jeudi 28 juillet 2011

شذرات الثورة




1
14 جانفي:لحظة شعريّة مكثّفة تطابقت فيها الأقوال والأفعال ، تجلّ مدهش لمعنى الحرّيّة عند امتزاج ذاكرة اللحظة في عفويّتها بذاكرة الشعوب الثوريّة ، استثناء تاريخي نادر جعلنا ممن اصطفاهم القدر ليشهدوا ما لا تراه كل العيون وما تسمع به بعض الأذان ولكن ما الخبر كالعيان فما عشناه لا تحيط به أدبيّات الثورات جميعا.
2
    كان الشعر مجتمعا في تلك اللحظة المكثّفة النادرة الاستثنائيّة ثمّ بدأ نثر الواقع:
     ثورة مضادة صمتا عن الحقّ أو مديحا للشعب الذي أراد أو اصطناعا لمجد ثوريّ،
    عصابات من الفقراء والمجرمين والمعدمين والمهمّشين ،
    دمّل المكبوت الاجتماعيّ عشائريّا وجهويّا وطبقيّا ،
    صرخات الداخلين في التاريخ من بوّابة المتون الفقهيّة المنتزعة من سياقاتها ،
     مناورات الذين يريدون تركيب ذاكرة اصطناعيّة مقتناة من مزابل وهم الحداثة ،
     سياسيّون ضيقو الأفق يحلمون بنصيبهم من جسد الثورة المتاح للجميع ،
     بقايا رأس المال المشبوه يوزّع على المخرّبين والرعاع ومشاريع الأسياد الجدد ،
     صحف صفراء تتزيّن بأحمر الثورة  وأصوات قديمة تتأنّق بنعيب البطولات الكاذبة  ووجوه متواطئة تتجمّل بأقنعة فاضحة ،
    خطابات عاجزة تعيد إنتاج لغة التمجيد والمباركة والفخر والاعتزاز مع خلطة متلعثمة من أدبيات الثورات المغدورة لوصف ما يجري ،
    عصابات الحرس القديم تتمترس في مواقعها وامتيازاتها داخل جهاز الدولة بفضل خبرتها في تعطيل كلّ جنون حقيقيّ أصيل ،
   أصناف من البكارات الجديدة تباع في سوق الثورة بالمجان وتوزّع في حفل تنكّري بهيج تلبس فيه الضحيّة قناع الجلاّد ويتخفّى فيه الجلاّد في جبّة الضحيّة ليتأكّد التقاء الأضداد في اللحظة المناسبة مذكّرة بجدليّة العبد والسيّد، كاشفة زيف الثنائيّات الميتافيزيقيّة.  
 
3
  كل ثورة ونحن فرحون،
  كلّ ثورة ونحن خائفون،
  كلّ ثورة ونحن ننتظر مهديّنا المنتظر ليعمّر الأرض تسلّطا ونهبا وتلاعبا بالعقول باسم الربّ أو الشعب أو الأمّة الموحّدة ،
  لن نكون استثناء فمنطق التاريخ نراه لولبيّا لا يعرف للقطع والبتر ومطلق الاستئناف سبيلا.
4
  يبيعنا السياسيّون سلعة الوفاق والوطنيّة والمسؤوليّة ..إلخ ولن نحصل في أحسن الحالات إلا على الدسائس والمؤامرات،
   يبيعنا مشاريع الأسياد الجدد وعود الحريّة والتعدّديّة والديمقراطيّة ..إلخ ولن نحصل في نهاية المطاف إلاّ على الإخضاع والهيمنة والقمع المغلّف بحرير الكذب المعتّق.
   يبيعنا ميكانيكيّو القوانين الإجراءات والقواعد والمبادئ والقوانين والمراسيم لبناء جنّة حقوق الإنسان على الأرض ولن نحصّل في نهاية الأمر إلاّ ما ستفرضه الوقائع العنيدة.
   قد يكونون صادقين ولكنّ لعبة السياسة و إدارة الصراع لا دخل للأخلاق فيهما وإن شبّه لنا أو لغيرنا.
5
    لسنا متشائمين ولكنّ الواقع القائم والمنتظر يمنعان سذاجة التفاؤل وكاذب الآمال.فكل ثورة ، على ما علّمنا التاريخ ، منذورة لأن تسرق وتأكل أبناءها.
   أمّا تفاؤلنا العميق الذي لم نقله فمصدره أنّ سرّاق الثورة المحتملين ( سياسيّا وّإيديولوجيّا) عندنا كثر ولكنّ اللّقمة أكبر من جميع الأفواه. وجميعهم لا يستطيع أن يدّعي أنّه صنعها أو وجّهها أو أطّرها أو قادها.أليس من مكرور القول إنّها ثورة بلا قيادة أو إيديولوجيّة؟ فلِمَ يريد الغارقون في طين الإيديولوجيّات المحنّطة المجمّلة جذب الغطاء إليهم تاركين الآخرين في العراء؟

6

   لسنا متشائمين لأنّ الحاصل من تلك اللحظة الشعريّة النادرة الاستثنائيّة، الحاصل الثابت الوحيد، أنّنا شهدنا ولادة السلطة المضادّة لأوّل مرّة في التاريخ العربيّ ولأوّل مرّة في التاريخ الإسلاميّ. وعلى هذا " المكسب" ( بلغة خشبيّة خضراء نستعيد بها بعضَ لغتنا المسروقة) نعضّ بالنواجذ رغم الثورة المضادّة ومشاريع استنساخ جسد الاستبداد السياسي الهرم حتّى لا يعود الدكتاتور البليد وحزبه العتيد.

mercredi 20 juillet 2011

فزّاعة الخطر الأصوليّ ... فزّاعة اليسار الاستئصاليّ

             (   إلى الصديقين  زهير .إ وسامي .ب )                         لكلّ فزّاعته في بلادنا يمينا ويسارا.
ولكلّ فزّاعة أساس واقعيّ ممزوج بأوهام تحتاج إلى كشف.فمقابل فزّاعة "الخطر الأصوليّ" لدى اليسار التونسي عموما أصبحنا نقرأ ،هنا وهناك، لدى بعض الإسلاميّين حديثا عن "اليسار الاستئصاليّ".
     وترتبط بهذه العبارة - التهمة جملة من العبارات التي تتداعى أبرزها "الفرنكوفونيّة" و"حزب فرنسا" ( وهذه منقولة عن التجربة الجزائريّة المرّة ) وتبلغ  أحيانا حدّ وصم اليسار بالصهيونيّة.
    ومن البيّن أن الاستئصال المقصود موضوعه الإسلاميّون وهدفه طمس الهويّة العربيّة الإسلاميّة   و وسيلته التحالف سابقا مع نظام السابع من نوفمبر والسيطرة حاليّا على " هيئة بن عاشور " ( على ما يسمّونها تلميحا لقصد غير خفيّ).ولكنّ النتيجة في الحالات جميعا هي ترسيخ مفهوم "المؤامرة" (وهي رياضة وطنيّة منتشرة جدّا هذه الأيّام يمينا ويسارا) ضدّ الإسلاميّين والنهضة على وجه الخصوص للوصول إلى نشر صورة الإسلاميّين المظلومين المضطهدين.
هذا متن الاتهام وهذه حاشيتنا إسهاما في النقاش لا دفاعا عن " اليسار الاستئصاليّ".
   لا نرى وجها للمجادلة في وجود شقّ من الفرنكوفونيين ( وأحبّذ عبارة الفرنكفوليّين Francophiles) الّذين يعادون اللغة العربيّة عداء إيديولوجيّا يعود إلى ارتباطها بالدين الإسلامي وإلى كونها حاملة للثقافة العربيّة الإسلاميّة.و لـمّـا  كان الإسلام عندهم، دينا وموروثا ثقافيّا، سببَ تخلّفنا فإنّ معاداة الحامل مدخل عندهم لمعاداة المحمول حتّى لكأنّ الحداثة والتقدّم لا يكونان إلا بمعاداة اللّغة العربيّة والدين والثقافة الإسلاميّين.
   ولا نرى وجها للمجادلة في أنّ شقّا من اليساريّين قد شارك أثناء محنة الإسلاميّين في نظام السابع من نوفمبر سواء بالتبرير الإيديولوجيّ والتحريض من خلال الانتماء إلى التجمّع أو المسك ببعض أجهزة الدولة كالوزارات ووسائل الإعلام المكتوبة والمرئيّة والمسموعة ضمن سياسة " تجفيف المنابع " أو بمجرّد الشماتة والتواطؤ بالصمت وحتّى بغضّ النظر عن ملفّات التعذيب الذي تعرّض له الإسلاميّون.
    على اليسار في تقديرنا أن يقوم بنقده الذاتي نقدا قاسيا سياسيّا أساسا و نقدا واضحا إيديولوجيّا خصوصا.
    لكنّ للعملة وجها آخر على الأقلّ لا يكتمل المشهد بدونه.
         فليكن واضحا بدءا أنّ الإسلاميّين، ومنهم أصدقاء وزملاء دراسة، قد عانوا السجون والتعذيب والتنكيل في أواخر الثمانينات والتسعينات لمجرّد انتمائهم إلى النهضة أو مشاركتهم في بعض أنشطتها ومظاهراتها وهياكلها الطلاّبيّة.ونجدّد تعاطفنا مع عذاباتهم ومعاناتهم وما دمّرته آلة القمع البوليسيّ الرهيب من وجودهم ومعنى حيواتهم.وإنّي لمحرج أخلاقيّا وأنا أناقش بعضهم لأنّهم لم يتمكّنوا إلى اليوم من التعبير عن ألمهم أمام الملإ تحقيقا لواجب الذاكرة واعترافا من الجميع بما لحقهم مباشرة ولحقنا جرّاء ذلك من إهانة للذات البشريّة عامّة ولذواتهم الفرديّة خاصّة.غير أنّني أعوّل على تفهّمهم لواجبنا جميعا في ألاّ يتكرّر ما كان تحت أي مبرّر أو  ظرف أو سلطة.لذلك ينبغي أن تكون المصارحة مدخلا وحيدا لهذا الوعي المطلوب خصوصا أنّ تجارب المناضلين علّمتنا أن منهم من تتفتّح في نفسه أبعاد إنسانيّة أعمق ومنهم من تتجذّر لديهم نزعة التشفّي بحثا عن ردّ الاعتبار.    
     وليكن واضحا، من ناحية أخرى، أنّ الفترة التي يتحدّث عنها الإسلاميّون لم يكونوا فيها دعاة للديمقراطيّة وحقوق الإنسان إلاّ بقدر ما كانوا يعتبرون ذلك سلّما يرتقون منه إلى السلطة.وقد أخذتهم أوهام اتساع قاعدتهم الشعبيّة والسياق الجيوستراتيجي ( خصوصا ما حدث في الجزائر ) فزيّنت لهم أوهامهم تلك إمكانيّة الانقضاض على السلطة.
    و للتاريخ ، من موقع آخر غير موقع الإسلاميّين ، لم يكن خطاب حركة النهضة ( وقبلها الاتجاه الإسلاميّ ) مطمئنا للنخب ولقاعدة عريضة من المجتمع. فلا يمكن أن ننكر ، بالعودة إلى ما كان ينشر في الصحف والمجلاّت وما كان يلقى على منابر الجوامع والجامعات وفي حلقات المساجد ،أنّ خطاب النهضة خطاب متخلّف إيديولوجيّا عن الأفكار العامّة المترسّخة في المجتمع التونسيّ وعن القيم الإنسانيّة المشتركة.فهو خطاب إخوانيّ سلفيّ ممزوج بالشحنة الهائلة التي أشاعتها الثورة الإيرانيّة المظفّرة قبل أن تكشف عن وجه استبدادي بشع.
  و بالتوازي مع ذاك الخطاب لم تكن الممارسة السياسيّة بأفضل حال.فقد انتشر العنف في الجامعات على سبيل ردّ الفعل في البداية على عنف اليسار ثمّ أصبح مشاركة " فعّالة " في حلقة العنف البغيض الذي يعكس تصوّرات " ثورجيّة" من اليمين واليسار و يشفّ عن غياب فاضح للحسّ المدني والوعي الديمقراطيّ.وقد انتشر عنف الإسلاميّين والنهضة تحديدا بأشكال مختلفة وفي فضاءات متعدّدة لا يمكن التعلّل في تبريرها بقمع السلطة أو بدسائس المخابرات ضدّها.فمن القيادات من دعا إلى العنف وحرّض عليه ومنهم من كان على خلاف ذلك كما بيّنت بعض التناقضات والانقسامات التي عاشتها النهضة قبل 14 جانفي وبعض التصريحات والتلميحات بعد الثورة.
     وفي الحالات جميعا لم يكن خطاب الإسلاميّين وممارستهم مجرّد أخطاء فرديّة بل كانت في تقديرنا مبنيّة على تصوّر وقراءة للواقع لم يخلوَا من سذاجة سياسيّة وغرور فكريّ وحماسة ثوريّة جعلتهم يعتقدون أنّ وصولهم إلى السلطة كان قاب قوسين أو أدنى.
      فلا ننسى ،للتاريخ أيضا، أنّ الأنظمة المستبدّة (في تونس ومصر بالخصوص )شجّعت الإسلاميين في مرحلتهم الدعويّة على مواجهة اليسار بمختلف أطيافه ومواقف الإسلاميين التونسيين في تلك الفترة معروفة معروضة في منابرهم المكتوبة وبياناتهم أثناء الأحداث الكبرى بتونس عند صدام اليسار والنقابيين مع النظام البورقيبيّ.
    على الإسلاميّين، والنهضة بالخصوص، في تقديرنا أن يقوموا بنقدهم الذاتي نقدا قاسيا سياسيّا أساسا و نقدا واضحا إيديولوجيّا خصوصا.
    بهذا نعتقد انّ النزعة الاستئصاليّة لم تكن خصيصة لشقّ من اليسار بل شملت أيضا الإسلاميّين ضدّ خصومهم من الشيوعيّين والماركسيّين وغيرهم من أطياف اليسار.فالإشكال قائم من جهة الوعي السياسيّ الديمقراطيّ لدى التيارات السياسيّة والإيديولوجيّة والفكريّة التونسيّة بجميع أطيافها.فالواقع يشهد بأنّ انخراط الإسلاميّيين في السياق الديمقراطي مسألة مبدئيّة لا تتصل بالهويّة العربيّة الإسلاميّة على ما يزعم الإسلاميّون بل تتصل بتعبيرها عن تيّار فكريّ يتجاوز السياق التونسيّ ولكنّه يستطيع أن يبني أنموذجا ذا مرجعيّة إسلاميّة يأخذ بمقتضيات التنزيل التاريخيّ للمتن الإسلاميّ في سياق التحديث الكونيّ الشامل بعيدا عن الثنائيّة القاتلة: ثنائيّة الخصوصيّة والكونيّة.
   وبالقدر نفسه يشهد الواقع أنّ الفكر اليساريّ قوّة اقتراح سياسيّة و إيديولوجيّة وقيميّة وجماليّة ،قبل الاستقلال وبعده، لا ينكرها إلاّ منغلق في قمقمه الإيديولوجيّ.والطيف اليساريّ نفسه متنوّع لا يخلو من انغلاق وتحجّر ومن نزعة " سلفيّة " تقديسيّة للنصوص المرجعيّة .ولكنّ دنيويّة النصوص تيسّر على الأذكياء من اليسار مراجعة أفكارهم وتنزيلها في الواقع المتحوّل المخصوص.
    إنّ التيارين اليساريّ والإسلاميّ يحتاج إلى كثير من التواضع والإخلاص الفكري والعمل النظريّ الجاد لملاءمة مرجعيّاتهما مع القضايا الحقيّقيّة التي فرضها الواقع العالميّ والإقليميّ والوطنيّ :أقصد قضايا المواطنة والحرّيّات الفرديّة والعامّة والديمقراطيّة والتعدّديّة السياسيّة والتداول السلميّ على السلطة والليبيراليّة الاقتصاديّة ذات الطابع الاجتماعيّ ورفض الدولة الدينيّة وغيرها من المسائل التي يقصد بها القضاء نهائيّا على إمكانيّة ولادة الزعيم الأوحد والحزب المتغوّل.
    هذا في ظنّنا الرهان الأهمّ للوصول إلى مجتمع سياسيّ ومجتمع مدنيّ متطوّرين حقا قادرين على تجاوز الصراعات القاتلة على السلطة أو الشرعيّة الإيديولوجيّة.ولكنّ شرط ذلك أن يترك كلّ طرف فزّاعته وأن يتفرّغ إلى التنظيف أمام بيته.فلعلّه خير وأبقى.
   
   

vendredi 8 juillet 2011

عودة إلى " نحّي يدك على مبدعينا"




حاشيتان في تحوّل الضحيّة إلى جلاّد

     أثارت التدوينة حول ما حدث في قاعة سينما أفريكا آرت تعاليق شتّى على الفايسبوك.وصادف أن وضعها الصديق عادل بن عبد الله في صفحته المتميّزة " في سبيل تجاوز رهاب الإسلام و العلمانيّة = من اجل مجتمع تعدّديّ" فعثرنا على تعليق مهم من أحد متابعي الصفحة السيّد الأزهر صاغري .وقد أعجبنا من التعليق أنّ صاحبه ولّد منه قضيّتين ثقافيّتين لم تخطرا على بالنا معارضا بهما التوجّه العام للتدوينة.
وقد استسمحناه في نقل تعليقه لنعقّب عليه سريعا بحاشيتين.

متن التعليق

   " هل قضيّة شريط نادية الفاني هي قضيّة حرّيّة التّعبير بين قامع و مقموع؟ أشكّ كثيرا في ذلك.و أعتبر أنّ المسألة التي تُروّج على النّحو المذكور أعلاه ليست إلّا قناعا لمشكلة أخرى أهمّ:موازين القوى الثّقافيّة المختلّة بين أقلّيّة تستبدّ بالمشهد الثّقافيّ و تحتكره منذ آماد طويلة، مستفيدة من حماية النّظام القائم لحاجته إليها في تزيين ما لا يُمكن تزيينه؛و بين أكثريّة محرومة تماما من ذلك المشهد،بل ترى أنّه انبنى على احتقارها و اطّراحها و رسمها على نحو كولونيالي صريح.
     أنا لم أشاهد الشّريط.و لا أعرف صاحبته.و ليس لي موقف عدائيّ من الإلحاد.لذلك لن أخوض في ذمّ ما جاء فيه و لا في ذمّ صاحبته.لكنّي أقلق عندما أجد قامة كقامة شكري المبخوت تخوض في المسألة من باب تعنيف الأكثريّة تعنيفا يشغل ثلثي المقال،ولا تخوض في الأسباب المادّيّة التي تُحرّك تلك الأكثريّة.
     ليس العقل الفقهيّ الذي يقف وراءها.و ليست السّلفيّة.و ليس مجرّد الانجرار وراء الحسّ المشترك.إنّه ميزان القوى اليوم و هنا.عبثا في ظنّي البحث عن الموتى الذين يحكموننا من وراء قبورهم.و عبثا الحديث عن صراع بين أنموذجين ثقافيّين.وليس من نظنّه قامعا إلّا مقموعا.و ليس من نظنّه مقموعا إلّا قامعا أو شريكا في القمع أو مستجيرا بسدنته.كيف يقرأ شكري مبخوت و هو من هو علما المسألة ضمن صراع أنموذجين من الثّقافة،لا يبخل على أحدهما بمعجم غزير من القدح و يصف الثّاني بكونه سلبا جذريّا ... ينزع عن العالم حجاب القداسة؟
       من المؤسف علميّا و أخلاقيّا أن يُزعجنا صراخ المقموع المغلوب على أمره المطرود خارج المشهد.و كأنّه مُقدّر عليه حتّى بعد الثّورة أن يكون ضحيّة في الواقع،جلّادا في الصّورة. و ما يحدث هذه الأيّام هو محاولة الموقف الثّقافي المسيطر منذ الحقبة الكولونياليّة إدامة سيطرته و تسويقها على أنّها و حرّيّة التّعبير توأمان لا يعيش أحدهما إلّا بالآخر.أمّا من هاجموا و كسّروا و سبّوا و كفّروا فالظّاهر أنّهم معتدون أقوياء و الحال أنّهم مغلوبون ضعفاء،يُسمح لهم بدقائق انفلات لأنّ المشهد الذي يُعدّ للتّرويج يحتاج إلى حضورهم لتتمّة الحبكة و بناء ثنائيّة الخير و الشّرّ.
      مازال النّظام القديم هو المُخرج المتلاعب بالممثّلين و ليس المنظّم لأدوارهم و صراعاتهم.أقول هذا أملا في أن تُصبح حرّيّة الابداع مستغنية عن الشّرطيّ الذي حين يحميها يمحوها ، و في أن تُصبح حرّيّة الاحتجاج مستغنية عن العنف الذي حين يُعبّر عنها يقتلها و يُفقدها أخلاقيّتها." ( توزيع الفقرات والإبراز من عندنا)

الحاشية الأولى

     إنّ فكرة موازين القوى المختلّة بين أقلية تحتكر المشهد الثقافي وأقلّيّة محرومة مسألة حقيقيّة تحتاج حقّا إلى نظر وتدبّر.
    وقد يكون السيّد صاغري قد بالغ في وصف الفاعلين المسيطرين على المشهد الثقافي بأنهم كانوا في حماية النظام السابق  وأسهموا في اطّراح الأكثريّة المحرومة على نحو كولنيالي ( استعماري ).غير أنّ ما قد يكون السيّد الصاغري قد غفل عنه أنّ المؤسّسات الثقافيّة في تونس كانت بدورها محاصرة حرم منها النظام السابق الجميع بواسطة الرقابة والمنع والتدجين والاحتقار وضعف التمويل والتوجيه السياسيّ والمحاصرة الأمنيّة والبيروقراطيّة الثقافيّة ..إلخ.ولا يمكن أن تحمل الأغلبيّة من المبدعين على الأقلّيّة التي تمتعت بدعم ماليّ داخليّ أو خارجيّ وتصرّفت مع النظام السياسيّ على نحو لا صدام فيه.ومن باب الاعتراف للمبدعين التونسيين ألاّ نعمّم الحكم بالولاء.فممّ عمل عليه النظام السابق ووزارات الثقافة المتعاقبة " تتفيه " الثقافة وتصحير الحياة الثقافيّة وجعل المبدعين يعيشون في وضع ماديّ هشّ.
    ولئن كان السيّد الصاغري لا يقصد تحديدا هذا الجانب ،رغم أهميّته في فهم ما وقع ، فإنّه يلمّح ولا ريب إلى " التفوّق" الإبداعي والثقافي للحداثيّين عموما ولليسار الفرنكفوني تحديدا.فمن البيّن أنّ الإنتاج الثقافي السائد إنتاج يستمدّ مرجعيّاته الجماليّة والفنيّة والإيديولوجيّة من خارج الدائرة الدينيّة.لذلك فالسؤال العميق الذي ينبغي أن يطرح ، وقد طرحه الصديق زهير إسماعيل فعلا ، هو لم يعجز " الإسلاميّون" عن الإبداع الفنّيّ في المسرح والسينما والموسيقى والفنون التشكيليّة والأدب...إلخ؟وهل يمكن أن يوجد فنّ أو إبداع يحمل تلك الصفة " الإسلاميّة"؟
   نعتقد أنّ الإجابة بديهيّة وقد نعود إليها في تدوينة لاحقة.ولكنّنا نشير إلى أنّ الأكثريّة التي يعتبرها السيّد الصاغري مقموعة ثقافيّا عاشت إقصاء من المشهد الثقافي السابق ،وربّما الحالي، شأنها شأن جلّ التونسيين الذين لم يكن يراد لهم أن ينعموا بحقوقهم الثقافيّة بأوسع المعاني وعاشوا إقصاء داخليّا بسبب انشدادهم إلى نماذج ثقافيّة جرفها تيّار التحديث الفكري والثقافي فانقطعت عن أسئلة العصر وقضايا الإنسانيّة الكبرى محتمية في هذا الزمن العاصف الهادر بالركن المكين من كينونتها المهدّدة :الهويّة.غير أنّها هويّة استيهاميّة عاجزة عن الدفاع عن نفسها وأعجز ما تكون عن الفعل الإبداعيّ.
    نعم لم يكن للمبدعين الحداثيّين دائما القدرة الكافية إبداعيّا والكفاءة العالية فنّيّا ليذهبوا إلى الآخر السميّ ويستضيفوه في فضاء أسئلتهم ويحتضنوه في قولهم وصورتهم وصوتهم.ولكنّ هذا لا يعدو أن يكون وجها من وجوه الضعف الإبداعيّ وليس بالضرورة موقفا عدائيّا من سميّ مختلف يعيش بينهم.ولا أذكر هنا الاستثناءات: معاداةً للآخر ونفيا له ،وقد يكون منه شريط نادية الفاني ،أو احتضانا له وتفهّما لجوهر مأزقه – مأزقنا. فبعيدا عن محاكمة النوايا والبحث عن المقاصد علينا مرّة أخرى مساءلة الإبداع الفنيّ نفسه.
    ولهذا تحدّثنا عن الحاجة إلى السلب الجذريّ أي العمل الفنيّ والثقافيّ الذي يربك النظام السائد ويزرع فيه بذرة الفوضى ضمن صيرورة نقديّة لا تتوقّف.ولا وجه لذلك إلا بالنقد المزدوج ،على حدّ تعبير عبد الكبير الخطيبي،حسب سياقنا العربي الإسلاميّ لمنظومات القيم والأفكار والتصوّرات الموروثة وفي الآن نفسه لمنظومات الثقافة المشهديّة ( على ما يحمل عليه غي ديبور الكلمة) والثقافة العولميّة الكاسحة.وهو نقد ضروريّ تاريخيّا وسياسيّا في تقديرنا ولا يمكن أن يكون بأسلحة سلفيّة بل بأسلحة من جنس ثقافة الاغتراب والاستيلاب نفسها بعد تحويلها وإعادة صياغتها وتنقيتها من زيفها وأكاذيبها واستراتيجيّة التلاعب بالعقول والوجدان التي تنبني عليها .
    وما شهدناه في سينما أفريكا آرت هو بوجه من الوجوه صرخة بدائيّة متوحّشة أمام نتاج لثقافة تبدو أعلق بالعصر وتقنياته ولكنّها ثقافة غريبة غربةً مركّبةً:في سياقها التقني المشهدي وفي سياقها الإيديولوجي السائد.لذلك نحتاج حقّا إلى نقد مزدوج للبؤس السلفيّ العاجز عن قول الآن وهنا إلاّ بلغة مستعارة من غياهب التاريخ وللبؤس الحداثيّ العاجز عن الذهاب إلى الإنسانيّ العميق لدى هؤلاء المقموعين المردّدين للقوالب المكرورة تكبيرا أو تكفيرا.
    وفي الحالات جميعا لا بدّ من التدرّب على إيقاف تيار العنف والعمل على منع ىتكراره وإلاّ أهدرنا إمكان صياغة قولنا عن وجودنا نفسه وعن بؤس وجودنا بجميع وجوهه ووجدنا أنفسنا ندكّ أسس الصراع الثقافيّ نفسه.فلا إبداع ولا تفكير مع التكسير والتكفير مهما تكن الأسباب.

الحاشية الثانية
  
    ولّد السيد صاغري من التدوينة السابقة فكرة مدارها على لاأخلاقيّة التنديد بصراخ المقموع المغلوب على أمره المطرود من المشهد ( الثقافي).
   نعم،إنّه لموقف نبيل نتبنّاه بقضّه وقضيضه كما تقول العرب.ولكن ماذا حين تبدو على المقموع أمارات القامع؟
     نعم، نتفهّم المقموع ونتعاطف معه لأنّه بعض منّا وفي صرخته حفيف من صوتنا ولكنّنا نرفض بوضوح أن تشهر الضحيّة سكين الجلاّد وتقع في أحابيل عنفه الأعمى.ندين القامع ولكنّنا تعلمنا على نحو نهائيّ وصريح من الثورة التونسيّة أخلاقيّات المواجهة السلميّة .
   نعم، المسألة أخلاقيّة بدونها لا نرى سبيلا باديا للخروج من حلقة الاستبداد المفرغة تحت أيّ مسمّى كان: إعلاء كلمة الحقّ مجلجلة بالهدى أو إعلاء صوت الطبقة التاريخيّة المخلّصة للإنسانيّة أو إعلاء راية الأمّة الواحدة الموحّدة.فإنْ هي إلاّ أسماء للدكتاتوريّة يراها أصحابها الحقّ الحقيقة ونراها كوابيس خانقة.لذلك ندين المقموع الذي يصاب بأخلاق القامع  ونكرّر إدانتنا للعنف السلفي المتسربل بثقافة الجموع والحسّ المشترك .وهذا عندنا أضعف الإيمان.وندعو الأصدقاء الإسلاميين المهمومين بقضايا المواطنة أن يكونوا أشدّ إدانة منّا لهذا الضرب من العنف دون حسابات سياسيّة ضيّقة فلا مجال للمهادنة أو المواربة في هذا الباب ولا أحد يعرف متى تدور عليه الدوائر لأنّ النار،نار المطلقات والمقدّسات والهوّيات المأزومة، تأكل من هو داخل دائرتها التأويليّة إذا لم تجد ما تأكله.وتاريخ الفكر الإسلاميّ من السقيفة إلى أيامنا هذه حافل بالدلائل والوقائع المرّة والرؤوس التي قطفت لأنّها فكّرت أو خالفت سياسيّا.
   وليسمح لي السيّد صاغري أن أردّ بظاهر اليد التفسير التآمري الذي قدّمه.وليسمح لي بأن أعتبره من باب "الانفلات التأويليّ" الشائع اليوم.فالعجيب أنّ كثيرا ممّا يحدث يردّ إلى " حزب التحرير" و" عصابات النظام البائد" و" القوى الأمنيّة" وحتّى ...." جماهير كرة القدم"!!!على ما سمعنا من أحد السلفيّين. والأعجب أنّ حزب التحرير الذي ترفع راياته السوداء وشعاراته الصفراء يذكّر برفضه للعنف وينفي مشاركته فيه.فلا تتبقّى أمامنا إلا الأشباح والتخيّلات نرى الصور واللحيّ ونسمع النداءات والشعارات ويريدوننا أن نصدّق ما به يكذّبون حتّى لكأنّ القوى الإسلاميّة بطيفها الواسع السلفي العلمي والسلفي الجهادي والتحريريّ  وحتّى بعض قيادات النهضة في نسختها التركيّة المعدّلة من المدافعين الأشاوس عن حرّيّة التعبير والتفكير ومن الرافضين للتكفير و" استئصال" الزنادقة والكفرة والملاحدة والعلمانيين واللائكيّين والشيوعيّين والماسونيين...إلخ .
   فالمسألة هنا ،مرّة أخرى، ليست سياسيّة فحسب بل تتصل بمراجعة عميقة للأساس العقائديّ والفكري للطيف الإسلاميّ كلّه أو بعضه لينسجم مع نداء الحرّيّة والمواطنة لنتجاوز خليط المولوتوف الفكري الذي يجمع إلى الموروث الإخوانيّ الإسلام الهندي – الباكستاني  ونسخته الطالبانيّة والإسلام الوهّابي فالمطلوب ،الآن وهنا ، وبالخصوص لدى الأصدقاء الإسلاميين الخروج من موقع المبرّر والمفسّر في أحسن الحالات إلى موقع المسؤوليّة بإزاء التفاوت المفزع بين خطاب القيادات المدافع عن الحريات الفردية وسلوك القواعد وحماستها وشهيّتها لإعادة فتح إفريقيّة ونشر الإسلام الذي أصبح في زعمهم غريبا في هذه الربوع.
  ومهما يكن تفهمنا للمقموعين الذين وقفوا أمام سينما أفريكا آرت للتنديد بشريط نادية الفاني ذي العنوان المستفزّ ومهما يكن تعاطفنا مع هؤلاء الذين يطالبون بنصيبهم من مشهد ثقافي أقصاهم الفاعلون الثقافيّون منه فإنّه لا يمكننا أخلاقيّا ومواطنيّا وثقافيّا وسياسيّا ألاّ ندين العنف الذي يمارسونه وهذا ،مرّة اخرى ، أضعف ما تدعونا إليه أخلاق المواطنة.ونكرّر إنّ الصراع سيكون مريرا وطويلا للأسف لأنّ جنّة الديمقراطيّة الموعودة وحدها لن توقف تيّار العنف.
   وما أحسن ما قال السيّد الصاغري في خاتمة تعليقه :" أقول هذا أملا في أن تُصبح حرّيّة الإبداع مستغنية عن الشّرطيّ الذي حين يحميها يمحوها ، و في أن تُصبح حرّيّة الاحتجاج مستغنية عن العنف الذي حين يُعبّر عنها يقتلها و يُفقدها أخلاقيّته".