lundi 9 février 2015

فعل الكتابة التزام بعذابات الإنسانيّة

شكري المبخوت لـ"ذوات": فعل الكتابة التزام بعذابات الإنسانيّة        09 فبراير 2015 

الروائي التونسي شكري المبخوت -(ذوات)
قال الدكتور شكري المبخوت إن فعل الكتابة، بغض النظر عن جنسها، هو التزام بعذابات الإنسانية، مؤكداً أنه التجأ إلى الرواية بعد رحلة أكاديمية طويلة؛ لأنها تبقى ذات "قدرة مدهشة على استيعاب التحولات والتعبير عن التناقضات وتعدد وجهات النظر".
وأكد صاحب رواية "الطلياني"، الحائزة على ثقة لجنة التحكيم لتكون واحدة من ثمانية عشر عملاً روائياً هي القائمة الطويلة لـ"جائزة البوكر" مؤخراً، أن روايته هي الأولى له في مجال السرد الروائي. وأضاف الدكتور المبخوت أنه كتبها كما يريد أن يرى الروايات، حكايات تشدّ، تردنا أطفالاً يحبون التشويق.
وتابع الدكتور المبخوت أن قسوة النقد التي تبدو للقارئ ظاهرة لا تعدو أن تكون وجهاً ملطفاً "من قسوة واقعنا التونسيّ وتناقضاته"، معتبراً أن رواية "لم تقل الحقيقة وتكشط جلدة الزيف المعمّم"، ليست من الرواية في شيء. وأضاف أنه اختار الفترة الواقعة بين آخر أيام الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة وبداية الفترة النوفمبرية لأنها الفترة التي أسست، في رأيه، لما تلاها من استبداد وقمع ودكتاتورية.
أما عن الشخصيات، فأوضح الدكتور المبخوت أنه ردّ إليها إنسانيتها وبشريتها مثل شخصية "الطلياني"، البطل الذي أراده أن يكون إنسانا رغم الهالة الأسطورية التي تحيط به في الرواية، وكذا بالنسبة إلى "زينة" التي أرادها "صورة من حيرة جزء من مثقّفات تونس المتحرّرات تحرّراً جذريّاً وانسداد الآفاق أمامهنّ"، على حد تعبيره.
أما عن حضوره في الرواية، فقد أكد أن المبخوت موجود في ثناياها بلا شك، دون أن يعني ذلك أنها سيرة ذاتية أو سيرة روائية أو تخييل سير ذاتي؛ فلئن كان عالم الرواية مبنياً من مشاهد وتفاصيل موجودة في الواقع القريب بحكاياته وأحداثه وملامح شخصياته، فإن كل هذه المادة قد تشكلت في "مصنع الخيال" واقعاً جديداً لا وجود له قبل كتابتها.
وسجّل المبخوت ارتياحه لما كتب عن رواية "الطلياني" غداة صدورها، مؤكداً أنها قراءات عاشقة للنص كشفت له ما لم يكن يعلم عن نصه. وأبدى ارتياحه لاختيار روايته ضمن القائمة الطويلة لـ"جائزة البوكر" التي وصفها بالجدية. وأعلن أن له جزءاً ثانياً جاهزاً من "الطلياني" وله رواية جاهزة بعنوان "باغندا"، علاوة على مشاريع روائية أخرى.
والدكتور شكري المبخوت حاصل على دكتوراه الدولة في الآداب من كلية الآداب بمنوبة. وهو عميد سابق لكلية الآداب والفنون والإنسانيات بجامعة منوبة. ويشغل، الآن، وظيفة رئيس جامعة منوبة، وهو عضو في عديد هيآت تحرير مجلاّت محكّمة؛ منها مجلّة "إبلا" التي يصدرها معهد الآباء البيض بتونس، ومجلّة "Romano Arabica" التي يصدرها مركز الدّراسات العربيّة التّابع لجامعة "بوخارست" (رومانيا). وله مشاركات عديدة في الندوات العلمية ومقالات منشورة وإسهامات في التأليف المدرسيّ ومعالجة قضايا تربويّة وتعليميّة. ومن كتبه المنشورة: "سيرة الغائب، سيرة الآتي – السيرة الذاتية في كتاب "الأيام" لطه حسين"؛ و"إنشاء النفي"؛ و"الاستدلال البلاغي"؛ و"المعنى المحال"؛ و"نظريّة الأعمال اللّغويّة"؛ و"توجيه النفي في تعامله مع الجهات والأسوار والروابط"؛ و"دائرة الأعمال اللّغويّة".. إلخ. وله في مجال الرواية: "الطلياني" التي ثبتت على القائمة الطويلة لجائزة البوكر 2015. وفي ما يلي نص الحوار كاملاً:

* شكري المبخوت رحلة أكاديمية ثرية تتوج برواية متميزة "مفاجئة" تلقى رواجاً واسعاً، هل يعني هذا التحول أن الرواية هي أقدر الأجناس على قول ما تعجز عنه بقية فنون القول؟
للرواية قدرة مدهشة على استيعاب التحوّلات والتعبير عن التناقضات وتعدّد وجهات النظر؛ بحكم كونها، كما يقول بعض النقّاد، متعدّدة الأصوات بطبيعتها. ربّما هذا ما ألجأني إلى جنس الرواية لأتدبّر وأروي صراعاً ظلّ يعتمل في مجتمعنا التونسيّ منذ سنوات عديدة ويحيّرني شخصيّاً. بهذا المعنى، يصدق ما ذهبت إليه من خاصّيّة للرواية. ولكن، من ناحية أخرى، كتبت البحث الأكاديميّ بما يقتضيه من صرامة، وكتبت الشعر بتدفّقه العجيب، والقصّة القصيرة بما فيها من تكثيف، والعمود الصحافيّ بما يستلزمه من إيجاز ودقّة.. وأرى أنّ أجناس القول كلّها تستجيب لحاجات مختلفة؛ ولكنّها تلتقي في موقف أخلاقيّ جامع هو قول الحقيقة. أصبحنا ننسى هذا، وننسى أنّ فعل الكتابة، مهما كان جنس القول، التزام بعذابات الإنسانيّة، وشوق إلى أن يكون كلامنا فعلاً في الواقع يغيّر ما بالنفوس والأذهان، ويجدّد رؤيتنا إلى الأشياء.
* في رواية "الطلياني" توظيف سلس للسرد والوصف والحوار وكل ما تقتضيه الرواية المعاصرة من أساليب فنية، فجاء النصّ راقياً.. أليس هذا دليلاً قوياً على أنّ "الطلياني" ليست الأولى في مجال القصّ؟
بل هي الأولى في السرد الروائيّ، إذا استثنيت الخربشات الأولى للشابّ الذي كنت، والمحاولة المجهضة لكتابة نصّ سرديّ طويل منذ ربع قرن. وهو نصّ كان قد سكنني، لكنّ الصبر عليه نفد بسرعة؛ فثمّة على التحقيق شوق إلى قول شيء مّا وجدَ في السرد أسلوبَه الوحيد الذي يمكّن من قوله؛ وذلك بسبب ما تفتحه الرواية من مجالات للتخييل وإعادة تركيب الواقع على مقتضى المقصد العام القابع في النفس والعقل.
* عندما يكتب أكاديمي رواية، كثيراً ما يقال إنه يبدعها بعيون الناقد، هل ينطبق هذا على كاتب "الطلياني"؟ وهل تعتقد أن الإلمام بنظرية الرواية ونقدها هو شرط كاف لكتابة رواية جيدة؟
الناقد الوحيد الذي كان يراقبني وينبّهني، عند تحرير "الطلياني"، هو "الناقد العفويّ". أقصد ميولي في مطالعة الأدب. لقد كتبت رواية كما أحبّ أن أجد الروايات. بعض النقّاد وجد معمارها الفنّيّ دقيقاً موفّقاً، وآخرون وجدوها راغبة عن التجريب الروائيّ، ووسموها بأنّها "واقعيّة" و"كلاسيكيّة" شبيهة بالرواية البوليسيّة أو رواية اللغز. فليكن! فإن هي إلاّ أسماء سميتموها. أحبّ الرواية التي تحكي لي حكاية تشدّني. أنا هكذا في عالم السرد؛ لا أزال طفلاً تروق له الحكايات المشوّقة؛ ولكنّني، بالمقابل، لست أدّعي السذاجة أو التبرّؤ من النظريّات النقديّة. فقط أشير إلى أنّ السارد، مهما يكن إلمامه بالنظريّات، يظلّ عصاميّاً إذ يقتحم عالم الرواية؛ فمعرفتك بالنحو والإعراب لا تعصمك من الوقوع في اللحن.. وقياسا عليه، لا تنجيك معرفتك بنحو القصّة من الوقوع في موضع بعيد عن مستلزمات الرواية. واسمح لي أن أقول إنّني أريد من القرّاء والنقّاد أن يحاسبوا "الطلياني" باعتباره عملاً فنيّاً بمعايير الفنّ السرديّ، وعفويّة البهجة التي يسبّبها الفنّ، لا باعتباري أكاديميّاً. لقد كادت صفتي الأكاديميّة تصبح "تهمة" عليّ أن أعتذر عنها باستمرار، والحال أنّ الواحد منّا بطبيعته متعدّد الأبعاد؛ فليست المعرفة الأكاديميّة امتيازاً في الأدب ولا هي نقيصة.
* لو اقترحنا عنواناً ثانياً للرواية، فسيكون بعد قراءتها مباشرة:"الجَلْد"، فثمّة سوط لا يفتأ – كالشامت أو كالساخر أو كالمتألم الحزين – يجلد هذا التيار أو ذاك، لم ينج منه الإسلاميون ولا اليساريون، لا الصحافة ولا الثقافة ولا السياسة. هل تتفق مع صاحب هذه القراءة؟
وهل يرى "صاحب هذه القراءة" في واقعنا شيئاً لا يستحقّ الجلد، أو لنقل بعبارة أحبّ إلى نفسي: لا يستحقّ الكشف والفضح؟ فالقسوة البادية في النصّ هي وجه ملطّف من قسوة واقعنا التونسيّ وتناقضاته. انظر حواليك تر الواقع بذيئاً خانقاًعنيفاً قاسياً. وما الرواية إن لم تقل الحقيقة وتكشط جلدة الزيف المعمّم؟ ورغم ما عاشته شخوص "الطلياني" كلّها تقريباً من انكسارات وخيبات وخسران مبين، فإنّني أراها مليئة بهجة وحبّاً للحياة. إنّها في ظنّي رواية تسعى إلى تتّبع مسارات نفوس معذّبة تتحرّق شوقاً إلى حرّيتها ومعناها. عليك أن تحاسب الواقع البذيء الحزين، أمّا رواية "الطلياني"، فلا أحبّ لها أن تكذب.
* في الوقت الذي يتسارع فيه الروائيون إلى نقد النظام السابق، انكب المبخوت على فترة نهاية الحكم البورقيبي وبداية الحكم النوفمبري. ما أسباب هذا الاختيار؟
السبب، في رأيي، واضح؛ النظام السابق لم يولد فجأة، وكانت له ممهّدات اجتماعيّة وسياسيّة، وكان له سياق ثقافيّ وفكري يعمّره فاعلون رأينا كثيرين منهم يظهرون مجدّداً بأسمائهم وصفاتهم وأكاذيبهم وأوهامهم وتصوّراتهم الحمقاء بعد رحيل الرئيس السابق. ثمّة استرسال في تاريخ البلاد وعوامل خفيّة. فما حدث بعد الثورة إنّما هو انفجار ألغام كانت مزروعة في تربة البلاد السياسيّة والفكريّة منذ العهدين البورقيبي والنوفمبريّ. هذا أمر لم أع به بوضوح حين شرعت في كتابة "الطلياني"، كان مجرّد إحساس أو حدس سرعان ما جعلني أرى التشابهات والتناظرات.
الناقد الوحيد الذي كان يراقبني وينبّهني، عند تحرير "الطلياني"، هو "الناقد العفويّ". أقصد ميولي في مطالعة الأدب. لقد كتبت رواية كما أحبّ أن أجد الروايات
ليس ذلك بغريب، فالتحوّلات والأزمات التي عاشها التونسيّون بعد الثورة تشبه شبه الماء بالماء ما عاشوه من ترقّب ومخاوف وانتشاء وآمال عريضة أيضا لحظة التحوّل سنة 1987. لم يكن مقصدي التأريخ، ولكنّ الإطار التاريخيّ منحني فرصة لتأمّل الخيط الرفيع الرابط بين مراحل التاريخ التونسيّ المعاصر روائيّاً وتخييليّاً على الأقلّ. وهذا ما جعل بعض القرّاء الشبّان الذين ولدوا في التسعينيات ينشدّون إلى الرواية، إذ وجدوا فيها بعض ما يرتّب في ذاكرتهم الوطنيّة أجزاء لم تكتب بعد من تاريخ بلدهم.
* كثيرا ما يخرج اليساري في الروايات بطلاً مناضلاً ينزع نحو الأسطرة، ولكنّ "الطلياني" جرّدته من هالته الأسطوريّة. لِمَا اخترت هذا المنحى؟
ثمّة، رغم ما ورد في سؤالك، هالة تحيط بشخصيّة عبد الناصر الطلياني. ربّما حبّبت الناس فيه، لأنه مصنوع من طينة البطولة والجرأة والتميّز. إنّه شخصيّة فاتنة، وإلاّ ما كان جديراً بأن أجعله "بطلاً" لروايتي. الفرق هو أنّني لم أتحدّث عن المناضل الصلب المبدئيّ الذي يواجه القمع ويصمد. لا يعني ذلك أنّ هذه النماذج غير موجودة في اليسار وغير اليسار؛ ولكنّها عندي نماذج غير إنسانيّة بالفعل، أو إنّنا لم ننتبه إلى أعماقها وكثافتها الوجوديّة. اخترتُ أن أكتب عن الإنسان بتردّداته وحيرته وآلامه وعذاباته الداخليّة وهشاشته الجذريّة وصراعه من أجل أن يكون، فيخطئ ويضعف ويتألّم ويحبّ ويخون ويكره ويعجز... إلخ فربّما قلبت ملاحظتك حين أؤكّد لك أنّني أردت أن أمنح لشخصيّة اليساري عمقاً إنسانيّاً يخرجه من الأسطرة التي تحدّثت عنها، ليصبح كائناً تاريخيّاً وذاتاً فرداً وكياناً يسعى إلى حرّيّته. لقد أردت أن أقول، بالفعل، عكس ما هو شائع لدى اليسار قولاً وتنظيراً وسلوكاً: إنّنا أمام بشر بقوّتهم وضعفهم ولا معنى للحرّيّة الجماعيّة دون تحرير الفرد؛ فالمجتمع الحرّ عندي هو التقاء ذوات حرّة.
* بدت شخصية "زينة" نموذجا للمرأة المناضلة الحاملة للقضية، المتحدية لظروفها القاسية وللمجتمع الذكوري؛ غير أن سقوطها كان مدوياً، وعجزت عن تحقيق ما كانت تصبو إليه علمياً وأسرياً. هل هذا كسر لنمطية الصورة النسائية التونسية؟
"زينة" شخصيّة لا أعرف كيف ولدت من بين يديّ. وقد تمرّدت، أكثر من مرّة، وأنا أتقفّى ملامحها؛ ولكنّها استقامت أمامي كائناً مذهلاً بهامشيّتها الخلاّقة (بربريّة الأصل، فقيرة نابغة، محطّمة منذ الصغر نفسيّاً وجسديّاً، فيلسوفة راديكاليّة في نقدها...). إنّها الهامش المبدع. ولكنّ لها رغم ذلك أشباهاً ونظائر في نساء تونس الحالمات الطموحات. أما نهايتها المدوّية برحيلها إلى فرنسا لتنتهي عشيقة أو زوجة لجامعيّ فرنسي مشبع برومانسيّة اليسار الفرنسي واستشراقه، فتعود إلى أنّه لا يمكنها أن تعيش في بلد محافظ محافظة عميقة. لقد خفت عليها، فهجّرتها إلى فرنسا، وأخرجتها من عالم "الطلياني". كان مصيرها المحتوم إمّا الجنون أو الانتحار، بحسب منطق الرواية؛ لكنّني أشفقت عليها. إنّها صورة من حيرة جزء من مثقّفات تونس المتحرّرات تحرّراً جذريّاً وانسداد الآفاق أمامهنّ.
كثيراً ما يتكئ الكتّاب في رواياتهم الأولى على شيء – أو أشياء – من سيرهم الذاتية، فمن هو "الطلياني"؟ وهل له علاقة بشكري المبخوت؟
سألتني قارئة في لقاء أدبيّ بمدينة تونسيّة عن "الطلياني" من هو؟ حملتْ إليّ باقة ورود وطلبت منّي أن أهديها إليه مع تحيّاتها. عشقتْ الشخصيّة التي صنعت من مداد على الورق. كان موقفاً طريفاً وذكيّاً من قارئة لا أشكّ في ذكائها، لعلّها أرادت بذلك أن تعبّر عن إعجابها بالرواية. المشكلة هي أنّني أنا نفسي لا أعرف من هو "الطلياني"، رغم أنّني تتبعت مراحل ولادته، وكنت أراه أمامي زمن الكتابة. هذه حقيقة "الطلياني"، البطل المتخيّل الذي سمعت كثيرين قبلك يقرّبونه من أشخاص أعرفهم أو يبحثون عن شخص في الواقع يشبهه. قد تكون هذه اللعبة شيّقة، ولكنّها عبثيّة.
جلّ ما كتب عن "الطليانيّ" كان قراءات عاشقة للنصّ كشفت عن جوانب عديدة منه. وبعض هذه القراءات جعلني أرى في نصّي ما لم أره فيه
أمّا شكري المبخوت فموجود في الرواية ولا شكّ دون أن يكون النصّ سيرة ذاتيّة. لك أن تكشفه وتكتشفه في التعليق والأسلوب وتفاصيل كثيرة موزّعة على الشخصيّات جميعاً بمقدار. إنّها رواية "تتكئ" على نتف من حيوات أبناء جيلي دون أن تعيدها حرفيّاً. لقد أدهشتني ردود فعل قرّاء كثيرين وجدوا أنفسهم في "الطلياني" وتبيّنوا ملامح من حياتهم، وما كان يمكن أن يكون التعرّف قويّاً لو لم يجدوا ملامح جيل في الرواية، إضافة إلى سبر لأغوار نفسيّة التونسيّين أو جوانب منها؛ فالنكهة التونسيّة في النصّ تكاد تلمس لمساً لأنّها منّي ومن الوسط الذي ترعرعت فيه. الثابت هو أن "الطلياني" ليست سيرة ذاتيّة ولا سيرة روائيّة ولا تخييلاً سير ذاتياً.
* ما الروافد التي يستلهم منها شكري المبخوت عالمه الروائي؟
سؤالك صعب جدّا! ولكنّ النواة الأولى لكثير من المشاهد والتفاصيل موجودة في واقعي القريب، وفي حكايات كثيرة سمعتها، وفي أحداث عايشتها، وملامح شخصيّات أعرفها، وأخرى تصوّرتها ممّا بلغني عنها. ولكنّ أهم ما في الأمر هو إدخال هذه المادّة الغفل الساذجة في مصنع الخيال لتتشكّل على النحو الذي يجده القارئ في الرواية. وأعتقد أنّ هذه العمليّة بدهيّة جدّا؛ لأنّ الواقع الذي أتحدّث عنه ولد زمن الكتابة، ولا وجود له قبل صياغته في عالم "الطليانيّ" من وجهة النظر التي صنعته. إنّ الشخصيّات كانت أحياناً تفرض عليّ مساراتها، ولم تكن ملامحها متشكّلة قبليّاً إلاّ في عمومها. ومن ثم، ظلّت تتعدّل مع تطوّر الحكي والأحداث. ويصعب عليّ أن أحدّد مصادري وروافدي؛ لأنّني لم أتّبع، منذ البداية، تخطيطاً مفصّلاً ينبني على الاستقصاء، بل اكتفيتُ بالخيط الرهيف الجامع بين أجزاء الرواية.
* كيف وجدت ما كتب عن "الطلياني" هنا وهناك غداة صدورها؟ هل ذهب الأفق التأويلي للرواية كما انتظر المبخوت؟ أم إن آراء أخرى قد فاجأته؟
جلّ ما كتب عن "الطليانيّ" كان قراءات عاشقة للنصّ كشفت عن جوانب عديدة منه. وبعض هذه القراءات جعلني أرى في نصّي ما لم أره فيه. أمّا الآراء التي فاجأتني فقليلة جدّا في واقع الأمر. ولا أحبّ أن أذكرها بالتفصيل، ولا أن أناقشها نقاشاً أدبيّاً؛ بيد أنّ وجه المفاجأة فيها هو أنّ أصحابها نقدوا الرواية كما لو أنّهم لم يطّلعوا على الروايات الكبرى التي أبدعتها الإنسانيّة. وأشير إلى أنّ جلّ هذه القراءات كان موجزاً إيجازاً تقتضيه صفحات الجرائد في انتظار تحاليل معمّقة من نقّاد أعرف أنّهم ينكبّون الآن على الرواية، ومن المتوقّع أن يذهبوا عميقاً في طبقاتها الدلاليّة للوقوف على بعدها الرمزيّ الذي غطّته كثافة الأحداث والحكايات في دنيا "الطلياني".
* حصلت رواية "الطلياني" على ثقة لجنة تحكيم "جائزة البوكر" لتكون واحدة من ثمانية عشر عملاً روائياً تمثل القائمة الطويلة لهذه الجائزة. كيف تلقيت ذلك؟ وهل تتصور أن نصك قادر على حصد هذه الجائزة؟
بطبيعة الحال، بعث الخبر البهجة في نفسي؛ لأنّ الجائزة جدّيّة، تاريخاً وإشرافاً ولجاناً. والحقّ أنّني اعتبرت ذلك نوعاً من الاعتراف الأدبيّ بروايتي في عالم عربيّ أصبح الإنتاج الروائيّ فيه غزيراً لا يخلو من طرافة واجتهاد وبعض التميّز. أمّا حصد الجائزة فأمر موكول إلى اللجنة حين تقارن بين النصوص؛ لأنّ المسألة دائماً نسبيّة، بحسب ما يتوفّر أمام اللّجان من روايات. وأصدقك القول إنّني لم أطّلع على الروايات الثماني عشرة، بل أعرف أربعاً منها فحسب، حيث يعسر عليّ أن ألبس جبّة الناقد للردّ على سؤالك. وفي الحالات جميعاً، أعتقد أنّ لكلّ رواية مسارها ومصيرها وقدرها الخاصّ بها. وأرجو أن يكون مصير "الطلياني" ممّا يليق به.
* "الطلياني".. وماذا بعد؟
للطلياني جزء ثان جاهز يغطّي مرحلة التسعينيات من حياة عبد الناصر قد يصدر في السنة المقبلة، ولي رواية ثانية اكتملت منذ 2013 تتناول الفساد في عالم كرة القدم بعنوان "باغندا" تصدر مبدئيّاً هذه السنة. هذا علاوة على مشاريع روائيّة أخرى أرجو أن أجد الوقت الكافي لتنفيذها.ة

Aucun commentaire: