samedi 7 juin 2014

في التسيير التشاركي للمؤسّسات الجامعيّة



تنطلق في شهر جوان وإلى حدود منتصف شهر جويلية عمليّة تجديد الهياكل البيداغوجيّة ( المجلس العلمي ومجلس الجامعة) والمسؤولين على المؤسّسات الجامعيّة والبحثيّة (المديرين والعمداء ورؤساء الجامعات).
ورغم مطالبة بعض الأطراف الجامعيّة، من عملة وموظّفين، بالمشاركة في انتخاب المسؤولين على المؤسّسات فإنّ المنشور المنظّم لهذه الانتخابات لم يأت بجديد. وظلّت الانتخابات مقصورة على إطار التدريس والبحث. ةلئن كان هذا الموقف مفهوما في سياق التجاذب بين النقابات الممثّلة لمختلف الأصناف الاجتماعيّة في الجامعة خصوصا بين نقابة العملة والجامعة العامّة للتعليم العالي والبحث العلميّ فإنّ مشكلة التسيير الديمقراطيّ التشاركيّ لم تحلّ بعد. والسبب في ذلك أنّ الأمر يكاد يخفي هاجس التموقع وتحسين "شروط التفاوض" والضغط من خلال الانتخابات أكثر ممّا يحمل تصوّرا ديمقراطيّا. فالبيّن أنّ التجاذب بين الفاعلين في الفضاء الجامعيّ يحمل في طيّاته تضاربا جذريّا بين المنطلقات البيداغوجيّة والأكاديميّة والمنطلقات ذات الطابع النقابيّ المطلبيّ المغلّف بالتشارك في اتخاذ القرار.
بيد أنّ هذا التوجّه التشاركيّ يضعف جدّا في غياب تصوّر شامل للتسيير الديمقراطيّ ونزعة التهديد للمسؤولين الجامعيّين واستغلال ضعف الدولة والإدارات ومحدوديّة قدرتها على التفاوض لتحقيق ما يعتبره هذا الطرف أو ذاك "مكاسب". وهذا ما جعل الكثيرين يتعاملون بشيء من التوتّر والتوجّس خيفة من اختلال التوازنات وتكبيل المسؤولين والمزايدة على الإدارة وجعل مسالك اتخاذ القرارات مسدودة. فمفهوم التشارك الديمقراطي لا يعني سيطرة طرف على آخر ولا يعني صناعة قوى ضغط او تعطيل أو فرض الرأي بقدر ما هو توفير الإطار المناسب لفتح الحوار وتبادل الآراء وتحمّل المسؤوليّة في إطار شفافيّة المعلومة وإتاحتها وإلاّ أصبح التشارك المزعوم تعطيلا ومزايدات وتنازلات حتّى ضدّ القانون.
ولا يعني هذا البتّة أنّ إدارة الشأن الجامعيّ اليوم وبالصيغة المعمول بها على أفضل حال ولكنّ الوقوع في الشعبويّة باسم المشاركة وتحويل غائيّات المشاركة إلى ضرب من المطلبيّة التي لا تتّصل بقواعد التسيير الرشيد سيجعلان الفكرة نفسها محلّ رفض. لذلك نعتقد أنّ المطلوب هو التفكير الجماعيّ في صيغ الممارسة الديمقراطيّة حقّا في الجامعة واستبطان مبادئ الحكم الرشيد والتدرّب على شفافيّة التعامل ضمن خصوصيّات الفضاء الجامعيّ. ولا نظنّ هذا يتحقّق بالتلويح بمقاطعة المشاركة في إعداد الانتخابات أو التخلّي عن المهامّ الإداريّة في بعض الظروف التي لا تناسب هذا الطرف أو ذاك. فبقاء طرح المسألة بهذا الشكل الضيّق القطاعيّ المصلحيّ لا يخدم المبدأ العام السليم والمطلوب أي التسيير التشاركيّ للجامعة.
والأهمّ من ذلك في تقديرنا هو الانكباب الجدّي على صياغة مشروع ناجع واضح متكامل لهذا المفهوم وترجمته إلى إجراءات مؤسّسيّة وترسيخ قواعد التعامل المتوازن السليم بعيدا عن هاجس التموقع والنزعة المطلبيّة في غير محلّها. فمشاركة مختلف النقابات، وهو حقّ من الناحية المبدئيّة وشرط من شروط الحوكمة الرشيدة، لا يعني تكبيل الإدارة أو السكوت عن التجاوزات أو تعطيل آليّات محاسبة المخلّين بواجباتهم باسم التضامن النقابيّ. فالأصناف المختلفة في الجامعة اليوم أصبحت مهيكلة نقابيّا بطريقة أفضل ولها تطلّعات مشروعة ومطالب متراكمة منذ سنوات ولكنّ السعي إلى الهيمنة وفرض الأمر الواقع لن يوصلنا إلى تحقيق الهدف الأسمى.
ولا نخفي أنّ مختلف الأطراف الجامعيّة تفقد أحيانا، عن وعي أو عن غير وعي وبسبب من الحماسة المفرطة، البوصلة وتشدّ الحبل أكثر ممّا يجب دون أن تعي أنّ ذلك لا يصبّ بالضرورة في صالح المشروع التسييريّ المنشود.
غير أنّ ما يطمئن بعض الطمأنة أنّه رغم التجاوزات والضغوط يوجد دائما العقلاء ومن يراعون مصلحة المؤسّسات ويجتهدون للعمل بعيدا عن الحسابات الفئويّة وتضخّم الذات وبعيدا عن البطولات الزائفة. فالثابت أنّ الجامعة يسيّرها الجامعيّون فهذا جزء من مفهوم الحرّيّات الأكاديميّة والثابت كذلك أنّ الجامعة لا تقتصر على إطار التدريس لأنّ نجاحها في مهمّتها يتطلّب إدارة قويّة حديثة ناجعة. هذا دون أن ننسى الطرف الغائب الأساسيّ عند الحديث عن التسيير التشاركيّ وهو الطلبة ولا بدّ من إيلائهم المكانة التي يستحقّونها رغم مشاكل التمثيل الطلاّبي وما أكثرها!

أملنا أن نخرج من مجرّد الشعار، شعار التسيير الديمقراطيّ التشاركيّ والحوكمة الرشيدة، إلى صياغة التصوّرات الكفيلة بالنهوض بجامعتنا والخروج بها من وضعها المتردّي.      

* افتتاحيّة شهر جوان 2014 لمجلّة أكاديميا

mardi 3 juin 2014

بداية الفصل الأوّل من رواية "الطلياني"




الزقاق الأخير

   لمْ يفهم أحد من الحاضرين في المقبرة يومها لمَ تصرّف عبد النّاصر بذاك الشّكل العنيف. ولمْ يجدوا حتى في صدمة موت الحاج محمود سببًا مقنعًا.
   كان الإحساس العام أنّ النار تخلّف الرّماد. فأين وقار الحاج محمود وأناقته في جبّته السكرودة التونسيّة وشاشيّـته الإسطنبوليّ أو في بدلته الإفرنجيّة وقبّعته المستديرة، على حدّ السّواء، من طيش ابنه بسروال "الدجينز" وسترة "الدّنقري" والشّعر الأشعث واللّحية المعفاة؟ فحتى وسامة الفتى، التي جمعت جمال الأصول الأندلسيّة لأمّه وجدّته ومخايل الوسامة التّركيّة لأبيه وجدّه، تلاشت في تلك الهيئة التي جعلته أقرب ما يكون إلى "هبّاطة" الميناء و"بانديّة" الحيّ الذين لم ينالوا ولو حظًّا يسيرًا من التّعليم.
   كانت مقبرة الزلاّج في حالة خشوع، لا تسمع في أرجائها إلاّ التّكبير وأصوات القرّاء يرتّلون ما تيسّر من آي القرآن الكريم. وكان موكب الدّفن كبيرًا على قدر ما يكنّه أهل الحيّ للحاج محمود وللعائلة كلّها من تقدير. فالموتى لا يتساوون، والجنازة دليل على رأس مال المتوفّى وعلى ما في رصيد العائلة من المعاني والرموز والمكانة.
    حضر يومها، إضافة إلى العائلة الموسّعة، الجيران وأبناء الحيّ والأحياء المجاورة وأناس عاديّون عديدون وأصدقاء ابنيْ المغفور له من الفنّانين والمثقّفين والجامعيّين ورجال الإعلام وحتى رجال السّياسة وبعض الوزراء. وأكثرهم كان من أصدقاء عبد النّاصر وأخيه صلاح الدّين الباحث الجامعيّ المرموق والخبير لدى مؤسّسات ماليّة دوليّة.
  أقيمت صلاة الجنازة في الباحة الكبرى للمقبرة. فخيّم الصمت واصطفّ النّاس يؤدّون الواجب. كنت، منذ سمعت النبأ، إلى جانب عبد الناصر الذي لم أفارقه إلاّ لساعات قليلة. كان معنا جمع من رفاقنا. وقفنا على الجانب الأيمن من الباحة حذو عرصة ننتظر الفراغ من صلاة الجنازة لنشيّع الحاج إلى مثواه الأخير مع المشيّعين. اقترب منّا توفيق خال عبد النّاصر. سمعته يوشوش له، يدعوه إلى الوقوف مع الواقفين للصلاة:"عيب! التحق بأخيك في الصّفّ الأوّل ماذا يقول عنّا النّاس؟ استرنا على الأقلّ يوم دفن والدك". نهره عبد الناصر ممتعضًا حانقا:"تعرف كما يعرفون أنّني لا أصلّي ولا أصوم"
   سار الحشد وراء سيارة البلديّة في اتّجاه طريق سيدي أبى الحسن الشاذلي فتقدّم عبد النّاصر الصّفوف. التفت فلمح الإمام. كان بدينًا يلبس جبّته العكريّ. حدّق متثبّتا فوقعت عيناه على عينيه. طأطأ الإمام رأسه مرتبكًا. ظلّ ينظر إليه وهو يسير في الموكب وراء سيّارة دفن الموتى مثلنا.
   حين وصلنا إلى مكان الدّفن علت أصوات المكبّرين من كلّ جانب. وُضِع التّابوت قرب حفرة القبر وشرع في قراءة الفاتحة ثمّ تتالت الأدعية. لم يبسط عبد الناصر يديه عند تلاوة الفاتحة وترديد الأدعية دون بقية الخلق المتحلّقين حول القبر والتّابوت. رأيته شاخصًا في جارهم الإمام الذي كان يتحاشى أن ينظر إليه ويتعمّد تلاوة القرآن وترديد الأدعية مغمضا عينيه. كانت عمامته تكاد تحجب تينك  العينين.
    بدا عبد النّاصر متوتّرًا. ربّت خاله على كتفه ثمّ تفطّن صلاح الدين إلى توتّره فعانق أخاه الصّغير. سالت على خدّيه دمعات حين احتضنه. أغمض عينيه ومسح دموعه. ما إن فتحهما حتى رأى الإمام داخل الحفرة على يساره يتسلّم الجثّة استعدادًا للحدها.
   لا أحد من الجمع الغفير المتحلّق حول القبر فهم لِمَ علا صراخ الإمام. لم يشهد الحادثة إلاّ من كان في الدّوائر الأولى.
-"يلعن دين والديك، يا منافق، يا نذل، يا ساقط، اُخرج من غادي يا نيـ***.. "
   كان الإمام يتأوّه ويئنّ أنينًا مرًّا. نزفت الدّماء من فمه فاختلطت بقميصه السّكري وبدعيّته فاتحة اللّون ولطّخت قطرات منها جواربه البيضاء. كان يتألّم ويتوجّع في شبه غيبوبة.
   تعالى الصّخب واختلطت الأصوات: "الإمام غارق في دمائه"، "عبد النّاصر الطلياني ضرب الإمام"، "لقد جنّ ابن الحاج محمود المسكين"، "لا أدري ماذا وقع، لا أرى إلاّ الإمام ينزف فمه دمًا"، "الطلياني يصرخ ويسبّ الإمام"، "ابن الحاج في حالة هستيريا"، "عيب والله عيب أن يقع هذا في جنازة"، "أستغفر الله العظيم، عشنا وشفنا"، " استرنا يا ربّ".
   من كانوا في الدّائرة الأولى رأوْا عبد النّاصر يوجّه ضربة بحذاء " البرودكان" إلى وجه الإمام الذي كان في الحفرة يستعدّ لدفن المرحوم. كانت صرفقتها مسموعة ممّا يدلّ على قوّتها. دخل عبد النّاصر في حالة هيجان صارخا يرمي الإمام الشّيخ علاّلة بأقذع النّعوت التي لا تليق إلاّ بأسافل القوم. لم يكفه ذلك، ارتمى عليه يريد إشباعه لكمًا وربّما نوى خنقه لولا أنّني انتزعته منه ثمّ أخذته مع بعض الأصدقاء بعيدًا وهو سادر في صياحه وسبابه وتهديده، يرغي ويزبد إلى أن فقد الوعي.
   عجّل الحاضرون بدفن الحاج محمود ولم يقف أيّ من أفراد العائلة لتقبّل العزاء من الحاضرين. فقد ألهت الدّهشةُ الجميعَ، صلاح الدين والخال توفيق وكبار العائلة والمعزّين أيضا، عن إتمام مراسم التعزية.
   حصل هذا في أواخر شهر جوان أو بداية شهر جويلية من سنة 1990 تاريخ وفاة الحاج محمود. كان الحاضرون يومها، قد عاينوا أوّل فضيحة في الحيّ، وربّما في البلاد، يذهب ضحيّتها الميّت.