dimanche 28 avril 2013

أطفال بورقيبة





1
في بداية الثمانينات، حين دخلتُ الجامعة وجدت نحلا سياسيّة ومللا فكريّة وشبه فكريّة.كنت أعرف ،من قبل، جلّها وقليلُها عرفته هناك في ساحات النقاش الذي لا ينتهي.
كانوا متفرّقين مختلفين قلّما يلتقون.فإذا التقوا فضدّ طلبة الحزب الحاكم آنذاك وقد كانوا ،في أعين طلبة زماني عن حقّ أحيانا وعن باطل أحيانا أخرى، وشاة ومخبرين ومندسّين يبيعون المناضلين للأمن.وهذا من نادر ما عرفه تاريخ الحركات الطلاّبيّة على حدّ علمي:أن تـُمنع الجامعةُ على طلبة الحزب الحاكم بمبدإ صاغه اليسار وقتئذ ، قبل أن يهيمن الإسلاميّون، مفاده القطيعة التنظيميّة والسياسيّة مع حزب السلطة.
كنّا جميعا تقريبا، نكنّ للزعيم بورقيبة كرها شديدا ونراه رأس القمع والاستبداد.لم نكن نحبّ أبانا الذي روى لنا بأسلوبه الفاتن قصّة الاستقلال وتاريخ البلاد على هواه وكان في سرديّته الممتعة الأوّلَ في كلّ شيء من المسرح والفنّ إلى تحرير البلاد والنساء مرورا بصناعة شعب يربّيه ويهذّب أخلاقه وسلوكه.
كنّا نكرهه كما يكره الشاب المأزوم أباه ويتمنّى رحيله ليكون هو لا كما أراد له أبوه أن يكون.وقليل منّا كان يتساءل عن يُتْمِنا بعده وقد تخرّج جميع الفاعلين السياسيّين آنذاك من مدرسته وبعضهم ،ممّن كنا نتوجّس منه خيفة، تخرّج من مدارس في الشرق والغرب ليست بالضرورة أفضل من مدرسة أبينا.
2
ما لم أفهمه في حفل قتل الأب الرمزيّ ، في تلك الفترة من حماسة الشباب وتفتّق أحلامه،أنّ جلّ ّأبناء جيلي كان يشتري دكتاتورا بدكتاتورنا الذي نعرفه.
فكنت ترى شبابا يدعو إلى جنّة الشيوعيّة ويعد البشريّة جمعاء بتوزيع الخيرات كلّ على قدر حاجته وأكثر ،تراه يمجّد الرفيق العظيم جوزيف ستالين أو ماوتسي تونغ وحتّى أنور خوجة فإذا ذكّره أحدنا بجرائمهم دافع عنهم دفاعا شرسا وبرّر وكذّب واتهم الإمبرياليّة والتحريفيّين.
وكان بعض إخوتنا من حملة الهويّة العربيّة القحّة الحالمين بوحدة صمّاء من البحر إلى البحر يرون في المرحوم جمال عبد الناصر ملهما أو في صدّام حسين قائدا وحتّى في العقيد القذّافي نبيّا موحّدا لأمّة عريقة ناهضة.فإذا ذكّرهم مذكّر بهزيمة هذا أو باستبداد ذاك أو بجنون العظمة لدى الآخر رموه بالقطريّة والإقليميّة والرجعيّة.
وحين انظمّ المنافحون عن دولة الشريعة والخلافة والرجوع إلى تعدّد الزوجات إلى السرب المغرّد ضدّ بورقيبة الأب سمعنا منهم خليطا من أعلام الثورة الإيرانيّة المظفّرة آنذاك وقادة الإخوان المسلمين وبعض الوجوه الوهّابيّة.فإذا نبّههم بعضنا إلى أنّ ما عندنا خير من هؤلاء الطالعين من المتون الصفراء الذين يَعِدُون باستبداد أنكى وأشدّ لأنه ينطق باسم الواحد الأحد رموهم بالتطاول على الدين كأنهم شكّكوا في ركن من أركان الدين.
كانوا يحبوّن من المستبدّين وجوها ثبت بالبيّنة والدليل أنّها رموز لقهر الشعوب والتسلّط عليها ، وجوها خفّت موازينها في حساب التاريخ  ولكنّهم يكرهون بورقيبة الذي يبدو مقارنة بها حملا وديعا.
لم أفهم إلى اليوم هذا الغباء الذي لا أظنّ أنّه قد زال تماما.
3
واليوم عاد بورقيبة الزعيم والرمز ، بعد ثلاثة عشر عاما من غيابه الأبديّ، إلى حفل نهش اللحوم أو طقس التبرّك بالموتى.يعود النزاع على الزعيم وقد أتاح التاريخ لهؤلاء وأولئك فرصة النظر إلى الأمام وصنع الآتي الأجمل.لكنّهم ما يزالون ، سواء بحقدهم الدفين على الدولة الوطنيّة والحداثة التونسيّة أو ببحثهم المحموم عن مرجعيّة تفتن التونسيّين،يؤكّدون يوما بعد يوم، أنّهم "أطفال بورقيبة" حقّا  وأيتامه أيضا.فكلا الفريقين يتلاعب بالذاكرة الوطنيّة ، ولبورقيبة فيها محلّ رفيع جدّا، ويثبت أنّه عاجز عجزا مذهلا عن الحداد الفعليّ على الزعيم الكاريزميّ وهو في ذمّة التاريخ.
لنتذكّر فقط أنّ "أطفال بورقيبة" ،في أصل تسميتها، مؤسّسة رائدة لاحتضان اللّقطاء الذين تتكفّل الدولة بتربيتهم.
ولست أرى في من ينكر منّا الأثر العميق لبورقيبة في صياغة المشروع الوطنيّ التونسيّ إلاّ صورة ممّن ينكر أبوّة الزعيم.
ولست أرى كذلك في من يمجّد الأب بورقيبة ،وهو تحت التراب قد غادر الفعل في التاريخ، إلاّ  كمن أصبح الوفاء للآباء لديه مدعاة للتكاسل عن إثبات شخصيّته.
ولا أظنّ أنّه يليق بنا ، الآن وهنا ، أن نحكّم الأموات في رقابنا بحقد ساذج مدمّر للذاكرة الوطنيّة أو بوفاء كاذب أساسه استحضار الماضي لخوض صراعات الحاضر.     

في الموسوعة التونسيّة



1
يمثّل إصدار بيت الحكمة للموسوعة التونسيّة حدثا ثقافيّا جللا يصادف لحظة فارقة من الزمن الثقافي التونسيّ.فنحن نشهد مناكفة حادة ، تبدو لنا حاسمة، في شأن ما به تتحدّد خصائص الهويّة الوطنيّة للتونسيّين والرهانات الحضاريّة الكاشفة عن مسارات الآتي. فالبيّن أنّ أهل هذه البلاد دخلوا في مرحلة شكّ وتشكيك في السرديّة التي كانوا يعيشون بها وتتغذّى منها أرواحهم وعقولهم.فأوصلهم الشكُّ إلى مفترق طرق تؤدّي جميعها إلى تغليب الخارجيّ المحيط بهم ثقافيا وجغرافيّا على الداخليّ الخصوصيّ.ويستتبع هذا الانتقال من السرديّة القديمة إلى السرديّات الأخرى أمرين متلازمين:أحدهما المحو، محو غير المطابق للكتابة المنشودة وللذاكرة المطلوب صنعها والآخر تمزيق الحدّ الأدنى من قماشة الثقافة المشتركة ليجد التونسيّ نفسه في العراء باحثا عمّا يستره من الملابس الضيّقة جدّا أو الفضفاضة أكثر ممّا يجب.فيبدو في هذا متضايقا وفي ذاك مضحكا. وفي الحالات جميعا نرى العلم الوطنيّ ينتزع ويمزّق ويحرّق بسبب كرة القدم أو ترفرف أعلام أخرى ورايات غريبة بدل الراية الموحّدة.
2
صدرت الموسوعة التونسيّة لتكون متحفا تجتمع فيه الأعلام والمعالم والمواقع والأحداث والمدن والمؤسّسات.قد يكون ثمّة سهو هنا أو نقص هناك ولكن الجهد بدءا من الفكرة والتصوّر جهد سخيّ ولا ريب.فالموسوعات باعتبارها مجمعا للذاكرة المشتركة وجمعا لشتات المعارف الحاصلة تقبلُ التنقيح والتصحيح والتعديل والإضافة.فإن هي إلاّ طبعة تجريبيّة وإن كانت نسخة توصّل إليها المشاركون والمشرفون من المختصّين بعد سنوات من الكدّ والجهد.
بيد أنّ هذا الجهد قديم بدأ منذ عقدين من الزمن ولا نرى وجها أخلاقيّا ولا معرفيّا لتناسي من ساهم فيه بالتحرير واقتراح المداخل أو الرأي والمشورة.والغريب أنّ أوّل المنسيّين ، حتّى نحمل الأمر على مجرّد النسيان وإن لم يكن نسيانا،هو رئيس بيت الحكمة الأسبق الأستاذ عبد الوهّاب بوحديبة.
نعم قد يكون لنا احتراز على الرجل ، احتراز سياسيّ يعود إلى ولائه السابق وعلاقته بدولة الاستبداد.نعم قد يرى أحدنا في ممارسته عند إشرافه على المجمع تحويلا لمؤسّسة علميّة أكاديميّة تنتج الثقافة النوعيّة إلى ناد ثقافيّ لم يضطلع، على الوجه المطلوب، بالمهامّ الأصليّة.نعم قد نختلف معه في هذا الأمر أو ذاك ولكن لا يجوز أخلاقيّا ألاّ نعترف لذوي الفضل بفضلهم ولأصحاب المشاريع بأفكارهم. نعم وضع الأستاذ بوحديبة البيض كلّه في سلّة واحدة فوقعت السلّة بما فيها ولم يعد له ما يخسر.ولكن ما الذي خسره من لم يدعه إلى حفل تقديم الموسوعة التي ساهم في صناعتها ولو بالإشراف؟ ولماذا لم يُذكر المشاركون في التحرير؟ ألأنّ منهم من والى النظام البائد ولا تسمح الظروف التي حوّلت الجميع إلى ثورجيّين جدّا مجانا بذكرهم؟
3
أحبّ أن أشير إلى أمر يتّصل بهذه الموسوعة قد يبدو ثانويّا للناس ولكنّه عندي حمّال دلالات كثيرة.فقد سبق لي أن دعيت إلى الإسهام فيها باقتراح المواضيع والمداخل و بالتحرير وتأليف فصول  لمّا كانت مجرّد مشروع. غير أنّني رفضت ،على تقديري للمشروع وإيماني بالحاجة إليه.أمّا سبب الرفض فيعود إلى ما اقترح على الكتّاب والمؤلّفين ، وهم من المختصّين في علومهم وأبوابها، من مقابل زهيد بدا لي أنّه ينمّ عن احتقار للخبرة والعلم والجهد.وهذا دأب المؤسّسات التونسيّة في التعامل مع إسهامات المختصّين والمبدعين وحقوقهم الماديّة والمعنويّة التي تنصّ عليها المواثيق الدوليّة والقوانين الوطنيّة.فلئن كنّا نتفهّم الخواصّ وأصحاب المشاريع التجاريّة في سعيهم إلى الربح على حساب العاملين بالفكر فإنّ اتّباع الدولة وأجهزتها ومؤسّساتها لسلوك الخواصّ ، أو بعضهم، لممّا يدلّ عندي دلالة قاطعة على أنّ مكانة المثقّف والمبدع والفنّان والمفكّر والجامعيّ والنخبة عموما في عيون السلطة السابقة لهي في أسفل السافلين.فما الذي يدلّ اليوم على أنّ الحال تغيّرت؟

mercredi 3 avril 2013

الخطاطيف والبوم



1
سألني المذيع التلفزيونيّ العراقي عن المشروع الثقافي العربيّ وسبل النهوض بثقافتنا لتتبوّأ مكانة مميّزة في المشهد الثقافي الكونيّ.كان ذلك في بغداد بمناسبة استهلال أنشطتها عاصمةً للثقافة العربيّة هذه السنة وسط إجراءات أمنيّة مشدّدة تشهد، هنا في بغداد  كما في غيرها من عواصم العرب وإن بدرجات متفاوتة ، على جرح غائر لا أحد يعرف كيف سيندمل.
كنت حاملا معي ، بحكم جنسيّتي على الأقل،بعض أمارات خطاطيف الربيع العربيّ الذي انقلب شيئا فشيئا إلى خريف متقلّب تسكنه رياح السموم القادمة من الصحراء وتعشّش فيه خفافيش الظلام وتحلّق في سمائه غربان تنثر السواد حيثما طارت أو حلّت.
  كان السؤال ،حين نربط العواصف العربيّة ووعودها بعاصمة اصْطُفيت بسبب مجدها القديم وإسهامها الحديث للتكريم،سؤالا قلقا عن الآتي أو هو كان  ،في أفضل الأحوال، سؤالا حالما محمّلا بالأمل.ولكن من أين لي أن أبذر الآمال والأحلام وما يحيط بنا ، هنا وهناك، لا ينمّي إلاّ مزيدا من اليأس والكوابيس ؟
2
ماذا لو تبيّن لنا أنّنا لا نملك ما نقدّمه للبشريّة المعاصرة ولأنفسنا من جديد القيم والمعاني وبديع الأفكار والرؤى ومخصب التصوّرات والمقترحات؟ ما الذي سنقترح على البشريّة : قيم الطوائف والقبائل والعشائر؟ أم أصول الحدود المهينة للكرامة البشريّة ؟أم دونيّة المرأة؟ أم الاستبداد باسم الواحد الأحد ؟أم فنون العنف والإرهاب؟ فللبشريّة بعض من هذا عبرت ، بالأمس ، عن سخطها عليه ثمّ عملت وما تزال تعمل ، اليوم، على القضاء عليه؟
ألم نر إلى أنفسنا نقدّم رجلا في دروب التفاعل مع الفكر الكونيّ الحيّ المؤثّر ونؤخّر أخرى مغلولة إلى وهم خصوصيّة لا نحبّ أن نراها إلاّ في ماض منقضٍ ومجد أثيل لم يعد من الممكن البناء عليه؟
ألسنا متسمّرين في مهبّ الثقافات المبدعة بأشجارها الخضراء الباسقة متشبّثين بنخلتنا المتيبّسة وأعجازها المنقعرة ذاهلين عن تيّارات الروح والمعنى التي تنفخ في الإنسانيّة ريحَ حياةٍ قويّة متجدّدة نردّها على أهلها محتجّين بأنّنا وجدنا آباءنا على هذا وما نحن بمغادرين أطلالا تلوح كباقي وشمٍ  لا ألق فيه ولا حسن.
مازلنا نضع موضع الشكّ والرفض ما تمخّض عنه صراع الإنسانيّة لإعادة تعريف ذاتها وما زال منّا من يحذر بغباء أصيل متأصّل مدنيّة الدولة والمساواة بين الرجال والنساء ، تمام المساواة، والحرّيّات الفرديّة والجماعيّة وجميع البديهيّات المقرّرة في المتون الحديثة التي حوت حقوق الآدميّين أفرادا وشعوبا.مازال منّا من يبحث بحث شحيح ضاع في الترب خاتمه عن مدى مناسبة تلك الحقوق للسائد من معتقداتنا والموروث من تصوّراتنا للإنسان والكون والخالق.
3
أيّ مشروع ثقافيّ عربيّ ممكن إذا لم نأخذ كتاب الثقافة البشريّة بقوّة ونجلس ممّن سبقنا إلى حضارة اليوم ، فنونا وإبداعا وتقنيات وعلوما، مجلس المتعلّم؟كيف لنا أن نسأل عن مشروع ثقافيّ ونحن لم نتخلّ بعد عن أوهام مركزيّتنا وجرح نرجسيّتنا البائسة وتمثّلنا غير المطابق لحيواتنا ومآلتنا؟ متى أمكن لأمّة أن تصنع ثقافة مبدعة تدعو إلى مائدتها الباذخة الشهيّة الآخرين وهي ما تزال تخشى ركوب المخاطر وترهب السبل البكر وترغب عن المغامرة؟
لقد حملت خطاطيف الربيع العربيّ وعدا بربيع مدنيّ مواطنيّ نصوغ فيه وبه رؤية جديدة ممكنة لمنزلتنا في الكون ومكانتنا في منظومة القيم المعبّرة عن رحيق الأفكار التي اعتملت منذ قرون.ولكن من البيّن أنّ "الواحد منّا ، كما قال مظفّر النواب بحزن الشاعر وسخطه الجذريّ، يحمل في الداخل ضدّه" جهلا وعنادا ومكابرة؟
ولهذا الضدّ أسماء بذيئة كريهة عديدة هي التي جعلت ثقافتنا العربيّة تخبط خبط عشواء لم تغادر بعد كتب الفرْق بين الفرق وصحائف الملل والنحل وأكذوبة الفرقة الناجية التي لن تنجو أبدا مادامت لم تأخذ بأسباب التعدّد والاختلاف والتسامح.
ألم تقل الحكمة إنّ الخطاف لا يصنع الربيع وإنّ البوم لو كان في صيده خير لما خلّفه الصيّادون وراءهم؟        

غنائم التاريخ





1
يعامل السياسيّون عندنا تاريخ البلاد المعاصر،وقائع ورموزا،معاملة غنائم حربٍ لم يخوضوها في الإبّان.يملؤهم ، باسم العدل والإنصاف والحقيقة، حقد دفين كالسمّ الزعاف يدسّونه في طعام الذاكرة على مائدة الوطن وفي وليمة الزمن.
ينسفون الرموز المستقرّة ويصطنعون رموزا أخرى مستلهمين فكرة البدايات من أرض محروقة واضعين دولة الاستقلال بين قوسين لأنهم لا يرون فيها علما ونشيدا ومشروعا يطابق أضغاث أحلامهم.
يريدون إعادة كتابة القصّة وتغيير مكوّنات السرد ، يأخذون الصفحة البيضاء ، يشطبون الفقرات والجمل ، يغيّرون أسماء الأبطال الأساسيين والثانويّين ولكنّهم لا يصنعون قصّة ملهمة أبلغ وأكثر تناسقا.
يضعون الأحداث على سرير بروكست : يقطّعون أطرافا من الأرجل ،يقطعون الرأس إن لزم الأمر ،يمدّدون إصبعا من الرجل اليمنى أو اليسرى ، على هواهم،ليوافق امتداد السرير الذي يتوهّمون.
يصنعون من الفراغات وهوامش حركة التحرّر الوطني ومهمّشيها وضحاياها الذين لفظتهم آلة التاريخ الماكر المعاصر ،فيستحضرون بدائل لا تستبدل شيئا.
يعملون ، عن وعي، على إسكات تعدّد الأصوات في جوقة التحرير الوطنيّ مثلما فعل من سبقهم ليفرضوا ، أو هكذا شبّه لهم، نشيدهم الحماسيّ الخافت دون أن يتساءلوا:ثمّ ماذا؟

2

طبعا، نتفهّم أن يكتب المنتصرون ، هنا عندنا أو هناك عندهم، التاريخ وسرديّتهم من خلاله ليأخذوا نصيبهم من حفل الرموز البهيج.ولكنّهم ، عندنا الآن، ينسون أنهم منتصرون وقتيّون.
طبعا، يقُدُّ الحاقدون والناقمون من عجينة التاريخ كعكتهم بعسل مرّ يدعون الجميع لأن يأكلوا منها في مأدبتهم البائسة التي تسمّى إعادة كتابة التاريخ وتصحيحه.بيد أنّ أكثر الناس يرفضون حضور المأدبة الفقيرة المسمومة.
يتّخذ سياسيّونا ، الآن وهنا ، كلٌّ على مقتضى معايير نحلته وقوالب ملّته،مجالا لصراعهم من أجل شرعيّة تُستمدّ من الذاكرة غير أنّها ، لسوء حظّهم، لا تباع في سوق الأفئدة والقلوب والمخيال الجماعيّ.
والمفارقة القاتلة أنّ سيل الرابع عشر من جانفي حملهم ، دون سابق تدبير ، لما سيأتي عساهم يملؤون أرضنا عدلا فعجزوا لأنّهم لم يغادروا قوقعة الماضي إذ سعوا ،كالمراهقين الطالعين من كتب فرويد ،إلى قتل الأب الزعيم للاستفراد بالأم الوطن.
3
نتفهّم أنّ ما انقضى يُكتب بأسئلة الراهن وأنّ الماضي يُصنع ، الآن ، تأليفا للمتفرّق وتأويلا للبياض واستكشافا للدلالات واستنباطا للرموز.
نتفهّم هذا كلّه ولكنّ انقلاب السياسيّين ،بأوهامهم وأكاذيبهم،  ودكاكينهم الحزبيّة ،بمصالحها الضيّقة وقصر نظرها، إلى معالجين لقضايا الذاكرة لأمر مفضٍ كما أفضى عند غيرنا إلى تهشيم الذاكرة الموحِّدة وإلى تحريفيّة مقيتة وتآويل سقيمة لن تجد إلاّ الرفض والنفور ولن تؤدّي إلاّ إلى مزيد تقسيم التونسيّين المنقسمين أصلا.
لتتلهّوا بألعابكم الناريّة التي ستحرق أصابعكم ما دمتم لا تثقون في أهل العلم بالتاريخ ، فلسِفوا الوقائع بمرايا إيديولوجيّاتكم المحدّبة والمقعّرة ولكن لا تنسوا أنّ من مضى زرع البيدر فكان ما كان .فاتركوا الموتى لأمجادهم وحقاراتهم وتساءلوا سؤالا خيرا و أبقى لكم ولنا:لقد زرعوا فأكلنا ولكن ماذا نحن زارعون في بيدر الوطن؟