jeudi 13 octobre 2016

رواية مذهلة موجعة عن "رأسماليّة كازينو القمار العالميّة"


(نشرت في موقع الضفة الثالثة بالعربي الجديد 
يوم 13 أكتوبر 2016)



بات المسار العام لرواية النهب العالمي بعد استقلال الدول ونهاية الحرب الكونيّة الثانية معروفا لفرط تكراره: في بداية الرواية يتعرّض بلد من البلدان إلى مشاكل ماليّة فيهبّ صندوق النقد الدولي لمساعدته في صيغة قروض. ولكن هذا التمويل مقيّد بسلسلة من الإجراءات يقصد منها ضمان القدرة على تسديد تلك القروض. فيقدّم مسؤولو الحكومة المستلفة خطاب نوايا يلتزمون فيه طوعيّا بتطبيق تلك الإجراءات. ولكنّ القرض يقدّم على مراحل تناسب وفاء هذه الحكومة او تلك بما التزمت به. ولا يحتاج المسؤولون إلى موافقة البرلمان لأنّ هذه الاتفاقيّات ليست في عرف الصندوق ذات طابع دوليّ. وهي سرّيّة.
وتتابع الأحداث الأساسيّة للرواية ، بعد ذلك، ولا تتغيّر إلاّ بعض التفاصيل بحسب هذا البلد أو ذاك سواء لتفكيك الاتحاد السوفياتي وبلدان الكتلة الشرقيّة ويوغسلافياأو لإنهاء نظام الفصل العنصريّ في جنوب إفريقيا أو لمعالجة ديون أمريكا اللاّتينيّة أو أزمات أيسلاندا أو إيرلندا أو اليونان وغير هذا كثير.
وما يودّ أرنست فولف في كتابه الصادر بالألمانيّة سنة 2014 بعنوان ترجمته الحرفيّة هي "القوة العظمى: صندوق النقد الدولي ويوميات نهب العالم" (ترجمه إلى العربيّة عدنان عباس علي بعنوان "صندوق النقد الدولي: قوّة عظمى في الساحة العالميّة"، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، العدد 435، أبريل 2016) هو الإجابة عن أسئلة بسيطة في ظاهرها أبرزها: لمصلحة من يعمل هذا الصندوق؟ ومن يستفيد من إجراءاته؟
الأزمات ووصفة العلاج
تشترك الروايات المختلفة عموما في ظهور بوادر أزمة: من ذلك مثلا تراجع الطلب على السلع وانخفاض أسعار الموادّ الأوليّة وارتفاع أسعار الفائدة ارتفاعا يؤدّي إلى العجز عن تسديد أقساط الديون للمصارف الدوليّة العملاقة فيستدعي الوضع الاقتراض من صندوق النقد الدولي باعتباره الملاذ الأخير للسيولة النقديّة.
وليس للصندوق إلاّ مبادئ أربعة تقوم عليها الحلول هي: ليبيراليّة وتحرير واستقرار وخصخصة. ومنها تُشتقّ الإجراءات التي عادة ما تنحصر في انتهاج سياسة تقشّف مالي وخفض قيمة العملة الوطنيّة ورفع معدّلات الفوائد وإلغاء القوانين الحمائيّة على الواردات من السلع وتداول العملات الأجنبيّة والتركيز على الإنتاج القابل للتصدير وفتح المجال للاستثمارات الأجنبيّة وخصخصة المشاريع الحكوميّة وأملاك الدولة.
إنّ هذه الوصفة هي جوهر ما يسمّيه الصندوق وخبراؤه ببرامج التكييف الهيكليّ التي صاغها منذ سنة 1979 وما تزال سارية المفعول.
الفخ والمتاهة
وإلى حدّ هذه المرحلة تبدو الأمور طبيعيّة في اقتصاد يقوم على الانفتاح والترابط العولميّ. فالإقراض آليّة من آليّات الاقتصاد الرأسماليّ. ولكنّ النتائج التي تستتبعها هذه الإجراءات تشمل الجانبين الاجتماعي والاقتصاديّ. فعمليّا تُجمّد أجور موظّفي الدولة أو تُخفّض ويُسرّح عديد العمّال ويُقلّص الإنفاق العام على الخدمات الاجتماعيّة من تعليم وصحّة وتقاعد ويُلغى الدعم على الموادّ الغذائيّة الأساسيّة والوقود وتتدهور القيمة الشرائيّة لعموم المواطنين ويُقضى على المشاريع الزراعيّة والصناعيّة الصغرى وتُغلق المصانع التي تعلن إفلاسها ممّا يضاعف البطالة. وهذا غيض من فيض من المآسي الاجتماعيّة. فالتناسب بين المضيّ قدما في تطبيق "الوصفة العلاجيّة" والكوارث التي تؤدّي إليها بيّن لا يحتاج إلى دليل.
غير أنّ لهذه الفصول المتتابعة من الرواية في مختلف البلدان التي عانت وما تزال من هذه اللبيراليّة الجديدة وجها سعيدا لا بدّ من ذكره. فالإجراءات المختلفة تتيح لرأس المال العالمي المتمركز لدى أقلّيّة من الشركات والمصارف العملاقة فرصا ما تنفك تتوسّع للاستثمار وزيادة الأرباح. بل كلّما تعمّقت الأزمات وتبعاتها تكاثرت فرص جني أرباح خياليّة.
ورغم تسويق خبراء صندوق النقد الدوليّ ومنظريه خصوصا منهم من يسمّون "صبيان شيكاغو" (نسبة إلى خريجي جامعة شيكاغو ومنظرها الاقتصادي ملتن فريدمان) ورغم الزعم بأنّ القصد منها هو تنشيط الاقتصاد المأزوم وضمان قدرة البلدان على خدمة ما بذمّتها من الديون فإنّ الواقع يثبت أنّ ما يحصل هو العكس تماما. إنّه فخّ يجعل البلد المقترض يتحمّل الفوائد والفوائد المركّبة وأقساط تسديد الدين ممّا ينعكس على موازنة الحكومة والاقتصاد ويزيد الأزمة تردّيا. وسرعان ما يصبح الاقتراض من الصندوق لغاية تسديد الديون السابقة وفوائدها المتراكمة! وعندها يطالب الصندوق بالتقشّف الذي لا يتحمّل تبعاته إلاّ جمهور العمّال والموظّفين والفقراء.  
وسرعان ما ينقلب الفخّ الذي ينصبه الصندوق إلى متاهة لا مخرج منها.
أهداف معلنة وسياسات كارثيّة
نفّذ الصندوق بين سنتي 1981 و1993 في سبعين بلدا ناميا 566 برنامج تكييف هيكليّ. وكانت النتائج الوحيدة الثابتة تتلخّص في ثلاث: أوّلها الإضرار بالعمال والموظّفين وثانيها الأرباح الأسطوريّة للمستثمرين الأجانب وثالثها التبعيّة المطلقة لأسواق المال العالميّة. (ص50).
والسؤال البديهيّ: لمَ ترضخ الحكومات لشروط الصندوق وهي تعرف نتائجها بصفة قبليّة؟
يشير إرنست فولف إلى أنّ البلدان التي لا تقبل بشروط الصندوق تجد نفسها معزولة فاقدة لثقة المصارف التجاريّة والمقرضين الدوليّين.
ولم يكن الهدف المعلن من إنشاء الصندوق، وهو مساعدة الدول النامية في إفريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبيّة على تحقيق درجة من الرخاء والتنمية، إلاّ كذبة أخفت النوايا الحقيقيّة. فقد تبيّن أنه يرمي من وراء الادعاء بإقامة "نظام نقديّ عالمي خال من العيوب" إلى جعل الولايات المتحدة الأمريكيّة تهيمن على النظام العالميّ. وليس أدلّ على ذلك في بادئ الأمر من جعل الدولار الأمريكيّ عملة ثابتة تقاس بها أسعار صرف جميع العملات ممّا يمكنها من توجيه النظام النقدي الجديد ويبسط سلطانها على العالم برمّته وييسّر للمستثمرين الأمريكيّين الانتشار في جميع أرجاء المعمورة.
وفي ظلّ اقتصاد عالميّ يهيمن عليه القطاع المالي على حساب قطاع الإنتاج الحقيقيّ تغيّرت بنية النظام الرأسماليّ. لذلك فإنّ التفسير الوحيد لتدخّلات صندوق النقد الدوليّ هو العمل على مساعدة الدول المأزومة على تسديد ما بذمتها من ديون أجنبيّة فيقوم من خلال عمليّات الإقراض المتتابعة مقام الدائنين الأجانب حتّى يضمن لهم استرجاع رأس مالهم. وبالمقابل يدفع دافعو الضرائب والفقراء في البلدان المقترضة ثمن الأزمة علاوة على ثمن الفساد والرشوة وغياب الحوكمة الرشيدة عند تطبيق مختلف الإجراءات خصوصا منها ما يتعلّق بالخصخصة.
مقاومة وعنف وخيانات
ولم تمرّ سياسات الصندوق دون ردود فعل المواطنين في بلدان عديدة. لكنّهم وُوجهوا أحيانا بالانقلابات العسكريّة والمذابح التي طالت الآلاف (مثال المكسيك) وتعرّض المحتجّون من الطلبة والنقابيّين بالخصوص إلى القتل والاعتقال (في جمهوريّة الدومينيكان وفنزويلا والنيجر ومصر وغيرها كثير).
بيد أنّ لرأس المال طرقه في تدجين الاحتجاجات. فالنخبة الماليّة العالميّة من أصحاب المصارف وصناديق الاحتياط وشركات التأمين والشركات العملاقة  تستثمر في وسائل الإعلام العالميّة لإخفاء الحقائق والتمويه على الناس. وتموّل بعض الجامعات مثل هارفارد وستانفورد لتخريج الكوادر الطيّعة وتموّل كذلك مؤسّسات"صناعة الرأي" والحملات الانتخابيّة للسياسيّين الذين يحمون مصالحها. وفي الآن نفسه تشتري ذمم النقابيّين كي يحدّوا من الاحتجاجات الاجتماعيّة. ففي أيرلندا مثلا أخمدت النقابات غضب العمال الذين تدهورت مقدرتهم الشرائيّة بعد سنوات رخاء بعيدا عن إجراءات صندوق النقد الدوليّ. إذ صادقت النقابات الإيرلنديّة، باتفاق مع الحكومة وأرباب العمل، على إجراءات خفض رواتب الموظّفين وزيادة الضرائب على الأجور وتجميد معاشات التقاعد... إلخ. وبالمقابل حظي بعض النقابيّين بامتيازات سخيّة ومشاريع شخصيّة تقديرا "لتعاونهم".
ولكنّ مثال جنوب إفريقيا أشدّ دلالة. فقد قادت نقابات السود احتجاجات المواطنين على تدهور مستوى معيشتهم بعد أن عقد زعماء المؤتمر الوطني بمن فيهم مانديلا حسب المؤلّف صفقات مشبوهة مع الصندوق خانوا بها ما وعدوا به قواعدهم. ولكن التكتيك النقابيّ قام على إفراغ الإضرابات المتفرّقة من ا تأثيرها وهو ما يسّر للحكومات تطبيق الإجراءات الليبيراليّة الجديدة. وكانت المكافأة مجزية: فسايريل رامافوزا أحد رفاق مانديلا والعضو المؤسّس لنقابة عمّال المناجم والاتحاد العام للنقابات هو اليوم من كبار رجال الصناعة ومن أغنى أغنياء جنوب إفريقيا. (وبالمناسبة يقدّم إرنست فولف في الفصل الثامن من كتابه صورة عن منديلا المتواطئ الثريّ مخالفة تماما للصورة السائدة!).
عالم بدون صندوق نقد دوليّ!
لقد استطاع إرنست فولف، أستاذ الفلسفىة في جامعة بريتوريا بجنوب إفريقيا الذي أنجز أطروحة الدكتورا بجامعة الصوربون الفرنسيّة (باريس الرابعة) "من الأخلاق إلى العدالة: اللغة والسياسة في فلسفة لافيناس"، أن يقدّم في هذا الكتاب مسائل اقتصاديّة وماليّة معقّدة برؤية المفكّر الأخلاقي الذي لا يتورّع عن إدانة المظالم وبحسّ إنسانيّ عميق يؤمن بانّ العدل أساس العمران العالميّ. ولكنّه، إذ يعبّر صراحة عن مناهضته "لرأسماليّة كازينو القمار العالميّة" على حدّ استعارته البديعة (ص 158)، فإنّه يحرص على تقديم الحقائق موثّقة مدقّقة عبر فصول الكتاب التي بلغت 22 فصلا. والأهمّ من تلك الحقائق والوقائع حرصه على سردها ضمن نسق واضح متماسك، رغم اختلاف سياقاتها وتنوّعها، ليكشف آليّات النهب المنظّم الذي يمارسه صندوق النقد الدولي على بلدان العالم.
لذلك فإنّ الكتاب، رغم طابعه الاقتصاديّ وبفضل جودة العربيّة التي ترجمه بها عدنان عباس علي، يقرأ على أنّه رواية مشوّقةٌ، بأسرارها التي يكشفها المؤلّف بتأنّ، مذهلةٌ باحداثها المتنوّعة التي تدور في مختلف أرجاء المعمورة. غير أنّ القارئ يخرج من هذا الرواية بمرارة في الحلق بسبب خواتم فصولها. فالعبرة التي تجلوها إنّما هي جشع راس المال المالي على حساب قوت الناس اليوميّ وتعليمهم وصحتهم ومعاشات تقاعدهم. لذلك كانت الرواية موجعة حقّا مؤلمة إيلاما قاسيا تشرّح بنصل حاد جسد اقتصاد عالميّ يسير بخطط عقلانيّة جدّا وعلميّة جدّا نحو مشهد سورياليّ أو عبثيّ لا يحفل بأدنى القيم الإنسانيّة رغم نبرة التفاؤل التي أبداها المؤلّف، في الفصل قبل الأخير من كتابه: تفاؤل بيقظة الشعوب وقيام عالم جديد دون صندوق نقد دوليّ.


Aucun commentaire: