vendredi 8 juillet 2011

عودة إلى " نحّي يدك على مبدعينا"




حاشيتان في تحوّل الضحيّة إلى جلاّد

     أثارت التدوينة حول ما حدث في قاعة سينما أفريكا آرت تعاليق شتّى على الفايسبوك.وصادف أن وضعها الصديق عادل بن عبد الله في صفحته المتميّزة " في سبيل تجاوز رهاب الإسلام و العلمانيّة = من اجل مجتمع تعدّديّ" فعثرنا على تعليق مهم من أحد متابعي الصفحة السيّد الأزهر صاغري .وقد أعجبنا من التعليق أنّ صاحبه ولّد منه قضيّتين ثقافيّتين لم تخطرا على بالنا معارضا بهما التوجّه العام للتدوينة.
وقد استسمحناه في نقل تعليقه لنعقّب عليه سريعا بحاشيتين.

متن التعليق

   " هل قضيّة شريط نادية الفاني هي قضيّة حرّيّة التّعبير بين قامع و مقموع؟ أشكّ كثيرا في ذلك.و أعتبر أنّ المسألة التي تُروّج على النّحو المذكور أعلاه ليست إلّا قناعا لمشكلة أخرى أهمّ:موازين القوى الثّقافيّة المختلّة بين أقلّيّة تستبدّ بالمشهد الثّقافيّ و تحتكره منذ آماد طويلة، مستفيدة من حماية النّظام القائم لحاجته إليها في تزيين ما لا يُمكن تزيينه؛و بين أكثريّة محرومة تماما من ذلك المشهد،بل ترى أنّه انبنى على احتقارها و اطّراحها و رسمها على نحو كولونيالي صريح.
     أنا لم أشاهد الشّريط.و لا أعرف صاحبته.و ليس لي موقف عدائيّ من الإلحاد.لذلك لن أخوض في ذمّ ما جاء فيه و لا في ذمّ صاحبته.لكنّي أقلق عندما أجد قامة كقامة شكري المبخوت تخوض في المسألة من باب تعنيف الأكثريّة تعنيفا يشغل ثلثي المقال،ولا تخوض في الأسباب المادّيّة التي تُحرّك تلك الأكثريّة.
     ليس العقل الفقهيّ الذي يقف وراءها.و ليست السّلفيّة.و ليس مجرّد الانجرار وراء الحسّ المشترك.إنّه ميزان القوى اليوم و هنا.عبثا في ظنّي البحث عن الموتى الذين يحكموننا من وراء قبورهم.و عبثا الحديث عن صراع بين أنموذجين ثقافيّين.وليس من نظنّه قامعا إلّا مقموعا.و ليس من نظنّه مقموعا إلّا قامعا أو شريكا في القمع أو مستجيرا بسدنته.كيف يقرأ شكري مبخوت و هو من هو علما المسألة ضمن صراع أنموذجين من الثّقافة،لا يبخل على أحدهما بمعجم غزير من القدح و يصف الثّاني بكونه سلبا جذريّا ... ينزع عن العالم حجاب القداسة؟
       من المؤسف علميّا و أخلاقيّا أن يُزعجنا صراخ المقموع المغلوب على أمره المطرود خارج المشهد.و كأنّه مُقدّر عليه حتّى بعد الثّورة أن يكون ضحيّة في الواقع،جلّادا في الصّورة. و ما يحدث هذه الأيّام هو محاولة الموقف الثّقافي المسيطر منذ الحقبة الكولونياليّة إدامة سيطرته و تسويقها على أنّها و حرّيّة التّعبير توأمان لا يعيش أحدهما إلّا بالآخر.أمّا من هاجموا و كسّروا و سبّوا و كفّروا فالظّاهر أنّهم معتدون أقوياء و الحال أنّهم مغلوبون ضعفاء،يُسمح لهم بدقائق انفلات لأنّ المشهد الذي يُعدّ للتّرويج يحتاج إلى حضورهم لتتمّة الحبكة و بناء ثنائيّة الخير و الشّرّ.
      مازال النّظام القديم هو المُخرج المتلاعب بالممثّلين و ليس المنظّم لأدوارهم و صراعاتهم.أقول هذا أملا في أن تُصبح حرّيّة الابداع مستغنية عن الشّرطيّ الذي حين يحميها يمحوها ، و في أن تُصبح حرّيّة الاحتجاج مستغنية عن العنف الذي حين يُعبّر عنها يقتلها و يُفقدها أخلاقيّتها." ( توزيع الفقرات والإبراز من عندنا)

الحاشية الأولى

     إنّ فكرة موازين القوى المختلّة بين أقلية تحتكر المشهد الثقافي وأقلّيّة محرومة مسألة حقيقيّة تحتاج حقّا إلى نظر وتدبّر.
    وقد يكون السيّد صاغري قد بالغ في وصف الفاعلين المسيطرين على المشهد الثقافي بأنهم كانوا في حماية النظام السابق  وأسهموا في اطّراح الأكثريّة المحرومة على نحو كولنيالي ( استعماري ).غير أنّ ما قد يكون السيّد الصاغري قد غفل عنه أنّ المؤسّسات الثقافيّة في تونس كانت بدورها محاصرة حرم منها النظام السابق الجميع بواسطة الرقابة والمنع والتدجين والاحتقار وضعف التمويل والتوجيه السياسيّ والمحاصرة الأمنيّة والبيروقراطيّة الثقافيّة ..إلخ.ولا يمكن أن تحمل الأغلبيّة من المبدعين على الأقلّيّة التي تمتعت بدعم ماليّ داخليّ أو خارجيّ وتصرّفت مع النظام السياسيّ على نحو لا صدام فيه.ومن باب الاعتراف للمبدعين التونسيين ألاّ نعمّم الحكم بالولاء.فممّ عمل عليه النظام السابق ووزارات الثقافة المتعاقبة " تتفيه " الثقافة وتصحير الحياة الثقافيّة وجعل المبدعين يعيشون في وضع ماديّ هشّ.
    ولئن كان السيّد الصاغري لا يقصد تحديدا هذا الجانب ،رغم أهميّته في فهم ما وقع ، فإنّه يلمّح ولا ريب إلى " التفوّق" الإبداعي والثقافي للحداثيّين عموما ولليسار الفرنكفوني تحديدا.فمن البيّن أنّ الإنتاج الثقافي السائد إنتاج يستمدّ مرجعيّاته الجماليّة والفنيّة والإيديولوجيّة من خارج الدائرة الدينيّة.لذلك فالسؤال العميق الذي ينبغي أن يطرح ، وقد طرحه الصديق زهير إسماعيل فعلا ، هو لم يعجز " الإسلاميّون" عن الإبداع الفنّيّ في المسرح والسينما والموسيقى والفنون التشكيليّة والأدب...إلخ؟وهل يمكن أن يوجد فنّ أو إبداع يحمل تلك الصفة " الإسلاميّة"؟
   نعتقد أنّ الإجابة بديهيّة وقد نعود إليها في تدوينة لاحقة.ولكنّنا نشير إلى أنّ الأكثريّة التي يعتبرها السيّد الصاغري مقموعة ثقافيّا عاشت إقصاء من المشهد الثقافي السابق ،وربّما الحالي، شأنها شأن جلّ التونسيين الذين لم يكن يراد لهم أن ينعموا بحقوقهم الثقافيّة بأوسع المعاني وعاشوا إقصاء داخليّا بسبب انشدادهم إلى نماذج ثقافيّة جرفها تيّار التحديث الفكري والثقافي فانقطعت عن أسئلة العصر وقضايا الإنسانيّة الكبرى محتمية في هذا الزمن العاصف الهادر بالركن المكين من كينونتها المهدّدة :الهويّة.غير أنّها هويّة استيهاميّة عاجزة عن الدفاع عن نفسها وأعجز ما تكون عن الفعل الإبداعيّ.
    نعم لم يكن للمبدعين الحداثيّين دائما القدرة الكافية إبداعيّا والكفاءة العالية فنّيّا ليذهبوا إلى الآخر السميّ ويستضيفوه في فضاء أسئلتهم ويحتضنوه في قولهم وصورتهم وصوتهم.ولكنّ هذا لا يعدو أن يكون وجها من وجوه الضعف الإبداعيّ وليس بالضرورة موقفا عدائيّا من سميّ مختلف يعيش بينهم.ولا أذكر هنا الاستثناءات: معاداةً للآخر ونفيا له ،وقد يكون منه شريط نادية الفاني ،أو احتضانا له وتفهّما لجوهر مأزقه – مأزقنا. فبعيدا عن محاكمة النوايا والبحث عن المقاصد علينا مرّة أخرى مساءلة الإبداع الفنيّ نفسه.
    ولهذا تحدّثنا عن الحاجة إلى السلب الجذريّ أي العمل الفنيّ والثقافيّ الذي يربك النظام السائد ويزرع فيه بذرة الفوضى ضمن صيرورة نقديّة لا تتوقّف.ولا وجه لذلك إلا بالنقد المزدوج ،على حدّ تعبير عبد الكبير الخطيبي،حسب سياقنا العربي الإسلاميّ لمنظومات القيم والأفكار والتصوّرات الموروثة وفي الآن نفسه لمنظومات الثقافة المشهديّة ( على ما يحمل عليه غي ديبور الكلمة) والثقافة العولميّة الكاسحة.وهو نقد ضروريّ تاريخيّا وسياسيّا في تقديرنا ولا يمكن أن يكون بأسلحة سلفيّة بل بأسلحة من جنس ثقافة الاغتراب والاستيلاب نفسها بعد تحويلها وإعادة صياغتها وتنقيتها من زيفها وأكاذيبها واستراتيجيّة التلاعب بالعقول والوجدان التي تنبني عليها .
    وما شهدناه في سينما أفريكا آرت هو بوجه من الوجوه صرخة بدائيّة متوحّشة أمام نتاج لثقافة تبدو أعلق بالعصر وتقنياته ولكنّها ثقافة غريبة غربةً مركّبةً:في سياقها التقني المشهدي وفي سياقها الإيديولوجي السائد.لذلك نحتاج حقّا إلى نقد مزدوج للبؤس السلفيّ العاجز عن قول الآن وهنا إلاّ بلغة مستعارة من غياهب التاريخ وللبؤس الحداثيّ العاجز عن الذهاب إلى الإنسانيّ العميق لدى هؤلاء المقموعين المردّدين للقوالب المكرورة تكبيرا أو تكفيرا.
    وفي الحالات جميعا لا بدّ من التدرّب على إيقاف تيار العنف والعمل على منع ىتكراره وإلاّ أهدرنا إمكان صياغة قولنا عن وجودنا نفسه وعن بؤس وجودنا بجميع وجوهه ووجدنا أنفسنا ندكّ أسس الصراع الثقافيّ نفسه.فلا إبداع ولا تفكير مع التكسير والتكفير مهما تكن الأسباب.

الحاشية الثانية
  
    ولّد السيد صاغري من التدوينة السابقة فكرة مدارها على لاأخلاقيّة التنديد بصراخ المقموع المغلوب على أمره المطرود من المشهد ( الثقافي).
   نعم،إنّه لموقف نبيل نتبنّاه بقضّه وقضيضه كما تقول العرب.ولكن ماذا حين تبدو على المقموع أمارات القامع؟
     نعم، نتفهّم المقموع ونتعاطف معه لأنّه بعض منّا وفي صرخته حفيف من صوتنا ولكنّنا نرفض بوضوح أن تشهر الضحيّة سكين الجلاّد وتقع في أحابيل عنفه الأعمى.ندين القامع ولكنّنا تعلمنا على نحو نهائيّ وصريح من الثورة التونسيّة أخلاقيّات المواجهة السلميّة .
   نعم، المسألة أخلاقيّة بدونها لا نرى سبيلا باديا للخروج من حلقة الاستبداد المفرغة تحت أيّ مسمّى كان: إعلاء كلمة الحقّ مجلجلة بالهدى أو إعلاء صوت الطبقة التاريخيّة المخلّصة للإنسانيّة أو إعلاء راية الأمّة الواحدة الموحّدة.فإنْ هي إلاّ أسماء للدكتاتوريّة يراها أصحابها الحقّ الحقيقة ونراها كوابيس خانقة.لذلك ندين المقموع الذي يصاب بأخلاق القامع  ونكرّر إدانتنا للعنف السلفي المتسربل بثقافة الجموع والحسّ المشترك .وهذا عندنا أضعف الإيمان.وندعو الأصدقاء الإسلاميين المهمومين بقضايا المواطنة أن يكونوا أشدّ إدانة منّا لهذا الضرب من العنف دون حسابات سياسيّة ضيّقة فلا مجال للمهادنة أو المواربة في هذا الباب ولا أحد يعرف متى تدور عليه الدوائر لأنّ النار،نار المطلقات والمقدّسات والهوّيات المأزومة، تأكل من هو داخل دائرتها التأويليّة إذا لم تجد ما تأكله.وتاريخ الفكر الإسلاميّ من السقيفة إلى أيامنا هذه حافل بالدلائل والوقائع المرّة والرؤوس التي قطفت لأنّها فكّرت أو خالفت سياسيّا.
   وليسمح لي السيّد صاغري أن أردّ بظاهر اليد التفسير التآمري الذي قدّمه.وليسمح لي بأن أعتبره من باب "الانفلات التأويليّ" الشائع اليوم.فالعجيب أنّ كثيرا ممّا يحدث يردّ إلى " حزب التحرير" و" عصابات النظام البائد" و" القوى الأمنيّة" وحتّى ...." جماهير كرة القدم"!!!على ما سمعنا من أحد السلفيّين. والأعجب أنّ حزب التحرير الذي ترفع راياته السوداء وشعاراته الصفراء يذكّر برفضه للعنف وينفي مشاركته فيه.فلا تتبقّى أمامنا إلا الأشباح والتخيّلات نرى الصور واللحيّ ونسمع النداءات والشعارات ويريدوننا أن نصدّق ما به يكذّبون حتّى لكأنّ القوى الإسلاميّة بطيفها الواسع السلفي العلمي والسلفي الجهادي والتحريريّ  وحتّى بعض قيادات النهضة في نسختها التركيّة المعدّلة من المدافعين الأشاوس عن حرّيّة التعبير والتفكير ومن الرافضين للتكفير و" استئصال" الزنادقة والكفرة والملاحدة والعلمانيين واللائكيّين والشيوعيّين والماسونيين...إلخ .
   فالمسألة هنا ،مرّة أخرى، ليست سياسيّة فحسب بل تتصل بمراجعة عميقة للأساس العقائديّ والفكري للطيف الإسلاميّ كلّه أو بعضه لينسجم مع نداء الحرّيّة والمواطنة لنتجاوز خليط المولوتوف الفكري الذي يجمع إلى الموروث الإخوانيّ الإسلام الهندي – الباكستاني  ونسخته الطالبانيّة والإسلام الوهّابي فالمطلوب ،الآن وهنا ، وبالخصوص لدى الأصدقاء الإسلاميين الخروج من موقع المبرّر والمفسّر في أحسن الحالات إلى موقع المسؤوليّة بإزاء التفاوت المفزع بين خطاب القيادات المدافع عن الحريات الفردية وسلوك القواعد وحماستها وشهيّتها لإعادة فتح إفريقيّة ونشر الإسلام الذي أصبح في زعمهم غريبا في هذه الربوع.
  ومهما يكن تفهمنا للمقموعين الذين وقفوا أمام سينما أفريكا آرت للتنديد بشريط نادية الفاني ذي العنوان المستفزّ ومهما يكن تعاطفنا مع هؤلاء الذين يطالبون بنصيبهم من مشهد ثقافي أقصاهم الفاعلون الثقافيّون منه فإنّه لا يمكننا أخلاقيّا ومواطنيّا وثقافيّا وسياسيّا ألاّ ندين العنف الذي يمارسونه وهذا ،مرّة اخرى ، أضعف ما تدعونا إليه أخلاق المواطنة.ونكرّر إنّ الصراع سيكون مريرا وطويلا للأسف لأنّ جنّة الديمقراطيّة الموعودة وحدها لن توقف تيّار العنف.
   وما أحسن ما قال السيّد الصاغري في خاتمة تعليقه :" أقول هذا أملا في أن تُصبح حرّيّة الإبداع مستغنية عن الشّرطيّ الذي حين يحميها يمحوها ، و في أن تُصبح حرّيّة الاحتجاج مستغنية عن العنف الذي حين يُعبّر عنها يقتلها و يُفقدها أخلاقيّته".   

2 commentaires:

dali a dit…

جميل! هذا ما نحتاج إليه من تحاليل في غابة القعقعة التي تشهدها تونس

chokri a dit…

و أجمل منه زيارتك أيها المبدع
تحياتي