mercredi 12 décembre 2012

حاشية على متن تاريخ الاحتجاج




1
إذا قيّض الله لأحد المؤرّخين المجانين أن يكتب في ما سيأتي من الأيام تاريخ الاحتجاج فلا شكّ أن لسليانة ، في مؤلّفه، فصلا موجعا طريفا.
قد يتحدّث مؤرّخنا في أسى عن مواجهة المحتجّين بسلاح سمعنا عنه في زمن الشرعيّة المجيدة العتيدة ، لأوّل مرّة.وقد يروي  ما يقع وراء الأحداث من تنمية عرجاء وسنوات من الإقصاء والفقر والبطالة والتهميش.غير أنّ هذا كلّه لن يكون ممّا يميّز ربوع سليانة سواء في زمن البنفسج البهيج أو زمن الأزرق الممزوج بلون السماء.
 وأكبر ظنّي أنّ مؤرّخنا سيروي ، مستخلصا من وقائع تاريخ المنطقة العبرَ ، بعض الأحداث التي جعلت سليانة وأحيازها تلقّن الغزاة والمعتدين بعض الدروس في التراجع والتواضع.
هذا كلّه من المشترك ، خصوصا في شمال البلاد المنسيّ وفي جنوبها الذي ألف الجراح.ولعلّه داخل في جدل الإخضاع والإباء أو في باب التدافع ، وما أدراك ما التدافع،بين المغالبة والممانعة.

2
يقول المؤرّخ المجنون في ما سيأتي من الدّهر:" أواخر الشهر الحادي عشر من السنة الثانية بعد الثالث والعشرين من أكتوبر ،حسب التقويم الثوريّ الانتقاليّ، غادر سكان سليانة ، شيبا وشبابا نساء ورجالا ،مدينتهم وضربوا عصا الترحال في الطريق خارج العمران تاركين بيوتهم ومتاجرهم وشوارعهم وأحياءهم في مسيرة مهيبة في اتجاه ...مدينة تونس المحروسة".
وعلّق الشارح مفسّرا ما وقع: هكذا تخفّفوا من المكان المألوف ومزّقوا خارطة ذكرياتهم عن مدينتهم ليتركوا السلطة فيها دون شعب والوالي دون مواطنين والبناءات دون سكان والإدارة دون مواطنين والمقاهي دون روّاد والمدارس دون تلاميذ ..
حركة واحدة اجتمعت فيها حرقة المقهور المقموع بسخرية اليائسين "المرشوشين" لتذكّر الساهين المتناسين أنّ مدينة بلا سكّان ، كدولة بلا شعب،خواء قاس وعبث محض ومفارقة قاتلة.
وهل أقسى من ذلك سخريةً تنتقم بها الضحيّة من جلاّدها مذكّرةً الحاكمين بأمرهم أنّ سلطتهم وهم واقعيّ جدّا وُلدَ من وهم شرعيّة لم تف بتعهّداتها بعد أن رفعت سقف الوعود عاليا ...أعلى من زرقة السماء.
سخرية تُعلم من لم يَعلم بعد أنّ الكراسي التي يجلسون عليها مقدودة من خشب العناد والارتجال ومسامير ليّ الذراع الصدئة.
3
سليانة ُ مقايضةٌ للألم والاستعطاف والتضرّع والخضوع بالسخرية والمفارقة والهزء والحقيقة الساطعة كعصا القمع وبنادق الرشّ.تقول لحاكمها بإيجاز بليغ :" سيدي الوالي ، نعتذر لك عن الصداع الذي سبّبناه لك ..نعتذر لك عن شقاوة أبنائنا ...نعتذر لك عن مساسنا بالشرعيّة وهيبة الدولة ..وها نحن نترك لك المدينة فسيحة مريحة لتحيى أنت وتحيى الشرعيّة.سنذهب ، سيّدي ، إلى يأسنا كما عهدتنا صامتين مقهورين حتّى تظلّ الدولة أكبر من وعود الثورة وتظلّ هيبتها أولى من خبزنا وسواعدنا المعطّلة..عفوك وغفرانك سيّدي الوالي ، ابق حيث أنت ..أو اذهب إن شاؤوا فلك اعتذارنا الشديد عن الإزعاج".
فبدل الخوف والرعب اللّذين يسبّبهما ، في القصيدة، انتظار سكان تلك المدينة الإغريقيّة للبرابرة، وبدل انتظار غودو الذي قد لا يأتي في المسرحيّة، وبدل الهجرة إلى مدينة أخرى هربا من بطش فرعون أو قريش وجد أهل سليانة هجرة من صنف يليق بهم: هجرة رمزيّة مؤقّتة ، كحكومتنا ورئاستنا وسلطاتنا الشرعيّة جميعا.
هجرة تذكّرنا بأن الدولة وهيبتها والحكومة وبرامجها والشرعيّة وآليّاتها والديمقراطيّة ومخرجاتها إن هي إلاّ وسائل لزراعة الأمل ورعاية الأفق الممتدّ وليست مراقي لليأس بالمكابرة والمعاندة وخنق الأنفاس بغاز الشرعيّة المسيل للكرامة وفلاحة العنف والعنف الضادّ.
خذوا المدينة ، لكم الدولة ومؤسّساتها ، تمتّعوا بأساطيركم وأوهامكم،تأمّلوا ما شئتم صوركم في مراياكم المهشّمة ولكنكم لن تأخذوا قلوبنا وإباءنا وإنسانيّتنا.مع الاعتذار مجدّدا عن الإزعاج.   


Aucun commentaire: