mardi 25 octobre 2016

أمّة عاجزة عن كتابة تاريخ أدبها


(نشر بموقع ضفّة ثالثة في 22 أكتوبر 2016)

للآداب متاحفها. ومتاحفها كتب تاريخ الأدب. بيد أنّ لهذا الصنف من الكلام على الكلام، بما ينتقيه ويرتّبه وينظّمه ويبنيه من تصوّرات عن مقامات الأعمال الإبداعيّة وجودتها، منزلةً لا تخلو من غرابة. فكل من تجشّم عناء التأليف في هذا الباب وجد نفسه محلّ نقد جذريّ واتهامات بالتقصير إن من جهة التأريخ وتصوّراته ومسائله المنهجيّة الشائكة وإن من جهة قضايا الأدب والاختلاف في أحكام القيمة وطرائق التصنيف. يكفي أن ننظر، تأكيدا لما نزعم، في ما كتب عن تاريخ "لاغارد وميشار" للأدب الفرنسي من أعمال نقديّة تكشف آليّات الطمس والمحو والتزييف الإيديولوجيّ بالخصوص. والمفارقة أنّ هذا الكتاب المدرسيّ ظلّ من أكثر كتب تواريخ الأدب في فرنسا انتشارا وتأثيرا في الناشئة وغير الناشئة من أحباء الأدب بل لعلّه مدخل أساسيّ رغم ما فيه من عيوب.
وليس أمر أدبنا العربيّ بمختلف شديد الاختلاف. فمازال تاريخا حنّا الفاخوري وشوقي ضيف للأدب العربيّ، على سبيل التمثيل، مرجعين مدرسيّين مهمّين لآلاف من الطلاّب العرب بل للمثقّفين الراغبين في الاطلاع السريع على بعض الإحداثيّات أو مراجعة الأساسيّ عن هذا المؤلّف أو ذاك. فعلينا ألاّ ننسى أنّ أبرز ما في متاحف الأدب، كما نعلم، تلك الكوكبة من الشعراء والناثرين الذين يمثّلون مختلف الأحقاب والعصور والمدارس والمذاهب والأجناس الأدبيّة... إلخ.
بيد أنّ مدار الأمر على سؤال يبدو بديهيّا ولكن الإجابة عنه ليست على قدر بداهته. فقد تغيّرت مناهج التأريخ عامّة وفرضيّاته الكبرى وتقنياته وتطوّرت معرفة البشريّة بخصائص القول الأدبيّ وأساليب تناوله ومعالجته ولكنّ التأريخ للأدب ظلّ، رغم الندوات الأكاديميّة الكثيرة والمجلاّت المتخصّصة والنقود العديدة والنظريّات المتجدّدة، أمرا يصعب تجديده وتطويره. بل إنّ أهمّ مشروع لكتابة تاريخ الأدب الفرنسي مثلا، وقد صاغه لانصون في بداية القرن العشرين، لم يجد طريقه إلى الإنجاز إلى اليوم.
وبالنسبة إلى أدبنا العربيّ لم يكن تاريخ الأدب إلاّ ضربا من الأقاويل النقديّة الجديدة التي ولّدها الاحتكاك بالثقافة الأوروبيّة كما يعترف بذلك أوّل من صنّف من العرب تاريخا للآداب العربيّة جرجي زيدان. وهو يعترف في الآن نفسه بأنّ الحاجة إلى  وضع مثل هذا التاريخ إنّما كان مصدرها الجامعة المصريّة الناشئة التي فتحت مناظرة لوضع كتاب يصلح لتدريس هذا الفنّ. وما هذا بغريب بما أنّ تاريخ الأدب عندنا وعند غيرنا يرتبط بأمرين متلازمين. أوّلهما توفير أداة مدرسيّة لغرس القيم الأدبيّة والأخلاقيّة والجماليّة لدى المتعلّمين من روّاد المدارس والجامعات وثانيهما تحديد الجغرافيّة القيميّة والرمزيّة للأوطان التي صارت كيانات  قائمة الذات. فتاريخ الأدب، مهما كانت صياغته، تعبير عن الروح القوميّة لأمّة من الأمم. إنّه جزء من تاريخها العام.
غير أنّ ما يلاحظ في جلّ تواريخ الأدب العربيّ هو اقتصارها عموما، في باب الأدب الحديث على الأقلّ، على مصر والشام بتعلّة أسبقيّة النهضة فيهما. وهو ما يعني حتما أنّها تواريخ منقوصة لا تشمل كل الروافد الأدبيّة والثقافيّة العربيّة.
والذي نزعمه في هذا الجانب أمران. أحدهما أنّ إعادة كتابة تاريخ الأدب العربيّ اليوم، بصرف النظر عن قضايا المنهج في التاريخ ومقاربات الأدب، لا يمكنه أن يكون إلاّ على أساس قطريّ على نحو يجعل كلّ رافد من روافد الأدب العربيّ يعمل على إبراز جغرافيته الرمزيّة والجماليّة والقيميّة رغم المشترك الثقافيّ. والآخر أنّ كتابة تاريخ للأدب العربيّ (أو الآداب العربيّة) لن يكون في مستقبل الأيّام تأليفا بين التواريخ القطريّة الجزئيّة كما قد يذهب في وهمنا بل هو أمر غير ممكن بمقتضى الشروط التي تتطلّبها مثل هذه المساعي. فلا الحاجة المدرسيّة ما تزال قائمة بسبب ما تعانيه العلوم الإنسانيّة عامّة والأدب بالخصوص من استخفاف وازدراء ولا الدافع القوميّ الذي لأجله تنشأ متاحف الأدب ما يزال فاعلا حيّا.
وهذا بعض من أعاجيب أمّة توحّدها لغة ضاربة في التاريخ الثقافيّ والجماليّ وما انفكّت تتجدّد وتتطوّر ولكنها عاجزة عن أن تكتب تاريخ أدبها وقيمها ورموزها أي سرديّتها الوحيدة الباقية.


dimanche 16 octobre 2016

أسئلة الروح وحيرة القرّاء


    
نشر بموقع ضفّة ثالثة بتاريخ 16 أكتوبر 2017

لم تحظ القراءة، واقعا وتاريخا، في عالمنا العربيّ بعناية الدارسين رغم أنّ منطق السوق، والكتاب بضاعة أيضا، يقتضي معرفة ميول القرّاء ورغباتهم. نعم ! ليس هذا وحده ما ينقص مجال البحث في الكتاب العربيّ وسوق النشر في بلداننا. ولكنّنا بالحدس نعاين مؤشّرات وقرائن بسيطة قد تدلّ على حركيّة مّا تشهدها الثقافة العربيّة وعلينا في غياب الدراسات الدقيقة العلميّة أن نأخذها في الحسبان.
فبمناسبة معارض الكتب، هنا وهناك، لا يحتاج المرء إلى خبرة المكتبيّ ليعاين اكتساح الكتاب الدينيّ للسوق وما يشهده من إقبال. ولهذا أسبابه وتفسيراته التي لا تعنينا في هذه العجالة. بيد أنّ الثابت أنّ هناك حاجة حقيقيّة يلبّيها هذا الصنف من التآليف التراثيّة أو الحديثة، وإن برؤية تراثيّة لا تزيد الثقافة العربيّة إلاّ إغراقا في الأفكار القاصرة عن التقاط الحاجات الروحيّة لأبناء عصرنا. فالأموات ما يزالون، للأسف، يحكموننا من وراء قبورهم.
لكنّ النصف الآخر من الكأس، حسب بعض الأصدقاء الناشرين الجادّين الذين مازالوا يؤمنون بالوظيفة التنويريّة للنشر، أنّ كتب الفلسفة الغربيّة والروايات المترجمة والموضوعة أصلا بالعربيّة تشهد إقبالا واسعا.
ولعلّ في دواعي الاهتمام بكتب الفلسفة الغربيّة بصنفيها، التبسيطيّ الموجّه إلى عامّة الناس أو الأصول التي وضعها كبار فلاسفة التنوير والحداثة، بعضَ ما يكمن وراء انتشار الكتاب الدينيّ. فعلينا أن نعترف بأنّ قطاعا واسعا من الشباب العربيّ يعاني أزمة روحيّة خانقة وقلقا فكريّا عميقا. فهو يطرح على نفسه، في خضمّ عالم متحوّل، أسئلة حارقة يعسر عليه أن يجد لها إجابات في ما يكتبه أبناء العربيّة. فوضع الكتابة الفلسفيّة، على محدوديّتها، عندنا معروف إمّا بإغراقه في التخصّص الأكاديميّ وإمّا بانصرافه عن المشكلات اليوميّة التي يعيشها الناس حتّى لكأنّ الفيلسوف العربيّ مقطوع عن شواغلهم أو هو، في أحسن الأحوال، يقاربها على نحو غير مباشر. لذلك يبحث هؤلاء الشباب بنهم كبير عن شيء مختلف يغذّي منهم القلب والوجدان في عالم تهافتت فيه المرجعيّات وتهاوت الاستعارات الكبرى.  ولعلّ فلاسفتنا يحتاجون إلى أن يتّخذوا من هذه الحيرة مادّة لفتح البصائر على آفاق جديدة لأبناء مدارس عربيّة لا يدرّس أغلبها، لأمر مّا، الفلسفةَ. والمفارقة أنّ أكثر هؤلاء ينتمون إلى مجتمعات شديدة المحافظة والتديّن. وأكبر ظنّي أنّ جزءا كبيرا منهم متعطّشون إلى برد اليقين وسيجدون في دفء السؤال النقديّ بعض الطمأنينة بفضل ما تيسّره الفلسفة من انفتاح فكريّ وحسّ نقديّ. وكلاهما، لو ندري، ترياق من التعصّب والتطرّف والبحث عن الخلاص اليائس في جنّات الأوهام القاتلة.
أمّا الإقبال على الرواية فليس مردّه في تقديرنا ما شاع من أنّ الثقافة العربيّة تعيش زمن الرواية. فقد كان شغف العرب بهذا الجنس الأدبيّ، منذ اتصالهم بالفنّ السرديّ الغربيّ في بدايات عصر النهضة، أكبر ممّا نتصوّر حتّى تخصّصت بعض الصحف والمجلاّت المصريّة في ترجمة الروايات مثل ترجمات نقولا رزق الله بـ"الأهرام" و"مجلّة الراوي" لأنطانيوس عبده علاوة على"مسامرات الشعب" لخليل صادق وغيرهم كثير. وربّما كانت عودة الاهتمام بالرواية في العقدين الأخيرين بالخصوص تعبيرا عن حاجة ثابتة لفهم ما يجري من تحوّلات في عالمنا العربيّ. ففي غياب التحاليل السوسيولوجيّة مثلا للواقع العربيّ وتقلّباته المعقّدة والتحاليل النفسيّة لحيوات مأزومة في سياقات الهزائم المتتالية تصبح الرواية بديلا من هذا كلّه في كشف تعقّد الحياة والتعبير عن الأوجاع والخيبات. ففي مرايا السرد تتلألأ جواهر الحيرة وتتخفّف النفوس من ضغط الإحباط.
لا أذكر من زعم أنّه لا يوجد عالم متخلّف بل يوجد عالم لم نحسن تحليله. وعلى قياس هذا، لنا أن نزعم أنّه لا توجد أزمة قراءة في المطلق بل توجد ربّما حاجيات لم نتفطّن إليها لنلبّيها.




jeudi 13 octobre 2016

عن مأساة «باغندا» ولامبالاة جمهوره


 حسن داوود، القدس العربي، 13 أكتوبر 2016
  
كان الراوي ما يزال في بداية حياته المهنية حين نشر مقالا عن الاختفاء السريع لباغندا «الجوهرة السوداء في تاج كرة القدم التونسي». كان مقالا بكرا إذ لم يكن كاتبه الشاب يعلم أن ليس كل ما يعرف يُقال، وأن مصالح ووساطات وشؤون عليا يجب أن تؤخذ في الحسبان قبل كتابة كل ما يتعدى الروتيني والعادي. جرى الردّ على المقال سريعا من نافذين في الإعلام الرسمي والنقابي، لتطوى بذلك حكاية باغندا في الصحافة. لكن الراوي عاد إليها بعد سنوات كثيرة ليضع فيها كتابا. كانت تلك السنوات الفاصلة كافية لأن ينسى الناس ذلك البطل النادر الكفاءة الذي كان يشبَّه ببيليه أسطورة البرازيل، بل إن ذاكرة التونسيين، بحسب الكتاب- الرواية سريعا ما أسقطته منها إذ بدا بين ليلة وضحاها كأنه لم يكن. كتاب شكري المبخوت، أو روايته، أو تحقيقه، الغني بالتفاصيل والوقائع والأسماء، يتنقّل بالتدريج من حكايته الأولى عن الاختفاء إلى تأريخ تفصيلي لما تدرّجت فيه أحوال تلك اللعبة، واجتماع الوصوليين والمتنفّذين حول كعكتها حين باتت في تلك السنوات أحد مراكز النفوذ والتنازع على تجميع المال.
ما استجمعه الروائي شكري المبخوت عن تلك اللعبة وعما أحاط بها في سنوات الاضطراب تلك (1986- 1988) يضع قارئ الرواية أمام سرد مفصّل ومتداخل لتهافت الوصوليين حول تلك اللعبة التي لم يكن ممكنا لها أن تنمو وتتطوّر منطلقة من ديناميتها الخاصة. فما أحاط بها، أو بوليمتها، كثير وعديد إلى حدّ أننا، فيما نحن نصل إلى الصفحات الأخيرة من الرواية، نجد أنفسنا متسائلين عن باغندا، أين هو، ولماذا يُكتفى منه بتبنّي قضيته فيما هو كبطل للرواية يظل متواريا. كان علينا أن ننتظر تلك الصفحات الأخيرة إذن حتى نعرف ماذا حصل له وإلى أين أودى به تآمر المتآمرين عليه. في الرواية التي تحمل اسمه «باغندا»، التي كان هو ذريعة كتابتها، يظلّ غائبا ومجهولا. لم يتعدّ ما كتب عنه ذكر ما قيل وما أخفي عن مصيره، وكذلك تفاصيل عن نشأته في الحي القريب من الحي الذي نشأ فيه الراوي. لكن حضور باغندا في الرواية هو من قبيل حضور الغائب، حتى إن قرأنا عن علاقته الغرامية وسلوكه المتفلّت عما ينبغي أن يكون عليه نجم رياضي. لقد بدا مثلا أقلّ ظهورا من شخصية عماد بلخوجة الفاسد المنشئ المتحكّم باللعبة عامة والمقيم لها مؤسسات وأبنية وأنظمة، وكل ذلك على قواعد فاسدة.
حضور باغندا هو حضور الرمز إذن، أما عماد بلخوجة فحضوره حضور الفاعل صانع التحوّلات وتفاصيلها. ربما كان السبب في ذلك كامن في الطبيعة التحقيقية للكتاب حيث كان على الكاتب أن يتبع الحلقات المتتالية التي تفسّر وقائع اختفاء باغندا ثم وفاته. من هذه مثلا تحويل لعبة كرة القدم التونسية من كونها هواية إلى كونها احترافا، وإنشاء مبنى خاص لتدريب اللاعبين ولإقامتهم. ثم تنظيمها كسوق يجري فيها نزاع الفرق على ضمّ اللاعبين أو شرائهم، ثم أيضا الصراع الضاري على تبوّء رئاستها نقابيا أو رسميا، ثم تورّط السلطة السياسية بين المتنازعين عليها، وكذلك إقامة ما يشبه وكالات مراهنة لها في الأحياء يديرها تحالف عصابات.
لم يفوّت شكري المبخوت شيئا مما يتعلّق بتلك اللعبة في سنوات «ذروتها» تلك. ربما كانت روايته هذه غير مسبوقة لجهة موضوعها أولا ثم مثابرتها على الخوض في تفاصيله. ومع ذلك الحرص على جلاء حقيقة ما جرى (وصولا إلى الكشف عن مصير باغندا) كان على الكاتب أن يبذل جهدا فائضا لكي لا يغرق عمله في تلك التفاصيل، كما لكي يجري العمل هذا مجرى الرواية.
ربما كان غياب باغندا، أو تغييبه، هو ما أتاح بقاء الروائية مرافقة لسرد تلك الوقائع. كان باغندا حاضرا كأنما وراء الستارة التي تجري الأحداث أمامها. ثم، ولنضف إلى ذلك، حضور الراوي نفسه في الرواية التي، في وجه من وجوهها، بدت ناقلة لسيرته في العمل بالصحافة. وهذه تمثّل الأقنوم الثاني في الفساد الموصوف، الذي لا يقلّ فداحة عن الفساد المتصل بلعبة كرة القدم، بل ويظهر أن الفساد مستشر في أقانيم الحياة عامة حيث نقرأ في الصفحات الأخيرة ما يشبه المرثية الساخطة التي تطال كلّ شيء، بما في ذلك لا مبالاة قوم باغندا حيال كل ما يجري لهم وإبقاء ذاكرتهم خالية مما ينبغي أن يظلّ متشبّثا فيها.
إنها رواية خروج من الفساد العميم إلى عالم آخر جديد. الرواية هي بيان لتفصيل ذلك الخروج وضرورته، وقد حمل الفصل الخير من الرواية «غروب الحكاية أو التحقيق المستحيل» المرافعة التي أوصت بالمغادرة إلى بلدان أخرى، غير بعيدة على أي حال، حيث يستحيل البقاء هنا.
رواية «باغندا» لشكري المبخوت صدرت عن دار التنوير في 240 صفحة، 2016
٭ روائي لبناني


رواية مذهلة موجعة عن "رأسماليّة كازينو القمار العالميّة"


(نشرت في موقع الضفة الثالثة بالعربي الجديد 
يوم 13 أكتوبر 2016)



بات المسار العام لرواية النهب العالمي بعد استقلال الدول ونهاية الحرب الكونيّة الثانية معروفا لفرط تكراره: في بداية الرواية يتعرّض بلد من البلدان إلى مشاكل ماليّة فيهبّ صندوق النقد الدولي لمساعدته في صيغة قروض. ولكن هذا التمويل مقيّد بسلسلة من الإجراءات يقصد منها ضمان القدرة على تسديد تلك القروض. فيقدّم مسؤولو الحكومة المستلفة خطاب نوايا يلتزمون فيه طوعيّا بتطبيق تلك الإجراءات. ولكنّ القرض يقدّم على مراحل تناسب وفاء هذه الحكومة او تلك بما التزمت به. ولا يحتاج المسؤولون إلى موافقة البرلمان لأنّ هذه الاتفاقيّات ليست في عرف الصندوق ذات طابع دوليّ. وهي سرّيّة.
وتتابع الأحداث الأساسيّة للرواية ، بعد ذلك، ولا تتغيّر إلاّ بعض التفاصيل بحسب هذا البلد أو ذاك سواء لتفكيك الاتحاد السوفياتي وبلدان الكتلة الشرقيّة ويوغسلافياأو لإنهاء نظام الفصل العنصريّ في جنوب إفريقيا أو لمعالجة ديون أمريكا اللاّتينيّة أو أزمات أيسلاندا أو إيرلندا أو اليونان وغير هذا كثير.
وما يودّ أرنست فولف في كتابه الصادر بالألمانيّة سنة 2014 بعنوان ترجمته الحرفيّة هي "القوة العظمى: صندوق النقد الدولي ويوميات نهب العالم" (ترجمه إلى العربيّة عدنان عباس علي بعنوان "صندوق النقد الدولي: قوّة عظمى في الساحة العالميّة"، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، العدد 435، أبريل 2016) هو الإجابة عن أسئلة بسيطة في ظاهرها أبرزها: لمصلحة من يعمل هذا الصندوق؟ ومن يستفيد من إجراءاته؟
الأزمات ووصفة العلاج
تشترك الروايات المختلفة عموما في ظهور بوادر أزمة: من ذلك مثلا تراجع الطلب على السلع وانخفاض أسعار الموادّ الأوليّة وارتفاع أسعار الفائدة ارتفاعا يؤدّي إلى العجز عن تسديد أقساط الديون للمصارف الدوليّة العملاقة فيستدعي الوضع الاقتراض من صندوق النقد الدولي باعتباره الملاذ الأخير للسيولة النقديّة.
وليس للصندوق إلاّ مبادئ أربعة تقوم عليها الحلول هي: ليبيراليّة وتحرير واستقرار وخصخصة. ومنها تُشتقّ الإجراءات التي عادة ما تنحصر في انتهاج سياسة تقشّف مالي وخفض قيمة العملة الوطنيّة ورفع معدّلات الفوائد وإلغاء القوانين الحمائيّة على الواردات من السلع وتداول العملات الأجنبيّة والتركيز على الإنتاج القابل للتصدير وفتح المجال للاستثمارات الأجنبيّة وخصخصة المشاريع الحكوميّة وأملاك الدولة.
إنّ هذه الوصفة هي جوهر ما يسمّيه الصندوق وخبراؤه ببرامج التكييف الهيكليّ التي صاغها منذ سنة 1979 وما تزال سارية المفعول.
الفخ والمتاهة
وإلى حدّ هذه المرحلة تبدو الأمور طبيعيّة في اقتصاد يقوم على الانفتاح والترابط العولميّ. فالإقراض آليّة من آليّات الاقتصاد الرأسماليّ. ولكنّ النتائج التي تستتبعها هذه الإجراءات تشمل الجانبين الاجتماعي والاقتصاديّ. فعمليّا تُجمّد أجور موظّفي الدولة أو تُخفّض ويُسرّح عديد العمّال ويُقلّص الإنفاق العام على الخدمات الاجتماعيّة من تعليم وصحّة وتقاعد ويُلغى الدعم على الموادّ الغذائيّة الأساسيّة والوقود وتتدهور القيمة الشرائيّة لعموم المواطنين ويُقضى على المشاريع الزراعيّة والصناعيّة الصغرى وتُغلق المصانع التي تعلن إفلاسها ممّا يضاعف البطالة. وهذا غيض من فيض من المآسي الاجتماعيّة. فالتناسب بين المضيّ قدما في تطبيق "الوصفة العلاجيّة" والكوارث التي تؤدّي إليها بيّن لا يحتاج إلى دليل.
غير أنّ لهذه الفصول المتتابعة من الرواية في مختلف البلدان التي عانت وما تزال من هذه اللبيراليّة الجديدة وجها سعيدا لا بدّ من ذكره. فالإجراءات المختلفة تتيح لرأس المال العالمي المتمركز لدى أقلّيّة من الشركات والمصارف العملاقة فرصا ما تنفك تتوسّع للاستثمار وزيادة الأرباح. بل كلّما تعمّقت الأزمات وتبعاتها تكاثرت فرص جني أرباح خياليّة.
ورغم تسويق خبراء صندوق النقد الدوليّ ومنظريه خصوصا منهم من يسمّون "صبيان شيكاغو" (نسبة إلى خريجي جامعة شيكاغو ومنظرها الاقتصادي ملتن فريدمان) ورغم الزعم بأنّ القصد منها هو تنشيط الاقتصاد المأزوم وضمان قدرة البلدان على خدمة ما بذمّتها من الديون فإنّ الواقع يثبت أنّ ما يحصل هو العكس تماما. إنّه فخّ يجعل البلد المقترض يتحمّل الفوائد والفوائد المركّبة وأقساط تسديد الدين ممّا ينعكس على موازنة الحكومة والاقتصاد ويزيد الأزمة تردّيا. وسرعان ما يصبح الاقتراض من الصندوق لغاية تسديد الديون السابقة وفوائدها المتراكمة! وعندها يطالب الصندوق بالتقشّف الذي لا يتحمّل تبعاته إلاّ جمهور العمّال والموظّفين والفقراء.  
وسرعان ما ينقلب الفخّ الذي ينصبه الصندوق إلى متاهة لا مخرج منها.
أهداف معلنة وسياسات كارثيّة
نفّذ الصندوق بين سنتي 1981 و1993 في سبعين بلدا ناميا 566 برنامج تكييف هيكليّ. وكانت النتائج الوحيدة الثابتة تتلخّص في ثلاث: أوّلها الإضرار بالعمال والموظّفين وثانيها الأرباح الأسطوريّة للمستثمرين الأجانب وثالثها التبعيّة المطلقة لأسواق المال العالميّة. (ص50).
والسؤال البديهيّ: لمَ ترضخ الحكومات لشروط الصندوق وهي تعرف نتائجها بصفة قبليّة؟
يشير إرنست فولف إلى أنّ البلدان التي لا تقبل بشروط الصندوق تجد نفسها معزولة فاقدة لثقة المصارف التجاريّة والمقرضين الدوليّين.
ولم يكن الهدف المعلن من إنشاء الصندوق، وهو مساعدة الدول النامية في إفريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبيّة على تحقيق درجة من الرخاء والتنمية، إلاّ كذبة أخفت النوايا الحقيقيّة. فقد تبيّن أنه يرمي من وراء الادعاء بإقامة "نظام نقديّ عالمي خال من العيوب" إلى جعل الولايات المتحدة الأمريكيّة تهيمن على النظام العالميّ. وليس أدلّ على ذلك في بادئ الأمر من جعل الدولار الأمريكيّ عملة ثابتة تقاس بها أسعار صرف جميع العملات ممّا يمكنها من توجيه النظام النقدي الجديد ويبسط سلطانها على العالم برمّته وييسّر للمستثمرين الأمريكيّين الانتشار في جميع أرجاء المعمورة.
وفي ظلّ اقتصاد عالميّ يهيمن عليه القطاع المالي على حساب قطاع الإنتاج الحقيقيّ تغيّرت بنية النظام الرأسماليّ. لذلك فإنّ التفسير الوحيد لتدخّلات صندوق النقد الدوليّ هو العمل على مساعدة الدول المأزومة على تسديد ما بذمتها من ديون أجنبيّة فيقوم من خلال عمليّات الإقراض المتتابعة مقام الدائنين الأجانب حتّى يضمن لهم استرجاع رأس مالهم. وبالمقابل يدفع دافعو الضرائب والفقراء في البلدان المقترضة ثمن الأزمة علاوة على ثمن الفساد والرشوة وغياب الحوكمة الرشيدة عند تطبيق مختلف الإجراءات خصوصا منها ما يتعلّق بالخصخصة.
مقاومة وعنف وخيانات
ولم تمرّ سياسات الصندوق دون ردود فعل المواطنين في بلدان عديدة. لكنّهم وُوجهوا أحيانا بالانقلابات العسكريّة والمذابح التي طالت الآلاف (مثال المكسيك) وتعرّض المحتجّون من الطلبة والنقابيّين بالخصوص إلى القتل والاعتقال (في جمهوريّة الدومينيكان وفنزويلا والنيجر ومصر وغيرها كثير).
بيد أنّ لرأس المال طرقه في تدجين الاحتجاجات. فالنخبة الماليّة العالميّة من أصحاب المصارف وصناديق الاحتياط وشركات التأمين والشركات العملاقة  تستثمر في وسائل الإعلام العالميّة لإخفاء الحقائق والتمويه على الناس. وتموّل بعض الجامعات مثل هارفارد وستانفورد لتخريج الكوادر الطيّعة وتموّل كذلك مؤسّسات"صناعة الرأي" والحملات الانتخابيّة للسياسيّين الذين يحمون مصالحها. وفي الآن نفسه تشتري ذمم النقابيّين كي يحدّوا من الاحتجاجات الاجتماعيّة. ففي أيرلندا مثلا أخمدت النقابات غضب العمال الذين تدهورت مقدرتهم الشرائيّة بعد سنوات رخاء بعيدا عن إجراءات صندوق النقد الدوليّ. إذ صادقت النقابات الإيرلنديّة، باتفاق مع الحكومة وأرباب العمل، على إجراءات خفض رواتب الموظّفين وزيادة الضرائب على الأجور وتجميد معاشات التقاعد... إلخ. وبالمقابل حظي بعض النقابيّين بامتيازات سخيّة ومشاريع شخصيّة تقديرا "لتعاونهم".
ولكنّ مثال جنوب إفريقيا أشدّ دلالة. فقد قادت نقابات السود احتجاجات المواطنين على تدهور مستوى معيشتهم بعد أن عقد زعماء المؤتمر الوطني بمن فيهم مانديلا حسب المؤلّف صفقات مشبوهة مع الصندوق خانوا بها ما وعدوا به قواعدهم. ولكن التكتيك النقابيّ قام على إفراغ الإضرابات المتفرّقة من ا تأثيرها وهو ما يسّر للحكومات تطبيق الإجراءات الليبيراليّة الجديدة. وكانت المكافأة مجزية: فسايريل رامافوزا أحد رفاق مانديلا والعضو المؤسّس لنقابة عمّال المناجم والاتحاد العام للنقابات هو اليوم من كبار رجال الصناعة ومن أغنى أغنياء جنوب إفريقيا. (وبالمناسبة يقدّم إرنست فولف في الفصل الثامن من كتابه صورة عن منديلا المتواطئ الثريّ مخالفة تماما للصورة السائدة!).
عالم بدون صندوق نقد دوليّ!
لقد استطاع إرنست فولف، أستاذ الفلسفىة في جامعة بريتوريا بجنوب إفريقيا الذي أنجز أطروحة الدكتورا بجامعة الصوربون الفرنسيّة (باريس الرابعة) "من الأخلاق إلى العدالة: اللغة والسياسة في فلسفة لافيناس"، أن يقدّم في هذا الكتاب مسائل اقتصاديّة وماليّة معقّدة برؤية المفكّر الأخلاقي الذي لا يتورّع عن إدانة المظالم وبحسّ إنسانيّ عميق يؤمن بانّ العدل أساس العمران العالميّ. ولكنّه، إذ يعبّر صراحة عن مناهضته "لرأسماليّة كازينو القمار العالميّة" على حدّ استعارته البديعة (ص 158)، فإنّه يحرص على تقديم الحقائق موثّقة مدقّقة عبر فصول الكتاب التي بلغت 22 فصلا. والأهمّ من تلك الحقائق والوقائع حرصه على سردها ضمن نسق واضح متماسك، رغم اختلاف سياقاتها وتنوّعها، ليكشف آليّات النهب المنظّم الذي يمارسه صندوق النقد الدولي على بلدان العالم.
لذلك فإنّ الكتاب، رغم طابعه الاقتصاديّ وبفضل جودة العربيّة التي ترجمه بها عدنان عباس علي، يقرأ على أنّه رواية مشوّقةٌ، بأسرارها التي يكشفها المؤلّف بتأنّ، مذهلةٌ باحداثها المتنوّعة التي تدور في مختلف أرجاء المعمورة. غير أنّ القارئ يخرج من هذا الرواية بمرارة في الحلق بسبب خواتم فصولها. فالعبرة التي تجلوها إنّما هي جشع راس المال المالي على حساب قوت الناس اليوميّ وتعليمهم وصحتهم ومعاشات تقاعدهم. لذلك كانت الرواية موجعة حقّا مؤلمة إيلاما قاسيا تشرّح بنصل حاد جسد اقتصاد عالميّ يسير بخطط عقلانيّة جدّا وعلميّة جدّا نحو مشهد سورياليّ أو عبثيّ لا يحفل بأدنى القيم الإنسانيّة رغم نبرة التفاؤل التي أبداها المؤلّف، في الفصل قبل الأخير من كتابه: تفاؤل بيقظة الشعوب وقيام عالم جديد دون صندوق نقد دوليّ.


dimanche 9 octobre 2016

في أولمبياد الفكر والثقافة


(نشر المقال في العربي الجديد)
انطفأت الشعلة الأولمبيّة في ملعب "ماراكانا" الشهير في حفل "تطهير الروح" معلنة عن انتهاء دورة ريو دي جانيرو مؤذنة بأولمبياد طوكيو 2020. كان حفل الاختتام، شأنه شأن حفل الافتتاح، مدهشا بديعا خلاصته متعة للعين وغبطة للأذن وبهجة للقلب ونشوة للروح. بيد أنّني، بعد ما يفوق الثلاث ساعات من الحبور الاستثنائيّ، خرجت بشيء من المرارة في الحلق مردّها إلى الحصيلة الهزيلة للعرب العاربة الأقحاح والمستعربة المجنّسة مجتمعين.
ورغم مزاعم حياد الألعاب عن السياسة ومفاسدها وتعلّقها بالكونيّ الإنسانيّ المشترك فقد أكّدت موضوعيّا أنّها صورة من التوازنات الحضاريّة على كوكبنا اليوم وصورة من اختلال إنتاج المعارف والتقنيات وتوزيعها بين بني البشر ومرآة تعكس الفجوات المتزايدة بين من يملكون مفاتيح الاقتصاد ويسيطرون على سياسة القرية الكونيّة والتابعين لهم بإحسان أو بغير إحسان. أفي هذا ما به نعزّي أنفسنا أم نضاعف حسرتنا على حالنا؟
وبنزعة من ابتُلي بالثقافة والأدب تداعت في الذهن أولمبيادات أخرى للعلوم في الرياضيات والفيزياء والكيمياء وعلوم الأرض والفلك وغيرها ممّا لا تحتفي به وسائل الإعلام ولا يهمّ كثيرا عامّة الناس وعشّاق الرياضة. ولست أظنّ أن حالنا في هذا الباب مختلف عمّا خرجنا به من ريو دي جانيرو. فبأيّ شيء تفتخر ثقافتنا العربيّة الإسلاميّة؟ وفيم يمكننا أن نتميّز على الصعيد العالميّ؟
علينا أن نعترف بأنّ شعوبنا مهووسة بهويّتها الجريحة إذ تَرْكن إلى الثابت منها كلّما اشتدّ بها الأذى وشعرت بالقهر والإذلال. فهل سنجد في هذه الهويّة تحديدا بعض ما به نفاخر الأمم فنحوز في أولمبياد الثقافة والأدب بعض الميداليّات الذهبيّة؟ ألسنا أمّة ورثت لغة من أعرق اللغات التي سادت العالم لفترة طويلة وهي اليوم رغم كلّ شيء لغة عالميّة؟ ألسنا ورثة دين عالميّ أعلن للعالمين نهاية الميتافيزيقا بقطع العلاقة بين السماء والأرض ففتح للبشر إمكانيّة كتابة تاريخهم بأنفسهم؟
بيد أنّني لست متأكّدا من قدرتنا، حتّى في هذين المجالين، على الحصول على الميداليّات. فما الذي أنتجنا في العلم اللّغويّ عدا ما ورثناه عن النحاة القدامى فطفقنا نردّده حفظا أبله وتكرارا بليدا كالببغاوات دون فهم روح العلم فيه، باستثناء محاولات جديّة قليلة أغلبها لم يخرج من رفوف الجامعات؟ علينا أن نعترف بعجزنا عن تقليم هذه الدوحة الوارفة الباذخة التي نسمّيها اللّغة العربيّة وسقيها بما ابتكرته البشريّة من دقيق المناهج وجليل المفاهيم ومخصب النظريّات بل صارت لغتنا في أجزاء كثيرة من "بلاد العرب أوطاني" مهدّدة فعليّا في وجودها، غريبة بين من يعتبرون أبناءها.
أمّا الأدب الذي نكتبه بهذه اللّغة العظيمة فمنافسته في مضمار الإبداع الكونيّ، بروافده المتعدّدة، محدودة جدّا رغم نرجسيّات بعض كتّابنا المتضخّمة وبضع ترجمات كثيرها كاسد في سوق الكتاب العالميّة وقليلها يجد شيئا من الرواج. ورغم ذلك نتّهم بمناسبة الإعلان عن جائزة نوبل للآداب لجان التحكيم وألاعيب السياسة العالميّة حتّى لكأنّ في إبداعنا الأدبيّ من أمثال  نجيب محفوظ العشرات. 
وإذا كان الإسلام بأساسه الروحيّ المكين ونزعته الكونيّة الإنسانيّة في أصل مشروعه الحضاريّ حمّالَ أوجهٍ فإنّنا لم نسْتَبق منه إلاّ وجها مفزعا مروّعا للعالمين. فأهله الذين يتصدّرون المشهد صاروا مختصّين في مسْرحة العنف والقتل يبتكرون منه أنواعا تنضح وحشيّة أو يستعيدون من تاريخ المسلمين أنماطا من البربريّة التي تنفّر البشريّة الحديثة. لقد أفرغ سدنةُ الشريعة، عبر التاريخ، الإسلامَ من قوّته الروحيّة الهائلة وطاقته المعنويّة الخلاّقة ليختزلوه في أحكام وأوامر ونواهٍ لا تبهج نفسا ولا تطهّر روحا. فأيّة قيم سنقدّم للعالم وأيّ صورة للروح سنبشّر بها؟
لسنا ننمّي بهذا الذي نقول اليأس والقنوط ولكنّنا ندعو إلى الوقوف للحظات فقط أمام المرآة وما تجلوه لنا بمناسبة مشاركاتنا المختلفة في المحافل الكونيّة الكبرى. ففي هذه المحافل يخرج من خفّت موازينه من الميداليّات الحقيقيّة والمجازيّة منكسَ الرأس يتلظّى بنار المذلّة والمهانة والصغار.
هذا بعض ما علق في الحلق من علقم الخيبات التي تلاحقنا أينما ولّينا وجوهنا.


الديمقراطيّة والأزمة الاقتصاديّة


 (صدر بجريدة الشعب يوم 15 سبتمبر)

يصادف صدور هذا العدد اليوم (15 سبتمبر) اليوم الدوليّ للديمقراطية. ورغم قيام هذا الاحتفال العالميّ على تأكيد المواقف الإيجابيّة بدل البكائيّات وإبراز وجوه التقدّم في البناء الديمقراطي بدل الحديث عن الخيبات والتحدّيات فإنّ ما يدعونا إلى حديث مبنيّ على الخوف على الديمقراطيّة مأتاه اعتماد دول العالم في السنة المنقضية لخطة التنمية المستدامة لعام 2030. وقوام هذه الخطّة التي وضعت تحت شعار "مستقبل أفضل للجميع" هو القضاء على الفقر بجميع أشكاله، ومكافحة  مظاهر عدم المساواة والظلم، وحماية المناخ على كوكبنا.
وبتنزيل الاحتفال في سياقنا التونسي فإنّني أجد ضربا من الشعور بالقدريّة يتهدّد في تقديري التأسيس الديمقراطي ببلادنا. ويتملّكنا هذا الشعور كلّما حاول الواحد منّا أن يقيّم الحاصل من المسار الانتقالي بعد خمس سنوات من الحراك الهائل الذي شهدته البلاد. فالتناسب طرديّ بين سيطرة الشعور بأنّ الآليّات والعقليّات والتصوّرات القديمة تعود إلى مواقعها والابتعاد التدريجيّ عن الشعارات التي رفعها الناس خلال الثورة وبعدها. ولعلّ هذا أكثر ما يتهدّد فعليا المشروع الديمقراطيّ في تونس.
ففي كل يوم نسمع تحذيرات من إمكانيّة عدم صرف أجور الأشهر المقبلة وفراغ الخزينة كما لو أنّ من أعدّ الميزانيّة أخطأ في تقديراته وعلى الأجراء تحمّل تبعات هذا الخطإ أو كأنّ مهمّة الدولة أن تدفع الأجور وهي عاجزة عن أن تقبض ما هو مستوجب لها من دافعي الضرائب. فمهما يكن حجم كتلة الأجور فمن الكذب على الناس القول إنّنا نقترض لندفع الأجور فأبسط الناس يعلمون أنّ مصدرها الموارد الذاتيّة للدولة التي يبدو أنها غير قادرة على فرض القانون واستخلاص ما قدرته من أموال الضرائب.
وبين الحين والآخر يخرج علينا هذا المسؤول أو ذاك  بتهديدات جدّيّة بتطبيق سياسات التقشّف التي طبقت في بلدان عديدة ولكنها لم تفرز إلاّ مزيدا من المشاكل والتوتّرات ولم تصلح فاسدا. والأغرب أنّ بعض من هم مؤتمنون على تعديل الاقتصاد وتحقيق توازناته مثل السيّد محافظ البنك المركزي لا يتوانى عن تذكيرنا في كل مناسبة، ببرودة أعصاب كما لو أنّه غير معنيّ بالأمر ولا مسؤوليّة له فيه، بأنّ الدينار سيتدحرج أكثر فأكثر!  
وليست المشكلة في الأرقام المقدّمة، فهى على تضاربها أحيانا تمثّل مؤشّرات سلبيّة، ولا في مدى جدّيّة المخاطر فهي قائمة فعلا وفي تجارب البلدان التي تعاملت مع صندوق النقد الدولي والبنك العالميّ وخضعت لشروطهما ما ينبئنا عن بعض ما ينتظرنا في قادم السنوات.
إنّ المشكلة تكمن في ما يبدو لنا بمثابة سيناريو جاهز شاهدنا فصوله وحلقاته في بلدان أخرى عاشت بعض ما عشناه وهي اليوم رهينة القروض ودفع الفوائد المركّبة مع خفض العملة ورفع معدّلات الفوائد والتخفيض في الأجور وغير هذا ممّا بات معروفا من حلول قاتلة. فالمبتغى الأسمى هو خصخصة المشاريع الحكوميّة وأملاك الدولة.
إنّ الشعور الذي تحدثنا عنه إنّما هو شعور بالكارثة المحدقة التي لا فكاك منها سواء ترجمناها عقلانيّا إلى سياسة ليبيراليّة متوحّشة أو حدسناها حدسا ممّا نعيشه يوميّا. والأخطر انّ السياسيّين والتكنوقراط الذين يسندونهم يرون ما نرى ولكنّهم لا يقومون إلاّ بتأجيل المصيبة في انتظار وقوعها أو تقديمها للناس على جرعات. فأيّة ديمقراطيّة يمكن أن تبنى أو تطوّر في مثل هذا السياق الكارثيّ؟ وهل تعني الحريّة لدى القوى الماليّة العالميّة والمحلّيّة المتنفّذة نفس ما تعنيه لدى النخب والشعوب؟
ولئن قامت النخب القانونيّة في تونس بدور تاريخيّ في مستوى صياغة دستور يضمن الحريّات والحقوق الأساسيّة، وهو مكسب ديمقراطيّ لا ريب فيه، فإنّ دورها في ما يبدو قد انتهى. ولكن يبدو أنّ النخب الاقتصاديّة القادرة على تجنّب الحلول النمطيّة المفروضة المؤلمة وإيجاد المسالك الممكنة للخروج من هذه الطريق المسدودة إمّا محكومة بنفس المنطق القاصر على الإصغاء إلى أسئلة الواقع الاجتماعيّ والاقتصاديّ المحرجة وإمّا أنّها عاجزة فعلا عن صياغة التصوّرات وتقديم البدائل. فقد سمعنا كثيرا عن ضرورة تغيير منوال التنمية ولكنّ لا أحد، في ما نعلم، فسّر لنا بالباء والتاء هذا المنوال البديل.
إنّ الأخطار التي تتهدّد ديمقراطيّتنا ليست من الصنف العرضيّ الذي يمكن التوقّي منه بشيء من الإرادة والعزم والتخطيط ولكنّه من صنف يمسّ أسس وجود الديمقراطيّة نفسها. فهل نسيء بهذا التقدير؟ نرجو ذلك.


mercredi 24 août 2016

القمر والإصبع على الطريقة الصينيّة


في محاورة من نقد رسالة رؤساء الجامعات إلى رئيس الحكومة المكلّف
جريدة المغرب، بتاريخ 16 - 08 - 2016

كان رؤساء الجامعات التونسيّة قد وجّهوا رسالة مفتوحة إلى السيّد رئيس الحكومة المكلّف تضمّنت دعوة إلى "الإصغاء إلى مقترحاتهم في شأن من سيتولّى حقيبة التعليم العالي والبحث العلميّ" معلّلين دعوتهم بما عاشه قطاع التعليم العالي والبحث العلمي "خلال السنوات الماضية من تراجع وتفاقم للمشاكل وعجز عن تطوير منظومتي التكوين والبحث" وهو ما يتطلّب، بالنسبة إليهم، توفّر شرطين: أولهما "تعيين وزير ملمّ بمشاكل القطاع إلماما دقيقا وله رؤية إصلاحيّة حقيقيّة وجرأة كافية لاتخاذ القرارات المناسبة" وثانيهما "تخصيص كتابة دولة للبحث العلميّ" مع التحذير "من الفكرة الرائجة لتجميع ما يتّصل بالتربية والتعليم والبحث العلميّ في هيكل واحد".
ومهما يكن الاختلاف مع ما قدّمه رؤساء الجامعات التونسيّة مشروعا فإنّ ما نبّهوا إليه جاء نتيجة لممارستهم اليوميّة من خلال موقعهم الوظيفي ومعاينتهم لحال المؤسّسات الجامعيّة وطريقة عمل هياكل وزارة التعليم العالي المختلفة.
وفي هذا الصدد طالعنا في صحيفة "المغرب" بتاريخ 14 أوت 2016 بالصفحة الثالثة مقالا نقديّا للزميلين الفاضلين عبد الستّار السحباني ومنير الكشو. ولو اكتفى الزميلان بمناقشة الأساسيّ في رسالة رؤساء الجامعات المفتوحة لاعتبرنا ذلك أمرا مطلوبا في هذه المرحلة السياسيّة. وأنبّه منذ البدء إلى أنّني أناقش الزميلين باسمي الشخصيّ لأنّني لا أحبّ النزعة القطاعيّة التي صارت سائدة في بلادنا. فرؤساء الجامعات ليسوا فوق النقد، بمن فيهم كاتب هذه السطور، ولكن للنقد أصوله وأخلاقيّاته.
بيد أنّ ما استغربناه أن يترك الزميلان الفاضلان القمر الذي أشارت إليه الرسالة ليتطلّعا إلى الإصبع على ما في المثل الصينيّ. والإصبع في حكاية الحال هو أهليّة رؤساء الجامعات في مخاطبة السيّد رئيس الحكومة المكلّف والحال أنّهم مشاركون في "جريمة" تدهور التعليم العالي!
هذا ما حيّر الزميلين الفاضلين فطفقا يبرزان أنّ رؤساء الجامعات "أصحاب قرار وجزء من سلطة الإشراف" ولكنهم في رسالتهم "يتفصّون من المسؤوليّة (...) ليلقوا بها على عاتق الوزير الحالي وإدارته"( وهذا خطأ بيّن لأنّ الرسالة لم تخصّ بالذكر الوزير الحالي بل ذكرت ضمنيّا جميع الوزراء). وينقلبون مدافعين عن الإدارة المركزيّة بما أنّ المسؤوليّة مشتركة!
وللأستاذين الفاضلين أدلة دامغة على ذلك: "فرؤساء الجامعات فشلوا في جعل مجالس جامعاتهم أطرا لتقديم مقترحات حول إصلاح المنظومة (...) ولم يستطيعوا تشكيل قوة وازنة داخل مجلس الجامعات". وانتقل الأستاذان إلى التساؤل عن سبب سكوت رؤساء الجامعات كل هذه المدّة؟ ولم لم يستقيلوا؟
وردّنا بكلّ بساطة أنّ الزميلين قد يكونان في عطلة دراسيّة مطوّلة جدّا ولا علم لهما بما طرأ في السنوات الخمس الأخيرة في المؤسّسات والجامعات والوزارة. فما قام به رؤساء الجامعات لمنع "كوارث" عديدة في مجلس الجامعات نفسه منذ خمس سنوات أكثر من أن يسرد. وعذر زميلينا أنهما لا يعلمان بما يجري في مجلس الجامعات.
 ولكن يبدو أنّهما لم يسمعا بالمناقشات التي دارت طيلة أربع سنوات حول تشخيص مشاكل المنظومة الجامعيّة والمقترحات التي قدّمت داخل لجنة مشتركة بين ممثّلي الجامعات ونقابة الأساتذة (وأحد صاحبي المقال مسؤول نقابيّ معروف!) والإدارة المركزيّة ولم يشاركا في اللقاءات العديدة التي عقدتها الجامعة العامّة للتعليم العالي مثلا. هذا إذا كانا يتابعان ما يجري في مؤسّستيهما وفي جامعتيهما وفي مستوى وطني، خصوصا لجنة الإصلاح التي كان يترأسها رئيس جامعة تونس المنار السابق.
فلا حاجة لرؤساء الجامعات، كما طالب الزميلان في الفقرة الثالثة من المقال، بتقديم تشخيص للمشاكل في رسالة مفتوحة لها غرض محدّد. فقد تعلمنا في تحليل الخطاب ألاّ نخلط بين أجناس القول دون سبب وجيه.
وليس في ما قلنا تفصٍّ من المسؤوليّة بل إثبات حقيقة يعرفها الجميع مفادها أنّ كلّ مقترحات الإصلاح لم تجد مع السيّد الوزير الحالي ومن سبقه إلاّ التردّد والتأجيل والتسويف في جليل الأمور وبسيطها. فممّا يدلّ على أنّ رؤساء الجامعات تحمّلوا مسؤوليّتهم، على قدر الجهد والطاقة، في واقع سياسيّ غير مستقر ( خمس وزراء في خمس سنوات!) أنّهم تقدّموا منذ سنة تقريبا بمشروع قانون للتعليم العالي يعوّض قانون 2008 سيء الذكر إلى السيّد الوزير الحالي بعد أن ناقشت المجالس العلميّة في المؤسّسات ومجالس الجامعات صيغتين أوليين منه وقدّمت إلى جميع النقابات في التعليم العالي (الأساتذة والطلبة والموظّفين والعملة) نسخا منه لإبداء رأيها. ولكن يبدو أنّ الزميلين لا يشاركان في ما يجري من نقاش في مؤسّستيهما.
وبالمناسبة هذا بعض نشاط "مجلس رؤساء الجامعات" (والتسمية الرسميّة في الرائد الرسميّ هي "ندوة رؤساء الجامعات التونسيّة") الذي لم يسمع به الزميلان إلاّ عند تغيير الوزراء تلميحا ربّما لبحث بعض رؤساء الجامعات أو كلّهم ربّما عن منصب سياسيّ!.
 ونحن نعلم علم اليقين أنّ أحد الزميلين، على الأقلّ، قد استبشر بموقف رؤساء الجامعات خلال الأزمة الخانقة التي عاشتها البلاد في صائفة 2013 واليوم لا يذكر إلاّ رسالتين إلى رئيسي حكومة مكلّفين! فلا نطلب من جامعيّيْن وأستاذين جليلين إلاّ شيئا من النزاهة أو على الأقلّ حسن التوثيق.  وعلاوة على ذلك قدّم رؤساء الجامعات مقترحات عمليّة ومشاريع إصلاحيّة أخرى عديدة تشاوروا فيها وتقدّموا بها إلى سلطة الإشراف. ولكنّ غياب الإرادة السياسيّة والجرأة وأحيانا المصالح القطاعيّة الضيّقة والحزبيّة والآراء المسبقة والمحافظة وعدم الإلمام بأدبيّات التعليم العالي في العالم لدى السادة الوزراء هو الذي عطّل التنفيذ.
وليعلم الزميلان الفاضلان أنّ بعض رؤساء الجامعات قاطعوا في فترة مّا مجلس الجامعات احتجاجا على انعدام الرغبة في الإصلاح والعجز السياسيّ. ثمّ ظلّوا مع كلّ وزير جديد يتباحثون في أجندا للعمل فيرحّب ويظهر القبول ولكن سرعان ما يتبيّن أنّه لا يمتلك الأدوات الكفيلة بتطبيق سياسة إصلاحيّة جدّيّة. فالواقع لمن يعلم تفاصيله، أو على الأقلّ لمن يسأل قبل أن يتحدّث حديث العارف وما هو بعارف، أنّ رؤساء الجامعات "لم يسكتوا"  كما يزعم الزميلان الفاضلان ولكنهم لم يستقيلوا لأنّ مقاطعتهم للوزارة لا تمنعهم من مواصلة العمل في جامعاتهم حتّى لا تنهار. فقد  تقدّموا لهذه المسؤوليّة عن وعي وحازوا ثقة زملائهم بالانتخاب ليؤدّوا واجبهم الجامعيّ فلمَ يريد منهم الزميلان أن يستقيلوا؟ هل احتجاجا على وضع انتقاليّ غير مستقرّ أو إعلانا لفشلهم في جامعاتهم أو من باب البطولة الزائفة أو حتّى لا يتّهمهم أمثال الزميلين بالفشل والعجز؟ وقبل ذلك وبعده، لمَ لمْ يطالب الزميلان الفاضلان باستقالة رؤساء الجامعات، أو السيد رئيس الجامعة التي ينتميان إليها أي جامعة تونس، وهما في ما يبدو من كلامهما يعرفان المشاكل التي يتحمّل رؤساء الجامعات المسؤوليّة فيها؟ فعلا لقد كان من الأنسب للزميلين أن يبتعدا عماّ اعتبراه لدى أصحاب الرسالة المفتوحة "أسلوب من يمتلك الحقيقة ويقدّم النصيحة للآخرين". ولكن يبدو أنّ الواحد منّا لا يرى إلاّ عيوب غيره.
إنّ ما ذكرناه لا يعدو أن يكون من باب جعل بعض الأحكام والتقريرات الجازمة التي جاءت في مقال الكشو والسحباني نسبيّة. وكان يجدر بأستاذين للتعليم العالي في الفلسفة وعلم الاجتماع أن يتحرّيا قبل إطلاق العنان للاتّهامات المجانية.
ونمرّ على تفاصيل كثيرة وتلميحات غير لائقة تضمّنها المقال لنعود إلى الجوهريّ في نقد الزميلين لرسالة رؤساء الجامعات. فحين نتثبّت نجد الأمر محصورا في نقطتين أبدأ بأبسطهما.
فالزميلان يعتقدان، عكس ما ورد في الرسالة المفتوحة، أن فكرة قطب للتعليم يضمّ التربية والتعليم العالي والتكوين المهنيّ (لا أدري هل يضمّ البحث العلمّي أم هو سهو منهما) جديرة بالنظر والنقاش. ولا خلاف في هذا. فالحوار حول مثل هذه المسائل مشروع وضروريّ. وكم كنت أودّ أن يبرهنا على رأيهما بدل الاحتجاج باعتماد فرنسا على مثل هذا الاختيار. ففرنسا لم تعد أنموذجا للاحتذاء والتجارب الناجحة في العالم كثيرة. وإضافة إلى ذلك فإنّ الربط التنظيميّ بين مستويات التعليم في فرنسا قديم من خلال مفهوم آخر هو "الركتورا" لا الجامعة. أمّا ما جاء في الرسالة المفتوحة فمبنيّ على أنّ واقع الدمج بين التعليم العالي والبحث العلميّ في تونس أضعف البحث العلميّ فما بالك إذا أضفنا إليه مشاكل التربية التي تبدو في حدّ ذاتها مستعصية. فنحن نحتاج حينئذ إلى وزير سوبرمان  ليؤدّي المهمّة المستحيلة في تقديري.
ولكن ما لم نفهمه حقيقة هو نقد الزميلين لملامح الوزير المطلوبة. فقد طالب رؤساء الجامعات بوزير له ثلاث صفات: يعرف القطاع، وله مشروع إصلاحيّ، وجريء. وهي صفات مترابطة متدرّجة تجمع بين التشخيص وتصوّر الحلول والتنفيذ. ولكنّ الزميلين الفاضلين يخبطان في هذه المسألة خبط عشواء. فقد فهما من هذا أنّ المطلوب تعيين "خبير" أو "تقنيّ". فهل كلّ من يعرف القطاع هو خبير وتقنيّ؟ وهل كل تقني وخبير يمتلك تصوّرا إصلاحيّا؟ وهل كل من يمتلك تصوّرا إصلاحيّا جريء؟ أسئلة ساذجة نقدّمها لزميلينا عسى أن نفهم وجه اختلافهما مع ملامح الوزير الذي يطالب به رؤساء الجامعات.
إنّ المطلوب عندهما هو "شخصيّة سياسيّة تحظى بسند حزبيّ" فالإصلاح المنشود "لا يحتاج إلى قرارات تقنيّة وإنّما سياسيّة بالأساس" (كذا!). ويضيفان أنّ شرط انتماء الوزير إلى سلك الجامعيّين غير مطلوب لأنّ "الإصلاحات العاجلة واضحة ومعروفة"! ولكن أنّى لنا ذكاء الأمير لنفهم ما قال الزميلان؟
إذن ما "حيّر" الزميلين في رسالة رؤساء الجامعات وأثار "استغرابهما"، على حدّ تعبيرهما، أنّهم لم يطالبوا بوزير سياسيّ أو مسنود من "حزب أو تحالف أحزاب" للتعليم العالي! وهنا ليس لنا إلاّ أن نكبّر ونهلّل لهذا المقترح العبقريّ. ومادام الأمر يحتاج إلى تحالف حزبي فهل يقصدان أن يكون من النهضة أم من النداء؟
نشير أوّلا إلى أنّ التعليم العالي لم يعرف منذ ربع قرن وزيرا من غير الجامعيّين سواء قبل الثورة أو بعدها. بل إنّ بعض الوظائف في هيكل الوزارة لا تسند إلاّ إلى جامعيّين من أساتذة التعليم العالي لأسباب تكاد تكون بديهيّة لمن يعرف العلاقة بين السلطة الإداريّة والسلطة الأكاديميّة. ونستغرب أن يطالب أستاذان للتعليم العالي بأن يكون وزيرهما أدنى منهما رتبة أكاديميّة! فبأيّ منطق يفكّران وأيّ مصلحة يدافعان عنها؟ وهل فكّرا في وضعيّة هذا الوزير المسكين ضمن حشد من أساتذة التعليم العالي في مجلس الجامعات إلاّ إذا كانا يفكّران في سياسيّ وحيد دهره لم تنجب البلاد مثيلا له؟ إنّها نباهة سياسيّة أعترف بعجزي شخصيّا عن إدراك أبعادها وأسرارها.
وإذا تركنا جانبا الجدال العقيم حول التكنوقراط الحقيقيّين والمزيّفين، وقد جرّبناهم في التعليم العالي ولم يفعلوا شيئا، والسياسيّين، ولم يكن مرورهم بالتعليم العالي بأفضل من التكنوقراط بنوعيهم، فإنّني أسأل الزميلين سؤالا ساذجا: هل اطّلعا على برامج الأحزاب السياسيّة في مجال التربية والتعليم العالي والبحث العلميّ بمناسبة الانتخابات الأولى والثانية؟ وهل وجدا فيها ما يزعمانه من وضوح التشخيص ووضوح الحلول؟ وهل سينفّذ السيّد الوزير المقبل برامج حزبه أم انّه سيعيد التباحث والتشاور مع مختلف الأطراف لوضع مشروع إصلاحيّ وإقناع الناس به كما ذكر الزميلان؟ ألم يسمعا ولو عن طريق الصحف بما تمخّض عن الحوار حول إصلاح منظومة التعليم العالي الذي جرى منذ أربع سنوات وقدّمت نتائجه في كتيّب مبذول لكلّ الجامعيّين؟ فهل ننتظر من السيّد الوزير الجديد أن يبدأ من أرض محروقة؟ إذا كان الزميلان يعتقدان حقا في ذلك فإنّ الاستقالة بالنسبة إليّ تصبح فعلا أمرا عاجلا ونسأل الله عندها حسن المآل.
أرجو أن تحمل ملاحظاتي السابقة على محمل التفاعل المواطني مع بعض ما نشره الزميلان من رأي ولست أتكلّم في هذا المقال إلاّ برأيي الشخصيّ . فلئن لم أكن منتميا سياسيّا لأيّ حزب فإنّ سياسة المدينة تعنيني بقدر ما تعنيني السياسة الجامعيّة. وقد علّمتني تجربتي المتواضعة في التسيير الجامعيّ الحذر من النقد الذي لا يرتكز على معطيات موضوعيّة للدفاع عن مواقف لا تقال على نحو مباشر. وفي مقال الزميلين الفاضلين من هذا وذاك الكثير مع احترامي لرأيهما.
ولا يفوتني أن أعبّر عن استغرابي ممّا وقع فيه الزميلان من شعبويّة مرّتين في المقال بالحديث عن ترتيب الجامعات التونسيّة. لقد كتبنا في المسألة من قبل وأحد صاحبي المقال يعرف ذلك جيّدا ووضّحنا أنّ منطق السوق العالميّة للتعليم العالي لا ينفصل عن منطق السوق في جميع مناحيه فلا معنى لاستخدام هذه الحجة ضدّ أيّ كان. وعلاوة على ذلك أذكّر المغرمين بأولمبياد الترتيب العالمي للجامعات بأنّ عليهم أن يتثبّتوا من ميزانية أصحاب المراتب الأولى ونسبتها بالمقارنة مع ميزانيّة الدولة التونسيّة كلّها وأدعوهم بالمناسبة إلى أن يطّلعوا على ميزانيّات جميع الجامعات التونسيّة فهي منشورة بالرائد الرسميّ. فقليل من التواضع والجدّيّة لا يزعج البتّة أحدا.