vendredi 21 août 2015

“الطلياني”.. بداية مشوِّقة ونهاية مُحبِطة


خيري دومة أستاذ النقد الأدبي – جامعة القاهرة
جريدة القاهرة، الثلاثاء 12 مايو 2015     
 
“الطلياني” عنوان مثير لرواية شكري المبخوت التي فازت بجائزة البوكر العربية لعام 2015. وقد عرفنا المبخوت استاذًا جامعيًا يقدم دراسة مرهفة لكتاب “الأيام” سيرة طه حسين الشهيرة، ويقدم غيرها من الدراسات في اللغة والأدب، لكن هذه هي المرة الأولى التي يكتب فيها “رواية”، ومن حسن بخته وبختنا أن فازت الرواية الفريدة بالجائزة اللامعة.
و”الطلياني” عنوان بالغ الدلالة على إيجابيات هذه الرواية وسلبياتها في الوقت نفسه؛ فهو من ناحية عنوان مثير يشي بجانب غامض من شخصية البطل في الرواية: عبد الناصر الملقب بـ”الطلياني”، الشاب التونسي الوسيم ذي الملامح الهجينة بين التركي والإيطالي، لكنه أيضًا عنوان لا أثر له ملحوظ في بناء الرواية وشخوصها، كأنه اسم عارض اختير لأدنى ملابسة.
ما أقصده أن هذا العنوان يشير في جانب منه، إلى توجه خاص في سرد حكاية البطل الغامض الذي نراه مع مطلع الرواية؛ إذ نلتقي في الفصل الأول بالشاب التونسي عبد الناصر الطلياني – في مشهد دفن والده، وفي سلوك مفاجئ- يضرب إمام المسجد المحترم الذي يقوم بالدفن، ويُسيل دمه على ملابسه وعلى أرض القبر، وسط استغراب المحيطين ودهشتهم.
غير أن هذا العنوان الجميل، وعلى الجانب الآخر، يشي بمنطق الصدفة المجانية الذي يربط بداية الرواية المثيرة هذه، بنهايتها المحبِطة؛ فنحن القراء – وبعد رحلة طويلة تستغرق معظم صفحات الرواية، وتستعرض شخصية عبد الناصر الطلياني وجهاداته اليسارية ومغامراته العاطفية والجنسية والسياسية، في مجتمع تونسي تضربه تناقضات السياسة – نعود مرة أخرى إلى حادثة البداية/النهاية المثيرة، لنكتشف نهاية البطل الغريبة المثيرة التي بدأنا منها، إنما يحكمها حادث جنسي وقع له في طفولته، كما أننا – وبعد رحلة أخرى طويلة نسيرها مع حبيبته زينة، وهي واحدة من أجمل شخصيات الرواية؛ إذ تكشف وجوهها المتعددة عن تناقضات بطلة روائية بامتياز – نكتشف في مصادفة أخرى غريبة أن مصيرها الروائي معلق أيضًا بحادث جنسي غريب وقع في صباها الباكر. هذا البعد النفسي المركب الذي تبدأ به الرواية وتنتهي إليه، يبدو مقحمًا على عالمها السياسي التاريخي التوثيقي أحيانًا، وهو الجانب الذي كُتب له أن يحظى باهتمام قراء هذه الرواية ونقادها.

لقد بدأت الرواية من مطلع مثير، يكتبه روائي ماهر، يرسم شخصيات غامضة كالتي نراها في حياتنا، ويخفي عنا ما يعرفه الراوي، ويتركنا محيرين في تفسير سلوك الشخصيات المفاجئ. غير أن هذا اللعب الرهيف بإخفاء المعلومات وإعلانها، سرعان ما يواريه سردٌ تلخيصي سريع، يصور وقائع التاريخ التونسي مجسدًا في سلوك أبطال الرواية وشخصياتها، وفي تعليقات الراوي. تنقطع هذه الأحداث والوقائع السياسية والاجتماعية فجأة، ليعود المؤلف في الجزء الأخير المعنون “رأس الدرب” محاولاً تفسير البداية المشوقة، ولكن بعد أن نكون قد فقدنا الإحساس بالغموض المنتج الذي بدأت به الرواية؛ فتمامًا كما قدمت زينة اعترافها الجنسي بين يدي البطل، يقدم البطل في هذا الجزء الأخير، ما يشبه الاعتراف بين يدي الراوي عما حدث له في طفولته.
عالم هذه الرواية مليء بالمتناقضين والمجروحين في تاريخهم الشخصي، الجنسي خصوصًا (عبد الناصر، وزينة، ونجلاء، وريم، والأستاذ المشرف، وعلالة وزوجها.. إلخ) كأنه فيروس يصيب الجميع مرة في طفولتهم، ويبقى معهم ليدمر ما تبقى من حياتهم، خصوصًا البطل عبد الناصر الطلياني وحبيبته البطلة زينة. فلكل منهما تاريخه الشخصي المكتوم الغامض، كلاهما تعرض للاغتصاب الذي أصابه في مقتل، ومع أنهما يخوضان نضالاً سياسيًا وغراميا طويلاً، في موازاة تاريخ تونس خلال سنوات الثمانينات والتسعينيات، فإن مقتلهما الحقيقي الذي تكشف عنه النهاية الغريبة للرواية، لم يكن في السياسة ولا في التناقض السياسي، وإنما في هذا التاريخ الشخصي المجروح المتناقض، الذي يبدو – وهنا مشكلة هذه الرواية ونقطة ضعفها الأساسية – قدرًا مفروضًا من خارج الرواية ومنفصلاً عن عالمها الداخلي. التحرش المتكرر الذي تعرض له البطل من قبل إمام المسجد، والاغتصاب الذي تعرضت له البطلة من قبل مجهول، حادثان مع ما لهما من تأثير فادح، يبدوان صدفة قدرية منفصلة عن عالم الرواية الحي، الممتلئ بالصراعات السياسية والاجتماعية. ويا له من لقاء لبطلين مجروحين ينتميان معًا إلى اليسار!!
تذكرني رواية “الطلياني” للمبخوت، برواية “البيضاء” ليوسف إدريس، وإن بشكل معكوس؛ فالروايتان كلتاهما تقومان على قصتين بينهما قدر من الانفصال وقدر من التداخل: قصة الحب وتكوُّن الشخصية من جهة، وقصة السياسة وتكوُّن الوطن والثورة من جهة أخرى.  في الروايتين جانبٌ نفسي شخصي خاص، وجانب وطني سياسي عام.

في البيضاء كان الجانب الأكبر– الذي أهمله النقاد والدارسون – استبطانًا مطولاً يركز على ما يدور بين البطل ونفسه في قصة حبه المستحيلة الغريبة مع “سانتي” حبيبته اليونانية، بينما كان الجانب الأصغر – الذي اهتم به النقاد والدارسون – متعلقًا بتناقضات الحركة الشيوعية المصرية وبذلك الجانب من تاريخ مصر الأربعينيات.
أما في الطلياني فكان الجانب الأكبر من الرواية الذي انشغل به النقاد والدارسون – مركزًا على التاريخ الوطني والصراعات السياسية والفساد والنضال في تونس بورقيبة وبن علي في الثمانينيات والتسعينيات، بينما لعبت أحداث عارضة – ربما لن يلتفت إليها النقاد والقراء – الدور الأساس في صياغة حياة البطل والبطلة وفي توجيه حركة الرواية. رواية “الطلياني” إذن – كروايات أخرى كثيرة – تنازعَها أكثر من هدف، وضربت في أكثر من اتجاه. وهذا سر قوتها وسر ضعفها.
أغرب شخصية في هذه الرواية، وأعتقد أنه يستحق دراسة مستقلة، هي شخصية الراوي المتكلم الذي لا يستطيع أحد أن يتبين دوافعه، بينما يريد المؤلف أن يقنعنا بأنه يجمع الوقائع، ويروي شهادته على صديقيه بطلي الرواية، وعلى مجتمعه التونسي في عمومه. الرواية كلها في واقع الأمر، تصلنا  عبر راو غائب واسع المعرفة يصير وجوده مع الوقت طبيعيًّا وتلقائيًّا، بينما يبدو الراوي المتكلم الذي يطل برأسه بين حين وآخر، مقحمًا وغريبًا عن عالم الرواية.

بقيت كلمة أخيرة عن اللغة التي كتبت بها رواية المبخوت. وهي لغة برغم فصاحتها الزائدة عن حد الرواية أحيانًا، لم تمنع من رسم مشاهد يومية ودرامية حية لا يمكن نسيانها، كمشهد الالتحام بين الشرطة والمتظاهرين، ومشهد اغتصاب زينة المجهول الغامض.

«الطلياني» رواية الانكسارات الفردية والجماعية


 حسن مدن
 جريدة "عُمان"، أوت 2015

في أي عمر يمكن للكاتب أن يكتب رواية؟ سؤال يوحي به فوز الأكاديمي والباحث التونسي شكري المبخوت بالنسخة العربية من جائزة «البوكر» في دورتها الأخيرة، عن روايته الأولى والوحيدة، حتى اللحظة «الطلياني».
ليس المبخوت كاتباً شاباً يُعرف للمرة الأولى، على الأقل على مستوى وطنه تونس، وعلى الصعيد الثقافي المغاربي عامة، ولكنها المرة الأولى التي يكتب فيها رواية بعد أن حقق صيتاً ومكانة في مجالات البحث الأكاديمي والنقد الأدبي، وكانت هذه الرواية من الجودة ما أهّلها لتنال «البوكر» وسط منافسة قوية  مع روايات أخرى مهمة.
طالما نظرتُ، كما ينظر غيري كثيرون، بشيء من الغرابة لـ«جرأة» الكثير من الشبان والشابات، خاصة في بلداننا الخليجية، حيث تتوافر إمكانات النشر أكثر مما هي عليه في البلدان العربية الأخرى، في إصدار روايات، من دون أن يمروا بتجارب سابقة في الكتابة، فالرواية فن صعب، يحتاج إلى رؤية معرفية بانورامية لا يتوفر عليها، عادة، إلّا الكاتب الذي «اشتغل» على نفسه بالقراءة والاطلاع ومراكمة الخبرات والتجارب الحياتية التي توسع من أفقه ورؤيته.
ومن وجهة نظر ريجيس دوبريه فإننا حين نمتلك حلاً أو إجابة لمشكلة ما، نكتب كتاباً فكرياً أو بحثاً، لكن عندما نعيش مشكلة ما أو عندما لا نعرف هذه المشكلة بوضوح فإننا نكتب رواية، فهناك مسائل لا يمكن حلها أو حسمها داخل الوجود مثل الموت والحب، وفي حالات مثل هذه ينبغي أن نكتب الرواية، وتأتي هذه الفكرة في إطار مناقشات عامة عن العلاقة بين أجناس الكتابة، وتقدم جنس الرواية مثلا، فيما تتراجع مكانة الشعر في الحياة الثقافية.
وتأتي رواية «الطلياني» في إطار صعود ملفت للإصدارات الروائية، التي تتراوح في المستوى، ولم يعد الأمر محصوراً في الحواضر الثقافية العربية التقليدية كمصر وسوريا ولبنان، بل صرنا شهوداً على أعمال روائية لافتة من «الأطراف» العربية مشرقاً ومغرباً، وأذكر أني حين عبرت منذ سنوات، لزميلة تونسية مشتغلة بالنقد الأدبي، عن ثنائي على رواية لكاتب تونسي كنت قد قرأتها، يومها، للتو، قالت: لن تندم أبداً حين تقرأ أي رواية تونسية، قاصدةً  أن الشوط الذي قطعته الرواية في تونس يجعل من المتعذر أن تصادف رواية ضعيفة.
لعل الزميلة ألقت عبارتها بين الجد والهزل، فيما يمكن أن ندرجه في نطاق الفخر بمنجزات الوطن الذي ينتسب اليه المرء، تونس في حالة زميلتنا هذه، لكن ليست الرواية التي قرأتها يومذاك فقط، وإنما ما تلاها من روايات قرأتها للكاتب نفسه، أو لكتاب آخرين من تونس، تجعل من كلامها صحيحاً، وهذا ما أعادت التأكيد عليه رواية شكري المبخوت هذه.
هذه الرواية، شأنها شأن روايات تونسية أخرى قرأتها، بينها روايات الحبيب الصالحي، ورواية حسن بن عثمان: «أطفال بورقيبة» تعنى  بتحولات المجتمع التونسي في مرحلة ما بعد الاستقلال، مروراً بالحقبة البورقيبية، التي مهما قيل بشأنها من سلبيات، فإنها الحقبة التي وضعت فيها ركائز الحداثة التونسية، وانتهاء بعهد زين العابدين بن علي، الذي تكثفت فيه التناقضات حتى بلغت حد الانفجار في الربيع التونسي مطالع 2011، وهو تكثيف عبر عنه الحبيب الصالحي، من قبل، في روايته: «نساء البساتين» التي ألح فيها على مراقبة مَعلمين بارزين، مركز الشرطة والجامع المحاذي، في نظرة لماحة لمكانة سلطتين تتنازعان النفوذ، الدولة البوليسية والمؤسسة الدينية، ما يجعلنا نفهم بعد ذلك كيف حدث انه عندما تصدعت الدولة البوليسية تحت وقع خطى الجماهير الهادرة التي أطلقها إلى شوارع تونس محمد البوعزيزي، كانت السلطة الدينية هي الأكثر جاهزية لقطف ثمار ما جرى.
فرغم القمع الشرس، كانت تلك السلطة الدينية توسع دائرة نفوذها، مستغلة حقيقة أن التحديث، خاصة بعد تنحية بورقيبة، بات مفروضاً بسطوة الدولة، وليس نابعاً من بنى المجتمع التحتية، فيما يستغرق بسطاء الناس البحث عن لقمة العيش التي عزَّت بفعل إخطبوط الفساد الذي استشرى.
بصورة من الصور يتحرك شكري المبخوت في الدائرة ذاتها، ولكنه اختار زاوية أخرى لمقاربة تحولات مجتمعه، حين جعل من المناضل اليساري محوراً في بنية الرواية، متحركاً بذلك في فضاء يمكننا من خلاله الوقوف على تحولات تيار فكري مهم في الحياة العامة، هو التيار اليساري، لا في تونس وحدها وانما في البلدان العربية الأخرى التي عرفت بصعود التيارات اليسارية فيها في مرحلة مهمة من تاريخنا العربي، وقد علل المبخوت اختياره لهذه المقاربة بالذات بكون اليسار مُجسِداً للقيم الكونية الحديثة، رغم الانكسارات التي واجهها ويواجهها تحت ضغط أكثر من عامل: القبضة الأمنية الصارمة التي استهدفت مواقع ومناضلي هذا التيار بالقمع والاقصاء، الصعود المدوي للتيارات الاسلامية تحت سمع وبصر الحكومات، وفي حالات كثيرة بتشجيع منها، حين وجدت فيها ضالتها لمحاصرة نفوذ اليسار في صفوف الشبيبة وفي المواقع الثقافية ومؤسسات المجتمع المدني، وأخيراً بسبب ما وقعت فيه التيارات اليسارية ذاتها من أخطاء.
لم تكن تونس استثناء من هذا، بل لعلها تشكل بيئة نموذجية لدراسة وتقصي تلك التحولات، منذ أن كان اليسار مهيمناً على الحركة الطلابية في الجامعة، وذا نفوذ في الحركة النقابية، فضلاً عن حضوره في الحياة الثقافية والفكرية في المجتمع، وهو واجه ذات الاختبارات التي واجهها اليسار في البلدان العربية الأخرى، ربما في أدق التفاصيل، وهو ما سعت الرواية لقوله من خلال شخصية عبدالناصر المعروف بـ«الطلياني» لما كان عليه من وسامة.
من خلال التحولات في حياة الطلياني الذي تموضع في مؤسسة صحفية خاضعة للهيمنة الحكومية بعد أن غادر كلية الحقوق في الجامعة، التي كان يتعمد التخلف عن تقديم امتحاناته ليبقى فيها أطول أمد ممكن لقيادة العمل الطلابي، يأخذنا الكاتب للتعرف على مهارات المنظومة السياسية المهيمنة في احتواء اليسار وتدجينه، خاصة بعد أن أصبح يخسر مواقعه أمام تقدم الاسلاميين، الذين انفتحت شهيتهم لا للاستحواذ على المواقع المجتمعية وحدها، وإنما للظفر بالسلطة السياسية ذاتها. فعبدالناصر ـ الطلياني الذي عرفناه مناضلاً  طلابياً متفانياً، يطل علينا، فيما بعد، صحفياً ماهراً دون أن نعثر على أية اشارة الى أن نضاله استمر، بل نجده خارجاً عن أي سياق تنظيمي، غارقاً في المغامرات العاطفية مستغلاً وسامته ولباقته، ومعوضاً عن العقد النفيسة الدفينة الناشئة من محاولة اغتصابه وهو فتى صغير من إمام جامع البلدة التي نشأ فيها.
بعض من كتبوا عن الرواية حاولوا أن يروا فيها شهادة ضد دور اليسار التونسي، والعربي عامة، وهذا ما لا نوافق عليه، فالكاتب لم ينطلق من أرضية الخصومة لليسار، إنما على العكس تماماً، فهو أراد  باختياره شخصية بطله أن يرصد تحولات المجتمع في تونس خلال الحقبة التي تناولها الرواية، من خلال تتبع مسار أحد التيارات الفاعلة فيه، مستعيناً بأدوات التحليل المختلفة، خاصة السيكولوجية منها وهو يسبر أغوار شخصيات الرواية كلها، لا البطل وحده، والحق اني لم أستسغ حمولة المفردات الماركسية التي طغت في الصفحات الأولى من الرواية التي جاءت على لسان شخصيات الرواية، لأني شعرت بأن الكاتب استغل عدته الفكرية في إقحامها في الحوار، ربما لتحدره من الجذر السياسي والفكري نفسه الذي تحدر منه بطله الطلياني، ولكنها حملت شحنة تقريرية كان بالإمكان تفاديها، وربما وشت بشيء من السخرية تجاه تلك المفردات، وهو ما لا أحسب أن الكاتب توخاه، حكماً مما أدلى به من أحاديث وشهادات بعد فوز الرواية، وحكماً أيضاً من سيرته الفكرية المعروفة.
ليس شكري المبخوت أول من جعل المناضل اليساري وانكساراته محوراً في العمل الروائي، فلقد فعل ذلك قبله روائيون عرب آخرون، بينهم، مثلاً، حنا مينه في «الثلج يأتي من النافذة»، ومثله فعل عبدالرحمن منيف  في «شرق المتوسط» و»الآن هنا»، وغيرهما فعل آخرون، لكن المبخوت لم يهدف في «الطلياني» رصد أو تقصي القمع الشديد الذي تعرض له المناضلون اليساريون في بلدانهم، وتسليط الضوء، من وراء ذلك، على محنة الحريات وغياب الديمقراطية، كما فعل سابقوه، وإنما ذهب أبعد في رصد إشكاليات نشاط اليسار في بيئة معقدة، واقفاً عند أثر الإرتكاسات النفسية والضغوط الاجتماعية والسياسية على وعي وسلوك المناضل اليساري، ومآلات الاحباط وفقدان الثقة في إمكانيات التغيير التي وقع فيها الكثير من منتسبي اليسار جراء التحولات في الوضع العالمي وفي بلدانهم أيضاً، وهو الأمر الذي تبدى واضحاً في عجز اليسار أو ضعفه في التعامل مع الإنعطافة الكبرى التي يشهدها عالمنا العربي، التي غاب عنها دور هذا اليسار أو كاد.

تبدو «الطلياني» متسقة مع الفضاء الذي يتحرك فيه الكثير من المنجز الروائي في تونس، وهي ليست بالضرورة العمل الروائي التونسي الأفضل، لكن فوز رواية من تونس بالبوكر العربية مستحق، خاصة وأن روايات تونسية أخرى سبق لها أن بلغت القائمة القصيرة للبوكر في أعوام سابقة، ويبدو مفهوماً أن تونس بالذات، لا غيرها، تفوز بجائزة عن رواية ترصد مقدمات ما تعارفنا على وصفه بالربيع العربي، فهي مهد هذا الربيع، وهي الأكثر تأهيلاً للتغلب على الارتدادات السلبية الناجمة عن حجم التغيير الكبير الذي وقع، والأهم من هذا أن البيئة الابداعية والثقافية في هذا البلد أهل لأن تقدم أعمالاً تستوقف لا لجان التحكيم وحدها، وإنما مجمل حركة النقد والقراءة في العالم العربي.


"الطّلْيَانِي" : روايةُ الدّرُوب المُقفَلة





أولفقيه يونس،
الاتّحاد الاشتراكيّ (المغرب)، 20/08/2015

لم أكن أعرف من هوّ شكري المبخُوت ولم أسمَع به أبداً قبل الإعلان عن نتائج الجائزة العالميّة للرواية العربيّة (البوكر) لهذه السّنة، آن ذلك فقط اكتشفتُ أنّه كاتب تونسي له كتابات عديدة، من بينها رواية "الطّلْيَاني"، الحائزة على البوكر نسخة 2015، والصادرة عن دار التنوير- تونس، الطبعة الأولى 2014.
من موت الحاجّ محمود، واعتداء عبد الناصر، الشخصيّة الرئيسة، على الشّيخ علاّلة إمام المسجد في مشهد ترك الجميع مشدوهين، أثناء التحضير لإنزال والده إلى مثواه الأخير، يحكي لنا الرّاوي تاريخ عبد الناصر بانكساراته ومخاوفه وأفراحه، فالراوي عايشه منذ البدء، حيث كان صديقاً في الطفولة ورفيقاً في الكليّة، وفي خضمّ الأحداث، كما شهدها وسمعها واستقاها، تتقاطع الحكاية مع شذرات من حياته الذاتية، فقد كان حافظ أسرار عبد الناصر كما يقُول، العارف بنزواته وطموحاته، الساهر على مساعدته ما استطاع إلى ذلك سبيلاً .
عبد النّاصر، بهيئته الطاليانيّة، وشربه الخمر، ثمّ عيشته البوهيميّة، كان يجرّ وراءهُ زواجاً فاشلاً، فحادَ عن مواضعات العائلة ذات الأصل المرمُوق. لقد كانَ كالنّهر الجاري يحفرُ مجراه بمائه المتدفّق الهادر لا يوقفه شيء، حتّى ظهرت زينة، طليقته، فكانت المُنعرج في حياته، امرأة طبيعيّة دون تصنّع لكنها تغمرك بأنوثة فيّاضة وهي تتحدّث وتُحرّك يديها وسبّابة يدهَا اليسرى يمنةً ويسرةً، في داخلها شيءٌ بغيض، في ذهنها ذكرى اغتصابها في كوخهم الريفي من طرف أحد الجيران، جرح لم يندمل، فترك رائحة كريهة في النّفس، لقد كان الطّلْياني الوحيد الذي فتحت لهُ أرشيف وجعها، هو الذي تعرّض بدوره في طفولته لمحاولات اغتصاب متكرّرة من طرف علاّلة المخصيّ والعاجز. وحين ألقمته للاّ جنينة، زوجة علاّلة الذي لم يحرث أرضَها، من شهدها وعسلها المتدفّق، لم يبخل على نفسه بل اقتنص الجسد العطشان، لكأنه ينتقم لنفسه وتاريخه الموشوم في ذاكرته .
زينة كانت الأفيون اللّذيذ الذي أطلق الجواد المُجنّح بداخله على حدّ قوله، بعد فراقها دخلَ عبد الناصر في بحثٍ محمُوم عن نسيان شيءٍ مّا، يقولُ الراوي إنّه (عبد النّاصر) قد أضاع الجهات الستّ، بعد طلاقه من زينة، دون أن يفقد عقلهُ تماماً. جاءت نجلاء إلاّ أنها كانت سكّة مقفلة هي الأخرى، فكانت ريم، محاولته الأخيرة واليائسة لرتق الخراب الذي نخرَ جدران روحه، لكنّ الحياة، رغمَ كلّ شيء، تستحقّ أن تُعاش. "ما أنقذني من الانهيار هو شخصٌ آخر بداخلي. ليس ضميراً ولا نفساً لوّامة. شخص من عقل خالص، بارد، لا مشاعر له ولا أحاسيس، قاطع كالسّيف.. إنّه بوصلتي حين تختلطُ السّبل. لولاه لوصلت إلى الانحراف الخالص والإجرام المجّاني أو تلاشيت وانتحرت"، هكذا يُشرّح عبد الناصر الوضع الذي وصل إليه، والسبيل الذي انتشله من ظلام نفسه ومحيطه.
عبرَ جوّ النضال والطّلبة النقابيّين والحركّة الطلاّبية التي تحلم بمجتمع يسُود فيه العدل والمساواة، وصولاً إلى دنيا الصحافة والإعلام والثقافة، تخلّلت حياة عبد الناصر ثلّة من الوقائع والانكسارات والتحديّات، إلاّ أن دخوله إلى جريدة محسوبة على النظام، هو المناضل اليساري الحامل لتاريخ طويل من الرفض والمعارضة، مكّنه من الغوص في الدهاليز السّفليّة لصنع القرار وتوجيه البلاد، فالحقيقة في تونس لها مصدر واحد هوّ الدولة، وفطن بذكائه الثّاقب إلى أنه ليست كلّ الحقائق ينبغي أن تقال أو له الحقّ في قولها. ولمّا شهد انقلاب بن علي على المجاهد الأكبر بورقيبة، ساير التيّار الموبوء، رغم نقمته من النفاق المستشري في كلّ جانب، فالكلّ بارك العهد الجديد، طامحين إلى التغيير المنشود، رغم أنهم، في قرارة أنفسهم، يعرفون ألاّ شيء تغيّر أو سيتغيّر.
إنّ الرواية شهادةٌ على جيلٍ كانت طُموحاته أكبر من إمكانات الأشياء، فتحطّمت آماله، أو تمّ تحطيمُها عن سبق إصرارٍ وترصّد، على صخُور الواقع والسيّاسة الموحشة التي تحرقُ كلّ من لم يخضع لمنطقها الخاصّ، فأصبح عبد الناصر قصبة وحيدة في مهبّ العواصف، يحاول مداراة حرائقه، في محاولة، ربّما فاشلة، لترميم ما بقيَ من روحه المخرّبة بتوالي الضربات على مرّ السنين، إنه محصّلة خيانات ومواضعات بائسة وعقليّات مُتحجّرة، ساهمت كلّها في تحطيمِ قُدراته وطاقاته .

jeudi 13 août 2015

«الطلياني»: سيرة اليسار التونسي وظلاله بتقنية خيالية



محمد بن مسلم المهري (أكاديمي عماني)

القدس العربي، 9 أوت، 2015
                             

«ربما أدرك أن الأسرار التي تشد الناس إلى المرء لا تكتسب قيمتها من ذاتها»
تلك الأسرار التي فتحت شهية القارئ للاطلاع عليها؛ هي التقنية التي عمل عليها المبخوت باحتراف؛ حيث بدأ بالزقاق الأخير المليء بالأسرار، وانتهى برأس الدرب الذي كشف فيه تفاصيل منازل الخطوة الأولى الذي انتهى باسم الشيخ علالة إمام المسجد.
بين هذه الفصول تبدأ رحلتي مع «الطلياني»، وإذا ما أردت الجرأة قليلا فإن أسئلة هنا تعتلج في صدري أهمها:
هل رواية «الطلياني» سيرة لليسار التونسي بتقنية خيالية؟
هل تعد رواية «الطلياني» مراجعة جادة للملفات المسكوت عنها عند اليسار لبناء يسار جديد بعد الثورة؟
الحق حين وقفت على تخوم رواية «الطلياني» وجدت نفسي أمام بناء محكم تمكن المبخوت منه، وقد تشرب ما حوله، فالمبخوت هو «الطلياني»، وهو السارد، وهو الراوي، وهو اليسار، يحرك شخوصه بطريقة تختلط على القارئ وتوقعه في سراب لا نهاية له، كلما قطع واديا ظهرت مفازة تحيطه بأسئلة لا يجد لها الكثير من الأجوبة، وحتى لا أقع في تيه «الطلياني»، أو هكذا يظهر لي عمدت إلى بناء خاص يلملم ذلك السراب من خلال عنوانات تضيء بعضا من معالم الطريق؛ لمواصلة درب مليء بالإشارات لصفحة طويت ومستقبل جدير بالقراءة المتأنية.
النشأة:
أثث «الطلياني» (عبدالناصر وهو الشخصية الرئيسية) بداياته بالبيئة التي نبت فيها اليسار، حيث كانت البذرة الأولى في بيت مكون من أب مثقف يميل إلى الأخذ بالنمط الغربي في التربية، وأم تحاول فرض سيطرتها لتكوّن مجتمعا محافظا أقرب ما يكون إلى النمط المتطرف الذي لا يقبل النقاش حول المبادئ العامة في البيت، وهذه هي البذرة الأولى لتمرد «الطلياني»، والحركة الأولى للتحرر من قيود المجتمع المحافظ .

«غرفتي وأنا حرّ فيها»

لقد بنى «الطلياني» قلعته، على الرغم من المعارضات التي تظهر هنا وهناك من لدن القوة المهيمنة على البيت بقوانينها «أصبحت لعبدالناصر ممكلته الخاصة معلنا من خلالها استقلاله عن نساء البيت الشرسات»، لقد تكوّن التوجه اليساري ثقافيا لدى عبد الناصر ورفاقه من خلال قراءة أدبيات الحركات الشيوعية بداية برواية «الأم»، وكتب الفلاسفة الكبار أمثال جورج بولتيرز، ونهاية بالجلوس إلى بعض من يعد على الاتحاد العام التونسي، ومن هناك انضم إلى التنظيم السري.
الخروج:
للأسف لا نجد «الطلياني» بعدها إلا في قلب التنظيم لينتمي إلى خلية يسارية يقودها محام لا يقبل من ينتقد مبادئه، وكأن خروجه إلى مجتمع الجامعة ولحظة التنظيم والاجتماع لحظة واحدة، لم تكن هناك مساحة زمنية تؤهل القارئ لتلقي الانخراط في الدوائر اليسارية، ولكننا سنمضي معا لنجد عبد الناصر في لقاء جمعه بجعفر ورضا ونبيل في شقة نجم الدين في حي الزرهوني الشعبي لمناقشة التخلص من الطالبة زينة، التي بدأت تناقض مبادئ اليسار، وتسفه بعض آرائهم حسب توجيهات الرفيق المحامي، الاجتماع يمثل اليسار بمرجعياتهم المختلفة، ويصور عدم الاتفاق حول الآراء المطروحة على طاولة النقاش، وعلى رأسها تصفية زينة، إذ خرج الجميع على غير وفاق على محور الاجتماع، بل كان الانفضاض عن المحامي الجهبذ على رأس النتائج التي خرج بها المجتمعون، والنقطة المهمة هي التفاوض مع زينة؛ حتى تخفض من حدة نقدها.
زينة الفتاة المنحدرة من القرى البربرية في الشمال الغربي واسمها الأمازيغي « أنروز»، الذي لا يعرفه إلا أصدقاؤها المقربون. تمثل المرأة التونسية التي أتت من الأرياف تبحث عن التطلع إلى حياة أرقى، في ظل نظام جديد يتيح للمرأة الخروج وخوض الحياة جنبا إلى جنب مع الرجل. من هنا كانت زينة بكل آمالها وتطلعاتها التي فاقت كل التقديرات، بما تشربت من ثقافة واسعة تتيح لها محاورة كل التيارات اليسارية منها والإسلامية، تصل إلى درجة الاستهزاء بل التسفيه؛ الامر الذي دعا اليسار إلى توجيه أمر إلى كوادره بتصفيتها.
القلب والدوائر:
السؤال الذي يطرح نفسه في أي دائرة من دوائر اليسار يمكن وضع زينة فيها؟
لا شك أنها في دائرة المثقف؛ لأنها وبكل سهولة تناقش كل الأفكار التي تراها خاطئة، إذ جلّ خطاباتها نقد حادّ عنيف لما تسميه «الوعي الطلابي البائس» و»الحركات الفاشية ذات المشروع الديني الاستبدادي» و»التشرذم السرطاني لليسار البيرقراطي»، «فالحركة الطلابية عندها ليست طليعة الحركة الثورية، بل هي المكون الهش منها… وتتهم اليسار بغياب العمق الفكري والاكتفاء بقوالب جاهزة حول نمط الإنتاج في المجتمع والتناقض الرئيسي والتناقضات الثانوية، والتعويل على تحليلات لينين وماو تسي حول الواقعين الروسي والصيني وإسقاطها على الواقع التونسي… كانت تصف اليسار بالجاهل وبالكلب الأعمى الذي يجس في مزابل اللينينة الستالينية العفنة».
ولم تكن زينة تقف بنقدها عند اليسار وحسب بل تتعداهم إلى التيار الإسلامي حيث كانت تقول لهم: «تتحدثون عن هويّة ميتة لا تعرفونها… فكركم خلطة ساذجة من إسلام الإخوان والوهابية وتأثيرات شيعية… أنتم تقدسون الأفكار المحنطة، تقدسون أفكار مدرس تربية إسلامية محدود الذكاء، أو معلم من أرياف مصر، لا تقدسون الخالق. أنتم أبناء الجهل المغلف بالبحث عن أصل كاذب لم يوجد أبدا».
كانت هذه الثقافة العالية التي تتمتع بها زينة؛ محط إعجاب من الخصوم وعلى رأسهم «الطلياني»، ومن خلال اللقاءات المتكررة نشأت أول بذرة بين المبادئ اليسارية وابناء الطبقة الكادحة، وتشاء الظروف أن تجمع «الطلياني» وزينة في كلية الآداب في منوبة، ولكن تحت هراوات رجال الأمن، وبعد أن أظهر عبد الناصر شجاعة في حماية زينة وإخراجها من براثنهم، هنا يحدث القران بين اليسار وطبقة البروليتاريا المتعلمة، وإن كانت تحمل شروطا ترفض فيه (زينة/ القرية) الخضوع التام للمبادئ، ومع ما يوجد من تجاذب جسدي بينهما، إلا أنها علاقة تنتهي بعد انفصال الأجساد إلى ألم لا يطاق ولذة لا تحتمل». وكان اللقاء هنا ماديا يلامس اليسار، القرية، أو الانحاء كيما يغرس مبادئه بكل ما يحتوي من إغراء، وحين تذهب كل تلك القرابين تنتهي إلى ألم لا يحتمل، قد يكون ذلك عائدا إلى المأساة التي عانتها المرأة، وخوفها من أن تكون تلك الجارية مرة أخرى، على الرغم مما تجد من لذة جسدية التي هي في أصل الخليقة «بيد أنها في حالما تثوب إلى رشدها لا يبقى إلا ألم حاد مروّع في أحشائها».
النهاية:
بموت الأم الريفية التي تعد معادلا موضوعيا للعهد البورقيبي، أصبحت الريفية الآن أم نفسها، أي أن القيود التي تحافظ عليها ولو من باب المجاملة سقطت، وبمعنى آخر أصبحت حرة نفسها، حينها عملت نجلاء (المدينة) العمل على توثيق أواصر العلاقة بين اليسار والقرية المتحررة، وإن كان النجاح حليفها في بادئ الأمر، إلا أن الأحداث جاءت مخالفة لسنن البحر، بل أن العهد الجديد قدم من التسهيلات ما لم يقدمه العهد المنصرم، الذي وضع المرأة في خط اللارجعة. وما الإشكال في ذلك؟ إذ أن التغيير شمل المجتمع بأسره في العهد الجديد، لقد شمل ذلك التغيير عالم الصحافة والثقافة حتى غدا أمرا ممجوجا»، الذي فسره سي عبد الحميد بأن العالم المتموج جاء من مزاج بلاده، هذه البلاد التي مر بها القرطاجيون والوندال والرومان والفاتحون، واحتضنتهم بصدر رحب، وكأن «الطلياني» أراد أن يخرج لنا تصوره عن الطبقة الحاكمة الجديدة، والمداخل التي من خلالها ظن أن الولوج إليها سهل إلى السيادة، منها على سبيل المثال جو السهرات التي تجمع صناع القرار ووجوه المجتمع.
كان إقدام زينة على الإجهاض هو قطع أي رابط بين (القرية + الطبقة الكادحة +المرأة المتنورة + المناضلة) واليسار، وبخروج تلك المضغة التي تعد تتويجا لامتلاك اليسار للطبقة الكادحة المتثلة بالمرأة الريفية، يكون الخلاص الأبدي للمرأة العربية من العبودية والامتلاك لتحيا حياة تريدها، سواء أكانت تتماهى مع المعقول أم لا، وبذلك أنهت احتمالات التلاقي، إلا أن المبخوت لم يرض لها ذلك الخروج فقدمها إلى هاوية أخرى يسمى اليسار الباريسي، حين ربطت نفسها بأريك فظلت في دوامة الرفض لم تستلم مع فيض المحبة «وأشهد شهادة حق أن أريك كما رأيته يموت في حب زينة». في عام 1989 كان الفراق بين الطلياني وزينة وتقديري الشخصي ـ للراوي ـ أن «الطلياني أضاع الجهات الست بعد طلاقه من زينة، من دون أن يفقد عقله تماما ـ لأمر ما يمكن القول ـ إن الميزان الذي يجعل الناس على هدى هو النظر إلى الواقع بعين التروي لا أدري ولكن هو وجود».
بهذا الفراق الذي رفض الحزب اليساري التوقيع مع الأحزاب 1989 كانت هناك المصارحة التي أطلقها «الطلياني» عن نفسه «إنني لا أصلح لشيء.. أنا فاشل.. مخفق.. خائب ولا أريد أن أعترف بذلك.. الكأس كلها مهشمة منذ البدء ولم أقدر على رأب صدعها وإن أوهمت نفسي بقدرتي على ذلك».



إيكولوجيا المعرفة والعلم في مادّيّته

صدر بجريدة "العربي الجديد" 

بعنوان "بين الوفرة العمليّة والتصلّب الفكريّ"

 بتاريخ  11 أوت 2015

لتأريخ العلم مداخل عديدة. منها الأفكار والنظريّات والاكتشافات والابتكارات التي ينتجها الفاعلون في الوسط العلميّ. ومنها التاريخ الاجتماعيّ للأفكار العلميّة والمؤسّسات الحاضنة لها وللفاعلين من الباحثين وما يقوم من مدارس وتيارات ومجموعات وشبكات. بيد أنّ فرنسواز فاكي، في كتابها الصادر حديثا عن منشورات المركز الوطني للبحث العلميّ بفرنسا بعنوان "النظام الماديّ للمعرفة: كيف يشتغل العلماء، بين القرنين 16 و21"،* اختارت مدخلا طريفا قوامه تتبّع التطوّر المذهل في الأدوات التي يستخدمها العلماء لتنظر في إشكال العلاقة بين التقنيّ والفكريّ وأثر الوسائل المادّيّة في إنتاج المعرفة وتبليغها.
فوضى التقنيات الفكريّة
وقد تجوّلت المؤلّفة في المكتبات والمخابر وقاعات الدرس والمحاضرات والمستشفيات وميادين عمل الجغرافيّين والأنتروبولوجيّين وعلماء النبات وأضرابهم. ونظرت في الكتب والمقالات والصور والرسوم والمعلّقات والمجسّمات ودفاتر المخابر ووسائل القيس والملاحظة والاختبار العلميّ والحواسيب والتطبيقات الإعلاميّة... إلخ. فكانت جولة بدأت بالقلم والورقة والجذاذة لتمرّ بالمحرار والمشرط والمجهر والمرصد الفلكيّ لتصل إلى الرسوم بالرنين المغناطيسيّ والصور ثلاثيّة الأبعاد وما إليها.
في هذه الوفرة إلى حدّ الفوضى كانت فاكي المؤرّخة المختصّة في إيكولوجيا المعرفة والثقافة العالمة بالغرب تستشفّ النظام المادّيّ للمعرفة انطلاقا ممّا تسمّيه "التقنيات الفكريّة" أي الأدوات المستخدمة لضبط المعلومة ومعالجتها وإنتاج المعرفة وتبليغها. ولم تنس في هذا الخضمّ أن التفكير يكون كذلك بأصابع اليد والحواسّ الخمس بعد تدريب الأعضاء المرتبطة بها وترويضها وتربيتها لتطوير قدراتها في إطار ما أسماه مارسيل موس "تقنيات الجسد" باعتباره أداة للعلم وقوّة إنتاج معرفيّ.
فمن أكبر الثورات العلميّة ابتكار المجهر والمرصد الفلكيّ اللّذين مكّنا من تجاوز محدوديّة العين مثلما مكّن التطوّر المعلوماتي من الوصول إلى وقائع لم تكن في متناول اليد (والعين والفكر أيضا) بسبب اتساع الأبعاد أو دقّة الأجزاء.
والواقع أنّ الكتابات عن تاريخ الأدوات العلميّة والحوامل المكتوبة والصيغ الشفويّة والمكتبات ودفاتر المخابر وغيرها كثيرة جدّا وقد ساهمت فيها فرنسواز فاكي نفسها في أعمال أخرى لها منشورة. إذ درست دور اللاّتينيّة كأداة تواصل علميّ وتناولت دور المشافهة في تبادل الأفكار بين الجامعيّين. بيد أنّ كتاب "النظام المادّيّ للمعرفة"، بشساعة القرون الخمسة التي يغطّيها وتنوّع الاختصاصات التي يتناولها، يبرز ما لا يمكن في فترة محدودة أو اختصاص واحد إبرازه. فنحن لا نجد في الكتاب ما قد نتوقّعه من تأريخ لهذه الأدوات والحيثيّات المصاحبة لنشأة هذا الجنس او ذاك من الخطابات العلميّة عدا بعض الإشارات المفيدة ولا ريب. منها تمثيلا لا حصرا أنّ الدوريّات العلميّة بدا ظهورها سنة 1665 وأنّ عمر جنس المعلّقات - الملصقات (Poster)، على قيمتها ودورها اليوم في التبادل العلميّ، لا يتجاوز الأربعين عاما عدا ما طرأ عليها بالتدريج من تطويرات.
تعايش بين تقنيات مختلفة
ركّزت المؤلّفة على تعايش التقنيات المختلفة وتفاعلها إذ نجد لدى الباحث الواحد استعمالا للكتاب والمقال الإلكترونيّ والمخطوط وقاعدة البيانات مثلا. وهو ما يبيّن الترابط بين ما تتطلّبه العمليّات الذهنيّة من سهولة ونجاعة وما ينجزه الذهن من جمع للمعلومة وتحليل وتوزيع وإنتاج لها وما في العلم من أفكار كبرى ونظريّات وطرق تحليل وأنظمة للفكر. فقصد المؤلّفة من هذا التأريخ الماديّ هو إعادة قراءة الثقافة العالمة نفسها.
ويثبت التاريخ الماديّ أنّ سمة التكاثر والتعدّد قد حكمت تطوّر أدوات المعرفة وتقنيات الفكر. فعدد الدوريّات العلميّة في حدود سنة 1730 لم يكن يتجاوز 330 دوريّة في أوروبا كلّها. وناهزت سنة 1890 الألفين لتبلغ في أوائل الستينات من القرن العشرين ثلاثين ألفا تنشر سنويّا حوالي مليون مقال. وبعد عقد واحد من ذلك ارتفع عددها إلى أربعين الفا وبلغ عدد المقالات التي تنشر فيها 25 مليون مقال. ويعود هذا الانفجار المعرفيّ إلى تزايد التخصّص والإفراط فيه وظهور مجالات بحث جديدة مع التجديد المنهجيّ والنظريّ علاوة على تطوّر عدد الباحثين وضغوطات الارتقاء الأكاديميّ.
 وينطبق مبدأ التكاثر على الأدوات والآلات والتقنيات الفكريّة. ففي حين لم يتعدّ عددها، في الثلاثينات من القرن الماضي، بضع مئات نجدها في إحصاء أنجز سنة 1988 تفوق العشرة آلاف أداة.
لكنّ التطوّر الهائل في المخطوط أو المطبوع أو المصوّر أو الرقميّ يؤدّي أحيانا إلى زوال البعض منه مثل القرص المضغوط أو إلى التلاؤم أحيانا أخرى مع التطوّر التكنولوجيّ مثل تحويل العرض الضوئيّ إلى تطبيقة "باور بوينت".
وتعاضد سمةَ التكاثر سمةُ التمازج والتداخل. فأدوات الباحثين متعدّدة الصيغ مختلفة قدما وجدّة ولكنّها تتراكب وتتضافر بفضل مبدإ إدماج الوسائط المختلفة. فجلّ التقنيات الفكريّة تمتاز بمرونة تيسّر التفاعل بين المخطوط مثلا والتقنيات عالية الجودة.
مفارقات الوفرة العلميّة
وفي الحالات جميعا يفضي هذا إلى وفرة من المعلومات والمعارف المتاحة للباحثين الذين يشتكون من ضيق الوقت. وهنا تتناسل مجموعة من المفارقات. فكثرة الكتب والمقالات يصاحبها انعدام الوقت الكافي لقراءتها. وهو شعور قديم فقد كتب أحد العلماء سنة 1738 ما يلي: "أن نستفرغ البحر من مائه لأسرع من أن نستنفد محيط الكتب الشاسع وأن نحصي حبات رمل الشاطئ لأسرع عندي من أن نعدّ المؤلّفات الموجودة"( عن ناكي ص 250). فما بالنا اليوم مع ما توفّره الموارد الإلكترونيّة من منشورات وتوثيق علميّ وتقنيّ ونفاذ حرّ ومنظومات البحث عن المعلومات؟
ومن أمثلة هذه المتاهة أنّ في علوم الحياة ينضاف يوميّا ما بين ألفين وأربعة آلاف مرجع  منذ سنة 2005 وبلغ عددها سنة 2014 ما يناهز 700 ألف مرجع.
والمفارقة أنّ هذا الفيضان قد يؤدّي إلى تراجع علميّ وسقوط للحضارة وعودة إلى الجهل. فالوفرة تنشئ أمراضا من قبيل "التصلّب الفكريّ" و"شلل المعالجة النقديّة" أو تكرار ما قيل أو التيه في غابة المعطيات تيها يجعل البحث قائما على الصدفة.
لقد جعلت الوفرة الباحثين على عجلة من أمرهم لا يجدون حتّى الوقت للقراءة في اختصاصهم ولا الوقت لارتياد المكتبات. والأنكى أنّ المدرّسين الباحثين أصبحوا يقتطعون الوقت من هنا وهناك لكتابة بحوثهم! وإن كتبوا فهم يرون أنّ تطوّر المنشورات يصاحبه شعور بتقادم نتائج بحوثهم على نحو ما انفكّ يتسارع. فصلاحيّة مقال في الفيزياء سنة ألفين حدّدت بحوالي خمس سنوات أمّا في الرياضيّات فهي تناهز العشر سنوات.
المادّي والذهنيّ
إنّ كتاب "النظام المادّيّ للمعرفة" يطرح على ما نرى، بعد أن تجاوزت المؤلّفة حيثيّات التأريخ المفصّل للتقنيات الفكريّة، إشكاليّة العلاقة بين التطوّر التقنيّ لأدوات المعرفة وتغيّر الذهنيّات المنتجة للعلم. فقد بات منذ جاك غودي واضحا أنّ ابتكار الكتابة قد غيّر العمليّات الذهنيّة كما بيّن ريجيس دوبريه في نظريّته الوسائطيّة الصلة بين التطوّر الثقافيّ والعقليّ وتطوّر الوسائط الشفويّة والمطبوعة والتصويريّة والرقميّة.
ولكنّ عمل فاكي يخرج بنتائج تؤكّد تعايش الوسائط التي تعود إلى مراحل مختلفة تعايشا منبنيا على الإدماج. فالتطوّر التكنولوجي لا يلغي مرّة واحدة الماضي ولا يلغي من ثمّة أطر التفكير السابقة المؤثّرة في منتجي المعرفة. وهذا لممّا يشكّك في الطرح المتفائل التبشيريّ بدور العصر الرقميّ في تغيير العقليّات والذهنيّات. فالأرجح أنّ تاريخ الأدوات قائم على التطوير لا القطيعة وعلى التحديث لا التغيير. ولا شيء يدلّ حسب المؤلّفة على أنّ الوسائل الجديدة في إنتاج المعارف تغيّر من ابستمولوجيا العلم أو تؤثّر في أنماط التفكير والبنى المعرفيّة.
ولئن كان افتراض التلازم بين التطوّر العلميّ وتجويد أدواته افتراضا مغريا فإنّ إخراج فرنسواز فاكي لأدوات المعرفة من هامشيّتها والنظرة الساذجة إليها لإبراز مادّيّة الأفكار ما يزال في حاجة إلى برهنة واستدلال مدقّقين لعلّ هذا الكتاب من فواتحه المهمّة.
            Françoise WAQUET ,  L'ordre matériel du savoir (Comment les savants travaillent XVIe-XXIe siècle), Paris, CNRS EDITIONS , 2015