mercredi 29 juin 2011

حتّى لا يعود الحنابلة ..


                                      
      في المقال الأسبوعيّ للصديق مختار الخلفاوي بجريدة " الشروق " الخبر التاريخيّ التالي الذي أنقله في هذه التدوينة للعبرة والتذكير لأنّ بعض ما نشهده منذ مدّة موصل إلى أشباهه لو تفاقم . و نرجو ألاّ نقول ما قال الخلفاوي  في خاتمة مقاله على سبيل التشاؤم أو التحذير من مهازل التاريخ أو مآسيه حين يتكرّر :" هذا شأن الحنابلة وقد «أرهجوا بغداد» بعبارة ابن الأثير، وما أشبه حنابلة «دار السلام» بحنابلة تونس المحروسة !!"


     في حوادث سنة 323هــ  ببغداد: " عظم أمر الحنابلة وقويت  شوكتهم، فأخذوا يقتحمون دور الناس، قادتهم وعامـّتهم، فإن وجدوا نبيذاً أراقوه، وإن وجدوا مغنّية ضربوها وكسروا آلة الموسيقى. لقد أخذوا يتدخّلون في معاملات البيع والشراء بين الناس فيعترضون على هذا الأمر أو ذاك. وكانوا يعترضون على مشي الرجال مع النساء في الطريق، فإن هم رأوا ذلك أوقفوا الرجل والمرأة وتحرّوا، بالسؤال، عن العلاقة التي تربطهما، فإن أرضاهم الجواب كفـّوا عنهما وأطلقوهما، وإلاّ ضربوا الرجل وحملوه إلى صاحب الشرطة، فيشهدون عليه بالفاحشة ... "


lundi 27 juin 2011

" نحّي يدّك على مبدعينا "


   
  
   مفارقة غريبة حقّا: تظاهرة ثقافيّة دفاعا عن حرّيّة الإبداع تنقلب إلى تكبير وتكسير وتهديد وترهيب وعنف واعتداء.كلّ ذلك من أجل شريط وثائقيّ لــــ " ملحدة" تهاجم في نظر المعتدين الغاضبين "الإسلام" .


      لم أشاهد الشريط ولم أحضر التظاهرة ولكنّني قرأت على الفايسبوك بعض التعاليق التي أقتطف منها نتفا لا يهمّ قائلوها فكثيرها يتكرّر لفظا أو معنى:( تفصيح الكلام أو تعريبه من عندنا)
   * "علينا أن نرفض هذا النوع من الأشرطة (...) في ديننا وتقاليدنا حدود حتّى في الفنّ والإبداع"
   * "العنف غير مبرّر بل من شأنه أن يؤزّم الموقف ويصبح ذريعة للملحدين حتّى يصبحوا هم الضحيّة ويمرّروا بذلك مخطّطاتهم المسطّرة لطمس الهوّيّة العربيّة الإسلاميّة بداعي حرية التعبير"
* "مبالغ خياليّة لتسويق الكفر باسم الفنّ "
* "الفيلم المعروض يدعو إلى الإلحاد وهذا استفزاز"
* " التهكّم والاعتداء على الذات الإلهيّة وعلى الإسلام خطّ أحمر لأنّ تونس دولة مسلمة فإذا كانت هناك حرّيّة تعبير أو ديمقراطيّة ففي إطار دين الحقّ ، دين الإسلام"
* "القوى الظلاميّة هي التي تعادي هوّيّة الشعب ولا تجد الإبداع إلاّ ضدّ مقدّسات هذا الشعب"
* " هناك فرق بين أن تعلن إلحادك الفرديّ وأن تتهجّم على أقدس مقدّسات شعب بأكمله يؤمن باللّه على اختلاف درجات تديّنه"
* "ما الحكاية؟ هل ستصبح نادية الفاني وأفلامها الهزيلة بشهادة النقّاد شهيدة الفكر ورائدة الإبداع؟"
*هل ستصبح تلك الصلعاء شهيدة الفكر؟؟؟؟ أندافع عن سينما عصفور سطح والمخدّرات والشذوذ والجنس والسباب؟"
* "يحيى الأبطال الأشاوس الذين يقاومون عملاء الصهيونيّة والماسونيّة"
* " حيّى اللّه الرجال الصناديد"
    
  هذه نماذج من التعاليق التي سجّلناها مثلما سجّلنا تعاليق المندّدين بما وقع والمتخوّفين من " جحافل الإسلاميّين" و " أحفاد الخلافة" والمدافعين عن الثقافة وحرّية التعبير والفنّ والإبداع والديمقراطيّة.ولكنّها لفرط بداهتها لدى قطاع من نخبنا التونسيّة فإنّنا لن نذكرها.
   و الأرجح عندنا أنّ العنف الذي تفجّر بسبب الشريط السينمائيّ سيتكرّر في قادم الأيّام مادام صراع المواقع الثقافيّة والسياسيّة واستعراض العضلات باسم الدفاع عن الهويّة والإسلام والخطوط الحمراء مستمرّا كالندوب والدماميل التي كشفت عنها الثورة التونسيّة بعد أن أخفاها الاستبداد في السجون والمنافي وكمّم الأفواه التي تقولها ليستبدلها بلغة خشبيّة مبتذلة عن التسامح والتفتّح والاعتدال مانعا الصراع المحتوم من أن يصل إلى مداه.
     وقد يكون التنديد بما وقع ، سواء أصدر عن الأفراد أم الأحزاب أم الجمعيّات، ضروريّا.
     وقد يكون التذكير بالحقّ في التعبير والتفكير وحرّية المعتقد والضمير واجبا.
     وقد يكون الحلّ الآنيّ كامنا في تشغيل آليّات الحماية الأمنيّة والمتابعة القضائيّة ودعوة الدولة إلى صون حرمة الأفراد وحريّة الفنانين والمبدعين.
     غير انّ متن الإشكال ، في ما نرى ، واقع في حيّز أعمق من إفساد تظاهرة ثقافيّة أو الاعتراض على شريط مهما كان مساسه بالدين أو استفزازه للمشاعر الدينيّة لدى المؤمنين بدءا من عنوانه: " لا ربي لا سيدي" مع ترجمة فرنسيّة تستدعي الشعار الفوضويّ الشهير.
    فحدود الاستفزاز غير مرسومة بوضوح بل هي أشبه بالسراب تمطّطا وانحسارا.والأصل في اللّعبة اكتساح البياض لرفع الأعلام السوداء وتحويل الأصوات المتعدّدة المتنافرة إلى إيقاع واحد متناغم وإن كان تناغما موهوما.
     إنّنا امام صراع ثقافيّ أساسه الاستقواء بالحسّ المشترك وثقافة الجموع وهويّة الشعب وثوابته ومقدّساته ودينه مع توابل من أهداف الثورة وأرواح الشهداء ...إلخ.كلّ يدّعي وصلا بالشعب والثورة رافعا عقيرته بشعار " الشعب يريد ..." مالئا الفراغ بما يشاء ليتكلّم تارة باسم السماء وأخرى باسم الأرض.ثقافة " حامي الحمى والدين " تتناسل في صور أخرى ويجسّدها فاعلون آخرون باسم " الثورة المباركة المجيدة".
     والواقع أنّنا لن نحقّق الديمقراطيّة التي يتشدّق بها الجميع ولن نبلغ الحرّيّة التي يزعم حتّى أعداؤها القدامى الدفاع عنها إلاّ إذا أمكن للواحد منّا أن يعيد النظر في هذه المفاهيم وأن ينقدها دون أن يقف له وصيّ من أوصياء الربّ أو الشعب ، بتوكيل رسميّ أو بدونه، ليتهمه بالمروق والخروج عن الصفّ و إجماع الأمّة والشذوذ والزندقة  ودون أن يقوم له موتور مصاب بداء الهويّة أو الثوريّة الطارئة ليعمل فيه مبضع التخوين أو التكفير والارتداد شاهرا عليه سكين النحر على مذهب أتباع بن لادن أو ماء النار أو متفجّرات مصنوعة محلّيّا ....أو حتّى أنبوب غاز مشلّ للحركة مثلما حدث في قاعة سينما أفريكا آرت.
    إنّنا سنشهد على الأرجح صراعا مديدا بين أنموذجين ثقافيّين ونظرتين إلى الحياة :
     أنموذج  يبيع بضاعة معلّبة مستنسخة من أوهام التاريخ يستمدّ مادتها من الجماعة والملّة والأمّة والثوابت والعقل الفقهيّ المتشكّل في التاريخ والمتعالي عليه في آن واحد .وهو أنموذج يضفي القداسة على كلّ شيء من علاقة المؤمن بخالقه في تلك اللّحظة الرائعة الصافية إلى التعامل البنكي و آداب النكاح بحثا عن منظومة شاملة ترافق الفرد من المهد إلى اللحد وتزعم امتلاك قلوب الجماهير التي تعشّش فيها الحقيقة النهائيّة ، حقيقة العجائز والموتى الذين يحكموننا من وراء قبورهم .
   وأنموذج ينبني على السلب الجذريّ الذي يتغذّى من الفرديّ والخصوصيّ ويحفل بالزائل واللاّمفهوميّ منغرسا في التاريخ وقسوته بعيدا عن أَمْثَلة الواقع القائم.إنّه أنموذج قوامه مخالفة المشترك والجماعيّ : ينزع عن العالم حجاب القداسة ليراه في بشاعته ويعمل على إدخال الفوضى في المنظومات لدكّها وفضح بؤسها راغبا عن الانتشار بين الجماهير للتأثير فيها بقدر ما يرغب في حقيقة تطلب فلا تدرك.
      فما الذي ينتظره أهل الطمأنينة واليقين والهوّيّة المقدّسة من أهل الفنّ والإبداع؟ وأيّة حدود وخطوط حمراء يتحدّثون عنها؟
    لذلك رجحنا أنّ ما حدث سيتكرّر ، ولذلك لا ننتظر من الأحزاب القائمة بدينيّها ولائكيّها كلّيّا أو جزئيّا و بيمينها ويسارها ووسطها أيضا أيّ مشروع ثقافيّ حقيقيّ.
   كنت وستظلّ وحدك أيّها المبدع ... وحدك في العراء تكتب بدم القلب أسطورتك الشخصيّة لتقول بها ، يا للمفارقة، ما يريد مجتمعك البائس أن يقوله فينعقد لسانه.حينها، وحينها فقط، ستترجم بلغتك الفذّة ما قاله الشابيّ الذي حاصره مثلك المتزمتون وهاجمه حماة الحمى والدين : " الشعب يريد...." ولكن على ما قصد الشاعر لا على ما فهم مكفّروه القدامى والجدد.      

jeudi 16 juin 2011

من منطق الغنيمة إلى مقتضيات التنمية الثقافية

                           
                                    
       إنّ وجود الجوائز الأدبيّة العربيّة مظهر من مظاهر التحديث في الحياة الثقافية العربيّة. وهو تحديث لا سبيل إلى فصله عن نمط إنتاج الكتاب وتوزيعه واستهلاكه وعلاقته بالمؤسّسات الثقافية (المنتديات الأدبيّة والمجلاّت الأدبيّة) والعلميّة (الجامعات ومراكز البحث) والسياسية (الرقابة) والإعلامية (الصحافة). وهي شبكة متماسكة من المؤسّسات تتعامل معها مؤسّسة الجائزة الأدبية تأثّرا وتأثيرًا.
        وعلى هذا الاعتبار تطرح هذه الجوائز أسئلة أساسيّة عن صلتها بواقع الكتاب نشرًا وقراءة ومشروعها (أو مشاريعها) الثقافية والفكرية ودورها في المشهد الأدبي والثقافي وتكوين عادات القراءة وتدعيم التجارب الأدبيّة المحقّقة لاستقلاليّة العمل الأدبي باعتباره نقدًا جذريّا للسائد من الأعراف والقيم والاعتقادات وفضاء للمساءلة الجمالية والفكريّة للمدينة وللمجتمع والسياسة.
        فمن القضايا التي تطرحها الجوائز العربية، ضمن هذا التصوّر الذي لا يرى الأمر من زاوية "صناعة نجوم الأدب" و"صيد الجوائز" و"النجاح الأدبي"، منزلة الأديب في مجتمعاتنا العربية، ومنزلة المثقّف عمومًا. فالبنى الثقافية والسياسية السائدة، تضيّق الخناق على حرّية التفكير والتعبير والتحبير.وقد نجحت إلى حدّ بعيد في أن تحوّل الرقيب الخارجي إلى رقيب داخلي قابع في ضمير المبدع ونجحت في أن تستبقي الأديب في منزلة بائسة ترهقه الحياة اليومية وشواغلها فتحول دون أداء وظيفته الأصلية في النقد والكشف عن المستور وإنشاء سلطة معنويّة مضادّة ونجحت في أن تجعل المثقف في أحسن الأحوال خبيرًا.
        لهذا كلّه، وغيره ممّا لم نذكر، قام تساؤلنا الأساسي على الدور الثقافي للجوائز الأدبية العربية ورأس المال الذي يقف وراءها في تناول قضايا الجدل الفكري وصياغة خطاب التنوير العربي بعيدًا عن منطق الوجاهة الاجتماعية ورعاية الأدب وتقسيم العالم العربي إلى "مركز مثقف تنويري" و"هامش ثري رجعي".
        فالرهان قائم أوّلا من جهة رفع التقابل بين رأس المال الأدبي ورأس المال النقدي بناء على تصوّر واضح لمسألة الاستثمار في الأدب والفن والثقافة من أجل مشروع ثقافيّ حداثيّ تنويريّ تحرّريّ نعتقد أنّ مجتمعاتنا العربية في حاجة أكيدة إليه.
        والرهان قائم ثانيا من جهة رفع التناقض الظاهر بين المبدع الحقيقي المخلص لأدبه والمكانة الهامشية التي يعيشها في مجتمعات لا ترى للأدب مردودا. ولا سبيل باديا لذلك إلاّ الاعتراف بشرعيّة الدور النقدي السالب للأديب والأدب في المجتمعات الحديثة وإخراجه من بوتقة الصوت المعبّر عن الجماعة في وحدتها وانسجامها الموهومين حتّى يقول ذاته بجراحاتها وأحلامها وهوسها ضمن المسافة الفاصلة بين الفرد ومجتمعه.
       فالممارسة الأدبيّة الحديثة تتمتّع بمكانة خاصة أساسها الاستقلال عن الإيديولوجية السائدة ومقتضيات المصلحة والمنفعة. ومن المعلوم تاريخيّا أنّ ثمن هذه الاستقلالية هو التخلّص من رعاية الأدب والانعتاق من قيود المؤسّسات السياسيّة والدّينيّة.وهذا رهان عظيم، لو ندري، بل لعلّه مربط الرهانات في الثقافة العربيّة التي تغلب عليها النزعة التقليدية المحافظة .
        قد نكون واهمين وقد يرانا البعض حالمين في ما ذهبنا إليه ولكنّ رياح التحرّر والتغيير التي تهبّ هذه الأيّام على عالمنا العربيّ تحمل وعودًا جدّية بتوسيع آفاق الحريّة وفتح فضاءات المساءلة و النقد والتفكير المتحرّر. ولا نعتقد أنّ الأدب سيكون بمعزل عن هذه الدّيناميكيّة الشاملة بما في ذلك مؤسّسات الجوائز الأدبيّة العربيّة.


* هذه التدوينة هي خاتمة المحاضرة التي ألقيتها في شهر مارس المنقضي بقطر بمناسبة صدور كتاب " محاضرات الحائزين على جائزة نوبل للأدب " وقد ترجمه التونسي عبد الودود العمراني وراجعته وفاء العمراني.


جائزة " أبو القاسم الشابي" وحكاية الندم



 لم يفاجئني ردّ السيد عزّ الدين المدني حين لاحظت له إحدى صحافيّات  جريدة " لابراس" بأنّه هو نفسه من عيّن شكري المبخوت في الهيئة العليا لجائزة " أبو القاسم الشابيّ" .فقد جاء بليغا موجزا: "ندمت على ذلك ندما شديدا" ( انظر الرابط التالي).
    ولست أحبّ في هذه الحاشية أن أعتذر للسيد المدني على ما سبّبته له تصريحاتي إلى بعض وسائل الإعلام من ألم وما خلفته مواقفي في نفسه من مرارة. ولا أحبّ بالخصوص أن أجادله في الأمر حفظا للمقامات وتجنّبا لصبّ زيت الندم (ندمه هو) على نار الفضائح التي تثير في الوسط الأدبيّ نزعة التلصّص.فيكفي هذا الوسط الذي يجرّ وراءه سنوات من القهر والكبت والتسلّط ما فيه من علل وأمراض وإصابات بالغة بالنرجسيّات الخاوية وبأوهام النجوميّة التي لا تضيء معنى معتما ولا تثير طاقة كامنة.
   لا أحبّ أن اعتذر ولو من باب آداب التعامل أو أن أجادل ولو من باب الرياضة الفكريّة لأنّ بعض من ندّد وهدّد واستنكر واحتجّ إنّما كان يبحث عن أوّل فرصة لينهش لحم عزالدين المدني .أضف إلى ذلك أنّ بعض المتحرّقين لنيل جائزة أدبيّة ولم يحصل عليها استغلّ المناسبة ليشكّك في جائزة " أبو القاسم الشابّيّ" وغيرها من الجوائز على قلّتها في حياتنا الأدبيّة.
      وبعد هذا ودونه أيّ جرم اقترفت؟ لم أخطئ في حقّ الرجل بل عبّرت عمّا أعتقد. فما أنا بالغرّ حين زعمت ما زعمت في شأن تحويل جائزة دورة 2010 من رواية " كازينو فج الريح" لمصطفى الكيلاني  إلى رواية " الحمام لا يطير في البريدة" لـيوسف المحيميد.كنت أعرف ولو على وجه التقريب ما سيقع.وقد قصدت إلى بعضه قصدا ولا سبيل إلى اصطناع السذاجة في هذا الباب.
     فما هو ثابت عندي هو أنّ وجهة الجائزة قد حوّلت بقطع النظر عمّن أدار اللّعبة ، داخل الجائزة وخارجها وقبل الإعلان عن تحويل وجهتها وبعده، ومن وزّع الأدوار على اللاّعبين و مهما كانت دواعي المتفرّجين وحماستهم استنكارا أو تبريرا.
    والواقع أنّني نبّهت القائمين على الجائزة مرارا وتكرارا إلى الخطإ قبل أن أنشر الأمر بين الناس عبر صحيفة الشروق.وربّما عوّلوا على احترامي لتقاليد العمل في مثل هذه الجوائز وتمسّكي بواجب التحفّظ.و لكنْ ربّما فاتهم أنّ التقاليد وواجب التحفّظ لا يمنعان حرّيّة التعبير والنقد ولا يعطّلان واجب الإنصاف و العدل.وفي الحالات جميعا لا يمكنني أن أكون شاهد زور أو أن أشارك في لعبة لا أعرف قواعدها.
   والقاعدة في جائزة " أبو القاسم الشابّي" أنّ الهيئة العليا تصادق على ما تتّفق عليه لجنة التحكيم.ولكنّ هذا الإجراء لم يحترم في دورة 2010 المخصّصة للرواية.
    والواقع أنّ اللجنة العليا سبق لها في دورات أخرى ان أقرّت نتائج لم أكن شخصيّا راضيا عنها خصوصا في الشعر.وكنت أحدس حدسا ، ولا دليل عندي، انّ وراءها حسابات لا تمتّ للإبداع بصلة.وقد قبلت اللّعبة مادام الإجراء محترما.
    والواقع أيضا أنّني شاركت في بعض لجان التحكيم وساهمت في توجيه الجائزة إلى من اعتقدت انّهم جديرون بها بمعايير أدبيّة وجماليّة دافعت عنها داخل لجنة التحكيم وأقنعت بها أثناء المداولات ولم تخالفها الهيئة العليا. 
    وبهذا كان التوازن قائما وكانت آليّات العمل على هشاشتها وطابعها الضمنيّ يمكّنان من الحفاظ على جانب من مصداقيّة الجائزة من دورة إلى أخرى.
  ولكن ما ينبغي أن يعرفه الأدباء والمبدعون هو أنّ تركيبة لجان التحكيم كانت بيد شخص واحد يستشير الهيئة العليا ثمّ يعيّن من يعيّن دون العودة إليها.وهو خلل جسيم لاحظناه مرارا ولم يؤخذ بعين الاعتبار خصوصا أنّ الجائزة كانت مهدّدة في وجودها بعد أن تغيّرت إدارة البنك التونسيّ وقبل أن تتبنّاها وزارة الثقافة.و الحقّ أنّ السيّد عزّ الدين المدني قد قام بدور مشرّف في الحفاظ على هذه الجائزة.
    وعلى هذا فليس في الأمر محاكمة للنوايا ولا كشف لأسرار لا ينبغي لها أن تكشف.ولا تنحصر المسألة في إسناد جائزة هذه الدورة او تلك إلى هذا المبدع أو ذاك بل المطلوب أهمّ من ذلك بكثير.
    فقد بلغت جائزة " أبو القاسم الشابّي" مرحلة تتطلّب انطلاقة جديدة في تصوّر أهدافها واستراتيجيّتها ومنزلتها من الحياة الأدبيّة في تونس والعالم العربيّ.وتتطلّب بالخصوص تعديلات في طرق عملها وضوابطها المدوّنة وأساليب تسييرها ليكون أعضاء هيئتها العليا مشاركين فعليّا في تحديد مواضيع الدورات وتعيين المحكّمين ومعايير صياغة التقارير وتسيير المداولات وتوثيقها ...وغير هذا من المسائل والتفاصيل.
    وقد تكون هذه الرجّة التي تسبّبت فيها مناسبة لتعديل الأوتار وإعادة الاعتبار لجائزة أثبتت السنوات أنّها الجائزة التونسيّة الوحيدة التي حقّقت ، على ما نعلم، إشعاعا عربيّا رغم ضعف مواردها الماليّة مقارنة بجوائز عربيّة أخرى تتمتّع بإمكانيّات ماليّة خرافيّة بمقاييس سياقنا الثقافي التونسيّ.
   ولا نظنّ أنّه يمكن لأيّ كان أن يدّعي لنفسه أنّه الوحيد الذي يقف وراء هذا الإشعاع.فقد ضمّت هيئة الجائزة ولجان تحكيمها المتعاقبة عددا من جلّة الباحثين الأكاديميين و المثقّفين البارزين والمبدعين الأصيلين.
    لهذا لن أندم مثلما ندم السيّد عزّ الدين المدني على إسهامي في أعمال الهيئة العليا لجائزة "أبو القاسم الشابيّ" فهي كسب لمثقّفي تونس جميعا.ولن أندم على مشاركتي في بعض لجان تحكيمها إذ
أعتقد أنّني ساهمت في إسناد بعض جوائز دوراتها لأدباء شرّفوا الجائزة بقدر ما شرّفتهم مثل الشاعر التونسيّ المرموق المنصف الوهايبي والروائيّ العراقيّ المتميّز علي بدر عن رواية " بابا سارتر".
ولكنّني سأندم ، ولا شكّ، إذا ظلّت دار "جائزة "أبو القاسم الشابي" على حالها الآن: عاجزة عن صياغة تصوّر ثقافي وجمالي وأخلاقيّ يحقّق الوظائف المنتظرة من كلّ جائزة تحترم المبدعين والأدباء وجمهور القرّاء.

   وإلى الأصدقاء قرّاء هذه المدوّنة الخاتمة التي وضعتها لمحاضرة ألقيتها خلال شهر مارس المنقضي بدعوة من وزارة الثقافة القطريّة بمناسبة صدور كتاب يضمّ عددا من محاضرات الحائزين على جائزة نوبل للآداب.وتجدونها في التدوينة الموالية.
    

vendredi 10 juin 2011

حول قصيدة "تمرين على كتابة يوم الجمعة 14 جانفي 2011" للمنصف الوهايبي




هل الشعر بمعزل عن الدين حقّا؟
   اصطفاف في الفايسبوك حول قصيدة منصف الوهايبي "تمرين على كتابة يوم الجمعة 14 جانفي 2011" قدحا ومدحا ،وصراع التأويلات والفيديوات تلبيسا وتوضيحا :استنكار باسم الدين والمقدّس واسنكار للاستنكار باسم الدفاع عن حرّية المجاز والتخييل والتعبير.
   ولا يخفى في هذا الاصطفاف التداخل بين الشعر والدين مع بعض التوابل السياسيّة "لتوريط" أحد الأحزاب بمعاداة الإسلام والدعوة إلى الكفر لأن الوهايبي قرأ قصيدته في لقاء سياسيّ بمدينة صفاقس فبتر أحد مناضلي الفايسبوك منها مقطعا قصيرا لاتهام حزب "التجديد" والشاعر الذي يكتب في صحيفته " الطريق الجديد" بما يثير ضدّهما الرأي العام والغيورين على دين البلاد وهوّيّتها ومقدّساتها.
    والردّ الرسميّ للشاعر والحزب كان على وجهين:أمّا الشاعر فقد ذكّر بمبدإ نقديّ قديم في التراث العربيّ الإسلاميّ مفاده " الشعر بمعزل عن الدين" (والتعبير للقاضي الجرجاني في كتاب " الوساطة بين المتنبّي وخصومه")، وأما الحزب ففي بيان له قرأناه بالفرنسيّة فقد ذكّر بأن" تونس مسلمة وستظلّ " كذلك.
   هذا متن الاتهام والردّين باختزال شديد وهذه حاشيتنا بإيجاز .
   فالمعلوم أنّه ليس بدعة في تاريخ الثقافات العريقة ، بما فيها الثقافة العربيّة الإسلاميّة،أن يقيم المبدعون علاقة ما بالنصوص التأسيسيّة الكبرى الفاتحة لأبواب ( براديغمات ) في المعرفة بالكون والإله والإنسان ، ومنها وبالخصوص النصوص الدينيّة،والنصوص البانية للهوّيّات ، المنشئة لسنن في القول ولمعاني الوجود.
    إنّها متون تُوَلّدُ منها نصوص تشرحها أو تفكّكها فتبني عليها بتحقيقها وتشقيقها ونقدها ونقضها أحيانا.فهذا قدر النصوص – المتون الكبرى: أن تفتح فضاءات القول والتساؤل واسعة وأن يُرشّح الكتّاب استعاراتها الأساسيّة وأن تبني الخطابات المختلفة استنادا إليها ، توافقا واختلافا، معانيها وتصوّراتها.
   إنّ الذين يعضّون على النصوص الدينيّة ومتون الهوّيّة بالنواجذ ويخشون عليها من مجاز شاعر أو لعب مفكّر أو نقد زنديق أو تحامل ملحد ليصدرون عن نظرة مريبة مرتابة أساسها هويّة أوهى من خيوط العنكبوت.إنّهم لا يرون النصوص الثريّة المخصبة إلاّ تكرارا محضا وتعاودا مملاّ تسبيحا واجترارا يذهبان بمائها حتّى يجفّ نبعها الثرّ ويزيلان عنها جدّتها المتجدّدة حتّى تستقرّ في قوالب من القول لا تقول معنى ولا تعرب عمّا في الضمائر.
  والبيّن أنّ الوهايبي بنى نصّه على معنى ناظم يلتمس فيه صمتا مطبقا لكل شيء في تلك الجمعة الخالدة ، جمعة 14 جانفي 2011،بما في ذلك أذان الصلاة وترتيل القرآن :

هذه الجُمعَهْ
أغاني الرّعاهْ
أذانُ الصلاةْ
قلْ لهمْ: لا تُصلّوا
ولا تقرؤوا الفاتحهْ
هذه الجُمُعهْ
وقفوا مثلما يقفُ التونسيّونَ والتونسيّاتُ في هذه الجمُعَـهْ
رتـّـلوا:الحمدُ للشعبِ سيّدِنا أجمعينْ
رتـّـلوا:الحمدُ للشمس وَهْوَ يكوّرُها في يَـدَيْـهْ
نحنُ مِنـْـهُ ونحنُ لهُ إذ نكونُ علـيـْهْ
رتـّـلوا صامتينْ
رتـّــلوا:الحمدُ للأرضِ وَهْوَ يدورُ بها
ويُدوّرُها في يَـدَيـْهْ
وإذا كان لا بدّ من توْبةٍ أو صلاة
فتوبوا إليهِ.. وصلّوا عليه
ليشارك الجميع في لحظة الخلق الاستثنائيّة.وخلال ذلك كان التفاعل مع بعض الآيات استلهاما لزمنيّة الإنشاء من عدم واستحضارا لقدرة الشعب الكليّة على الإبداع.
إنّه صمت مطلوب إذ يرحل الطاغية ويهرب، للإصغاء إلى تلك اللحظة الشعريّة القصوى التي تَخْتَزلُ ، في بعدها الإنساني العام والأسطوريّ العميق، الزمنَ التونسيّ : ما مضى منه وما هو آت:
فـَلْـنـَكـُـنْ كلّنا أذُنا صاغيهْ
كلُّ شيءٍ هنا صامتٌ.. فاسمعُوا
هوَ ذا وقـْعُ أقدامهِ.. الطاغيهْ
وهْو يرحلُ.. أو وهْو يهربُ..
أو وهْو يمضي إلى حيثُ يمضي
سريعا بطيئا..سريعا.. بطيئا..بطيئا
لِيرقدَ في جثةٍ خاويهْ
       ومن المعلوم أنّ في كتابات الوهايبي منذ زمن بعيد محاورةً للنصوص القديمة عامّة الشعريّ منها والقرآنيّ والصوفيّ.فهو شاعر مثقّف ثقافة واسعة ملمّ بالعربيّة وأسرارها إلماما كبيرا. وهو إلى ذلك يعرف حقّ المعرفة أن الشعر والدين والأسطورة أنماط من الأقاويل قدرها أن تتعامل في ما بينها.
    وقد تكون قصيدته هذه أقلّ تعبيرا عن هذا الجانب في شعره ولكنّنا لا نعدم بينها وبين القرآني صلة تفاعل لا ينفع معها القول بأنّ الشعر بمعزل عن الدين إلاّ على معنى أن الأحكام التي تنسب إلى الدين ، فقها وتشريعا،لا يُقيَّمُ بها القول الشعريّ ولا يُحْكم عليه من خلالها.فالشعراء ،لا الفقهاء ، أمراءُ الكلام ومولّدو المعاني يجوز لهم ما لا يجوز لغيرهم.
    ولا نظنّ أنّ للإسلام ، دينا وثقافة  ،علاقةً بالأمر.فأن تكون مسلما ، أمسِ واليومَ، لا يعني ألاّ تكون مبدعا محاورا للنصّ المؤسّس.بل لعلّه من شروط الإبداع الانتماءُ إلى ذاكرة هذه اللّغة أو تلك.
    ولا نظنّ أن الانتماء إلى مجتمع مسلم مدعاة إلى الخضوع للمصابين بداء الهويّة الدينيّة  والمنشدّين إلى صورة ضامرة وهنة منها أو المدمنين على نسخة محنّطة قاتلة من نسخها.ففي جميع الثقافات والمجتمعات مقدّسات و رأي عام وحسّ مشترك يعمل فيها المبدعون والمفكّرون معاول النقد والتفكيك بلا هوادة.
    لذلك ،إذا تركنا جانبا التوظيف السياسيّ للقصيدة لأمر في حسابات "فقهاء الهوّيات الغبيّة" وأتباعهم ،فإنّ الإقرار بهوّيتنا العربيّة الإسلاميّة، وهو ما نتبنّاه وندافع عنه ،لا يعني التسليم بتحويلها إلى موضوع يحرّم النقاش في شأنه أو يمنع نقده.فالهويّة ونقدها وجهان متلازمان و لا يمكن بناء عليه الخضوع للرأي العام والحسّ المشترك وموقفه من الهويّة فالمسألة عندنا فعلُ كتابةٍ وعملُ إنتاجٍ لمعرفة بالهويّة من خلال نقدها بالمفاهيم والأنساق أو بالمجازات والاستعارات.والنقد في هذا الباب، من بعض معانيه، وضع الهويّة في أزمة مخصبة حتّى لا تتكلّس فتفتقر أو تمرض فتصبح مميتة.


     

mercredi 8 juin 2011

"سعادته ... السيّد الوزير" رواية جديدة لحسين الواد


Dégage     يا عصابة السرّاق




    ( تصدر قريبا في سلسلة "عيون المعاصرة " ( دار الجنوب – تونس ) رواية حسين الواد الثانية بعنوان "سعادته ... السيّد الوزير".وفي هذه التدوينة الورقات الأولى من المقدّمة التي كتبتها لهذه الرواية.)
     كتب حسين الواد هذه الرواية قبل الثورة التونسيّة بسنوات.ولسنا نشك في أنّه قد استلهم ،زمن كتابتها، بعض ما كان يتداول من أخبار عن دولة الفساد والسرّاق وفضائح وزرائها وزعيمهم وعائلته المالكة تاركا البقية ، ولعلّها الأهم في حساب الفنّ، لمنطق الحكاية وصناعة الرواية.
     وقرأنا المخطوط ،إثر تجهيزه للنشر، بعيد الثورة.فوجدنا أنفسنا مدفوعين إلى استحضار نثار من تلك الأحاديث التي فاحت روائحها العطنة ، هنا و هناك ، لفرط بذاءتها ونذالتها. فبدا العالم الفنيّ الذي صنع من خيال الكاتب مشاكلا لوجوه من الواقع الذي كشفت الأيام بعض أسراره.
     غير أنّك لن تجد في هذه الرواية ، وإن قرّبت وشبهّت، وزيرا بعينه وأكبر ظني أنّك ستظل تقرّب تقريبا و لا يقين باديا لك.ويعسر عليك،مهما اجتهدت ، أن تجد هذه الواقعة أو تلك الحادثة تحديدا ولكنّك ستلمس لمسا بأيّ منطق كانت تصرّف شؤون الدولة :دولة ناهبي الأوطان وبائعيها ومخرّبي العقول ومستعبدي الناس.
     نعم ، لا جدال في أنّ حسين الواد يتحدّث عن وزير اشتقّه من وزراء سيادته ، القائد الفذّ والمنقذ البطل  والضرورة التاريخيّة ،ولكنّ لكلّ دولة " رجالا " ( ونساء لو ندري ) يخدمونها وفاء لسيادته ...ولعصابته.فتنعتق الرواية بذلك ، على قدر انغراسها في تربتها التونسيّة، من إسار التفاصيل والحيثيّات المحلّيّة لتقدّم لنا ، بفضل المراوحة بين العينيّ الواقعيّ والمجرّد التخييليّ، آليّات الفساد والخراب ومنطق الاستبداد والاستعباد ...ولا عبرة بعد ذلك بالأسماء فعلى مثالي مخلوعي تونس ومصر وعصابتهما  يكون القياس.
     وليس من باب الصدفة أن صاحب هذه الرواية لم يسمّ أحدا من شخصيّات الحكاية عدا خالته " خدّوج" لأمر ما يحتاج إلى بعض التأويل.فغياب الاسم باب إلى التنميط واستخدام الصفة مدخل إلى التعميم  :فالوزير وزير بدوره الذي يؤدّيه في مسرحيّة سمجة ،والاستعارة من الرواية نفسها مع بعض الترشيح، تؤلّفها حكومة رثّة ويخرجها مستبدّ جاهل يرقّيه القفّافون والقوّادون والمصفقون والمطبّلون إلى مصاف القائد الذي تخشى سطوته.
   ولكنّ الخشية ، الخشية كلّها، أن يجد قارئ هذه الرواية ، بعد سنوات من الثورة التي شهدها أو بلغته أنباؤها،بينها وبين واقعه الذي سيكون شيئا ممّا كان وتعود حليمة إلى عادتها القديمة.وحينها سنتساءل ، أنا و أنت أيها القارئ ،بتعالم دارسي الفنّ السرديّ : أهو شرط الفنّ حين يتعالى على ظروف إنتاجه؟ أهي قدرة السرد وألاعيبه على تجاوز التاريخ المعيّن بالمقام؟
    والأنكى أن نتساءل ، بتشاؤم المؤرّخ الحزين في رواية حسين الواد الأولى "روائح المدينة" أو بتعالم من درس الثورات الكبرى والصغرى :أهو التاريخ الماكر يتكرّر ، بمهازله ومآسيه،ويتعاود ، بعبره ومغازيه،فتتشابه الوقائع الأساسيّة والخطاطات العامّة شبه الماء بالماء وإن اختلف الإناء؟
     لست أحبّ أن أنغّص على أبناء بلدي فرحتهم برحيل الطاغية ، فهم الذين سمحوا لحسين الواد بنشر عمله هذا في بلاده بعد سنوات من الحفظ في ملفّات الحاسوب مع إحكام الغلق بكلمة السرّ.ولا أريد أن أبعث في نفوس الراكبين على الثورة وأشباح الثورة المضادة وأزلام النظام البائد بعض الطمأنينة والأمل في عودة حليمة فهم من تدينهم هذه الرواية لدورهم في صناعة المستبدّين ودوام دولة الاستبداد.ولكنني أرى ، ببرودة مصطنعة وحياد من يزعم الاستفادة من "العلم الوحيد الذي نعرفه ونعترف به"، على حدّ تعبير ماركس قاصدا به التاريخ، أنّ رجال الدولة ، مذ كانت الدولة ،أصحاب نفوس يجمح بها الطمع وتجنح بها غواية المناصب وتدفعها عقدة التفوّق إلى احتقار " الشعب الكريم" واستعباده.فالدولة والاستعباد صنوان.
    إنّها نفوس تبني قوّتها ونفوذها الموهومين على أهواء عابرة تغذّيها قيم سافلة منحطّة.ولا يرحم منها ربك أحدا مهما تذرّع بالدين والأخلاق الحميدة أو بالحرّيّة   والديمقراطيّة.واقرؤوا التاريخ إن كنتم في شك ممّا نقول.
    إنّ منطق الدولة ، هذا الكيان المصنوع من وهم وشارات وعلامات، عنكبوت غير مرئيّ وَهِن شديد الوهن ولكنّه يعرف كيف يشدّ إليه تلك النفوس الهائمة.
    وهم يغذّي وهما يزكو بكذب معتّق يستحيل لغة مخادعة مخاتلة يلوكها لسان صفيق ينطق باسم كلّية مبهمة ( شعب أو طبقة أو دين ...) ناسجا بتكرار الأكاذيب خطاب الحكمة والرأي السديد لمصلحة الوطن العليا أو الذود عن الدين أو الاستجابة للحتميّة التاريخيّة ...وما إليه من مشتقّات هذه الخزعبلات.
      وبصرف النظر عن تشاؤم المؤرّخ الحزين الذي صنعه حسين الواد ليقول مثل هذا الكلام ، وقد وسوس لنا به فوجدنا فيه وجها من الحقيقة فأثبتناه، فإنّ قصّة السيّد الوزير وسعادته تدفعنا دفعا إلى مثل هذه الوعي الشقيّ باغترابه واغترابنا.
………………………………….
" مجنون يقتل مجنونا" .القتيل فيها هو الوزير التيّاس رمز السلطة الفاسدة والقاتل نقابيّ  يرمز إلى السلطة المضادّة قد سحقته آلة التفريط في مصانع الدولة للنهّابين و المتنفذّين فذهبت بنضاله السلميّ أدراج الرياح ومحقته آلة الطب النفسيّ تخديرا وصدما بالكهرباء.فما كان له إلاّ أن يتظاهر بالاستقامة طلبا لبعض السلامة ولكنّ ما في القلب ظلّ في القلب.
    شخصان سليمان يلتقيان في مستشفى المجانين لأسباب مختلفة في الظاهر والأصل فيها واحد:دولة نهمة تأكل أبناءها حين يزعجون سيادته يستوي في ذلك من سبّحوا باسمه ونفذوا رغباته فانتهت مهمتهم ومن دافعوا عن حقّهم في الحياة الكريمة ووقفوا ضد بيع الوطن.
        قفلة في الرواية صادمة يُجْهِز فيها رمز النضال الاجتماعيّ السلميّ على رمز السلطة الخائنة.وإن هي إلاّ صورة من صرخة المسحوقين في وجوه الجلاّدين عندما تصل حرب الطبقات إلى مداها المنطقيّ.إنّها حرب كانت بالأمس وحدّثتنا عنها أدبيّات الثورات ومازالت اليوم واقعا وإن اتّخذ أشكالا أخرى بعضها واضح فاضح وبعضها متخفّ مزوّق بأكاذيب الميديا والإعلام. وفي الحالتين لم تطلع من خيالات ماركس و أضرابه من الثوريّين.
    " مجنون يقتل مجنونا " بهذا تنتهي الرواية ولكنه جنون التاريخ المضرّج بالأحمر القاني اختصرته استغاثة النقابيّ في الجملة الأخيرة من نصّ الرواية:"يا لثارات الشعوب".
      نهاية ،كالولادة الجديدة، مضرّجة بالدم في ضرب من النبوءة ، وقد كتبت الرواية منذ سنوات كما قلنا،بما سيكون حين وقف شعبي صارخا في وجه الطاغية " ديقاج " ملخّصا ،بهذه الكلمة السحريّة،ما صاح به النقابي الفصيح أمام السيّد الوزير عندما همّ بطعنه :" يا بيّوع، يا خائن،يا وبش، يا فاسق، يا سارق" مع حفظ الفوارق بين الرواية والواقع وإن كانت الروح واحدة:ثوريّ الرواية أزاح فردا من العصابة وشعبي البطل أزاح زعيم العصابة، والنقابيّ المسالم لم يجد غير السلاح الأبيض لمحو الخائن وشعبي المسالم وجد في نصال الكلام ودروع الصدور العارية ما به يجهز على رأس الخيانة.
      هكذا هي ثارات الشعوب أدوات شتى تتحقّق بها ليتخلّص الناس من السرّاق والخمّاج سواء أكانوا سادة وزراء يمثلون يد السلطة التي تنفّذ ( ديقاج) أم أزلام النظام الذين يبرّرون الفساد والطغيان ( ديقاج) أم عصابة السرّاق التي لا تعرف إلاّ النهب والتمعّش ( ديقاج) أم سيادته نفسه الذي يدير شبكة المافيا ويبيع الوطن ( ديقااااااااااج).


الحاشية والمتن


الحاشية والمتن
      من تقاليد التأليف في الثقافة العربيّة وفي غيرها من الثقافات، استلهمنا لهذه المدوّنة إسمها. وفي الفضاء الرقميّ ،بمقتضياته في الكتابة وتعدّد مستوياته ومكوّناته، أدرجناه.
   مفارقة جسيمة لبادئ النظر.ولكنّ هذا من ذاك حين نتأمّل:
      انتقال بالبصر والفكر من المتون إلى الحواشي تنكسر بها خطيّة الكتابة وتتعطّل أحاديّة التفكير،
     تناسل للنصوص وهي تلتقي لتفترق ،وتتباعد لتتجاذب،وتتمازج لتزكوَ، وتتصارع لتصفوَ.
    تجوال في فيافي القول بحثا عن معنى لا يكتمل أبدا و توق عارم للتصريح بالضمنيّ لا يزيد الصريح إلاّ إضمارا لأنّ المعنى بالأحرف التاجيّة محال محض.
    إنّ لعبة الحاشية والمتن شيّقة مرهقة ،يسيرة خطيرة ولكنها في الحالات جميعا تستلزم أن نكون بَيْنَ بَيْنَ في المسافات الفاصلة بين الفضاءات والأحياز والأزمنة والحدود، نأخذ الكتاب بقوّة وشدّة ملازمتين للمتن فنراجع ونتراجع، نبدل ونعدّل، ننقّح ونصلح، نفسّر ونستفسر ولا نستقرّ .
    أمّا الحاشية فهي تحاشٍ لصلابة المتن وإظهار للشقوق في قلعته المنيعة وندف لنسيجه المتماسك.
   لعبة مرايا نريدها مدخلا لمحاورة الذات في تعدّدها بين الأكاديميّ والثقافيّ ،ولمحاورة أصحابنا من أهل الكتاب الذين ينمّون رصيد الذكاء في الناس ومَنْ لا نعرف ممّن يشكّلون الرأي العام والحسّ المشترك. ولك أن تحدّد في ذلك كلّه المتن والحاشية إذ كثيرا ما تنقلب الأدوار إلى حدّ الدوار.