dimanche 15 février 2015

الطلياني:شكري المبخوت يروي الواقع التونسي بعين مثق


جريدة الحياة
الأحد، 15 فيفري 2015  

رواية «الطلياني» هي باكورة التونسيّ شكري المبخوت (دار التنوير - بيروت). هذه الرواية التي شملتها القائمةُ الطويلة للبوكر العربية في نسخة العام 2015، وقال مؤلّفُها إنه بصدد كتابة جزئها الثاني، هي بالتوصيف مجموعة غصون حكائيّة يحمل بعضُها بعضاً، ويحنو الواحد منها على الآخر في حالة افتتان فنّي ودَلالي محمول في هندسةٍ سرديّةٍ لا يُخفي فيها هذا النصّ البِكرُ نزوعَه إلى التفوّق الذاتي من حيث أصالة المغامرةِ وأناقة الخطابِ وسلاسة اللغة وهي تمزج الحُبّ بوفير الألم.

لحظة حُبّ
«الطلياني» رواية إدانة: إدانة السلطة وأعوانها، وإدانة الإيديولوجيا ودعاتها، وإدانة القيم الاجتماعية وحرّاسها من المثقّفين والعامّة. وهي أيضاً رواية حلم وحبّ: حبّ «الطلياني» لـ «زينة»، وحبّ «زينة» للحريّة، وحبّ الراوي لمرويّاته. تفعل الرواية كلّ ذلك بجُرأةٍ كبيرة حاشدةً عُدّتَها التخييلية وعَتادَها اللغويّ لكشفِ كلّ مفردات الواقع التونسيّ وتتبُّع تفاصيلها المادية والنفسية. وهو ما يجوز معه القول إن «الطلياني» مغامرة في تسريد تاريخ تونس من آخر زمن بورقيبة إلى عهد بن علي تسريداً محكوماً برؤيةِ مثقّفٍ عايش تلك الفترة وخَبِرَ ويلاتها وتأزُّمَ مصائر الناس فيها.
تنهض هذه الرواية على دعامة حكاية حُبّ تجمع بين «عبد الناصر الطلياني» و»زينة»، وهما شابّان جامعيان يختلفان في الفكر والمرجع الاجتماعي، لكنّهما يلتقيان في هدف تثوير الواقع ونقد سكونيته. «الطلياني» هو طالب حقوق من سكّان تونس العاصمة، ذو وسامة إيطالية و»سحر فتّاك ترتمي أمامه أيّة غادة جاثية على ركبتيْها»، وهو أيضاً «بورجوازي صغير له كل المؤهّلات ليصبح بورجوازياً»، غير أنه «يختار أن ينحطّ ليُخالط البروليتاريا الرثّة وأبناء الفلاّحين» مدفوعاً إلى ذلك بإيديولوجيته اليسارية وتزعّمه لتيّار نقابي في كلية الحقوق. وفي خلال لحظة عنف سلطوي في كلية الآداب بمنوبة يلتقي بـ «زينة» طالبة الفلسفة الآتية من «إحدى القرى البربريّة بالشمال الغربي» والمتمرّدة على أقانيم واقعها بسبب كونها «ابنة بورقيبة الذي جعل النساء مُستَقِوِيات على الرجال والآباء والإخوة» وهو ما تُوصّفه بقولها: «أنا حرّة في نقد اليسار واليمين» وتعزّزه بالقول إنّ المثقَّف هو مَن «يُطلق النار على كلّ ما يتحرّك... يطرح الأزمة بالسؤال والاستفهام. يخلخل السائد». وقد مثّل هذا اللقاء قادحَ علاقة حبّ بين هذيْن الشابّين وسبيلَهما إلى تجاوز مصاعب العمل السياسي ومواجهات عيون الأمن وحتى التهديد بالتصفية الجسدية من قبل بعض التيارات اليسارية المتشدّدة التي تؤمن بأنّ «كلّ مَن يقف حجر عثرة في وجه الجماهير ينبغي تصفيته». بل إن ذاك اللقاء كان الجسر الذي عبرته الحكايةُ إلى شعاب حيوات شخصياتها على غرار «للاّ جنينة» وزوجها «الشيخ علاّلة الدرويش» «ونجلاء» و»سي محمود» و»صلاح» و»ريم» وتشابك علائقها وهي تنحت مصائرها وأحلامها بجوع أجسادها إلى اللذة مرّة، وبقابلية أفكارها للتلوّن وفق ما تستدعيه المصلحة الشخصية مرّة أخرى. وإنّ توهّج قصّة حبّ هذيْن الشابّيْن سيجعل قارئ الرواية يبتهج كلّما قرّب الراوي بين روحيْهما ويغضب كلما أوجد أسباب فراقهما لِمَا في حبّهما من ألمٍ ممزوج بتوهّج ثوريّ ممزوج بترهّل مؤسّسات الدولة وتنامي إرهاب أعوانها ورغبة الإسلاميّين في السيطرة على السلطة بالبلاد.
تخرّجت ّزينة من الجامعة» وعٌيّنت لتدريس الفلسفة في إحدى محافظات الجنوب التونسي، إلاّ أنها رأت في بعدها عن العاصمة مانعاً لها من مواصلة دراستها في المرحلة الثالثة، وهو ما وجد فيه «الطلياني» سبباً كافياً ليُقنعها بالزواج حتى يستطيع نقلها إلى العاصمة وفق شروط وزارة التربية في تقريب الأزواج. ومن ثمّة حرصت زينة على عدم إعلان زواجها لكونها ترى فيه فعلاً مفروضاً عليها حتى أنه لم يعرف بأمره أحد سوى أخت الطلياني «يُسر» وصديقة زينة «نجلاء». يقع الزوجان تحت طائلة أزمة ماديّة تدفع الطلياني إلى الاشتغال محرّراً في إحدى الصحف الحكومية، وتنهمك زينة في إعداد بحثها الأكاديميّ ناسية المرأة التي راحت تذبل فيها. وشيئاً فشيئاً تبرد علاقتهما، وتنفتح شهيّة الطلياني إلى خيانتها؛ فيخونها مع صديقتها نجلاء، ويبالغ في ذلك إلى الحدّ الذي اقتنعت فيه بضرورة طلب الطلاق منه. تسافر زينة، بعد الطلاق، إلى فرنسا وتتخلّى عن حلم إتمام دراستها وتتزوّج شيخاً يعمل باحثاً في إحدى الجامعات الفرنسية لا تكنّ له أيّ احترام، بينما يدخل الطلياني في حياة بوهيمية صورتها الجنس والخمر والسهر والحيرة سعياً منه إلى نسيان زينة، وهو ما انتهى به إلى تعرُّفِ «ريم» الطالبة بكلية الفنون الجميلة. غير أنّ زيارتها الأولى له بشُقّة أخيه صلاح بـ «حيّ النصر» تثير لديه ألماً حادّاً بسبب فشله في التواصل معها جسدياً، وهو ما عاد به إلى خزين ذاكرة طفولته حيث احتشدت أمامه صور «الشيخ علالة الدرويش» وهو يحاول مفاحشته في أكثر من مرّة، وفي كلّ مرة كان يهرب منه بمشقّة الصُّدفِ، وهو ما حفزه في مراهقته على التشفّي من هذا الشيخ بتلذّذ جسد زوجته «للاّ جنينة» التي كانت ربّته وهو صغير. وفي تلك اللحظة أيضاً، لحظة فشل «الطلياني» مع ريم، يبلغه خبرُ موت أبيه الشيخ محمود، فإذا به يذهب مباشرة إلى مقبرة «الزلاّج» في العاصمة، وينهال ضرباً على «الشيخ علالة الدرويش» وهو بصدد تأبين والده، فعل ذلك من دون احترامٌ منه لرهبة الموقف ولا حسابٍ لمكانة عائلته أو لحديث الناس عنه. وهو الحدث الذي اختاره الكاتب فاتحة مغامرته الحكائية.

قدّيسة الرواية
زينة «قصبة مُفكِّرة»، هكذا يصفها «الطلياني»، وهي على حدّ وصف الراوي «ممشوقة القوام كالرمح. وجه قمحيّ وضّاح... لا هي متأنّقة من أثر الحلاّقات ولا هي مهملة كجلّ المُناضلات»، بل «كانت جمالاً باذخاً يريد نفي وجوده بتقشّفها في إبدائه... ولو اعتنت بإبراز الحدّ الأدنى من أنوثتها لقلبت الدنيا رأساً على عقب». غير أن صاحبة هذا الجمال المُحبّ للحياة والمسكون بالتمرّد على كلّ شيء لاقت من الرواية تنكيلاً مُرّاً وهَدْماً عنيفاً لأحلامها. وهو تنكيل، وهو هدم، يحفزان القارئ على التعاطف معها تعويضاً عمّا يستشعره من كثرة الغُبن الذي لاقته في الحكاية المسرودة. ولعلّ هذا ما يثير فينا السؤال عن سبب اختيار الكاتب مساراً صعباً لحياة زينة، ولكننا سنؤجّل تأويل ذلك إلى حين، لنتفرّغ لكشف ملامح المرارة التي عانتها زينة وهي تروم نحتَ كيانها بيديها وتسطير تاريخ لها نضاليّ رغم إكراهات منظومات واقعها الاجتماعية والسياسية والثقافية التي عرف الكاتب كيف يُظهر عَسْفَها الفكري والعاطفيّ الشديدَ إلى الحدّ الذي يكاد فيه القارئ يستشعر طعمَ مرارتِه، لا بل ويحسّ بانصباب الأوجاع عليه.
عرفت زينة، وهي لم تزل تلميذة في الثانوي، صروفاً من الاضطهاد الجسدي والفكريّ من قبل أحد إداريي المؤسّسة التربويّة لمّا رفضت الانصياع لطلباته الجنسية. وعندما التحقت بالجامعة وافتكّت لها حضوراً سياسيّاً في أوساط الطلاب لاحقتها الشائعات؛ إذْ «لم يتوان خصوم طلبة اليسار من الإسلاميّين عن تكنيتها بعاهرة الثورة البروليتارية»، بل وقد «سمع الطلياني رفاقه يتحدّثون عن علاقات زينة الجنسية مع طلاب آخرين من القياديّين». ثمّ لمّا راحت تنقد في نقاشاتها الجامعية أفكار اليسار واليمين على حدٍّ سواء، طالب قائد تيار يساري - بعد أن خاف من أن يؤثّر نقدها في أتباعه ويصرفهم عنه - بتصفيتها جسدياً لولا تنبّهُ الطلياني إلى الأمر وتفاديه. كما مارست بيروقراطية الإدارة التونسية اضطهادها على زينة باشتراط زواجها حتى تتمّ نُقلتها من الجنوب إلى العاصمة لمواصلة دراستها. ولم تخلُ حياة زينة العاطفيّة من هزّات عنيفة صورتُها إقدام زوجها الطلياني على خيانتها مع صديقتها نجلاء في فراشها وبحضورها من دون قدرة منها على ردّ الفعل، واضطرارها في وقت لاحق إلى إجهاض جنينها رغم إحساسها بتأنيب الضمير.
بل إن اضطهاد زينة الوجداني يذهب إلى أبعد حدوده لمّا يخبرنا الراوي بأنها رغبت في العودة إلى العاصمة يوم وفاة أمها، مُصوِّرًا إيّاها تصويراً سلبياً تظهر فيه غير متأثّرة بحدث الموت وغير عابئة بخسارة أمّها. يُضاف إلى ذلك أن الكاتب جعل زينة تتزوّج، بعد وسامة الطلياني ورجولته، شيخاً فرنسياً لا يُجيد سوى الخضوع لأوامرها وقبول إهاناتها له.
وإجابة منا عمّا بدا لنا تطويحاً من الكاتب بروح بطلته زينة ووضعَه عقباتٍ صعبةً في مسيرتها الحياتيّة إنّما هو راجع في تأويلنا إلى إيمانه بأنّ تحقُّقَ مطلب حريّة المرأة التونسية، رغم كثرة التشريعات القانونية الضامنة لذلك - كمجلّة الأحوال الشخصية على سبيل المثال - يبقى رهينَ وعي المجتمع بدور الأنثى في دعم نهضته الحضارية، وقبول ثقافته الذكورية لحضور الأنثى فيها حضور المشارك الفاعل لا حضور الدّيكور والترف سواء كان على المستوى السياسي أم الاجتماعي. وإذا سأل سائل: هل زينة قدّيسة؟ نقول: ربّما لا، ولكنها بطلة فذّة لرواية تحدَّتْ ذاتَها.

mardi 10 février 2015

الطليانى".. رؤية ضبابية ومضطربة عن سقوط المثقف

"الطليانى".. رؤية ضبابية ومضطربة عن سقوط المثقف

تخذلك رواية "الطليانى" للكاتب التونسى شكرى المبخوت  الصادرة عن دار التنوير خُذلانا مبيناً، تغريك الفكرة بمواصلة القراءة: تشريح سقوط  مثقف بل ومناضل يسارى فى سنوات خطيرة من نهاية عصر بورقيبة وبداية عهد زين العابدين بن على أمر يستحق التأمل والإعتبار، تنويعة جديدة على سقوط الكثيرين من المثقفين العرب فى بئر السلطة، يزعمون الإصلاح فيغرقون، لكن المبخوت لم يستطع أن يضبط بناء روايته، لم ينجح حتى فى تبرير هذا السقوط على كل المستويات، نصف الرواية عن مناضل يسارى قائد لزملائه، ينشط فى الجامعة، ويعرف أعداءه من قوى الظلام المتأسلمة، ومن الحكومات التى تكرّس الفساد والقهر السياسى، يعيش قصة حب ناضجة مع فتاة تونسية تمتلك شخصية مستقلة، وطموحا علميا هائلا، وفى النصف الثانى يتحول بطلنا عبد الناصر ولقبه الطليانى الى محرر فى جريدة حكومية، يراقب أكثر مما يعلق، يهرب من السياسة إلى الثقافة، تضطرب حياته مع زوجته التى أحبها، يخونها مع صديقتها، تنفصل عنه، يبدأ رحلة سقوط شاملة، كأنك بالضبط أمام شخصيتين منفصلتين دون أن تصنع الرواية جسرا بينهما أو مبررا أو تحليلا عميقا يفسر هذا الإنقلاب، أصبحنا أمام رؤية مضطربة وغير مقنعة من الناحية الفنية، وقنع المؤلف فى النهاية بأن يعلو صوت السياسة لتغطية ضعف وخفوت أدواته كروائى، وظلت الصورة دائما ضبابية وناقصة.
تبدأ الرواية بحدث غير عادى وشاذ فى جنازة الشيخ محمود  والد عبد الناصر، حيث يتقدم بطلنا الذى يبدو مهمل الثياب، أشعث الشعر،  فى اتجاه جاره الإمام أثناء دفن الجثمان، يضربه بعنف، وينهال عليه بالسباب :"يلعن دين والديك، يا منافق، يا ندل، يا ساقط ، أخرج من غادى يا ......"، يفترض أن هذا الحادث سيبرر أن يقوم السارد (وهو صديق عُمْر الطليانى) بحكى قصة بطلنا من الألف الى الياء، ثم سيعود فى الصفحات الأخيرة لتفسير تصرف الطليانى ( أطلقوا عليه هذا الاسم لملامحه الأجنبية التى  تشبه أبطال المسلسلات الإيطالية) ضد الإمام الشيخ علاّلة. ستظن، وبعض الظن إثم، أن رحلة الطليانى السياسية والإجتماعية، لها علاقة بحادث الضرب، ثم ستكتشف أن الأمر يتعلق بحادث إنتهاك جنسى  ارتكبه علاّلة تجاه لطليانى فى طفولته، مجرد حادث فرعى لا يبرر كل هذا السرد الذى يبحث بالتحديد فى مأساة المثقف وسقوطه. الأعجب أن حالة عبد الناصر الطليانى فى صفحات الرواية الأولى،  كانت توحى بنهايته أو اقترابه من اليأس أو الموت، يتضح ذلك من حوار الطليانى مع شقيقه الأكبر صلاح الدين، ثم نكتشف أن كل هذه الثرثرة، والحديث اليائس عن الفشل، انتهى ببداية جديدة للطليانى، فإثر وفاة الأب، التحق الطليانى عام 1989 بوكالة للأنباء، وقضى فى مكتبها بتونس أكثر من سنة وبضعة أشهر،  ثم سافر الى أماكن أخرى مثل قبرص والسودان والصومال ولبنان والعراق، ثم عاد الى تونس سنة 1994ليفتح شركة "عيون" للإتصال والإشهار والإعلان، لن يحكى السارد بالطبع عن تفاصيل ذلك، فربما تطلب الأمر رواية جديدة، ما يعنينا هنا أن حادث ضرب الشيخ علاّلة بدا كحيلة ساذجة لا يمكنها أن تغلق قوسا أو تفسر شيئا، مجرد وسيلة لكى تستمر فى القراءة، لا هى ذروة إنهيار، ولا هى بداية نهاية، ولا هى تنذر بانتحار، ولا هى تعبير عن موقف عام، ولكنها ثمرة معاناة نفسية قديمة من انتهاك جنسى، أو ربما هو انتقام لزوجة الشيخ علاّلة، التى اختبر معها عبد الناصر فى فترة شبابه المبكر ملذات الجسد!
لكن الإضطراب الأكثر وضوحا يمتد بالأساس الى متن الرواية، أعنى بذلك الطريقة التى رسمت بها شخصية عبد الناصر وحبيبته وزوجته زينة، فمن بداية قوية لشخصيتين تمتلكان ثقافة وقوة ووعيا وقدرة على النضال، ننتقل تدريجيا الى شخصيات تاه منها الطريق سواء فى دهاليز السلطة فيما يتعلق بعبد الناصر، أو فى دهاليز حب الذات وخدمة طموحها العلمى كما هو الحال مع زينة، لن تستطيع أن تبتلع هذا القفزة دون تمهيد، ولن تصدق أن عبد الناصر وزينة اللذين تبادلا القبلات تحت هراوات رجال البوليس، يكشفان تدريجيا عن ميل عميق للتراجع والتنازل مع أول اختبار، بل ستولد علاقة ممتدة بين عبد الناصر ورجل الأمن الذى ينتمى الى نفس منطقته، رجل ألأمن سيساعد فى الإفراج عنه، وسيمنحه فرصة العمل فى الجريدة الحكومية وثيقة الصلة بالحزب الحاكم، وسيساعد فى حصول زينة على ما يجيز حصولها على وظيفة مدرّسة للفلسفة رغم نشاطها السياسى السابق، عبد الناصر الذى كان يتعمد الرسوب فى كلية الحقوق حتى لا يترك ساحة الجامعة للمتأسلمين، سيتحول تقريبا الى شخص آخر بعد التخرج، وزينة التى تمتلك تحليلا رائعا تضع من خلاله المتأسلمين والشيوعيين فى سلة واحدة من حيث الصرامة الأيدلوجية البائسة، هى نفسها التى لا تستطيع  أن تحلل موقفها من عبد الناصر، يتأخر كثيرا قرارها بالإنفصال عنه، وتسير علاقتهما بين مد وجذر، بل إن تعاملها مع حلم الحصول على الدكتوراة يفتقد النضج، إنها تبدو مثل طالبة تضع حياتها بأكملها فى مقابل هذه الدرجة العلمية، وهو أمر لا يليق بمنظّرة سياسية وفلسفية بارعة، سينتهى الأمر بخيانة عبد الناصر لزينة مع صديقتها، وستسافر هى للدارسة فى فرنسا بعد أن ارتبطت برجل فرنسى أكبر منها سنا.
كل رواية، وكل عمل فنى، يصنع قانونه وحيثياته، وليس فى رواية "الطليانى" إلا  تقلبات غير مستساغة، ومحاولات غير ناحجة لرسم الشخصيات، تتسلل إليك وسط هذه الضبابية الفنية الناتجة حتما عن نقص الأدوات معالم وجهة نظر سياسة تجعل اليسار فى خندق الحكومة ونظامى بورقيبة وبن على فى مواجهة الخطر الأكبر للمتأسلمين، الذين بدأوا فى الإنتشار والتغلغل منذ الثمانينات من القرن العشرين، عقدوا مؤتمراتهم، واقتحموا الجامعات، وحصل بعضهم على رعاية الحزب الحاكم، يعلو صوت السياسة مع استغراق مفتعل فى صوت الجنس وخبرات الطفولة المؤلمة، زينة مثلا انتهكت فى طفولتها جنسيا من شخص لم تتبين معالمه، قد يكون والدها أو شقيقها، لم تستطع أن تعيش حياة جنسية سوية بعدها، ثم اكتشفنا أن عبد الناصر، الذى يبدو مثل كازنوفا يسارى، تعرض أيضا للإنتهاك فى طفولته من الشيخ علاّلة، صديقة زينة تبدو أيضا كنموذج غريب ومفتعل، لاتعرف بالضبط هل هى تحب عبد الناصر أم تريد جسده؟ ولن تفهم أبدا علاقتها الملتبسة مع زينة التى تشاركها فى رجل لديه مشكلة انتهاك جنسى فى طفولته.
تفتقد الرواية تلك البؤرة التى تجمع شتاتها، أتصور أن شكرى المبخوت نفسه قد أحس بذلك، فحاول على لسان السارد العالم بكل شىء أن يفسر التيه الذى تداخل فيه العام والخاص بدون تفسير أو سياق، يقول السارد:" ولو رويتُ ما سمعته  لتطلّب منى تديونه ونقله بأقصى قدر من الأمانة والتماسك مئات الصفحات التى لا أقدر على تحريرها لطولها ولا أريد أن أفعل ذلك لأنها استطرادات قد تضيع عنى خيط الحكاية التى أدت  بعبد الناصر الى فضيحة المقبرة، فالواقع أن الكثير منها لا يضيف لنا شيئا عن حياة عبد الناصر ودوافعه فى ضرب الإمام الشيخ علاّلة يوم دفن سى محمود، ولكن الكثير منها قد يدل على ما عاناه عبد الناصر وهو ممزق بين استسلامه لتلك الإجواء البائسة فى الوسط الثقافى والإعلامى التونسى، ووعيه الحاد بأنها لا تثرى فيه حسا ولا تطور معنى، إنه السأم الذى يتغذى من السأم والقرف الذى يتولد من القرف، وعلى حد معرفتى بعبد الناصر وشغفه بالتجديد والتغيير والتبدل وبحثه عما يثرى أحاسيسه ومعارفه وحساسيته ونظرته الى الحياة، فإن كل تلك الأجواء دخلها اضرارا لا اختيارا" . فى هذه الفقرة  السابقة ما يكشف مأزق الرواية الفنى بوضوح، لقد شعر كاتبها بثرثرتها واستطرادها، وعدم ارتباط ذلك بحدثها الإفتتاحى، فساق  تبريرا بأن كل ذلك يكشف عن معاناة بطله بين استسلامه ووعيه، الذى أورثه مللا وقرفا انفجر فى وجه الشيخ علّالة، وكان أولى أن ينفجر فى شخص عبد الناصر نفسه، نسى كاتب الرواية أن عرض الفكرة بشكل مباشر يثبت عجز أدواته عن توصيلها، ونسى أن حديثة سيفرز سؤالا هاما عن سبب وجود هذا الشخص الواعى الحساس والمناضل المستعد لدفع الثمن فى أوساط الإعلام التونسى الخاملة ؟ كيف تحولت الشخصية القيادية المستقلة الى شخصية مستسلمة ومؤيدة وتابعة؟ كيف تكون شخصية متمردة مثله مضطرة ومجبرة ؟ لا إجابة.
محمود عبد الشكورتحتمل أزمات المثقفين وصعودهم وسقوطهم تناولا فنيا وأدبيا مفتوحا، لدينا رصيد لا بأس به فى هذا المعنى  فى ورايات كتاب كبار مثل نجيب محفوظ وفتحى غانم وغيرهم، لا يصح بعد كل هذه السنوات أن تكون لدينا صياغة غائمة وركيكة مثل "الطليانى" حول نفس الموضوع، ليست الرواية هى تلك الصفحات الطويلة المكتوبة والمليئة بالتفاصيل والأحداث ، ولكن الرواية هى المعنى  والمغزى من وراء كل ذلك، فإذا اضطرب المعنى، وتاهت مبررات الشخصيات، واستند البناء على حادث هزيل، فإننا سنكون ساعتها أمام معضلة اسمها "الفشل الفنى".

lundi 9 février 2015

فعل الكتابة التزام بعذابات الإنسانيّة

شكري المبخوت لـ"ذوات": فعل الكتابة التزام بعذابات الإنسانيّة        09 فبراير 2015 

الروائي التونسي شكري المبخوت -(ذوات)
قال الدكتور شكري المبخوت إن فعل الكتابة، بغض النظر عن جنسها، هو التزام بعذابات الإنسانية، مؤكداً أنه التجأ إلى الرواية بعد رحلة أكاديمية طويلة؛ لأنها تبقى ذات "قدرة مدهشة على استيعاب التحولات والتعبير عن التناقضات وتعدد وجهات النظر".
وأكد صاحب رواية "الطلياني"، الحائزة على ثقة لجنة التحكيم لتكون واحدة من ثمانية عشر عملاً روائياً هي القائمة الطويلة لـ"جائزة البوكر" مؤخراً، أن روايته هي الأولى له في مجال السرد الروائي. وأضاف الدكتور المبخوت أنه كتبها كما يريد أن يرى الروايات، حكايات تشدّ، تردنا أطفالاً يحبون التشويق.
وتابع الدكتور المبخوت أن قسوة النقد التي تبدو للقارئ ظاهرة لا تعدو أن تكون وجهاً ملطفاً "من قسوة واقعنا التونسيّ وتناقضاته"، معتبراً أن رواية "لم تقل الحقيقة وتكشط جلدة الزيف المعمّم"، ليست من الرواية في شيء. وأضاف أنه اختار الفترة الواقعة بين آخر أيام الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة وبداية الفترة النوفمبرية لأنها الفترة التي أسست، في رأيه، لما تلاها من استبداد وقمع ودكتاتورية.
أما عن الشخصيات، فأوضح الدكتور المبخوت أنه ردّ إليها إنسانيتها وبشريتها مثل شخصية "الطلياني"، البطل الذي أراده أن يكون إنسانا رغم الهالة الأسطورية التي تحيط به في الرواية، وكذا بالنسبة إلى "زينة" التي أرادها "صورة من حيرة جزء من مثقّفات تونس المتحرّرات تحرّراً جذريّاً وانسداد الآفاق أمامهنّ"، على حد تعبيره.
أما عن حضوره في الرواية، فقد أكد أن المبخوت موجود في ثناياها بلا شك، دون أن يعني ذلك أنها سيرة ذاتية أو سيرة روائية أو تخييل سير ذاتي؛ فلئن كان عالم الرواية مبنياً من مشاهد وتفاصيل موجودة في الواقع القريب بحكاياته وأحداثه وملامح شخصياته، فإن كل هذه المادة قد تشكلت في "مصنع الخيال" واقعاً جديداً لا وجود له قبل كتابتها.
وسجّل المبخوت ارتياحه لما كتب عن رواية "الطلياني" غداة صدورها، مؤكداً أنها قراءات عاشقة للنص كشفت له ما لم يكن يعلم عن نصه. وأبدى ارتياحه لاختيار روايته ضمن القائمة الطويلة لـ"جائزة البوكر" التي وصفها بالجدية. وأعلن أن له جزءاً ثانياً جاهزاً من "الطلياني" وله رواية جاهزة بعنوان "باغندا"، علاوة على مشاريع روائية أخرى.
والدكتور شكري المبخوت حاصل على دكتوراه الدولة في الآداب من كلية الآداب بمنوبة. وهو عميد سابق لكلية الآداب والفنون والإنسانيات بجامعة منوبة. ويشغل، الآن، وظيفة رئيس جامعة منوبة، وهو عضو في عديد هيآت تحرير مجلاّت محكّمة؛ منها مجلّة "إبلا" التي يصدرها معهد الآباء البيض بتونس، ومجلّة "Romano Arabica" التي يصدرها مركز الدّراسات العربيّة التّابع لجامعة "بوخارست" (رومانيا). وله مشاركات عديدة في الندوات العلمية ومقالات منشورة وإسهامات في التأليف المدرسيّ ومعالجة قضايا تربويّة وتعليميّة. ومن كتبه المنشورة: "سيرة الغائب، سيرة الآتي – السيرة الذاتية في كتاب "الأيام" لطه حسين"؛ و"إنشاء النفي"؛ و"الاستدلال البلاغي"؛ و"المعنى المحال"؛ و"نظريّة الأعمال اللّغويّة"؛ و"توجيه النفي في تعامله مع الجهات والأسوار والروابط"؛ و"دائرة الأعمال اللّغويّة".. إلخ. وله في مجال الرواية: "الطلياني" التي ثبتت على القائمة الطويلة لجائزة البوكر 2015. وفي ما يلي نص الحوار كاملاً:

* شكري المبخوت رحلة أكاديمية ثرية تتوج برواية متميزة "مفاجئة" تلقى رواجاً واسعاً، هل يعني هذا التحول أن الرواية هي أقدر الأجناس على قول ما تعجز عنه بقية فنون القول؟
للرواية قدرة مدهشة على استيعاب التحوّلات والتعبير عن التناقضات وتعدّد وجهات النظر؛ بحكم كونها، كما يقول بعض النقّاد، متعدّدة الأصوات بطبيعتها. ربّما هذا ما ألجأني إلى جنس الرواية لأتدبّر وأروي صراعاً ظلّ يعتمل في مجتمعنا التونسيّ منذ سنوات عديدة ويحيّرني شخصيّاً. بهذا المعنى، يصدق ما ذهبت إليه من خاصّيّة للرواية. ولكن، من ناحية أخرى، كتبت البحث الأكاديميّ بما يقتضيه من صرامة، وكتبت الشعر بتدفّقه العجيب، والقصّة القصيرة بما فيها من تكثيف، والعمود الصحافيّ بما يستلزمه من إيجاز ودقّة.. وأرى أنّ أجناس القول كلّها تستجيب لحاجات مختلفة؛ ولكنّها تلتقي في موقف أخلاقيّ جامع هو قول الحقيقة. أصبحنا ننسى هذا، وننسى أنّ فعل الكتابة، مهما كان جنس القول، التزام بعذابات الإنسانيّة، وشوق إلى أن يكون كلامنا فعلاً في الواقع يغيّر ما بالنفوس والأذهان، ويجدّد رؤيتنا إلى الأشياء.
* في رواية "الطلياني" توظيف سلس للسرد والوصف والحوار وكل ما تقتضيه الرواية المعاصرة من أساليب فنية، فجاء النصّ راقياً.. أليس هذا دليلاً قوياً على أنّ "الطلياني" ليست الأولى في مجال القصّ؟
بل هي الأولى في السرد الروائيّ، إذا استثنيت الخربشات الأولى للشابّ الذي كنت، والمحاولة المجهضة لكتابة نصّ سرديّ طويل منذ ربع قرن. وهو نصّ كان قد سكنني، لكنّ الصبر عليه نفد بسرعة؛ فثمّة على التحقيق شوق إلى قول شيء مّا وجدَ في السرد أسلوبَه الوحيد الذي يمكّن من قوله؛ وذلك بسبب ما تفتحه الرواية من مجالات للتخييل وإعادة تركيب الواقع على مقتضى المقصد العام القابع في النفس والعقل.
* عندما يكتب أكاديمي رواية، كثيراً ما يقال إنه يبدعها بعيون الناقد، هل ينطبق هذا على كاتب "الطلياني"؟ وهل تعتقد أن الإلمام بنظرية الرواية ونقدها هو شرط كاف لكتابة رواية جيدة؟
الناقد الوحيد الذي كان يراقبني وينبّهني، عند تحرير "الطلياني"، هو "الناقد العفويّ". أقصد ميولي في مطالعة الأدب. لقد كتبت رواية كما أحبّ أن أجد الروايات. بعض النقّاد وجد معمارها الفنّيّ دقيقاً موفّقاً، وآخرون وجدوها راغبة عن التجريب الروائيّ، ووسموها بأنّها "واقعيّة" و"كلاسيكيّة" شبيهة بالرواية البوليسيّة أو رواية اللغز. فليكن! فإن هي إلاّ أسماء سميتموها. أحبّ الرواية التي تحكي لي حكاية تشدّني. أنا هكذا في عالم السرد؛ لا أزال طفلاً تروق له الحكايات المشوّقة؛ ولكنّني، بالمقابل، لست أدّعي السذاجة أو التبرّؤ من النظريّات النقديّة. فقط أشير إلى أنّ السارد، مهما يكن إلمامه بالنظريّات، يظلّ عصاميّاً إذ يقتحم عالم الرواية؛ فمعرفتك بالنحو والإعراب لا تعصمك من الوقوع في اللحن.. وقياسا عليه، لا تنجيك معرفتك بنحو القصّة من الوقوع في موضع بعيد عن مستلزمات الرواية. واسمح لي أن أقول إنّني أريد من القرّاء والنقّاد أن يحاسبوا "الطلياني" باعتباره عملاً فنيّاً بمعايير الفنّ السرديّ، وعفويّة البهجة التي يسبّبها الفنّ، لا باعتباري أكاديميّاً. لقد كادت صفتي الأكاديميّة تصبح "تهمة" عليّ أن أعتذر عنها باستمرار، والحال أنّ الواحد منّا بطبيعته متعدّد الأبعاد؛ فليست المعرفة الأكاديميّة امتيازاً في الأدب ولا هي نقيصة.
* لو اقترحنا عنواناً ثانياً للرواية، فسيكون بعد قراءتها مباشرة:"الجَلْد"، فثمّة سوط لا يفتأ – كالشامت أو كالساخر أو كالمتألم الحزين – يجلد هذا التيار أو ذاك، لم ينج منه الإسلاميون ولا اليساريون، لا الصحافة ولا الثقافة ولا السياسة. هل تتفق مع صاحب هذه القراءة؟
وهل يرى "صاحب هذه القراءة" في واقعنا شيئاً لا يستحقّ الجلد، أو لنقل بعبارة أحبّ إلى نفسي: لا يستحقّ الكشف والفضح؟ فالقسوة البادية في النصّ هي وجه ملطّف من قسوة واقعنا التونسيّ وتناقضاته. انظر حواليك تر الواقع بذيئاً خانقاًعنيفاً قاسياً. وما الرواية إن لم تقل الحقيقة وتكشط جلدة الزيف المعمّم؟ ورغم ما عاشته شخوص "الطلياني" كلّها تقريباً من انكسارات وخيبات وخسران مبين، فإنّني أراها مليئة بهجة وحبّاً للحياة. إنّها في ظنّي رواية تسعى إلى تتّبع مسارات نفوس معذّبة تتحرّق شوقاً إلى حرّيتها ومعناها. عليك أن تحاسب الواقع البذيء الحزين، أمّا رواية "الطلياني"، فلا أحبّ لها أن تكذب.
* في الوقت الذي يتسارع فيه الروائيون إلى نقد النظام السابق، انكب المبخوت على فترة نهاية الحكم البورقيبي وبداية الحكم النوفمبري. ما أسباب هذا الاختيار؟
السبب، في رأيي، واضح؛ النظام السابق لم يولد فجأة، وكانت له ممهّدات اجتماعيّة وسياسيّة، وكان له سياق ثقافيّ وفكري يعمّره فاعلون رأينا كثيرين منهم يظهرون مجدّداً بأسمائهم وصفاتهم وأكاذيبهم وأوهامهم وتصوّراتهم الحمقاء بعد رحيل الرئيس السابق. ثمّة استرسال في تاريخ البلاد وعوامل خفيّة. فما حدث بعد الثورة إنّما هو انفجار ألغام كانت مزروعة في تربة البلاد السياسيّة والفكريّة منذ العهدين البورقيبي والنوفمبريّ. هذا أمر لم أع به بوضوح حين شرعت في كتابة "الطلياني"، كان مجرّد إحساس أو حدس سرعان ما جعلني أرى التشابهات والتناظرات.
الناقد الوحيد الذي كان يراقبني وينبّهني، عند تحرير "الطلياني"، هو "الناقد العفويّ". أقصد ميولي في مطالعة الأدب. لقد كتبت رواية كما أحبّ أن أجد الروايات
ليس ذلك بغريب، فالتحوّلات والأزمات التي عاشها التونسيّون بعد الثورة تشبه شبه الماء بالماء ما عاشوه من ترقّب ومخاوف وانتشاء وآمال عريضة أيضا لحظة التحوّل سنة 1987. لم يكن مقصدي التأريخ، ولكنّ الإطار التاريخيّ منحني فرصة لتأمّل الخيط الرفيع الرابط بين مراحل التاريخ التونسيّ المعاصر روائيّاً وتخييليّاً على الأقلّ. وهذا ما جعل بعض القرّاء الشبّان الذين ولدوا في التسعينيات ينشدّون إلى الرواية، إذ وجدوا فيها بعض ما يرتّب في ذاكرتهم الوطنيّة أجزاء لم تكتب بعد من تاريخ بلدهم.
* كثيرا ما يخرج اليساري في الروايات بطلاً مناضلاً ينزع نحو الأسطرة، ولكنّ "الطلياني" جرّدته من هالته الأسطوريّة. لِمَا اخترت هذا المنحى؟
ثمّة، رغم ما ورد في سؤالك، هالة تحيط بشخصيّة عبد الناصر الطلياني. ربّما حبّبت الناس فيه، لأنه مصنوع من طينة البطولة والجرأة والتميّز. إنّه شخصيّة فاتنة، وإلاّ ما كان جديراً بأن أجعله "بطلاً" لروايتي. الفرق هو أنّني لم أتحدّث عن المناضل الصلب المبدئيّ الذي يواجه القمع ويصمد. لا يعني ذلك أنّ هذه النماذج غير موجودة في اليسار وغير اليسار؛ ولكنّها عندي نماذج غير إنسانيّة بالفعل، أو إنّنا لم ننتبه إلى أعماقها وكثافتها الوجوديّة. اخترتُ أن أكتب عن الإنسان بتردّداته وحيرته وآلامه وعذاباته الداخليّة وهشاشته الجذريّة وصراعه من أجل أن يكون، فيخطئ ويضعف ويتألّم ويحبّ ويخون ويكره ويعجز... إلخ فربّما قلبت ملاحظتك حين أؤكّد لك أنّني أردت أن أمنح لشخصيّة اليساري عمقاً إنسانيّاً يخرجه من الأسطرة التي تحدّثت عنها، ليصبح كائناً تاريخيّاً وذاتاً فرداً وكياناً يسعى إلى حرّيّته. لقد أردت أن أقول، بالفعل، عكس ما هو شائع لدى اليسار قولاً وتنظيراً وسلوكاً: إنّنا أمام بشر بقوّتهم وضعفهم ولا معنى للحرّيّة الجماعيّة دون تحرير الفرد؛ فالمجتمع الحرّ عندي هو التقاء ذوات حرّة.
* بدت شخصية "زينة" نموذجا للمرأة المناضلة الحاملة للقضية، المتحدية لظروفها القاسية وللمجتمع الذكوري؛ غير أن سقوطها كان مدوياً، وعجزت عن تحقيق ما كانت تصبو إليه علمياً وأسرياً. هل هذا كسر لنمطية الصورة النسائية التونسية؟
"زينة" شخصيّة لا أعرف كيف ولدت من بين يديّ. وقد تمرّدت، أكثر من مرّة، وأنا أتقفّى ملامحها؛ ولكنّها استقامت أمامي كائناً مذهلاً بهامشيّتها الخلاّقة (بربريّة الأصل، فقيرة نابغة، محطّمة منذ الصغر نفسيّاً وجسديّاً، فيلسوفة راديكاليّة في نقدها...). إنّها الهامش المبدع. ولكنّ لها رغم ذلك أشباهاً ونظائر في نساء تونس الحالمات الطموحات. أما نهايتها المدوّية برحيلها إلى فرنسا لتنتهي عشيقة أو زوجة لجامعيّ فرنسي مشبع برومانسيّة اليسار الفرنسي واستشراقه، فتعود إلى أنّه لا يمكنها أن تعيش في بلد محافظ محافظة عميقة. لقد خفت عليها، فهجّرتها إلى فرنسا، وأخرجتها من عالم "الطلياني". كان مصيرها المحتوم إمّا الجنون أو الانتحار، بحسب منطق الرواية؛ لكنّني أشفقت عليها. إنّها صورة من حيرة جزء من مثقّفات تونس المتحرّرات تحرّراً جذريّاً وانسداد الآفاق أمامهنّ.
كثيراً ما يتكئ الكتّاب في رواياتهم الأولى على شيء – أو أشياء – من سيرهم الذاتية، فمن هو "الطلياني"؟ وهل له علاقة بشكري المبخوت؟
سألتني قارئة في لقاء أدبيّ بمدينة تونسيّة عن "الطلياني" من هو؟ حملتْ إليّ باقة ورود وطلبت منّي أن أهديها إليه مع تحيّاتها. عشقتْ الشخصيّة التي صنعت من مداد على الورق. كان موقفاً طريفاً وذكيّاً من قارئة لا أشكّ في ذكائها، لعلّها أرادت بذلك أن تعبّر عن إعجابها بالرواية. المشكلة هي أنّني أنا نفسي لا أعرف من هو "الطلياني"، رغم أنّني تتبعت مراحل ولادته، وكنت أراه أمامي زمن الكتابة. هذه حقيقة "الطلياني"، البطل المتخيّل الذي سمعت كثيرين قبلك يقرّبونه من أشخاص أعرفهم أو يبحثون عن شخص في الواقع يشبهه. قد تكون هذه اللعبة شيّقة، ولكنّها عبثيّة.
جلّ ما كتب عن "الطليانيّ" كان قراءات عاشقة للنصّ كشفت عن جوانب عديدة منه. وبعض هذه القراءات جعلني أرى في نصّي ما لم أره فيه
أمّا شكري المبخوت فموجود في الرواية ولا شكّ دون أن يكون النصّ سيرة ذاتيّة. لك أن تكشفه وتكتشفه في التعليق والأسلوب وتفاصيل كثيرة موزّعة على الشخصيّات جميعاً بمقدار. إنّها رواية "تتكئ" على نتف من حيوات أبناء جيلي دون أن تعيدها حرفيّاً. لقد أدهشتني ردود فعل قرّاء كثيرين وجدوا أنفسهم في "الطلياني" وتبيّنوا ملامح من حياتهم، وما كان يمكن أن يكون التعرّف قويّاً لو لم يجدوا ملامح جيل في الرواية، إضافة إلى سبر لأغوار نفسيّة التونسيّين أو جوانب منها؛ فالنكهة التونسيّة في النصّ تكاد تلمس لمساً لأنّها منّي ومن الوسط الذي ترعرعت فيه. الثابت هو أن "الطلياني" ليست سيرة ذاتيّة ولا سيرة روائيّة ولا تخييلاً سير ذاتياً.
* ما الروافد التي يستلهم منها شكري المبخوت عالمه الروائي؟
سؤالك صعب جدّا! ولكنّ النواة الأولى لكثير من المشاهد والتفاصيل موجودة في واقعي القريب، وفي حكايات كثيرة سمعتها، وفي أحداث عايشتها، وملامح شخصيّات أعرفها، وأخرى تصوّرتها ممّا بلغني عنها. ولكنّ أهم ما في الأمر هو إدخال هذه المادّة الغفل الساذجة في مصنع الخيال لتتشكّل على النحو الذي يجده القارئ في الرواية. وأعتقد أنّ هذه العمليّة بدهيّة جدّا؛ لأنّ الواقع الذي أتحدّث عنه ولد زمن الكتابة، ولا وجود له قبل صياغته في عالم "الطليانيّ" من وجهة النظر التي صنعته. إنّ الشخصيّات كانت أحياناً تفرض عليّ مساراتها، ولم تكن ملامحها متشكّلة قبليّاً إلاّ في عمومها. ومن ثم، ظلّت تتعدّل مع تطوّر الحكي والأحداث. ويصعب عليّ أن أحدّد مصادري وروافدي؛ لأنّني لم أتّبع، منذ البداية، تخطيطاً مفصّلاً ينبني على الاستقصاء، بل اكتفيتُ بالخيط الرهيف الجامع بين أجزاء الرواية.
* كيف وجدت ما كتب عن "الطلياني" هنا وهناك غداة صدورها؟ هل ذهب الأفق التأويلي للرواية كما انتظر المبخوت؟ أم إن آراء أخرى قد فاجأته؟
جلّ ما كتب عن "الطليانيّ" كان قراءات عاشقة للنصّ كشفت عن جوانب عديدة منه. وبعض هذه القراءات جعلني أرى في نصّي ما لم أره فيه. أمّا الآراء التي فاجأتني فقليلة جدّا في واقع الأمر. ولا أحبّ أن أذكرها بالتفصيل، ولا أن أناقشها نقاشاً أدبيّاً؛ بيد أنّ وجه المفاجأة فيها هو أنّ أصحابها نقدوا الرواية كما لو أنّهم لم يطّلعوا على الروايات الكبرى التي أبدعتها الإنسانيّة. وأشير إلى أنّ جلّ هذه القراءات كان موجزاً إيجازاً تقتضيه صفحات الجرائد في انتظار تحاليل معمّقة من نقّاد أعرف أنّهم ينكبّون الآن على الرواية، ومن المتوقّع أن يذهبوا عميقاً في طبقاتها الدلاليّة للوقوف على بعدها الرمزيّ الذي غطّته كثافة الأحداث والحكايات في دنيا "الطلياني".
* حصلت رواية "الطلياني" على ثقة لجنة تحكيم "جائزة البوكر" لتكون واحدة من ثمانية عشر عملاً روائياً تمثل القائمة الطويلة لهذه الجائزة. كيف تلقيت ذلك؟ وهل تتصور أن نصك قادر على حصد هذه الجائزة؟
بطبيعة الحال، بعث الخبر البهجة في نفسي؛ لأنّ الجائزة جدّيّة، تاريخاً وإشرافاً ولجاناً. والحقّ أنّني اعتبرت ذلك نوعاً من الاعتراف الأدبيّ بروايتي في عالم عربيّ أصبح الإنتاج الروائيّ فيه غزيراً لا يخلو من طرافة واجتهاد وبعض التميّز. أمّا حصد الجائزة فأمر موكول إلى اللجنة حين تقارن بين النصوص؛ لأنّ المسألة دائماً نسبيّة، بحسب ما يتوفّر أمام اللّجان من روايات. وأصدقك القول إنّني لم أطّلع على الروايات الثماني عشرة، بل أعرف أربعاً منها فحسب، حيث يعسر عليّ أن ألبس جبّة الناقد للردّ على سؤالك. وفي الحالات جميعاً، أعتقد أنّ لكلّ رواية مسارها ومصيرها وقدرها الخاصّ بها. وأرجو أن يكون مصير "الطلياني" ممّا يليق به.
* "الطلياني".. وماذا بعد؟
للطلياني جزء ثان جاهز يغطّي مرحلة التسعينيات من حياة عبد الناصر قد يصدر في السنة المقبلة، ولي رواية ثانية اكتملت منذ 2013 تتناول الفساد في عالم كرة القدم بعنوان "باغندا" تصدر مبدئيّاً هذه السنة. هذا علاوة على مشاريع روائيّة أخرى أرجو أن أجد الوقت الكافي لتنفيذها.ة

jeudi 5 février 2015

سيرة الواقع والتاريخ

   قراءة في متن رواية الطلياني وحاشيتها: سيرة الواقع والتاريخ


خالد الغريبي 

في كتابه الموسوم « ست نزهات في غابة السرد » الصادر عن المركز الثقافي العربي ، ترجمة سعيد ينكراد يعتبر « أمبرتو إيكو» السرد غابة كثيفة ، مسالكها وعرة وعناصرها متنوّعة وأقاصيها بلا ضفاف
من دخلها تاه في مجاهلها . لعلّي أستحضر هذا الوصف الدال وأنا أقرأ رواية الطلياني المشتملة على 342 صفحة والصادرة عن دار التنوير للطباعة والنشر، صائفة 2014 لشكري المبخوت. وشكري المبخوت كاتب و مثقف تونسي، وجامعي مرموق، له في النقد الأدبي صولات وله في علوم اللغة والتداولية وبحوثها باع . وله مقام مميّز في فضاء الثقافة والإعلام وفي إدارة الشأن الجامعي، بوصفه عميدا سابقا ورئيس جامعة منوبة حاليا . ولشكري المبخوت صوته المستقلّ الحرّ في شؤون البلاد والعباد وفي قضايا الفن والبحث والإبداع.
ورغم كون هذه الرواية عملا بكرا تدفّق من سنوات الصمت والتأمل وما اختزنته حكمة الفنان، فإن كاتبها يفجئك بقلمه السردي النافذ والناقد وسلطته على إدارة عالم الحكاية كما يدير شؤون بحثه تشويقا لا ينقطع وترميزا موحيا بلا فوائض، ومراسا خفيا يشفّ عن معرفة بعلم السرد، ومقدرة مذهلة على إعادة تشكيل السياسي لصالح السردي بإفراغ الأيديولوجي من زوائده الشعارتية المقدّسة، وإنزاله من طوباويته إلى جدل الواقع وصراعاته.
لعلّك تلقى كل ذلك من خلال حكاية الطلياني : والطلياني هي كنية لبطل الرواية عبد الناصر , وقد كنّي كذلك لجمال وسم به . ربما تكون أمه زينب « توحّمت على إحدى الشخصيات في قناة «الراي أونو» الايطالية ..» [ص 24] .
رواية الطلياني أحداث تأخذ بأعناق بعضها البعض، تتداعى في سرّ مكين وفي بنية من السرد تكسر خطية الزمان وداخله تكون: تقديما وتأخيرا، وصلَ البداية بالنهاية والمتون بالحاشيات، حيت تتكوّن الحكاية الأصل: حكاية عبد الناصر «الطلياني» بعنقود من الحكايات، لها مقامات وحالات وتحوّلات ، تنوس بين «التناتوس» و»الأيروس». من حادثة المقبرة تولد الحكاية، تجري
وترسم مجراها متكتّمة بالسرّ الدفين، يوم نزل الطلياني ضربا مبرحا على إمام الحومة (الشيخ علالة ) الذي انتهك عرضه واغتصبه وهو صبيّ . ولكن السرّ يظلّ معلّقا إلى الفصل الأخير من الرواية.وتظل ذاكرة الطفل موشومة بالاغتصاب، سرّا يعتمل في لا شعوره لا يبرح ذاكرته. فإن نسيه تذكّره من خلا ل قصّة رفيقته «زينة» ذات الأصول الريفية،المغتصبة بدورها . هكذا
كانت مسيرة الطلياني اليساري في حركة الطلاب أيام الجمر يحاول كما تقول الأسطورة أن لا يلتفت إلى الوراء حتى لا يمسخ . ولكن مسيرة الجهاد ضد القهر الفكري والسياسي ، مسكونا بعزيمة لا تلين لم تنسه ما غار في جسده من جرح لا يبرأ . فكان مقاوما عنيدا ضد السائد، باللسان خطيبا وبالفكر مدافعا عن مبادئ تعلّمها من الكتب. وما أن دخل غمار الحياة صحفيا مرموقا حتى انكشفت له أسرار البلاد كما لم يكن يتصوّر . خاض عراكها بحماسة المبادئ تارة، وبروح المتردّد الخائف من السقوط في براثن سلطة شعارها الوعد لمن والاها والوعيد لمن ساومها البقاء مرة اخرى.
الرواية والراوي:
ليس في هذا المجال أن نحدّ د ما إن كانت الرواية ملتصقة بسيرة الذات أو باستنطاق التاريخ . وإنما لا بدّ من التأكيد أنّ خطاب الذات يتجلّى من خلال ضمير المتكلّم .ومن خلاله يلعب الراوي

-في الظاهر- لعبة الحياد وراء عين الكاميرا. يرصد الأقوال والأحوال، مرتكزا على معرفته بصناعة فن السرد وزوايا التبئير . ومن حيل الكتابة أن الراوي وهو يتسافى عن شخصياته وحادثاتها يشعرك أنه يتكلّم بألسنتها دون أن يتماهى معها. فهو يناقش مواقفها سرّا وعلنا لا بلسانه، وإنما بألسنة شخصيات معارضة.
ألم يكشف عيوبها من خلال انتمائها يسارا أو يمينا ؟
ألم يفضح تذبذبها وازدواجية مخبرها ومظهرها في الوقت الذي يشيد بصمودها وحماستها في نحت كيانها في واقع قيمه متدهورة ؟

وليُحكِم السارد لعبة سرده تستّر وراء قناع صديقه الطليانيِ «وِلْد الحُومة» . يلبس هذا القناع مرة وينزعه أخرى. انظره يقول في الصفحة 40 «في تلك الغرفة المستقلّة ( يعني غرفة عبد الناصر) بدأت علاقتي بالطلياني تتوطّد . فنحن من حيّ واحد تجمعنا الألعاب في الحيّ والمدرسة ويربطنا بوثاق صداقة خالصة ، تبادل الأسرار واستكشاف الحياة . وأعترف أنني كنت أترك لعبد الناصر المبادرة في كل شيء لطبع فيّ ميال إلى الملاحظة والصمت والمشاركة في المحادثات بمقدار..».
لعل السارد يرسم بهذه الإشارات معالم ميثاقه السردي، ميثاق يأخذ بسيرة الذات بطرف وبسيرة الواقع والتاريخ بطرف ثان، ما دام الراوي يبدو عليما بكل الخفايا والطوايا والنوايا. ينسج من وثاق هذه الصداقة الخالصة شبكة من الحكايات: حكاية عبد الناصر وتداعياتها في المقبرة سنة 1990 عند مواراة أبيه التراب، وحكاية «زينة» وخفايا اغتصابها، وحكاية «للاّجنينة» مع الشيخ علالة وغيرها من الحكايات المتّصلة. وكأن حادثة الاغتصاب غارت في لا شعور النص وفي لا وعي الطفل ثم تصّعدت في آخر الحكاية محكومة ببنية سردية قوامها حوارية الذات مع ذاتها، وحوارية الراوي مع المتقبل، وحوارية الروائي مع التاريخ.
هكذا يتحوّل فعل الاغتصاب في الرواية إلى بؤرة دلالية لا تشمل الذوات، وإنّما تطول الفكر والموقف والسياسة: سياسة انكشفت ألاعيبها لعبد الناصر الصحافي في إحدى الجرائد الناطقة بالفرنسية من خلال ما يدور داخل دوائر قراصنة الاعلام والمال والسياسة التابعين لسلطة الحاكم من تحالفات بغيضة وصراعات دفينة، آلت إلى الانقلاب على نظام بورقيبة والتبشير بالعهد النوفمبري من خلال بيان واهم يلوّح بالتغيير.
ذلك هو الربط المكين في ما أرى بين الذات والتاريخ وبين السارد بالقوة والسارد بالفعل .وداخل هذا الكلّ المتعدّد تضوع الروائح في الرواية وتنتشر.
الرائحة علامة .. أو معنى المعنى
رواية الطلياني كما يبدو لي تحتفي احتفاء جليّا بالروائح : روائح الأمكنة و الأطعمة ومناخات البهجة، حيث يتحوّل الراوئي فيها عن طريق شخصية الطلياني إلى صناّف أطعمة « فقد أعدّ عجة بالرنكة . صبها في قوالب من عجين مورّق لها شكل قوارب ودوائر ، أعدّ بالقلقال قالبا من العجين لطاجين خلطته من «الريقوطة» والتن والجبن الايطالي سهل الذوبان وأوراق البقدنوس

والبيض . قطع سلطة تونسية أضاف إليها بعض الخسّ وزيّنها بقطع من الليمون المملّح والزيتون المقصوص ثم رشّ عليها نعناعا مجففا مسحوقا ، أعدّ صلصة بالرند والإكليل وكثير من الثوم ، حمّر غلال البحر في المقلاة مخلوطة بالبصل والفلفل والزعتر ، أعدّ للسمكتين الزيت المخلوط بالثوم والكمون . دهنهما به وتركهما في الثلاجة في صحفة من البلور غطّاها بغلاف شفاف ..»
[ ص 220 ] ويتحوّل أيضا من خلال بطله إلى صنّاف في تذوق رائحة الجسد،جسد جنينة: « في تلك الأيام بدأ يعرف الروائح .. وعرف بالخصوص رائحة جنينة»[ ص 38]، جنينة التي جنّنت الكبار والصغار لأنّها بكل بساطة كوكتال من الروائح « رائحة السواك واللوبان العربي المرّ ، رائحة النعناع والزعتر والحناء والحرقوص ، رائحة القهوة التركية الممزوجة بقشرة البرتقال المجفّفة المرحيّة [ص 324 ]. لَلاّ جنينة هي كيمياء من الروائح . يقول عنها الطلياني، مخاطبا صديقه: « اجمع هذه الروائح كلّها لو استطعت واخلطها خلطا ورشّ بها للاّجنينة سأميّزها في جسدها وأغراضها وملابسها ولحافها، رائحة رائحة . كان جسمها مصفاة تستخلص من هذه الروائح روحها .[ص324].
على هذا النسق من الاحتفاء بالروائح وتفجير رموزها الثاوية في الثقافة كانت إلماعة الروائي إلى فضاء رائحة زينة ذات الأصول الريفية رفيقة الطلياني في النضال: « في موسم الحصاد ، تعم رائحة السنابل والتراب المتيبس الغرفة . كانت هذه الرائحة على عطونتها وقوتها تثير زينة . تظلّ تستنشقها لسبب لا تعرفه . ولم تحب في حياتها إلاّ هذه الرائحة ورائحة زيت الزيتون منذ كانت أمها تدهن به جسدها وتكبس به شعرها ,,» [ ص 108]
هكذا تكون للرائحة معنى المعنى حين تفوح من أزمنة الاغتصاب ، فرحا يذوب في ولائم الجسد والأكل والشراب ولا خلاص. بلادا مغمّسة في الأوجاع تنهشها الذئاب. مثقّفين مازالوا يستمنون بأفكارهم الطوباوية . هجوما كاسحا لفكرالردة والتكفير، نظاما يتهاوى على وقع التاريخ .
تلك هي رواية الطلياني. هي منّا إلينا. سواء أكنّا شهودا على أحداثها، ممثّلين أو كومبارس أم مجرّد قرّاء لا صلة لنا بها إلا بالتخييل.
لعلّ الرواية بمتنها وحاشيتها تنزع عنّا ورقة التوت وتدفئنا ببيانها الآسر وألاعيبها الساحرة.

رواية الطلياني تحرّرك من واقعك لتكون في أسر ذاكرتك. وعلى قدر صدقها في تعرية النفوس والكشف عن هشاشتها يكون فعل التطهير من صناعة الأوهام . ومتى تطّهرنا من أوهامنا نكون الأقدر على تحقيق أحلامنا. تلك هي الرسالة المشفّرة التي ترسلها إلينا الرواية من خلال التشكيلات السردية التي تنسجها : أمكنة وأزمنة و شخصيات وأحداثا مصنوعة من عجينة اللغة ومكوّنات القصّ ووقائع التاريخ .