرة عن خلفياتها ولا ينقص المجموعة إلا الأداء الصوتي التعبيري ليجعلها "حكايات" يمكن حكيها بسهولة.
في الوقت ذاته تتميز تلك المجموعة بوضوح العلاقة بين عقل المؤلف وعقل القارئ، ويتعامل معها "العميد" بقدسية العاشق ولا يترك بها مكاناً للناقد، فهي علاقة بسيطة واضحة صادقة لا تسمح بوجود "عزول" فلا يحتاج القارئ لقراءة نقدية ولن يؤثر كلام النقاد أو "العوازل" في تلك العلاقة... مما يضعنا أمام أدب بسيط لا يمكن تصيده أو اصطياده لا يحتاج للنقد المعياري فلن يضيف إليه ولن يقلل منه، بل يحتاج للقراءة بأعماق مختلفة ورؤى متنوعة، أدب يأخذ فيه القارئ رأي القارئ فالمتخصص هنا هو القارئ... كيف قرأ؟ ماذا فهم؟ إلى أي حد استمتع؟ وتكون القراءات التحليلية تأويلا ينتج عنه نص آخر فتتحقق مقولة "الناقد يقرأ ليكتب، فهو كاتب بلا نص" ولكن الفرق أنه سيكتب ما يقرأه القارئ وليس دارسي الأدب وحراس اللغة المقدسة.


mardi 16 février 2016

الدولة وبناء المجال الجغرافيّ والروحيّ



صدر بجريدة العربيّ الجديد بتاريخ 15/02/2008

تعيش كثير من المجتمعات العربيّة اليوم ظواهر ما قبل الدولة (قبليّة وطائفيّة وعشائريّة...) ويشهد جلّها انفجار الهوّيّات في غياب لمعنى الدولة - الوطن وتملّك حقيقيّ لشروط المواطنة. وبسبب من هذا نرى صراعات كثيرة حول السلطة تضع الدولة ومؤسّساتها موضع تشكيك ونجد خلطا بين الانتساب إلى مجال للسيادة مشترك والاعتبارات الروحيّة التي تدخل ضمن الحريات الفرديّة ومن بينها حرية الضمير والمعتقد.
وهذا ما عاين الجميع جوانب منه مع تولّي "الإسلام السياسيّ" السلطة ولو فترة وجيزة في مصر وتونس بالخصوص. فصار مفهوم فضفاض للفضيلة تعلّة للوصاية على الناس انعكست سياسيّا على تصوّر مهزوز لهوّيّة المجتمع. وأدّى ذلك إلى العمل على تفكيك الدولة والخلط الشنيع بين التقليد والتحديث من جهة وبين المحافظة والتغريب من جهة أخرى. 
وتبدو العودة إلى التاريخ الحديث للنظر في كيفيّة تشكّل الدولة في تونس والمغرب الأقصى بالخصوص من خلال ترتيب المجال الترابيّ وبناء الذاكرة الجماعيّة مفيدة جدّا في فهم الكثير من هذه الظواهر. ويمثّل كتاب الباحث التونسيّ لطفي عيسى "بين الذاكرة والتاريخ: في التأصيل وتحوّلات الهوّيّة" (الدار البيضاء، إفريقيا الشرق، 2015) من هذه الناحية دراسة تطبيقيّة لمسائل بناء الدولة في فضاء المغارب ضمن مقاربة تاريخيّة مقارنة.
ذاكرة المخزن
وظّف لطفي عيسى مفهوم المخزن، أي مجموع المؤسّسات التي تكوّن جهاز الدولة، لإبراز استقلال الدولة عن الخلافة في مجال المغارب قبل دخول الاستعمار إثر تراجع تجارة القوافل وتطوّر المبادلات التجاريّة مع الممالك الأوروبيّة. ولكنّ الميزة الأوضح هي انقسام المجال الداخليّ لتونس والمغرب إلى مركز سياسيّ و"سيبة" أي قبائل ممانعة ومعارضة لسلطة الدولة.
بنى المخزن في هذا السياق علاقتَه بالقبائل على أساس الإخضاع عبر الردع والضرائب. بيد أنّ عمليّة رسم المجال لم تكن يسيرة. وقد احتفظت الذاكرة الجماعيّة بتوتّرات وضروب من المقاومة الشرسة تعبّر من وجهة نظر المؤرّخ عمّا لقيته النخبة السياسيّة والعسكريّة والماليّة من عنت في حصر المجال الترابيّ شرطا لقيام الدولة. وانطلاقا من تمثّلات مختلف الفاعلين الاجتماعيّين لهذه التوّترات يعيد لطفي عيسى بناء "ذاكرة المخزن".
لقد فرض رسم المجال تصوّرا جديدا لإخضاع الرعايا ومراقبتها وضبط مجال تحرّكها حتّى تتمكّن الدولة من تحديد قوانين الأداء الضريبيّ. فتولّد عن ذلك نظام إداريّ وعسكريّ وجبائيّ فُرض على القبائل فمثّل منعطفا أساسيّا قام على شكل جديد من أشكال التعاقد بين الحاكم والمحكوم.
غير أنّ الأمر لم يكن مرتبطا دائما بالقهر وما نسمّيه اليوم "المعالجة الأمنيّة" بل قام كذلك على "حوار ساخن" بين أطراف اجتماعيّة مختلفة للتوصّل إلى توافق حول منظومة الضرائب. وبرز انعكاس هذه الديناميكيّة في بناء المجال على تشكيل الهوّيّة الجماعيّة في ارتباط وثيق ببناء المخزن وفرض سلطته.
وعماد هذه الهوّيّة تمتين أواصر الانتساب إلى "مجال موحّد تسهر مؤسّسة المخزن على تنظيمه ويخضع جميع رعاياه إلى نفس القوانين والأعراف الجارية" (ص 86). وهو ما يعني، على سبيل العبرة التاريخيّة، إضفاء معنى واقعيّ على مفهوم الهوّيّة بربطها بمجال موحّد.
غير أنّ بدايات القرن التاسع عشر حملت معها توسّعا تجاريّا أوروبّيا أضعف اقتصاد "الإيالة التونسيّة" فاختلّ الميزان التجاريّ ممّا أدّى إلى إضعاف الدولة وأعوانها. وهو ما مهّد للسيطرة الأوروبيّة ماليّا وتراكم الديون والانهيار المالي فالإفلاس بما سمح بالتسرّب الرأسماليّ مهيّئا الفرصة للتدخّل الاستعماريّ.
ولا تختلف حال المغرب الأقصى كثيرا رغم اختلاف الخصوصيّات. فقد كان لاحتلال الجزائر وقع سلبيّ عليها. فبعد هزيمة سلطان المغرب ضدّ جيش الاحتلال الفرنسيّ اقتطع الأسبان أراضي جديدة على الساحل المغربيّ. ورغم رسم الحدود فإنّ الفرنسيّين والأسبان احتفظوا بالحقّ في مراجعتها. وتعهّد المخزن بدفع غرامات ماليّة مقابل انسحاب الأسبان من تطوان ممّا اضطرّ السلطان إلى الاقتراض من البنوك الأنكليزيّة. عندها غرق المغرب الأقصى في وحل الديون وقروض الإفلاس.
الدولة السلطانيّة والرأسماليّة
ولم تنفع الإصلاحات المتتالية في رتق الفتق. فهل يفسّر مفهوم "الدولة السلطانيّة" هذا التراجع الحضاريّ؟ أم يعود ذلك إلى تداخل وظائف الأمير والإمام والتاجر والقاضي أي تداخل السلطات السياسيّة والدينيّة والاقتصاديّة والقضائيّة وعدم تقسيم الأدوار؟
مهما تكن الإجابة عن هذا السؤال المحوريّ فالثابت أنّ المعاملات التجاريّة قامت على الاحتكار واستغلال الموقع السياسيّ. فالترابط بين حضور الدولة ونموّ الحواضر بيّن. ولكنّ الدولة السلطانيّة، كما لاحظ لطفي عيسى، "دولة استملاك وترف واستمتاع (...) وعملت جميع الفئات المالكة أو المنتجة للثروة على المحافظة على ما بيدها أكثر من التفكير في إنمائه فلم يستقلّ الاقتصاد عن السياسة ولا المدينة عن الدولة" (ص 114).
ولكن على الرغم من تدخلات أعوان المخزن والرفض المتواصل للتجمّعات القبليّة لمراقبة مؤسّسات الدولة وعلى الرغم من هجمة رأس المال الأوروبيّ فقد استطاعت مدن المغرب الكبير من أن تنظّم مجالها.
الجغرافية الروحيّة
ومن أطرف ما في كتاب لطفي عيسى، منهجا ومحتوى واستنتاجا، تحليله لأساطير تأسيس مدينتي تونس وفاس وبيانه لوظائف تلك الأساطير في تحقيق الهوّيّة المشتركة وبناء الذاكرة الجماعيّة. فقد كانت تسييجا للمجال الروحيّ يناظر تسييج الدولة للمجال الترابيّ.
 أبرز الباحث، انطلاقا من سير أرباب الصلاح التونسيّين والفاسيّين ومناقبهم، وهو المجال الذي أبدع فيه لطفي عيسى في كتاباته السابقة، وما حفّت بها من تخاريف وتهويمات وتلفيقات، كيف أضحت أضرحة الأولياء والجوامع والزوايا علامات رسمت الهوّيّة الرمزيّة والروحيّة ورسّخت المجال الترابي للدولة بما يوافق الذهنيّات الشعبيّة.
ولهذه الجغرافيا الروحيّة وظائف اجتماعيّة وسياسيّة هامّة. فهي تسهم في تأمين مسالك العبور والسيطرة على العنف والفوضى وبثّ الاستقرار والأمن وإدماج الفئات المهمّشة والخارجة على الدولة. فقد شاهم رأس المال الرمزيّ هذا في إضفاء القداسة على المجال الترابيّ. إذ قام محرز بن خلف، الملقّب بسلطان المدينة (مدينة تونس) بعمليّة تجنيس مذهبيّ كبيرة من خلال نشر المالكيّة وأسلمة البربر المروْمنين والأعاجم اللاّتينيّين والأقباط واليهود والشيعة وجميع من استوطن مدينة تونس. ولكنّ الذاكرة الشعبيّة سكتت عن تعصّبه الدينيّ وممارسته للتقتيل المنهجيّ.
ونجد إدريس الثاني الملقّب بـ"الأنور" بطلا عجائبيّا في ذاكرة المغرب الأقصى. فهو ابن أمَة بربريّة أوروبيّة شارك في جعل مدينة فاس متعدّدة الأعراق (بربر وعرب وأندلسيّين) بما يسّر لصاحب السلطان أن يلعب على ما بينها من اختلافات.
وهذا كلّه يدلّ على أن روايات التأسيس مثّلت تعبيرا عن البحث عن رابطة تردم الهوّة بين مستويات متباينة من التمثّل الثقافيّ العالم والتمثّل الثقافيّ الشعبيّ. ومن نتائج ذلك، سياسيّا، أنّ دولة المخزن، حين عجزت عن السيطرة الكلّيّة على مجال نفوذها، استفادت من شبكة الطرقيّة ومؤسّساتها لتأمين مسالك التفاوض مع القبائل الممانعة.
إنّ كتاب لطفي عيسى نموذج من المقاربة التاريخيّة المنفتحة على الأنتروبولوجيا الثقافيّة. لذلك نجده لا يتورّع عن استنطاق نصوص لا تبدو ذات طابع أرشيفيّ موثوق به في عرف المؤرّخين. بيد أن كتابه هذا، كما كتاباته الأخرى في أدب المناقب، يؤكّد أن الإشكال في العين التي ترى وقدرتها على قراءة ما بين السطور وتنزيله منزلته من التاريخ والذهنيّات لاستنباط المعنى فيه وكشف تمثّلات الناس لأنفسهم ولما يدور حولهم. وهذه بعض فضائل هذا الكتاب الثريّ بالإشكالات والقضايا التي تجعلنا نعيد التفكير في كثير ممّا عندنا من مسلّمات.