mardi 13 mai 2014

الاتّحاد وجائزة نوبل للسلام

لماذا رشّح الجامعيّونالاتّحاد العام التونسيّ للشغل 
لنيل جائزة نوبل للسلام؟

في معترك الانتقال الديمقراطيّ الصعب الذي تمرّ به بلادنا وفي ظلّ التخوّفات المشروعة من انتكاس التجربة التونسيّة، يأتي ترشيح جمع من رؤساء الجامعات التونسيّة للاتّحاد العام التونسي للشغل لنيل جائزة نوبل للسلام معبّرا عن موقف أخلاقيّ ومدنيّ جدير بالتوضيح.
فالجامعة، باعتبارها حاضنة لقيم الحضارة وأخلاق التمدّن والمثل الإنسانيّة العليا ومناهضة بالضرورة للبربريّة والعنف، لا يسعها إلاّ أن تشير إلى ما تراكمه الشعوب من تجارب وخبرات في إرساء الحوار بصفته آليّة للسلم وصياغة المسارات الديمقراطيّة والعمل على نزع فتيل الأزمات والنزاعات الداخليّة والخارجيّة.
والواقع أنّ ما شهدته تونس منذ أشهر خلت، خصوصا إثر الاغتيال البشع للشهيد محمّد البراهمي وقبله الشهيد شكري بلعيد، كان ينذر بحرب أهليّة حقيقيّة في سياق إقليميّ متفجّر إثر ما يعرف بالربيع العربيّ. وهذا ما نشاهده الآن، هنا وهناك في العالم العربيّ، من عنف وإرهاب وتقاتل ومخاطر كثيرة تهدّد المنطقة العربيّة.
ولا ريب أنّ تونس استطاعت مرّة أخرى أن تمثّل استثناء نرجو ألاّ يكون ظرفيّا. فهي عند الكثيرين من المراقبين والفاعلين المحلّيّين والدوليّين أمل من الآمال الجدّيّة لانتصار المبدإ الديمقراطيّ.
ولا يمكن في هذا كلّه التغاضي عن الدور الحاسم للاتّحاد في اللّحظة المناسبة. فقد استطاع بمبادرته، في ظلّ الاحتقان الشديد وبكثير من الصبر والجهد والأناة، أن يقوم بدور سيذكره التاريخ في الخروج من النفق المظلم وإرجاع الأمل وتهدئة النفوس الغاضبة وفرض الحوار الوطنيّ وسدّ الطريق أمام نزعات العنف والإرهاب. ولسنا نحتاج إلى خيال واسع لنتصوّر المآلات المأسويّة داخليّا وإقليميّا لو لم يتدخّل الاتّحاد أو لو لم تكن في تونس هذه المنظّمة الاستثنائيّة بتاريخها ومناضليها وثقة قطاع واسع من التونسيّين فيها وقدرتها على التجدّد والخروج من حيّز المطلبيّة الضيّق.
ولكن من المفيد التنبيه إلى أنّ هذا لم يكن من باب الصدفة ولا هو ظاهرة عرضيّة أو موقف أملاه الخوف من صراع كان ينذر بسفك الدماء وإزهاق الأرواح.
فما وقع حين تقدّم الاتّحاد بمبادرته ثم حين شرّك بعض المنظّمات في جمع أهمّ الفرقاء السياسيّين على طاولة الحوار، رغم تمنّع البعض، بحثا عن حلول هادئة ومتوازنة بواسطة النقاش إنّما هو استثمار لرصيد رمزيّ سابق وأسلوب عمل ظلّت معتمدة حتّى في أعتى فترات الدّكتاتوريّة.
فالجميع يعلم أنّ الاتّحاد كان يضمّ جلّ التيّارات السياسيّة التي لم تجد في مشهد سياسيّ يحكمه الاستبداد متنفّسا لها للعمل. ولكنّه استطاع بوصفة سحريّة لا يدرك سرّها إلاّ المناضلون داخله من إدارة الحوار الصعب بينها وتأسيس آليّاته وتطويره ليكون الدفاع عن قيم الحرّيّة والكرامة وعن تصوّرات مجتمعيّة أساسها العدالة الاجتماعيّة والنظام الديمقراطيّ الرابط المشترك بين تلك التيّارات السياسية والأجندا الوحيدة المعترف بها. فما وقع في الحوار الوطنيّ إنّما هو نقل لهذه الخبرة المتراكمة والتجربة الطويلة من مجال محدود هو المنظّمة الشغيلة إلى المجال الوطنيّ الواسع. وما الحوار الوطنيّ إلاّ مشاركة من الاتّحاد في ترشيد العمل السياسيّ بتونس على أساس التوافق والتفاهم بين أحزاب لم تكن أمامها، في ظلّ دكتاتوريّة مقيتة، فرصة للعمل الجماعي والحوار والتفكير المشترك في سياق أزمة خطيرة كانت تهدّد بحرب الكلّ ضدّ الكلّ. فالحوار الوطنيّ بهذا المعنى صورة مكبّرة في مستوى وطنيّ من طريقة في العمل جرّبها الاتّحاد داخله فصحّت لذلك أمكن له توسيع مداها.
وبهذا الاعتبار يمثّل ما قام به الاتّحاد من خلال مبادرته ورعايته للحوار الوطنيّ ابتكارا لشكل من أشكال إدارة الأزمات السياسيّة في مراحل الانتقال الديمقراطيّ وابتداعا لحلول سلميّة تقوم على التسامح ونبذ العنف صيانةً لمسار الثورة المواطنيّة السلميّة. وهي ثورة ينسى الكثيرون أنّ هياكل الاتّحاد في الجهات المحرومة والمدن الكبرى قد احتضنتها منذ بدايتها معبّرة عن شوقهم إلى الحرّيّة ومعزّزة لقدراتهم على التحرّك الاحتجاجيّ السلميّ. فدخل هذا البلد الصغير بلغة الجغرافيا سفر التاريخ المدني الحديث ليكتب صفحات ستكون مرجعا ولا شكّ في سعي البشريّة إلى التخلّص من البربريّة حتّى تنتصر قيم الحضارة وأخلاق التمدّن.
والثابت أنّ هذا العمق المدنيّ هو النسغ الذي تتغذّى منه شجرة الاتّحاد الوارفة. ولعلّه من المفيد أن يتذكّر ضعيفو الذاكرة أنّ التجربة النقابيّة التونسيّة لم تكن في محيطها الإقليميّ والقاريّ رائدة فحسب منذ عشرينات القرن العشرين بل كانت بالخصوص استثناء تونسيّا لا يقلّ دلالة عن مبادرة تونس منذ أواسط القرن التاسع عشر بإلغاء العبوديّة قبل الولايات المتّحدة الأمريكيّة ولا مبادرتها في أوائل تأسيس دولة الاستقلال بإلغاء العمل بتعدّد الزوجات.
فلا وجه عندي لنسيان هذا التاريخ أو تناسيه لأنّه الأساس المكين الذي ننزّل فيه موقع الاتّحاد وأدواره الوطنيّة. إنّه لحظة فارقة في الإرث المدنيّ التونسيّ مازالت مؤثّرة إلى اليوم وتجعل منه مظهرا من المظاهر تميّز هذا البلد بثورته المدنيّة. وإنّي لأحبّ أن أرى في الطابع السلميّ للثورة التونسيّة حلقة من مسار تمدينيّ تحديثيّ طويل يعود إلى ثلاثينات القرن التاسع عشر ومن ركائزه الثابتة الاتّحاد العام التونسيّ للشغل.
ولعلّ في ترشيح الاتّحاد لجائزة نوبل للسلام، بقطع النظر عن إسناد الجائزة من عدمها، تكريما من الجامعيّين التونسيّين قبل كلّ شيء لشعب عُرف عنه حبّ الحياة ورفض العنف والإرهاب والتعلّق بقيم الحرّيّة والمدنيّة بقدر ما هو اعتراف بأنّ من حسن حظّ تونس أنّ فيها منظّمة قادرة على مواجهة العفاريت التي نبّهنا غرامشي إلى انفلاتها من عقالها في فترات الأزمات حين يعسر على العالم الجديد أن يولد ويتعذّر على العالم القديم أن يضمحلّ.