vendredi 28 décembre 2012

النّرجسيّة الجريحة




 (1)
من وجوه الحداثة في الفكر والحياة إعمال النّظر في غير المفكّر فيه لإظهار المضمر وكشف المخفيّ واستنطاق المسكوت عنه. فالحداثة ، في بعض دلالاتها ، إعلان وفضح يفضيان إلى أزمة داخل التّصوّرات والمفاهيم وإلى مراجعة ما يبدو متماسكًا مستقرًّا ، فتدخل إليه دودة الشّكّ والارتياب ليخرج لنا ألسنةً هازئًا بثوابتنا فيجعلنا نستعيد قدرتنا على الدّهشة والتّعجّب.
والواقع أنّ كثيرًا ممّا نشهده اليوم في ثقافتنا العامّة ومشهدنا المتداخل القلق ، بتردّداته وتنافر مكوّناته، إنّما هو صورة مشوّشة عن مسار التّحديث الذي يستوعب القديمَ المستعيد لأوهام صنعت في سياقات معرفيّة تقليديّة وحقائق انتهت صلاحيّاتها التّاريخيّة بقدر ما يستوعب الحديث الذي ينبني على أوهام جديدة صنعها اغتراب البشريّة الحالي ويبشّر بحقائق تنبثق كالوعد الحقّ. وبينهما ، بين العتيق المترسّخ والآتي غير المتوقَّع ، طيفٌ من الضّلالات والظّلال والصّور المنعكسة على المرايا المحدَّبة والمقعَّرة جميعًا حتى لكأنّ الواحد يحمل في داخله كثرة وتعدّدًا يفوقان الحصر.
إنّه حظّنا من عصرنا ، وقدرنا في عهد أتاح لنا ما لا عين من عيون أسلافنا رأت ، وما لا أذن من آذان من قبلنا سمعت.
 (2)
 وقد ذهب في وهم عدد من أبناء سياقنا الحالي بعد الرّابع عشر من جانفي ، أنّنا سنأتي ، بفضل الممكن التّاريخيّ ، بما لم تأت به الأوائل من أنظمةِ قيمٍ ومعايير أخلاقيّةٍ وتصوّرات إنسانيّة نقترحها على البشريّة الغارقة في استلاب طال ومشهديّة خانقة صنعها رأس المال المنفلت من عقاله.
وعد زائف صاغه بعضنا فصدّقه والحال أنّنا أصبحنا نخشى على كلّ شيء : ممّا اعتبرناه "مكاسب" هي بعضٌ من الحدّ الأدنى الذي نطابق به عصرنا ، إلى نمط عيشٍ بدا لنا تأليفًا بين ما تنافر في أعطاف تراكم تاريخيّ طويل.
انتقلنا بسرعة من نرجسيّة متفائلة مرحة إلى نرجسيّة جريحة شقيّة. كنّا نتوهّم إمكان الابتداء بالإبداع فإذا بنا نركن إلى الخوف على ما وجدنا عليه آباءنا.
فأيّة ثورة هذه تخرج لنا الأموات من قبورهم ليحكموا رقابنا وتطلق عفاريت المكبوتات والأحقاد والغباء المصفّى لتهدّد وجودنا الثّقافي في زمننا الرّاهن ؟
 (3)
الحداثة أفق مدهش يتوسّع بقدر ما نتقدّم في الطّريق إليه. وفي الطّريق أفخاخ وحجارة وحطامُ بناءات متداعية وجثثٌ متعفّنة مازالت ، وياللمفارقة ، تتنفّس ولكن علينا أن نمرّ بها.
والمفارقة أنّ البوصلة واضحة تتطلّب منّا شيئًا من التّواضع ، وبعضًا من جراح الكبرياء الثّقافيّ وقليلا من حسن الإصغاء إلى نبض التّاريخ وسلامة البصيرة.
لسنا وحدنا متمركزين على هويّة لا تتزحزح. فقد جرحت البشريّة في الصّميم حين اكتشفت ، وما بالعهد من قدم ، أنّ الأرض ليست مركز الكون ، وتألّم الإنسان كثيرًا حين كشف التّحليل النّفسي وهم الوعي فيه. وقد لا تكون أمّة المسلمين قد استوعبت "صدمة الحداثة" بعد انهيار المجد الأثيل ولكن لا سبيل لها باديًا إلاّ أن تستعدّ إلى مزيد الصّدمات رغم المعاندة والمكابرة.
البوصلة واضحة والسّيل سيجرف ، طوعًا أو كرهًا ، الجميع. أمّا ماعدا ذلك فمزيد من إضاعة الفرص الثّقافيّة والوقت الحضاري باسم الثّوابت والخصوصيّة والهويّة وما إليها ممّا لا نفع ولا خير للقائلين بها قبل غيرهم.

mardi 18 décembre 2012

نكبة نخبتنا



1
كانت العرب تقول إذا تكلّم أحدهم بلا تفكير ولا رويّة : "ألقى الكلام على عواهنه". وتطبيقًا للمثل العربيّ قال صاحب المتن ، وقد استعار لسان السّلاطين، "نكبتنا في نخبتنا لأنّهم كَيْتَ وكيتَ ولأنّهم كذا وكذا ...". ولك أن تملأ الفراغ بما شئت ما دام السّجع على لسان صاحب المتن موقّعا رائقا ، صادما صارما، مفتوحا على احتمالات شتّى.
لسنا نريد أن ندافع عن النّخبة التّونسيّة المنكوبة بعيّ الخطباء وقلّة فصاحتهم. ولكنّنا نودّ لفت الأنباه إلى بعض المفارقات الطّريفة.
فقد أعجبني ، والحقّ يقال ،أن يخرج صاحب المتن نفسه من النّخبة لينتصب في موقع أعلى يستمدّه من منطق الدّولة لا من ديناميكيّة المجتمع. فقد كان ،بالأمس القريب، بعضًا من هذه النّخبة ونكبتها ينازع الدّولة ويشكّك في شرعيّتها المهترئة وها هو اليوم ينفصل عنها ، إذ غيّر الموقع، مُؤْذِنًا بإحداث لا نظير له في التّاريخ إلاّ قليلا : فقد اعتدنا أن تنقد النخبةُ السّلطةَ وتسلّط الضّوء على نزعتها الفطريّة للتّسلّط وتهاجمها دفاعًا عن المجتمع وتعلّقا بجمهوريّة أفلاطون وتمسّكا بمطلق الحرّية ولكنّنا  وصلنا إلى عهدٍ جديدٍ غريبٍ أضحت فيه النخبةُ نفسها مدعاة لتهجّم أصحاب السلطة  وتبرّمهم منها. وهذا ، لو تأمّلنا ، من نكّد الدّهر على الأحرار كما يقولون.
2
وكادت العرب أن تقول، قياسا على حديث نبويّ شريف ، "إذا لم تستحِ فَقُلْ ما شئت" ولا فرق عند تدبير شؤون المدينة بين القول والفعل إذِ الأقوالُ أعمالٌ ومنها انّ هجاءَ النّخبة طعنٌ في أدوارها التي تضطلع بها.
والمفارقة كامنة في أنّنا لم نعرف تحديدًا المقصود بالنّخبة التي كانت سببًا في نكبتنا. فهي نُخَبٌ في شتّى مناحي الثّقافة والمجتمع والسّياسة.
وهي نخب حملها صاحب المتن والسّلطة على الإفراد جامعًا في دلالته ما لا يتجانس منطلقاتٍ ومواقفَ. ولكنّه حريّ بنا هنا أن نصرّفها في الجمع على معنى التّفريق والفصل ، كما هو واقع الحال ، لنؤكّدَ حيويّةَ الجدل وتفاعلَ متناقضِ الآراء ومتضاربِ التّوجّهات.
فأيّها يقصد صاحب المتن ؟
أيقصد من دعا إلى تطبيق منطوق آية الحرابة ضد المحتجّين ؟ أم من ينازع في المساواة بين النّساء والرّجال ؟ أم من يتردّد في تبنّي كونيّة حقوق الإنسان ؟ أم مَنْ مازال يحلم بشريعة لم تغادر أطلالها ؟ أم مَنْ يهاجم منظّمات المجتمع المدني المناضل ومؤسّساته المدافعة عن النساء والمعطّلين والشغّالين؟
أيقصد من هبّت عليه نسائم الثّوريّة والديمقراطيّة بأَخَرة ولكنّه يبعث اليأس في النّفوس ويُثقل كاهلَ المعدمين ويفقأ عيون المحتجّين بعد أن وعدهم بجنّات عدن وبتدفق الصّكوك الحلال ؟ أم يقصد الوحوش الكواسر التي تنهش، على الحقيقة والمجاز ، جرحانا من المواطنين وهم ينزفون دمًا.كواسر وجوارح وغربان  متمسّكةٌ بأوهامها متشبّثةٌ بكراسٍ عاجزة عن ملئها بأجساد ضعيفة سقيمة ونفوس أسكرها المجد الكاذب وعقول أغوتها شهوة السّلطة ؟
3
كانت العرب تقول " تلك العصا من تلك هذه العصيّة هل تلد الحيّةُ إلاّ الحيّةَ" فكلتاهما من شجرة زَقُوم السّلطة والحيّتان بلدغهما شيء واحد.
والمفارقة، ها هنا، أنّ هذه الأقاويل والتّقوّلات التي تذمّ نخبنا تلصق بها تهمة الأنانيّة والمصالح الشّخصيّة والفئويّة والأجندات الخارجة عن الصّفّ الوطنيّ وتتهجّم عليها فتراها ثّرثارة لا تعرف فصل المقال ، تنكّل بها لأنّها تتخاصم  ولم تجد سبيلاً إلى الوفاق الوطنيّ ، كلّ هذا سمعناه من قبل ، حين كان الملك المخلوع يتّكِئُ على عصا المصلحة الوطنيّة ويهشّ بها على معارضِيه. سمعناها من الأمّيّ الذي كان يحتقر النّخب والمثقّفين ولا يراهم صالحين إلاّ إذا تملّقُوا ودعّموا أركان دولته في عهده الزّاهر العامر.
وها أنّ التّاريخ ، تاريخ احتقار النّخب وتحميلها وزر الفشل ، يعيد إنتاج خطابه المفضوح في شكل يجمع ، هذه المرّة ، المهزلةَ إلى المأساة  حتى صرنا لا نعرف إلى أيّ جانبيْ الخطاب نميل.وهذه ، حقّا وصدقا ، نكبة نخبنا في هواة الخطابة العاجزين عن سياسة القول وسياسة الناس معا. وهي لعمري  أعظم وأخطر من نكبتهم.
وصدق من قال " عاش من عرف قدره فجلس دونه".

mercredi 12 décembre 2012

حاشية على متن تاريخ الاحتجاج




1
إذا قيّض الله لأحد المؤرّخين المجانين أن يكتب في ما سيأتي من الأيام تاريخ الاحتجاج فلا شكّ أن لسليانة ، في مؤلّفه، فصلا موجعا طريفا.
قد يتحدّث مؤرّخنا في أسى عن مواجهة المحتجّين بسلاح سمعنا عنه في زمن الشرعيّة المجيدة العتيدة ، لأوّل مرّة.وقد يروي  ما يقع وراء الأحداث من تنمية عرجاء وسنوات من الإقصاء والفقر والبطالة والتهميش.غير أنّ هذا كلّه لن يكون ممّا يميّز ربوع سليانة سواء في زمن البنفسج البهيج أو زمن الأزرق الممزوج بلون السماء.
 وأكبر ظنّي أنّ مؤرّخنا سيروي ، مستخلصا من وقائع تاريخ المنطقة العبرَ ، بعض الأحداث التي جعلت سليانة وأحيازها تلقّن الغزاة والمعتدين بعض الدروس في التراجع والتواضع.
هذا كلّه من المشترك ، خصوصا في شمال البلاد المنسيّ وفي جنوبها الذي ألف الجراح.ولعلّه داخل في جدل الإخضاع والإباء أو في باب التدافع ، وما أدراك ما التدافع،بين المغالبة والممانعة.

2
يقول المؤرّخ المجنون في ما سيأتي من الدّهر:" أواخر الشهر الحادي عشر من السنة الثانية بعد الثالث والعشرين من أكتوبر ،حسب التقويم الثوريّ الانتقاليّ، غادر سكان سليانة ، شيبا وشبابا نساء ورجالا ،مدينتهم وضربوا عصا الترحال في الطريق خارج العمران تاركين بيوتهم ومتاجرهم وشوارعهم وأحياءهم في مسيرة مهيبة في اتجاه ...مدينة تونس المحروسة".
وعلّق الشارح مفسّرا ما وقع: هكذا تخفّفوا من المكان المألوف ومزّقوا خارطة ذكرياتهم عن مدينتهم ليتركوا السلطة فيها دون شعب والوالي دون مواطنين والبناءات دون سكان والإدارة دون مواطنين والمقاهي دون روّاد والمدارس دون تلاميذ ..
حركة واحدة اجتمعت فيها حرقة المقهور المقموع بسخرية اليائسين "المرشوشين" لتذكّر الساهين المتناسين أنّ مدينة بلا سكّان ، كدولة بلا شعب،خواء قاس وعبث محض ومفارقة قاتلة.
وهل أقسى من ذلك سخريةً تنتقم بها الضحيّة من جلاّدها مذكّرةً الحاكمين بأمرهم أنّ سلطتهم وهم واقعيّ جدّا وُلدَ من وهم شرعيّة لم تف بتعهّداتها بعد أن رفعت سقف الوعود عاليا ...أعلى من زرقة السماء.
سخرية تُعلم من لم يَعلم بعد أنّ الكراسي التي يجلسون عليها مقدودة من خشب العناد والارتجال ومسامير ليّ الذراع الصدئة.
3
سليانة ُ مقايضةٌ للألم والاستعطاف والتضرّع والخضوع بالسخرية والمفارقة والهزء والحقيقة الساطعة كعصا القمع وبنادق الرشّ.تقول لحاكمها بإيجاز بليغ :" سيدي الوالي ، نعتذر لك عن الصداع الذي سبّبناه لك ..نعتذر لك عن شقاوة أبنائنا ...نعتذر لك عن مساسنا بالشرعيّة وهيبة الدولة ..وها نحن نترك لك المدينة فسيحة مريحة لتحيى أنت وتحيى الشرعيّة.سنذهب ، سيّدي ، إلى يأسنا كما عهدتنا صامتين مقهورين حتّى تظلّ الدولة أكبر من وعود الثورة وتظلّ هيبتها أولى من خبزنا وسواعدنا المعطّلة..عفوك وغفرانك سيّدي الوالي ، ابق حيث أنت ..أو اذهب إن شاؤوا فلك اعتذارنا الشديد عن الإزعاج".
فبدل الخوف والرعب اللّذين يسبّبهما ، في القصيدة، انتظار سكان تلك المدينة الإغريقيّة للبرابرة، وبدل انتظار غودو الذي قد لا يأتي في المسرحيّة، وبدل الهجرة إلى مدينة أخرى هربا من بطش فرعون أو قريش وجد أهل سليانة هجرة من صنف يليق بهم: هجرة رمزيّة مؤقّتة ، كحكومتنا ورئاستنا وسلطاتنا الشرعيّة جميعا.
هجرة تذكّرنا بأن الدولة وهيبتها والحكومة وبرامجها والشرعيّة وآليّاتها والديمقراطيّة ومخرجاتها إن هي إلاّ وسائل لزراعة الأمل ورعاية الأفق الممتدّ وليست مراقي لليأس بالمكابرة والمعاندة وخنق الأنفاس بغاز الشرعيّة المسيل للكرامة وفلاحة العنف والعنف الضادّ.
خذوا المدينة ، لكم الدولة ومؤسّساتها ، تمتّعوا بأساطيركم وأوهامكم،تأمّلوا ما شئتم صوركم في مراياكم المهشّمة ولكنكم لن تأخذوا قلوبنا وإباءنا وإنسانيّتنا.مع الاعتذار مجدّدا عن الإزعاج.   


mardi 4 décembre 2012

منتخبنا الوطني في المجلس التأسيسيّ إلى أين؟




1
أذكر، في ما يذكر اليافعون المغرمون بكرة القدم ،الشعور بالإهانة إثر الهزائم المتتالية المخجلة لممثل إفريقيا في كأس العالم بداية السبعينات.
ربّما اكتشفت، بذاك الشعور المذلّ، بعدا إفريقيّا في الشخصية، وربما كان بسبب من خيبة من انتصر وجدانيّا لقارة المقهورين المفقّرين الخارجين من عنف الاستعمار إلى استعمار ذوي القربى.ولكن ّ ما بقى من ظلال الذكرى هو الأداء المخجل المرتجل للفريق الإفريقيّ مقابل اللعب المنظّم العقلاني الممتع للفرق المقابلة من أوروبا وأمريكا الجنوبيّة.
وما زلت أرى، في ما يرى المستذكر، اللاعبين الفارقة يركضون في الملعب على غير هدى يركلون الكرة كماعزٍ نفور أو غزال شارد هارب من أسود ضارية.
حينها تأكدت من البون البائن بيننا وبينهم وبين عالمين مختلفين في كرة القدم وفي غيرها من شؤون الحياة الجادّة وغير الجادّة.
2
ومادام حديثنا قياسا وتمثيلا، نجد أنفسنا اليوم في ما يتّصل بشأننا الثقافيّ العامّ ، بفاعليه المسيطرين المبتدئين الواهمين وأدائهم المرتبك المخجل ، نستحضر ذاك الشعور بالإهانة.
فهم يعتقدون، في لغة ثورجيّة لا تناسبهم وإن كانت ببؤسها معبّرة عنهم ،أنهم يدافعون عن الأمة وثقافتها والهويّة وثوابتها.وبيد أنّهم ،حين ندقّق ونحقّق ،يمارسون التفكير في شرط الحريّة ويحلّلون الواقع الثقافيّ في العالم العاصف المتحوّل كما كان الفريق الإفريقيّ يمارس كرة القدم أمام لاعبي العالم.
    إنّ الثورة المدنيّة، بمطالبها في الحرّيّة والكرامة وبأثر الفراشة الذي امتدّ إلى قلب المدن العريقة في تأسيس الحريّة، قد رشّحتنا للمشاركة في كأس العالم للحرّيّات الفرديّة والجماعيّة وفتحت لنا الباب للدخول إلى نادي الإنسانيّة الحديثة. إلاّ أنّ هؤلاء الهواة المتخبّطين في أوهامهم وأوجاعهم وذاكرتهم المكتظّة بالمتون الصفراء المختنقة برواسب القرون الوسطى لم يدركوا بعدُ أنّ قواعد اللّعبة قد تبدّلت وأنّ للرياضة، في الفكر والممارسة، مواثيق وطرائق ومنهجيّات لا مناص منها.
ورغم ذلك مازال القوم يكابرون في شطح ثقافيّ مرتبك أشبه بدراويش لم يتقنوا الرقص على قواعده متمسّكين بخصوصيّة عاقر لم تلد من قبل غير الاستبداد ولن تلد مستقبلا إلاّ ما هو أشدّ وأنكى. فصرنا نتجادل كالصبيان في كونيّة حقوق الإنسان أتُضمّن في الدستور أم لا؟ وفي الشريعة، دين البداوة كما قال جدّنا ابن خلدون، أمصدر للتشريع هي أم لا؟ وفي الفرق ، أعزك الله وأعزّ بك ،بين مساواة آدم وحوّاء و تكاملهما؟
3


لقد انهزم الفريق الإفريقي في كأس العالم ، بداية السبعينات، ولعلّه تدارك أمره ليتعلّم بعد الهزائم القاسية المهينة قواعد كرة القدم حسب أصولها وأساليبها الحديثة ولكنّ ما تتخبّط فيه نخبتنا الوطنيّة بالمجلس التأسيسيّ الموقّر قد يفضي بنا ، ونحن نلعب في الوقت البديل ، إلى هزيمة قاسية لا تستحقّها فرقنا الوطنيّة التي قدّمت منذ سنوات بطولات قويّة تدلّ على إرادة في الحداثة السياسيّة والاجتماعيّة لا يعبّر عنها فريقنا الوطنيّ بثقافته السياسيّة أحسن تعبير وأوفاه.فشرعيّة السير في مسالك التاريخ والتحديث رغم الأوجاع خير وأبقى من شرعيّة الصناديق المؤقّتة وشرعيّة الممانعة الثقافيّة المحنّطة.
أهو خطأ في اختيارات المدرّب الوطنيّ أم ضعف في الإعداد المعرفيّ والتأهيل الفلسفيّ واللّياقة الفكريّة والتدريب الحضاريّ ؟
أهو عجز بعض اللاعبين عن الأداء الجيّد وتخاذلهم إذ اكتفوا بما تعلموه في فرقهم حين كانوا في الدرجة الثانية وما تشرّبوه من مسكرات انتهت صلاحيّتها أثناء سهرهم خارج معسكر التدريب بباردو؟
 أم هي نيّة مبيّتة من  لاعبي أحد الفرق الثلاثة التي تصدّرت الطليعة في دوري الانتخابات الطليعة لفرض أسلوبهم في اللّعب على الخطّة التكتيكيّة للفريق الوطنيّ؟
  مهما يكن من أمر فالهزيمة محدقة بالفريق كلّه و سمعة علمنا الوطني في الميزان ولا أحد يريد خروجا مهينا من كأس العالم للحرّيّة والإنسانيّة الجديدة.
   أفلا تعتبرون  من أخطاء المارين من كؤوس العالم السابقة وأغاليط العابرين في الكلام العابر؟

mardi 27 novembre 2012

لسنا في بلد الحرّيّة...أفلا تعقلون؟




1-       
أصبحت الوصفة معروفة : يُخلط رطلٌ من المصلحة العليا للوطن بمثله من عجين حفظ النّظام العام ، يُضاف قليل من بهارات القانون وتحصين الثّورة أو حماية المقدّسات وهويّة البلاد و يوضع الخليط في فزن التّرهيب على نار هادئة في البداية ثمّ ترفّع درجات الحرارة شيئا فشيئا. وحين يحمرّ العجين ويتماسك ، اِسق الكتلة كلّها بمرق الخوف. كلوا بعد ذلك الطّبقَ هنيئًا مريئًا إلى حدّ الإحساس بالشّبع إذلالا وإهانة وقهرا.
هكذا يَتعلّم مشاريعُ المستبدّين من كتب الطّبخ العالميّة كيف يصنعون أطباق الدّكتاتوريّة النّاشئة، والبقيّة متروكة لحذق الطّبّاخين ونوعيّة اللّوازم وما يتوفّر في كلّ مطبخ من مكوّنات.


2-   
 مطبخنا الثّقافي بدأ إعداد بعض المفتّحات التي تؤكل قبل طبق الاستبداد. هناك في الجنوب ظهرت، في سياق الثّورة ، حركة فنّية لشباب اختاروا أن يكونوا معبّرين بفنّ الغرافيتي عمّا يتلجلج في صدور النّاس العاديّين.
شبّان انتدبوا أنفسهم ، ليخرجوا الشّعارات المحتجّة على بؤس الواقع من العابر الزّائل فيثبّتوها على حيطان الشّوارع.
حركة احتجاج سمّت نفسها "زواولة الفنّية" تجمع بين الموقف السّياسي والمقاربة الفنّية. لم يبتدعوا شيئا ولكنّهم ، بغريزتهم وثقافتهم ، يصوغون فنًّا ثوريًّا له تقاليد في تاريخ الثّورات ، في ضرب من اكتساح الفضاء العام لاستعادته من الدّكتاتور.
ويبدو أنّ الثّورة انتهت لدى البعض وعلى ثقافتها التي جاءت معها أن ترحل. معادلة قديمة جديدة: منطق الدّولة مقابل منطق الثّورة ، فعلى أيّ جانبيْك تميل ؟
جاء الخبر من قابس : قوات الأمن تحجر مواد رسم وتلوين تستعمل في الغرافيتي وتستنطق شاهين بالرّيش ورفيقه في حركة "زواولة الفنّيّة" أسامة بوعجيلة قبل إحالتهما على قضائنا المستقلّ العادل.
والتّهمة تهمتان : "نشر أخبار زائفة من شأنها أن تنال من صفو النّظام العام" و"خرق قانون الطّوارئ والكتابة على عقارات تابعة لأملاك الدّولة دون رخصة طبقًا للفصل 303 من المجلّة الجزائيّة والأمر عدد 50 المؤرّخ في جانفي 1978".
رائحة كريهة قديمة تفوح من قمامات القوانين والأوامر وإحساس فظيع بأنّه سبق لنا أنْ سمعنا مثل هذا الكلام البذيء الذي حطّّم ، من قبل ، مستقبل شباب من النّقابيّين والطّلبة والمعارضين.
حقًّا إنّ التّاريخ يعاود نفسه في شكل مهزلة أو مهزلة مضاعفة : الأخبار الزّائفة ، النّظام العام ، الكتابة على عقارات تابعة للدّولة ، قانون الطّوارئ ، أمر جانفي 1978 ... كلّ هذا يعود بعد ثورة ولدتها مثل هذه العبارات التي تواجه بها الدّولة مواطنيها حين يحملهم شوق الحرّية ونشوتها إلى قول ما يجيش في الصّدور.
كلّ هذا بسبب فنّ مقاوم محتجّ رافض بمقتضى تعريفه نفسه ونقصد فنّ الغرافيتي.
 هل أصبحت شعارات من قبيل ما رسمه الشّابّان  شاهين بالريش وأسامة بوعجيلة :"الشّعب يريد حقّ الزّوّالي" و"باعوا دمك يا شهيد" و"الزّوالي دفنوه وعينو حيّة" معكّرة لصفو النّظام العام ؟ هل أصبحت صورة "حنظلة" ناجي العلي مهدّدة لعقارات الدّولة ؟ أيّة جرأة أو جسارة في مثل هذا الوصف العادي لبعض أحوالنا ؟ أم أنّ الحقيقة ، كما قال الآخر ، في حدّ ذاتها ثوريّة مزعزعة للنّظام العام المختلّ أصلاً؟
3-   
شكرًا لأمننا الجمهوري وقضائنا المستقلّ فقد مكّنانا من التّعرّف إلى حركة فنيّة شابّة لم نسمع بها قبل. من هنا فصاعدًا سنهتمّ بـ"زواولة الفنّيّة" لأنّها تقول الحقيقة الثّوريّة ولا تنشر الأخبار الزّائفة ولأنّها تحلم بنظام عام للحرّيّة ، ولأنّها تساهم في إعادة تملّك النّاس للفضاء العام ولأنّها، أوّلا وآخرًا ، تفضح ترسانة قوانين الدّكتاتوريّة وأوامرها المعادية لحرّية الرّأي والتّعبير.
شكرًا لأمنِنا الجمهوري وقضائنا المستقلّ فقد أثبتا لنا أنّنا لسنا كما توهّم بعضنا في  بلد حرّية مادام لنا بعد الثّورة ولا فخر سجينُ رأي باسم المساس بالمقدّسات ،
لسنا في بلد حرّية مادام  لنا لاجئ سياسي في رومانيا بسبب رأيه ،
لسنا في بلد حرّية ولنا زوجة معارض سياسي قُتل لآرائه السّياسيّة تطلب اللّجوء السياسي إلى بلدان حرّة حقًّا،
 لسنا في بلد حرّية مادام بعض الفنّانين التّشكيليّين يجرجرون في المحاكم ليفسّروا لقضائنا المحترمين أعمالَهم الفنّيّة المستفزّة.
شكرًا لكلّ من صمت أو شارك أو تواطؤ فحبّات المسبحة إذا كرّت لن ترحم منّا أحدًا وعجلة الدّكتاتوريّة ستدوس من هو مغرم بوصفة إعداد طبق الاستبداد قبل غيره. أفلا تعقلون ؟


jeudi 22 novembre 2012

ما ناقشني جاهل ...




1
  حين طلب منشّط تلفزيّ من المفكر التونسيّ ذائع الصيت عربيّا أن يشارك في حوار سأله المفكر عن بقية المحاورين.فأنبأه بما استقرّ عليه الرأي فأجابه بسؤال إنكاريّ يفيد اعتذارا عن الحضور، قائلا:"كيف تريدني أن أتحاور مع شخص بيني وبينه أربعة عشر قرنا؟" .
   كان المفكر الهادئ  في طبعه الجريء في أفكاره يحتجّ على ما وصل إليه وضع المناظرات في تلفزاتنا.إذ استحالت المحاورة منافرة وانقلبت المجادلة مهاترة وأضحت المناقشات مباطلة ومغالطة.إنّها خصائص تلفزيون الواقع ببذاءته وسطحيّته وكشفه عن الأعوار والخور بعد أن فتحت الثورة الفضاء العمومي لكلّ من هبّ ودبّ دون الشروط التي يقتضيها الحوار في مثل هذه الفضاءات.
     فالمقصد الأسنى من الحجاج هو الإدارةُ العقلانيّة للاختلاف في الظنّيّات والانتقال من احتمال العنف في الواقع إلى إمكان صياغة خطابٍ تفاعليّ لبناء حقيقة مشتركة.بيد أنّ بين الحجاج واللّجاج خيطا أوهي من بيوت العنكبوت:فبدل الاضطلاع، في الحجاج ، بأمانة العقل لتوليد الحجج والتأسيس عليها يكون الانتقال إلى اللّجاج وهو المخاصمة والتمادي في الغلظة وكيل التهم بلا ضابط أو عقلة.
2
    وتقع وراء استفهام المفكّر التونسي اللامع استفهامات أخرى مضمرة.ألا تكون محاورة النظير والشبيه من باب المذاكرة والمقابسة فتأتي خالية من  المفاوضة والمراجعة؟ ألا تقتضي المحاجّةُ المخالفةَ في المنطلقات والمواجهة في الرأي حتى لا نقول المناقضة في الأطروحات؟
   لا ريب في أنّ هذا لا يخفى عن مفكّرنا غير أنه يرفض ، على الأرجح ،الاختلاف الوحشيّ الذي لا يقوم على ساق من العقل ولا يستند إلى أخلاق المناظرة وكفاءة المناظر المختلف.
   والحقّ أنّ جلّ ما يصدر عن ديكة الجدال في ساحات تلفزاتنا أشبه ، في أحايين كثيرة،بتنافر جذريّ في المرجعيّات يعسر معه أن توجد لغة مشتركة للتخاطب والمدارسة.فما الذي ينتظر ممّن يعالج مثلا قضايا مجتمعنا الحديث ، على تعقّدها، بمفاهيم ومصطلحات أكل عليها الدهر وشرب . فقد توقّفت عنده المعرفة بالمجتمعات في زمن ثقافي جرفه التاريخ النابض وظلّ منغرسا جامدا في الوجدان؟أليس ذلك مدعاة لسوء الفهم والتفاهم؟ ومتى استقامت ، في هذا الاختلاف الجذريّ الوحشيّ ،مباحثةٌ ومدارسةٌ؟ وما الغرابة في أن تنقلب إلى منافرة ومخاصمة ومسالطة؟
3
   لقد تحرّرت، في أيّامنا السعيدة هذه،قرائح المتناظرين كلّيّا من مكبوتاتها وانطلقت ألسنتهم بما يجيش في الصدور من أوهام وأحقاد وعلل نفسيّة وفكريّة.فطفت على الألسنة استيهامات محيّرة وتصوّرات مذهلة.فماذا نسمّي دعوة أحدهم إلى إيجاد حلّ لمشكلة تأخّر سنّ الزواج بالسماح بأربع نساء أو بإباحة التسرّي أو حتّى بالترخيص لفحولنا الأشاوس في أن يتزوّجوا بنت عشر وثلاث؟.
     فما الذي بوسع المرء أن يناقش في هذه " الآراء- الاستيهامات" و قد ردّ صاحبهابظاهر اليد ما حدث ، منذ أربعة عشر قرنا،من تبدّلٍ في البنية الاجتماعيّة وتغيّرٍ في أنظمة الأخلاق وتطوّرٍ في التصوّرات الثقافيّة؟ ما الذي يمكن التباحث فيه مع من يضرب عرض الحائط ما شهدته الإنسانيّة، ونحن عربا ومسلمين جزء منها أساسيّ ،ثقافيا واجتماعيّا ،شئنا أم أبينا،من تحوّلات عميقة في العلوم والنظريّات الاجتماعيّة والقانونيّة والنفسيّة؟ وعلى هذا القياس وإن اختلفت جزئيّات المسائل وتفاصيل التباينات ودرجات الحدّة في الاختلافات.
    تلك هي المسافة الفاصلة التي تساءل عنها تصريحا وتضمينا صديقنا المفكر التونسيّ ذائع الصيت عربيّا بين متزامنين أحياز الزمان والتاريخ متباعدين في منطق الوعي الثقافي وزمنيّة المعرفة.
    أعلى نخبنا التي مازالت تتمسّك بمسكة من عقل أن تردّد في ما بينها وبين نفسها قول أبي حنيفة برّد اللّه ثراه عن بعض أهل عصره:" ما ناقشني جاهلٌ إلاّ وغلبني.." حتّى إذا كانت غلبة لا تستند إلى روح التاريخ وتحوّلات العصر الجارفة؟ فإن هي عندنا إلاّ من باب التفنّن في إضاعة الوقت والوعي الحضاريّين حتّى تتطهّر العقول من صدئها وأوهامها وتبرأ النفوس من عللها وأحقادها . 

mardi 13 novembre 2012

ما الذي يدبّر بليل..ونهار؟



1
يصمّ منّا الآذانَ ، منذ مدّة،حديث عن "دكتاتوريّة ناشئة" في البلاد وخطر استبداد قادم يدبّر بليل ..ونهار أيضا.غير أنّ في هذا الحديث بعض المبالغة وكثيرا من المخاوف.
    فالماسكون بزمام السلطة عندنا لم ينتزعوها بالغصب والغلبة والعنف ولا يفتقدون إلى ضرب من الشرعيّة المدنيّة المسنودة بالمؤسّسات.ثمّ إننا لسنا أمام سلطة مجتمعة بيد واحد أحد أو مجموعة أو حزب من غير شريك.لذلك يعسر أن نرى في النظام القائم قهرا أو سلبا للحرّيّات السياسيّة يخرج عن قواعد اللّعبة دون رقيب أو حسيب.
   وربّما جاز لنا أن نرى في الطابع المؤقّت لرموز السلطة القائمة الثلاثة شيئا ،قليلا أو كثيرا ، من التخبّط وضعف التدبير ومشاكل في التسيير لا يبرّرها دائما السياق الاستثنائيّ.
    غير أنّ في تجارب التاريخ ما ينبئنا بأنّ الشرعيّة الانتخابيّة لا تكفي للوقاية من داء الاستبداد وبأنّ الأساس المكين لهذا الاستبداد إنّما هو الشعبويّة المقيتة والثورجيّة الكاذبة ومنطق الأغلبيّة المريدة .فكم من مستبدّ ارتقى على ظهر الشعب وبانتخابات نزيهة ليتربّع على سدّة السلطان فيعضّ عليها بالنواجذ إلى أن تُقتلع ، ولو بعد حين، من فمه بالدم النازف من لحم الناس.
2
   لئن كنا على ثقة في حكمة جلّ نخبنا وتشبّعها بقيم الحرّيّة ومواصفات الأنظمة الحديثة وقدرتها على وضع دستور ممتاز فإنّ تيّارات تحتيّة ، مضمرا بعضها ومظهرا بعضها الآخر،تنسج للاستبداد والفساد مهادا مهدّدا بذهاب ريحنا جميعا.
     فمن هذه المخاطر، وهي في الثقافة والتصوّرات الذهنيّة ،أنّ الغلبة السياسيّة تحدّد بالجموع والكثرة والعدد.ويبنى عليها باستدلال ساذج أنّ رأي الجماعة الكثيرة هو الصواب والحقّ الذي ينبغي أن يتّبع.ولو سايرنا منطق الجموع لما تقدّمت المجتمعات لأنّ الأمّة الحقّ هي أمّة الأذكياء لا الأمّة التي يستوي فيها العالم والجاهل و المبدع والمتّبع والفلاسفة والدهماء.ولو سايرنا منطق العدد مطلقا لأصبح عتاة الدكتاتوريّة الواصلين إلى عرشهم بشرعيّة الصناديق أحقَّ بأن يتّبعوا ويخفض لهم جناح الذلّ.
    ومن هذه المخاطر ، وهي أيضا من ساذج التصوّرات وخسيسها، أن تتّخذ الديمقراطيّة مرقاة لغايات انقلابيّة ومشاريع ليست من جوهرها.فليس العيب في العمل على تغيير بنية المجتمع وثقافته بل العيب في أن يكون ذلك التغيير لاحتكار جميع مناحي الحياة في أيدي فئة مهما كان حجمها ولإخضاع الناس إلى نمط موحّد واحد من أنماط السلوك والتصوّر يكره عليه من لا يرضى به باسم الدين او باسم قراءة له بائسة أو باسم مذهب أو نحلة.فثقافة الديمقراطيّة تكره الانقلابات وتنبني على التعدّد والاختلاف وتتأسّس على حماية الأقليات.ولكنّ ما نراه من سعي إلى الأسلمة من أسفل بجمعيّات وتنظيمات ومدارس موازية وتوظيف لبيوت العبادة وحتّى بمخيّمات الدعوة والتدريب على القتال لمن أمارات هدم الأساس من مشروع العيش المشترك.
     ومن المخاطر، وهذه في الواقع والممارسة وإن كانت لها بالثقافة السائدة صلة،هذا الصمت المتواطؤ عن قطعان المجرمين بالجملة والتفصيل،قطعان تسرح في البلاد ولا من حسيب.مجرمون يزرعون الحقد ويمارسون العنف ويبذرون الخوف في النفوس ضدّ النساء والمثقّفين والفنّانين والمعارضين والجامعيّين وحتّى المؤمنين في المساجد والجوامع والأضرحة وبعض السفارات الأجنبيّة.ثمّ يقال لنا هم أصحاب رأي وهم أبناؤنا فلا تجعلوا منهم شياطين وإلاّ حكموكم بعد حين.فأيّ رأي يحترم إذ ينفي حرّيّة الآخرين في التعبير؟ وأيّ ابن هذا الذي يشيع الرعب في العائلة ؟ وأيّ تهديد بحكمٍ قائم على الإيديولوجيّات المغلقة العنيفة باسم الحريّة والديمقراطيّة؟
    حقّا لم يأتوا من المرّيخ ولكنّهم غرباء عنّا نزلوا من سماوات مذهبيّة قاتمة السواد مرسلين في قلوب الناس حجارة من خوف وترهيب أصابتهم في مقتل كما أصابت غيرهم .وذلك انبناء على منطق عنيف لا نهاية بادية له لأنه من جوهر ثقافة الموت المدعومة بالمال الفاسد والتأويلات السقيمة وقتامة الاقصاء والتهميش والعيش في ضواحي الحداثة المعطوبة.ولكن ، في الحالات جميعا،من حقّ الناس على من ائتمونهم على عيشهم وأمنهم أن يحتموا بالدولة ممّن لا يعترف بها.
3
أفلا يحقّ لنا والحالة تلك أن نعتبر الرغبة في الهيمنة على الدولة وضمان وضع اليد على كلّ شيء فيها من جهة وغضّ الطرف عن الخوف الذي تشيعه بعض المجموعات وخطّة الأسلمة من القاعدة من باب ترديد قول القائل " أمطري حيث شئت فخراجك (السياسيّ؟) لي" ؟ ألا يحقّ لنا أن نرى في تلك الرغبة وفي هذه الرهبة مقدّمتين كبريين لإنشاء دكتاتوريّة من صنف جديد قديم وبابا يفتح لعودة الاستبداد؟
   

mardi 6 novembre 2012

التدافع في الدستور




1
كان أسلافنا من علماء العرب يقولون: " لا مشاحّة في الاصطلاح".والأرجح أنهم يقصدون أن وضوح المفاهيم يغني عن المهاترات في أمر الألفاظ والتسميات.
ومادام الشيء بالشيء يذكر فقد عادت إلى سطح الذاكرة هذه العبارة ونحن نقرأ ونسمع النقود الموجّهة إلى مسودة الدستور وتوطئته.
وقد ثبت في العلم بالخطابات ، عند أسلافنا وأهل عصرنا على السواء،أن معاني الألفاظ تستنبط من أكوان النصوص لا مما يُضمر في النفوس وأن أنماط القول تكيّف الدلالة. وثبت كذلك في دراسة لغة المفاهيم وبناء الأقاويل العلميّة أنّ التواطؤ على المصطلحات وما تفيده من ثابت المعاني لممّا ييسّر التخاطب بها والاستدلال عليها.وإلاّ انقلب الكلام مغالطات منطقيّة وتلاعبا بقواعد التفكير وأخلاقيّات المناظرة وأصول الفهم والإفهام.
وهذا كلّه بيّن في ما يدور من سجال حول الدستور.فالنصّ المطلوب عائد لا محالة إلى تقليد خطابيّ وسنّة علميّة وصنف الأقاويل التي سمّيت قانونيّة.
ولكلّ علم أهله، ولأهله مصطلحاتهم، وللمصطلحات ، عرفا وتواطؤا،دلالات يعرفها المختصّون  ومجموع العلماء.ولن يستقيم لنا الدستور المطلوب بغير احترام نمط القول وسننه لفظا ومعنى.
2
لقد تجشّم رجال القانون ونساؤه عناء التنبيه على ما في المسودّة من خرق لقواعد الصياغة ومن مبهم المصطلحات وغريب المفاهيم وحوشيّ التعابير التي دسّت دسّا في أعطافه.وهي لا تعود إلى جهل بأصول القول القانونيّ وإعرابه وأساليب إجرائه وقوانين كتابته فحسب.بل تعود كذلك إلى منهج الابتداء من الورقة البيضاء خارج السنن والتقاليد كأنّ الأمر إبداع حرّ  لا اتباع فيه.فعابوا مسودّة الدستور بأنها من قبيل الإنشاء الأدبي. وهو اتهام حزّ في نفوس بعض رجال الأدب.ولكنّنا لا نخال أهل القانون قد قصدوا ما فُهم من ظاهر لفظهم بل هم على الأرجح  قد نبهوا على  فارق أساسيّ بين الأدب بما يتيحه من حرّيّة في تصريف الكلام والنّصوص القانونيّة وما تستلزمه من صرامة في التعبير ودقّة في أداء المفاهيم وإجراء المصطلحات.
3
للكلمات ذاكرتها وللمعاني في مظانّها وسياقاتها تاريخ ولهما معا سطوة على الأذهان ما دامت  النصوص ، ومنها الدساتير، تؤوّل بمعارف القارئ الموسوعيّة على تنوّعها وتداخلها لا بأصول دلالاتها المعجميّة.
خذ لك تمثيلا عبارة التدافع في توطئة الدستور.فهي عبارة تحمل أصداء من دلالتها القرآنيّة ونثارا من تأويلات من استعادها من معجمها وسياقها الأصليّين.
يقول صاحب التحرير والتنوير مفسّرا الاية الكريمة "ولولا دفعُ الله الناسَ بعضُهم ببعض ٍ لفسدت الأرضُ"( البقرة ،251) أصل الدفع "الضرب باليد للإقصاء عن المرام" وهو " ذبّ عن مصلحة الدافع".
بيد أن الحديث في الآية عن الدفع وهو غير التدافع الذي يفيد معنى المشاركة والتفاعل في التوطئة رغم أنّ الآية في بعض القراءات على معنى " دفاع الله الناس".والدفاع هنا مبالغة في الدفع وليس للمفاعلة والمشاركة.
ولئن كان الدفع قانونا شاملا للموجودات والكائنات جميعا فهو يرتبط بالصلاح وحبّ الخير لأنّ " طبع النفوس الشرّيرة ألاّ تراعي مضرّة غيرها بخلاف النفوس الصالحة" على حدّ تعبير سماحة الأستاذ الإمام ابن عاشور الذي استخلص ما يلي:"ولولا دفاع الناس بأن يدافع صالحهم المفسدين لأسرع ذلك في فساد حالهم".ويضرب  الشيخ العلاّمة ابن عاشورمثال الحرب التي قد تكون من الأشرار فسادا ومن الأخيار دفاعا عن الحقّ.
وبصرف النظر عن الانزلاق من الدفع إلى التدافع فما الضامن لألاّ يُستعاد هذا المفهوم القرآنيّ دون ما يصاحبه من صلاح هو أقرب إلى المثل العليا منه إلى حفظ الحقوق؟وما الصالح إذا لم يُصَغْ  على مقتضى العَقد الاجتماعيّ المواطنيّ الذي يترجم إلى إجراءات تضمن العيش المشترك؟وما الفائدة التي ترجى من مفهوم رجراج غائم غامض من خارج المتن الحقوقيّ ولا منزلة له في الأصول البانية للخطابات القانونيّة؟ أفلا تكون التكلفة مع الغموض الاصطلاحيّ مرتفعة في دستور للحريّة والكرامة؟
حينها قد نفيق يوما ، على افتراض حسن النوايا ونبل المقاصد، على جهنّم من التأويلات والفهم المختلّ ونحن نقصد الحجّ إلى جنّة الحقوق والحرّيّات؟
 حقّا لا مشاحّة في الاصطلاح بين أهل العلم الواحد ولكن حين يختلط حابل التشقيق القانونيّ بنابل الإنشاء الأدبيّ تصبح المشاحّة في المصطلح فرضَ عينٍ على من لا يريد لعِقدنا ان ينفرط ولعَقْدنا أن ينقض.


vendredi 2 novembre 2012

بهجة الكتابة : المعنى وظلاله




تقديم كتاب الصديق مختار الخلفاوي : " هل غادرنا السقيفة؟ الحنابلة الجدد في تونس المحروسة"

قاعدة اللعبة في كتابة العمود الصحفيّ معروفة مألوفة:تحدّث في ما شئت فأنت حرّ ، وابدأ من حيث شئت فكل البدايات حسنة ولكن لا تنس الأسلوب بدءا وختما.
 ملاك القاعدة معادلة دقيقة لطيفة بين كثير من الحرّيّة في التناول والتنوّع في الموضوعات ،كأمراء النثر الأدبيّ القديم عند العرب، وكثير من الصرامة والجدّ في الصياغة والمعرض الحسن وإخراج الطلام.
ونجد ، في المقالات التي نشرها مختار الخلفاوي منجّمة بالصحيفة " الأولى انتشارا في تونس" على ما يزعم أصحابها، ثراء التنوّع وجودة الأسلوب ولكننا نجد أكثر من هذا وذاك.
    وهذا " الأكثر" في ظنّنا هو الموقف الثقافيّ الذي لا يتكئ على التنوّع ليتقلّب في خضمّ السياسة وحساباتها ومستنقع الإيديولوجيات وأوهامها فيسير على غير هدى.
   وهذا " الأكثر" من وجه ثان هو الرؤية النقديّة التي لا تتعلّل بأدبيّة النصّ والترفع عن الصراعات الظرفيّة لتحوّل الكتابة إلى تمرين في الأسلوب لا يخرج منه القارئ إلاّ بشقشقة لفظيّة تذهب برهان المهنى وتيقّظ الفكر.
وعلى هذا يتآلف في مقالات الخلفاوي الأسلوب الفاتن وطرائق سبك القول الناجع والاقتدار على الانتقال من اليوميّ الزائل إلى الفكري المتعالي.وجماع ذلك كلّه إنّما هو توقيع كاتب أصيل: كاتب يقايض المسافات بين " الشأن الجاري" والمراهنة على المعنى التاريخي في استرساله والموقف الذي يأخذ بقوّة كتاب التنوير العربي الإسلاميّ عموما والتونسيّ خصوصا.
   وليس مهما المنطلق. قد يكون حادثة قتل مشبوه كخبر القس البولوني بمنوبة أو أمّ منتقبة تصحب طفلها بلباس "أفغاني" إلى المدرسة، قد يكون خبرا من بطون كتب التاريخ كاستعذاب المقتدر باللّه صفع جلسائه أو حذاء الزعيم بورقيبة المثقوب،قد يكون بيتا من اجود ما قال المتنبي او مطلع اغنية يصدح بها فلاح في أقصى الريف التونسيّ.
  ولا تغرّنّك تلك التواريخ الشاهدة على الأحداث:18-02-2011  أو يوم الأحد 13 نوفمبر 2011 أو 3-4-5 جوان 2011 أو الإثنين 12-12-2011 ولا العودة إلى بغداد سنة 323 للهجرة أو الصين سنة 213 للميلاد أو قبلها حادثة السقيفة أو بعدها جميعا تاريخ سقوط الخلافة سنة 1924 .فإن هي، عندنا، إلاّ من باب التوثيق الذي يقتضيه الوعاء الصحفيّ أو نزعة الإيهام بالتحقيق والتدقيق .فصاحب العمود يعنيه ، أكثر ما يعنيه، ما يقع وراء هذه التفاصيل العابرة من دلالات كأنّه لا يعلم ان الأديب الذي يسكنه يُخيِّل الواقع والتاريخ ويقدّهما على مقاس تصوّره ووفق رؤيته فهو ليس أسير تفصيلات المؤرّخين وأخلاقيّات الصحفيّين مؤرّخي اللحظة الراهنة.
إنّ الأساسيّ في في هذه المدوّنة التي جمع فيها مختار الخلفاوي القليل مما كتب إنّما هو كيف يطرق أبواب موضوعه ليقول فكرته ، وكيف يعيد صياغة الأحداث والأخبار والمعاينات والأقوال ، وكيف يصوغ خطابا يمتزج فيه ، بسلاسة، السرد الشيّق والتحليل المعمّق والأسلوب الرائق الذي يجمع إلى متانة العربيّة وروعتها روح اللّغات التي يصنع بها الفكر الحديث.
مراهنة مرهقة تجعلنا نشعر أحيانا انّه "ينحت من قلبه" ليظلّ الذاتيّ الشخصيّ في هذه الكتابة ، وهو عنوان التوقيع الشخصيّ بنرجسيّته الجذريّة،أقوى من الحدثيّ الموضوعيّ الذي تلزم به مهنة الصحافة وأخلاقيّاتها أهلها.وهذا دأب أصحاب العمدة في كبريات الجرائد مذ أن ابتدع أصحاب الأقلام هذا الضرب من أجناس القول الصحفيّ.
     ولعلّه بسبب من هذا الوجه الأدبيّ السافر في المقالات الذي يضمّها هذا الكتاب اختار صاحبها أن يخرج من ضغوط " الشأن الجاري" ، دون ان ينفصل عنه تماما، إلى رحابة الكتاب وأريحيّته.كأنّنا امام  تردّد بين نرجسيّة الكاتب الذي لا يريد لخلاصة عقله أن تنسى حالما يلقى بالجريدة بعد قراءتها وبين رغبته في ألاّ ينعتق من إسار الكتابة السريعة التي تُستنبط أحيانا على عجل بما أن نهم المطبعة والخوف من البياض وإيقاع صدور الجريدة وتوزيعها لا يسمح بتروية النظر والتنقيح والتصحيح.وهذا بعض فضل الصحافة على الكتّاب والأدباء.
  لقد أحسن مختار الخلفاوي صنعا حين جمع ما هو مجتمع في أصل نشأته ، مجتمع في لوح عقله وفي نصّ الأعمق فكان يخرجه للناس على مقتضى ما تسمح به مساحة العمود الصحفي وإكراهاته وضغوطه.ولكنّه ، في كلّ مرّة، يقوله كالشعراء بشوقهم العميق إلى القول،مستانفا انفعالا أو انطباعا ومستلهما باعثا من بواعث الكتابة طربا أو رهبة ولكنه في حال من البهجة التي يعيشها الكاتب حين يستقيم أمامه نصّه. وهو أمر لا نخطئه بحكم تجربتنا في القراءة ومعاشرتنا للنصوص:دليلنا على ذلك أنّه يصيبنا كلّما قرأناه بالبهجة والجذل والفرح.  

mardi 23 octobre 2012

في السابع عشر من أكتوبر




1
     جفّفوا حبر أقلامهم وقتيّا وقصديّا،وصمتوا عمدا ،وشوّشوا الصورة بإرادتهم.كانوا يحتجّون ملء السمع والبصر فقطعوا الكلام والصورة بعد أن رشحت الكأس بمرارة التسلّط وقهر الإذلال.
      وكم يذكرني السابع عشر من أكتوبر بالسابع عشر من ديسمبر ولا حفظ للفوارق لوحدة المعنى والاشتراك في عميق الدواعي.فلعلّ تعطيل الأقلام وتقطيع الأفلام وتكميم الأفواه طوعا وكرها صورة أخرى من إضرام ذاك الفتى الجنوبيّ النار في الجسد المقهور.كلاهما إيقاف مقصود للعاديّ والمألوف يدفع إليه اليأس من إصغاء أهل العقد الرافضين للحلّ فيتمرّد أصحاب الحقّ على عنجهيّة أولى الأمر وصلفهم وسوء تقديرهم وتدبيرهم.
2  
في السابع عشر من أكتوبر ،
تدرّبت على تهجيتها ورسم حروفها على كراسها المدرسيّ و الأوراق البيضاء جميعا،على لحى الأشجار وأعشاش الطيور المغرّدة، على الشفق الرائع والأفق الممتدّ.
في السابع عشر من أكتوبر ،
أصغت إلى نداءاتها في صرير الريح وسكون الفضاء الرحب وصبا الأذان ونهاوند الأغاني وأنين الموجوعين وأصداء الطفولة العذبة ،في النشيد الوطنيّ وحماسة الغاضبين.
في السابع عشر من أكتوبر ،
تخيّلتْها فرأتْها في أحلام الصبايا وتقلّبات الحكايات ولازورد الشطآن وأنوار المدينة وفي امتداد الشوارع وضيّق الأزقّة وواسع الساحات ،في الغياب والوحدة وفي الحضور والجمهور.
في السابع عشر من أكتوبر،
بسلطة الكلمة المحتجّة وسطوة الأصوات العالية ودهشة العين الشغوف ، أرادت الحياة واشتهت أن تستأنف الحياة ، أن تولد ثانية لتتعرّف إليها ولتسمّيها بعد أن تهجّت الاسم وتلذّذت لفظه وتخيّلت صورتها.
  ولهذا الاسم في ما قلنا  مسمّيات تدور عليها : الحرّيّة، و صاحبة الجلالة، ومن تهجّى الإسم وأصغى إلى النداء وتخيّل الحريّة الفاتنة نقيبةُ الصحافيّين نجيبة الحمروني.
3
   في لحظات مكثّفة من التاريخ يصادف أن تحمّل الكلمات بدلالات سياقيّة جديدة.وفي السابع عشر من أكتوبر تمازجت ، وإن كره الكارهون،حريّة الإعلام بنقيبة الصحفيّين . فقد عرفت كيف تلتقط ، بحذق ومهارة،الخيط الرفيع الذي يشدّ إصرارها القويّ إلى عنادهم الغبيّ. بتفاؤل المناضلين الأصيلين، نسجت من تعنّت المبتدئين في تسيير المدينة  ومكابرة المنتشين بصولجان السلطة الموهومة مجدَها وأسطورتَها لتقف ، وقفة جدّها الشاعر ، صارخة :سأعيش رغم الداء وأعداء الكلمة لحظة شرف دفاعا عن الحريّة، حريّتنا جميعا.
   لها الآن أن تستريح فقد دخلت بهذا الإضراب النادر الفريد كتاب التاريخ.فقد جعلها زمنها ، عن طواعية أو من باب الصدفة، تقود الذين كسروا بابا من أبواب بيت الطاعة ومزّقوا أجندات غير موفّقة البتّة وكشفوا حسابات خاطئة خاسرة.
   بدت أكبر من خصومها لأنّها أرادت أن تسيّج مملكة القول كي لا ترتع فيها ذئاب السلطان وإملاءات ملمّعي الأحذية والصور الجديدة... القديمة.
     ولا معنى بعد هذا للقائمات السوداء أو الصفراء ، ولا لوصف الإعلام بالبنفسجي أو الأزرق إذ حشرت خصومها المبتدئين المنتشين في زاوية الجلاّدين أعداء الحرّيّة ،عن حقّ أو باطل ، فشنقوا أنفسهم بحبل من غرور وصلف وإضاعة للوقت فأنّى لهم أن يواجهوا من ساند ودعّم وبارك وناصر؟
وكم يكفي من الوقت وتكرار الإسطوانة المشروخة عن "إعلام العار" وأزلام السابع من نوفمبر ليصدّق الناس أنّ الصحفيين المعتصمين لما يفوق الخمسين يوما مخطئون؟ وأنّ المضربين منهم عن الطعام يضعون العصيّ في عجلة الإصلاح وتطهير الإعلام؟ وأنّ الإعلاميّين الذين شاركوا في إضراب السابع عشر من أكتوبر يناوئون حكومتنا الرشيدة؟.
    لم لا يرون ببساطة في هذا الشوق العارم للحريّة دعوة مضيافة إلى تطهير حقيقي للإعلام وحرص أصيل على احترام الإعلاميين؟
    وفي انتظار أن يؤوب التائهون إلى بيت الحرّيّة في تواضع لائق بمسؤول مؤتمن تكون نقيبة الصحفيّين قد سجّلت نقاطا رمزيّة كثيرة ثقلت بها موازينها وموازين الحريّة.فلتتداركوا أمركم أو واصلوا في غيّكم.فلا شيء سيكون كما كان.     

   



mardi 16 octobre 2012

زابينغ

زابينغ
1
في حيّز بين التبرّم والتحكّم يكون الزابينغ ،حركة نسيطر بها عن بعد على التلفاز فنغيّر الأقنية ، بسرعة تليق بهذا العصر و بوهم حريّة يليق بالاغتراب المشهديّ.
لا أحبّ المعاجم ولكنها متاحف تحفظ بعضا من ذاكرة الكلمات.وحين سألناها عن الزابينغ أنبأتنا بأنّه في أصل معناه محاكاة صوتيّة لطلقة البندقيّة: قد تكون طلقة عن بعد تزيح ما لا يريحك بمنطق راعي البقر الأمريكيّ القويّ المغامر.ومن هذا ، في ظنّنا ، اتسع حقل الدلالة ليشمل الصعق المباغت والصدم القاتل المدمّر. ويستحيل الصعق ، في لغة الحرب،قصفا ناريّا مكثّفا.بذلك يكون الزابينغ قوّة ماحية ماحقة تصوّب نحو خزانة الصور من آلة التحكّم عن بعد فيستقيم التشبيه والتمثيل.
لعلّها حرب الفرد المتوحّد ضدّ تراكم الصور وتدهور المدلولات في كون مغلق من العلامات الباذخة الضاغطة.فالقاعدة معروفة وإن حدسا: كلّما قلّت العلامات ملأ التأويل فراغ المعاني وكلّما فاقت الدوالّ الحدّ ضَعُفَ الفهم.
إنّ عالم الأقنية المكتفي بذاته متاهة لا نخرج منها إلاّ بخفّي حنين، وخفّا حنين ،في سياق الحال ،  
ثقافة في عجلة من أمرها وتزييف للوقائع وتلبيس للحقائق وأكاذيب منمّقة.فلم تعد الصورة تكثيفا بصريّا لدلالة من الحياة والوجود أو مقترحا جماليّا يثري الحياة بل أضحت تتناسل بلا ضابط وتتوالد كخلايا بعض العلل لتعمّر الفراغ.
أفلا يكون الزابينغ ،والحال تلك، تعبيرا عن تبرّم مضمر أو حركة احتجاج صامت لا أفق له إلاّ مزيد التيه في متاهة الصور؟
2
والمفارقة أنّ ثقافة الزابينغ قد كيّفت السلوك كلّة معدّلة من القول بأن الآلة امتداد للجسد لتثبت أن الجسد يتعلّم من الآلة وبها بعض ردود فعله وانفعالاته.وما نراه أن مشهدنا العام اليوم يتيح للناس أن يمارسوا ما تعلموه من الزابينغ.
فلئن كنا نشكو من عزوف الناس عن التدخّل في الشأن العام فقد انتقل الجميع تقريبا من قناة الرياضة  ليصبحوا مشاركين ومتفرّجين في قناة السياسة يحشرون أنوفهم في كلّ شيء ويهرفون بما لا يعرفون على ما يتبرّم الجميع من الجميع وعلى ما يزعم الخبراء بشؤون المدينة وسياستها .
ولكنّهم نسوا أنّ تعدّد أقنية القول وانعدام الأسيجة لممّا ييسّر أمر الكلام بلا حساب ويفتح الباب للاستطراد والتطويل والتطاوس والانتشاء بفتنة القول.فكأننا انتقلنا من مشاهدة قناة واحدة بالأبيض والأسود تتكلّم بلسان السلطان إلى فضاء مأهول بمئات القنوات. فما على السامعين والمتفرّجين جميعا إلاّ أن يمارسوا رياضة الزابينغ ضدّ الجميع مادمنا نشهد العروض الخطابيّة السياسيّة أحاديّة الصوت والمعنى ولم ندخل بعد مجال الحوار العمومي بشروطه وأخلاقيّاته وعقلانيّة الحجاج فيه بدل السجال والتدافع الأخرق واللجاج .
3
 وهاهنا يقع على عاتق النخبة السياسيّة والفكريّة دور مزدوج.فهم من جهة مطالبون بالتمسّك ببيداغوجيا التبليغ وآداب المناظرة حتى لا يلتجئ الجمهور إلى ممارسة الزابينع ضجرا وقرفا ،وهم من جهة ثانية مدعوّون إلى تعلّم تقنيات العرض الفرجوي حتى يشعر الخلق أنّهم قطعوا ، وإلى الأبد، مع الأشرطة القديمة المكرورة والمسلسلات الطويلة بحبكتها الضعفيفة المهلهلة.
فلا وقت عند الناس لينتظروا غودو ، لا صبر لهم كي يتأسّوا بأيّوب ،لا رغبة لهم في اقتفاء خطى سيزيف،فلتغيّروا البرمجة لقد ملّوا إعادة المسلسل السمج القديم ويرغبون في برنامج حواريّ أصيل.وفي انتطار ذلك يصوّبون آلة التحكّم عن بعد نحو الأجهزة كلّها ليتلهّوا بالزابينغ كرها لا طوعا.