mardi 25 octobre 2016

أمّة عاجزة عن كتابة تاريخ أدبها


(نشر بموقع ضفّة ثالثة في 22 أكتوبر 2016)

للآداب متاحفها. ومتاحفها كتب تاريخ الأدب. بيد أنّ لهذا الصنف من الكلام على الكلام، بما ينتقيه ويرتّبه وينظّمه ويبنيه من تصوّرات عن مقامات الأعمال الإبداعيّة وجودتها، منزلةً لا تخلو من غرابة. فكل من تجشّم عناء التأليف في هذا الباب وجد نفسه محلّ نقد جذريّ واتهامات بالتقصير إن من جهة التأريخ وتصوّراته ومسائله المنهجيّة الشائكة وإن من جهة قضايا الأدب والاختلاف في أحكام القيمة وطرائق التصنيف. يكفي أن ننظر، تأكيدا لما نزعم، في ما كتب عن تاريخ "لاغارد وميشار" للأدب الفرنسي من أعمال نقديّة تكشف آليّات الطمس والمحو والتزييف الإيديولوجيّ بالخصوص. والمفارقة أنّ هذا الكتاب المدرسيّ ظلّ من أكثر كتب تواريخ الأدب في فرنسا انتشارا وتأثيرا في الناشئة وغير الناشئة من أحباء الأدب بل لعلّه مدخل أساسيّ رغم ما فيه من عيوب.
وليس أمر أدبنا العربيّ بمختلف شديد الاختلاف. فمازال تاريخا حنّا الفاخوري وشوقي ضيف للأدب العربيّ، على سبيل التمثيل، مرجعين مدرسيّين مهمّين لآلاف من الطلاّب العرب بل للمثقّفين الراغبين في الاطلاع السريع على بعض الإحداثيّات أو مراجعة الأساسيّ عن هذا المؤلّف أو ذاك. فعلينا ألاّ ننسى أنّ أبرز ما في متاحف الأدب، كما نعلم، تلك الكوكبة من الشعراء والناثرين الذين يمثّلون مختلف الأحقاب والعصور والمدارس والمذاهب والأجناس الأدبيّة... إلخ.
بيد أنّ مدار الأمر على سؤال يبدو بديهيّا ولكن الإجابة عنه ليست على قدر بداهته. فقد تغيّرت مناهج التأريخ عامّة وفرضيّاته الكبرى وتقنياته وتطوّرت معرفة البشريّة بخصائص القول الأدبيّ وأساليب تناوله ومعالجته ولكنّ التأريخ للأدب ظلّ، رغم الندوات الأكاديميّة الكثيرة والمجلاّت المتخصّصة والنقود العديدة والنظريّات المتجدّدة، أمرا يصعب تجديده وتطويره. بل إنّ أهمّ مشروع لكتابة تاريخ الأدب الفرنسي مثلا، وقد صاغه لانصون في بداية القرن العشرين، لم يجد طريقه إلى الإنجاز إلى اليوم.
وبالنسبة إلى أدبنا العربيّ لم يكن تاريخ الأدب إلاّ ضربا من الأقاويل النقديّة الجديدة التي ولّدها الاحتكاك بالثقافة الأوروبيّة كما يعترف بذلك أوّل من صنّف من العرب تاريخا للآداب العربيّة جرجي زيدان. وهو يعترف في الآن نفسه بأنّ الحاجة إلى  وضع مثل هذا التاريخ إنّما كان مصدرها الجامعة المصريّة الناشئة التي فتحت مناظرة لوضع كتاب يصلح لتدريس هذا الفنّ. وما هذا بغريب بما أنّ تاريخ الأدب عندنا وعند غيرنا يرتبط بأمرين متلازمين. أوّلهما توفير أداة مدرسيّة لغرس القيم الأدبيّة والأخلاقيّة والجماليّة لدى المتعلّمين من روّاد المدارس والجامعات وثانيهما تحديد الجغرافيّة القيميّة والرمزيّة للأوطان التي صارت كيانات  قائمة الذات. فتاريخ الأدب، مهما كانت صياغته، تعبير عن الروح القوميّة لأمّة من الأمم. إنّه جزء من تاريخها العام.
غير أنّ ما يلاحظ في جلّ تواريخ الأدب العربيّ هو اقتصارها عموما، في باب الأدب الحديث على الأقلّ، على مصر والشام بتعلّة أسبقيّة النهضة فيهما. وهو ما يعني حتما أنّها تواريخ منقوصة لا تشمل كل الروافد الأدبيّة والثقافيّة العربيّة.
والذي نزعمه في هذا الجانب أمران. أحدهما أنّ إعادة كتابة تاريخ الأدب العربيّ اليوم، بصرف النظر عن قضايا المنهج في التاريخ ومقاربات الأدب، لا يمكنه أن يكون إلاّ على أساس قطريّ على نحو يجعل كلّ رافد من روافد الأدب العربيّ يعمل على إبراز جغرافيته الرمزيّة والجماليّة والقيميّة رغم المشترك الثقافيّ. والآخر أنّ كتابة تاريخ للأدب العربيّ (أو الآداب العربيّة) لن يكون في مستقبل الأيّام تأليفا بين التواريخ القطريّة الجزئيّة كما قد يذهب في وهمنا بل هو أمر غير ممكن بمقتضى الشروط التي تتطلّبها مثل هذه المساعي. فلا الحاجة المدرسيّة ما تزال قائمة بسبب ما تعانيه العلوم الإنسانيّة عامّة والأدب بالخصوص من استخفاف وازدراء ولا الدافع القوميّ الذي لأجله تنشأ متاحف الأدب ما يزال فاعلا حيّا.
وهذا بعض من أعاجيب أمّة توحّدها لغة ضاربة في التاريخ الثقافيّ والجماليّ وما انفكّت تتجدّد وتتطوّر ولكنها عاجزة عن أن تكتب تاريخ أدبها وقيمها ورموزها أي سرديّتها الوحيدة الباقية.


Aucun commentaire: