mardi 3 février 2015

حوار مع جريدة القدس العربيّ

المفكر والكاتب التونسي شكري مبخوت لـ «القدس العربي»:
المعارض في العالم العربي هو صورة من المستبد 
وبعض المعارضين أشد عنفا ودموية
روعة قاسم
JANUARY 31, 2015


تونس – «القدس العربي»: يرى المفكر والكاتب والأكاديمي التونسي شكري مبخوت ان هناك عوامل كثيرة جعلت الربيع العربي ينقلب شتاء قارسا. فهناك تاريخ طويل من الاستبداد لم تسلم منه حتى المعارضات. ويشير مبخوت في حديثه لـ «القدس العربي» إلى ان المعارض هو صورة من المستبد، ففي نماذج عديدة في بلدان عربية ظهر معارضون أشد عنفا ودموية من الاستبداد، وكان الصراع حادا بشكل جعل الذين ينقلبون على الأنظمة يصبحون في موقع الظالم القديم، وهذه حلقة مفرغة لا تتطهر إلا بالدم لان العنف يولد العنف.
ورأى رئيس جامعة منوبة التونسية ان الثقافة في هذه البلدان علبت على نحو لم يترك للمجتمع آليات للتنفيس عن نفسه وعن هواجسه ومخاوفه، وأصبح التواصل والتخاطب بين مختلف المكونات أمرا يكاد يكون مستحيلا. في هذا الحوار يتحدث الروائي والكاتب والأكاديمي والمفكر شكري مبخوت عن مسيرته الكتابية والأكاديمية وعن أبرز التحديات التي تواجه المنطقة، وعن المشهد السياسي والثقافي في خضم التغيرات الحاصلة.
لو نبدأ بالحديث عن آخر أعمالك الروائية «الطلياني» الذي كان مثار اهتمام الأوساط الثقافية التونسية طيلة الفترة الماضية.
• هذه الرواية كتبتها تحت ضغط ما عشناه بعد الثورة وظهور هذه الأشباح الآتية من الماضي حاملة لهوية مأزومة مريضة ولعجز القوى التي تحمل المشروع الحقيقي للحرية أو على الأقل تعد بأنها تمثل المشروع الحقيقي للحرية والكرامة. فانتقال هذا الربيع التونسي لينذر بشتاء عاصف إذا تابعنا الصورة، جعلني أكتب هذه الرواية، فكان السؤال هو لماذا هذا الانتقال ولماذا هذه الأشباح التي عادت؟ يقول أنطونيو غرامشي الفيلسوف والمناضل الماركسي الإيطالي، «ان بعد الثورات كثيرا ما تكثر وتنتشر هذه الأشباح» لذلك كان الوضع عامة فيه الكثير من المخاوف والقلق فكنا نعيش في اليوم الواحد ما تعيشه مجتمعات أخرى اشهرا وسنوات طويلة. ومن هنا جاء السؤال كنوع من البحث عن هذه التحولات المتسارعة وهذا الايقاع الصاخب الذي كنا نعيشه وهو محاولة لنتأمل في وضعنا. وفي الحقيقة لم يكن من اليسير علي ان أتناول الأحداث التي أعيشها لأنني لم أجد المسافة التأملية المناسبة لذلك. لا أدري كيف انبثقت في ذهني صور مما عشته في فترة أخرى وهي فترة الانتقال من العهد البورقيبي إلى العهد النوفمبري (عهد بن علي الذي انقلب على بورقيبة يوم 07 نوفمبر 1987)، لذلك المفصل الأساسي في الرواية هو ليلة السابع من تشرين الثاني/نوفمبر 1987 . لكن للحديث عن ذلك أنا لست مؤرخا، فكانت هذه الفترة تشبه كثيرا في تقديري الانتقال من نظام المخلوع إلى نظام آخر يريد ان يوجد وان يولد ولا يعرف كيف يكون. فانطلاقا من هذا الهاجس استعدت جزءا من سيرة طالب يساري دون ان أبحث عن تمجيده أو نقده فكريا لان الرواية عندي هي أكثر الأجناس قابلية لقول التحولات والتناقضات والصراعات. لذلك حينما عدت إلى سيرة هذا اليساري الذي كان قائدا طلابيا ثم تخرج وأنهى دراسته الجامعية ليصطدم بالواقع وتعقيداته، كان ذلك مجرد الخيط الناظم للرواية. هي كتبت تقريبا في موفى سنة 2012 ، بعد أحداث يناير/كانون الثاني. لذلك نجد في الرواية ما نجد في الحياة، نجد فيها الحب والعنف وتحولات مجتمع برمته. وكانت الغاية أيضا كما قال الكثير من النقاد هي نقد اليسار التونسي الذي عجز عن ان يكون ضميرا فاعلا لهذه الثورة، ومنح هذا اليسار من خلال صورة طالب يساري عمقا إنسانيا يجعله يتنازل ويخون وينتهز الفرص دون ان يمس ذلك من أنفة هذه الشخصية ومثاليتها. فالإنسان هكذا، كلنا نتردد، وهذه الترددات لعلها جوهر الإنسان الحقيقي دون ان يكون ملاكا أو شيطانا.
من هو هذا «الطلياني» وهل له علاقة بشخصيتك؟
• لا، هو مصنوع من صور بديعة تشكلت شيئا فشيئا أثناء كتابة النص. كثيرون يعتقدون ان في الرواية جانبا من السيرة الذاتية أنا أقول انها ليست سيرة ذاتية لكني موجود في كثير من المواقع من العمل كفكر، كتصور للمجتمع، وغير ذلك. لعل هذه الرواية تمثل سيرة جيل عاش اليسار أكثر منها سيرة فرد لذلك وجد كثيرون انفسهم فيها.
ما هي الصعوبات التي يمكن ان تواجه أكاديميا اثناء كتابته عملا أدبيا؟
• هناك مشكلة في هذا، لا يوجد في الابداع أكاديميا وغير أكاديمي. كلنا في هذا الباب عصاميون نتعلم من خلال قراءاتنا فلا تنجدنا معرفتنا بتقنيات السرد حتى نكتب نصا شعريا أو نثريا أو اقصوصة. فالصعوبة بالنسبة للأكاديمي ليست في توظيف معارفه الأكاديمية في الابداع لان ذلك سيجعل الابداع باردا، لكن الصعوبة في ان يتخلص من بعض ردود الفعل الأكاديمية التي قد تتسرب إلى العمل. وفي الآن نفسه تجربتي الأكاديمية الشخصية علمتني الصبر والانضباط . فكتابة الرواية ليست تدافعا للصور والأفكار، حتى هذا التدفق يجب ان يبنى بصرامة هندسية لأن الرواية ليست لعبة بل هي أمر خطير، ويتطلب معمارا وبناء وتثبتا في العلاقات والأحداث والشخصيات، علينا ان لا ننسى ما وضعناه في السطر الأول ونحن في وسط الرواية أو في آخرها. شخصيا ساعدتني التجربة الأكاديمية على بناء الرواية.
كرئيس واحدة من أعرق الجامعات في تونس «جامعة منوبة» كيف تقيم وضع التعليم العالي في تونس وهل خطا أشواطا هامة على طريق تطوير البحث العلمي؟
• يؤسفني ان أقول لك ان وضعنا الجامعي ليس على أفضل حال، والجامعة التونسية المعروفة بكوادرها ونخبها المتميزة في مختلف الاختصاصات تعيش الآن أزمة سببها يعود إلى منتصف التسعينيات حين وجد تدفق كبير للطلبة، عددا كبيرا للناجحين في البكالوريا ولم يرافق هذا التدفق الكبير تأطير على نحو جيد ومناسب، وهو ما أنتج كثرة عدد العاطلين عن العمل من حاملي الشهادات العليا. لكن الإشكال الأساسي ينبغي ان نربطه بمسألة تمويل التعليم . فتونس بلد موارده محدودة وراهن مع دولة الاستقلال على التعليم باعتباره مكونا لرأس المال البشري الحقيقي، ولكن مع التحولات الاقتصادية التي عاشتها تونس في الثمانينيات ثم في التسعينيات، أصبحت الجامعة مرتبطة باملاءات البنك الدولي وتوصياته المجانبة في أكثر الأحيان للصواب وأصبح ربط التعليم بالمردودية الاقتصادية المباشرة يمثل أزمة ومشكلة.
بعد الثورة ظهرت العيوب أكثر. فالعيب الأساسي في منظومتنا الجامعية، هو المركزية المفرطة. فكل المدخلات بيد سلطة الاشراف وهذا أمر كان مقصودا لتتحكم سلطة الاشراف في الفضاء الجامعي الذي لم تستطع ان تخترقه، فبعد الثورة بانت مختلف الأعوار ومفاسد هذه المنظومة الجامعية من حيث ما يسمى بنمط الحوكمة. إذ يطفو على السطح أمر أساسي وهو استقلالية الجامعات، باعتبارها المفهوم الأساسي الذي يجسم ما يسمى بالحريات الأكاديمية. اذن قضية الحريات الأكاديمية تفهم بطريقتين بمعنيين ليسا متناقضين لكنهما من مستويين مختلفين فالحرية الأكاديمية تعني بطبيعة الحال الحرية، البحث، حرية التفكير دون قيود ودون تدخل من أي سلطة مهما كانت اجتماعية أو دينية أو سياسية أو عسكرية أو غيرها هذا المعنى من دونه لا توجد جامعة حتى نتحدث عن حريات جامعية. والبحث الجامعي يشترط هذا الجانب من الحريات الأكاديمية وحتى نظام الاستبداد لم يتمكن من المساس بهذا الجانب، ففي أحلك فتراته لم يتدخل في حرية البحث العلمي لانه وجدت دائما نخب جامعية قادرة على ان تعض بالنواجذ على هذا المبدأ الأساسي والجوهري في العلم وفي البحث العلمي . لكن المفهوم الثاني للاستقلالية هو الذي ظل دائما في حاجة إلى استقلالية. فالقرار الجامعي يجب ان يكون لدى أهل الجامعة أي من مختلف الفاعلين في الفضاء الجامعي من طلبة وأساتذة وموظفين وكل من له صلة بالجامعة حتى يكون التيسيير الجامعي تشاركيا يبني التصورات ويعمل على النهوض بها. فما دامت الجامعات لا تتحكم بمدخلاتها أي لا تنتدب أساتذتها ولا تختار طلبتها والهيئة الإدارية التي تسير شؤونها وما إلى ذلك، وميزانتيها لا تتحكم بها تظل هذه الاستقلالية مطلبا الآن وهنا مطلبنا عاجل، من دونه لا نتصور امكانية النهوض بتعليمنا العالي ومعالجة علله. والمفارقة ان جميع المسؤولين الأكاديميين والمشرفين على المؤسسات والجامعات من العمداء والمديرين ورؤساء الجامعة والأقسام كلهم منتخبون في تونس بعد الثورة. وهنا سؤال يطرح نفسه بشدة :
كيف يمكن ان نعيد صياغة العلاقات بين سلطة الإشراف أي الوزارة والجامعات من جهة وبين الجامعات والمؤسسات التابعة لها من جهة أخرى، على أساس المعايير الدولية والمعايير المعمول بها في الجامعات العالمية التي استطاعت ان تكرس وتجسد مفهوم الاستقلالية والحريات الجامعية هذا هو الرهان اليوم. واعادة صياغة هذه العلاقة ليس عصا سحرية لحل المشكلات لكنه شرط لا يمكن بدونه الشروع في حل مشكلة التعليم.
إضافة إلى هذا، يوجد شيء أساسي، يتمثل في ان حكومات ما قبل الثورة كانت تعرف ماذا تريد وما كانت تريده هو التحكم بمنظومة التعليم العالي والجامعات، أما بعد الثورة فلم أر وزيرا يعرف ماذا يريد. هناك مشكلة في التصورات وفي الرؤى لوضع الأصبع على المشاكل الحقيقية للجامعة وتقديم الحلول التي يمكنها ان تخلق ديناميكية جديدة تعيد الثقة لدى الجامعيين والطلبة وتعيد الأمل بان الآتي سيكون أفضل لأن لدينا جميع الممكنات في تونس لكي نكون أنموذجا متطورا في صياغة منظومة جامعية حقيقية.
ما تقييمكم لوضع التعليم العالي في الدول العربية وفي الجامعات العربية؟
• ماهو ثابت ان هناك تشابها بين عديد الجامعات بحسب الأقاليم أو المناطق العربية مثلا أرى تشابها كبيرا بين وضعية الجامعات التونسية والجزائرية وخاصة المغربية. كما ان هناك تشابها بين الجامعات الخليجية هذا أمر يلمس. هناك وضعية أعتقد صعبة جدا وأصعب من غيرها بالنسبة للجامعات المصرية، هناك بلدان قضت على التعليم العالي تماما، فنظام القذافي للأسف قضى على المقدرات البشرية للشعب الليبي. عموما هناك بلدان توفر تمويلات كبيرة للتعليم العالي كافية لكي تحقق جودة التعليم ولكن في الآن نفسه تكوين الموارد البشرية المحلية محدودة. ولذلك نجد في العالم العربي إمكانية انتداب اساتذة من العالم العربي في بعض هذه الجامعات الخليجية أو جلها وهو ما يمكن ان يكون منطلقا في هذه البلدان لتطوير التعليم العالي ولإيجاد منظومة تعليمية وبحثية في هذه البلدان. فالمال هنا أساسي لتطوير التعليم العالي مع وجود سياسات وتصورات. واعتقد ان ما يسمى بنظام الابتعاث في المملكة السعودية هو مهم لانه يقوم على إرسال طلبة في مستوى الماجستير والدكتوراه إلى مختلف الجامعات العالمية. فلنتصور للحظة عودة 150 ألف حامل شهادة عليا إلى السعودية، ماذا ستكون نتائجه؟ فهذه التجربة مهمة جدا وهي شبيهة بما عاشته تونس أوائل الاستقلال وقبيل الاستقلال من ارسال بعثات إلى فرنسا بالخصوص كونت فيما بعد النخب التي قادت البلاد والإدارة التونسية والجامعة. هناك نخبة جديدة تتكون في السعودية وفي كل بلدان الخليج اعتقد انها ستغير هذه البلدان تغيرا إيجابيا وستطور الأفكار الاجتماعية وهذا بطـبيعة الحال من النتائج الايجابية لمجتمع الوفرة.
الأمر الآخر ان بعض البلدان مثل دول المغرب العربي التي عرفت بجودة مخرجات منظومتها الجامعية خصوصا تونس والمغرب أصبح الجانب المادي يعيق الاستمرار في تكوين نخب ذات مستوى رفيع. ولا يعني هذا انعدامها تماما ولكن هناك مشاكل في توفيرها على نحو متواصل وبنفس الجودة. فعدد كبير من هذه النخب التي تتكون تجد مكانها بيسر في سوق الشغل العالمية وبالتالي المجموعة الوطنية في تونس تصرف مالا كثيرا لتكوين نخب وزبدة هذه النخب تقدم مجانا إلى الشركات العالمية وهذا أمر محير ويدعو إلى التفكير في هذه العلاقة بين جودة التكوين والمخرجات في علاقتها بالمال لأن المال يظل قوام الأعمال.
كيف تقيمون المشهد الثقافي في تونس بكل تشعباته الفنية والإبداعية والمسرحية والسينمائية بعد الثورة؟
• هو حديث طويل ويحتاج إلى حوار وحده لكن عموما يمكن الانتباه إلى بعض الظواهر. فالنخبة الثقافية المبدعة في تونس كانت في أغلب الأحيان ذات توجه يساري، ليس سياسيا بالضرورة، بل يتعلق الأمر باليسار الفكري المؤمن بالعدل والحريات والمدافع عن الطبقات. هو الذي أنتج المبدعين الكبار والرموز الكبرى في الثقافة التونسية. ونحن نذكر وقوف هؤلاء الفنانين في فترات الاستبداد باعمالهم ليكونوا دائما محافظين على هذه الطاقة النقدية لمواجهة الاستبداد بقدرتهم على تقديم تصورات فنية بديلة بمستوى راق بعيدا عن الثقافة السائدة التي كانت ترمي إلى تهميش الفكر الجاد.
من هذه الناحية نلاحظ أن هؤلاء وجدوا أنفسهم بعد سقوط نظام بن علي في مرحلة تساؤلات وانقلب بعضها إلى صراع عاشته البلاد مع تيارات الإسلام السياسي ثم التيارات التكفيرية والجهادية. نذكر ما عاناه الفنانون التشكيليون من استهدافات وصلت أحيانا إلى المواجهة الجسدية. لكن الأهم هو ظهور فاعلين ثقافيين مؤثرين آخرين بعد الثورة .
الوجه الأول للمثقف الذي ظهر هو رجل القانون والحقوقي. فهذا النوع من المثقفين قام بدورين كبيرين، دور تثقيفي للشعب من خلال وسائل الإعلام حيث ادخلوا مفاهيم ما كان للناس ان يسمعوا بها لولا وجودهم على غرار أنظمة الحكم والحريات الفردية والعامة و حرية الضمير التي تضمنها الدستور التونسي الجديد وهذا ليس بالأمر الهين.
ولا أنكر أني شخصيا قرأت مونتسكيو وغيره من المفكرين لكني تعلمت من رجال القانون التونسيين أكثر مما تعلمت من الكتب وهذا أمر مهم. وأعتقد ان هذه المسائل هي من الأشياء التي ستبقى في ذاكرة التونسي وفي تصوراته أكثر ربما من أشياء أخرى ذات طابع سياسي. لقد بات الشعب التونسي لا يتكلم إلا بالحقوق. أما الدور الثاني الذي لعبه رجال القانون، والذي لا يخلو من سلبيات، هو جعل جميع القضايا تصاغ بلغة قانونية وهذا أمر يزعج لان القانون ليس إلا الجانب التقني من التعبير عن فلسفة الحرية والرؤية الفلسفية التي ينبغي أن تشد المجتمع لتكون الرابط العميق له. وعلى كل حال لكل ظاهرة إيجابيات وسلبيات.
هل تعتقد ان هذه الظاهرة وجدت أيضا في باقي الدول التي شهدت «ثورات» في المنطقة؟
• لا اعتقد، لأن كل النقاشات القانونية التي جرت في تونس لا يمكن أن تجري إلا في تونس في ظني، وهي التي أوصلت بلادنا إلى مسارها السلمي. لا ننسى ان المدرسة التونسية في القانون والدراسات القانونية متميزة ومتأثرة بالتصورات القانونية الفرنسية أساسا، ثم لا ننسى دور المحاماة العريق في تونس الذي يشبه دور القضاء في مصر، وهو دور قام على الاستقلالية والجرأة . فشكري بلعيد هو رجل قانون ومحام وأيضا كان مع غيره من المحامين في مواجهة الاستبداد.
أما الوجه الثاني من المثقفين الذي أخذ دورا في الصدارة هو رجل الدين، فهنا أول ما يخطر على البال حينما نتحدث عن رجل الدين، هو الدور السلبي الذي قام به الأئمة، من بلبلة للأذهان ومن افتكاك للمساجد ومن استبدال التصورات الدينية المالكية الأشعرية بتصورات وهابية أو تكفيرية جهادية. يبدو ان الدور الأساسي الذي قام به رجال الدين هو دور سلبي في تفكيك الوحدة الدينية التي امتازت بها تونس بسبب عدم وجود طوائف أو أقليات دينية وحتى ان وجدت فان أثرها ليس عميقا في الرؤية الدينية للمجتمع . فاذا كان رجل القانون يمثل الفكر الحديث والتصورات الحقوقية بالمعنى الواسع وحقوق الإنسان في مختلف أجيالها الأربعة فان رجل الدين كان يمثل الشق الديني المحافظ الذي كان يقول بالشريعة بديلا عن القانون الوضعي وحقوق الإنسان وكل ذلك. هذان الطرفان يمثلان في حقيقة الحال الصراع العميق الذي كان يشق الهوية التونسية بعمق، لان التحديث لم يكن في العمق انما تحديثا من خلال سلطة الدولة التي تمكنت بجرأتها من تغيير بنية المجتمع من خلال تغيير القوانين ومن ذلك قانون الأحوال الشخصية، حيث تم منع تعدد الزوجات بالخصوص وتم حل الأوقاف وغير ذلك من القرارات الجريئة. كما تم توحيد التعليم وتكريس التعليم الجمهوري، لكن ظل عمق المجتمع يعتمر به الجانب المحافظ الذي وجد في التعبير الديني الذي ظهر بعد الثورة، شيئا يعبر عنه. وهو الذي يعبر عنه سياسيا أيضا بالانقسام أو ما سمي بالتجاذب بين العلمانيين والإسلاميين. وأنا لست من الذين لا يرون في رجال الدين دورا ايجابيا اذ يمكن ان يكون لهم دور ايجابي من خلال ديناميكية تبين تصورات المجتمع التونسي المعتدل في نهاية الأمر وهذا التونسي الذي يعيش هويته في تناغم وانسجام دون الجانب المرضي الذي يجعل صوت الهوية يعلو فوق الأصوات الأخرى. لا بد لهؤلاء من خطاب ديني يتماشى معهم كما اعتبره خصوصية تونسية وينبغي تشجيع الائمة من أهل العلم وليس الأئمة الجهلة الذي اعتلوا المنابر عنوة وباستعمال العنف ويدعون علما لا يملكون منه نصيبا. لا بد من تشجيع رجال العلم على تطوير خطاب من داخل المنظومة الدينية لأن المجتمع التونسي مسلم ويحتاج إلى خطاب ديني ينسجم مع شخصيته ومع الهوية العربية الإسلامية.
أما الصورة الثالثة للمثقف فهي ملتبسة لأن هذا الصنف الثالث هو «ممرر أفكار» وأقصد هنا الإعلامي الذي يمكن ان يقع بسهولة في التهريج بحثا عن المستمع، ويمكن للإعلامي ان يكون مفيدا، وبالفعل فقد أصبح بعض الإعلاميين خصوصا في التلفزيون نجوما في هذا الحفل البهيج، حفل تبادل الأفكار والصراع حول الأفكار السياسية بعد الثورة. وهنا تتجلى مرة أخرى خطورة الإعلام في تونس الذي ساهم بدور أساسي في تطوير العقليات وفي نشر الخبر والإشاعات أيضا. لذلك الحركية الذي شهدها الإعلام التونسي جعلت دوره الثقافي أعمق مما يتخيل الإعلاميون أنفسهم. هناك مشاكل في احترام أخلاقيات المهنة والتدرب على هذه المرحلة الجديدة التي فيها منسوب للحرية مرتفع جدا، وهناك أحيانا عدم إحساس بخطورة المهمة التي يقوم بها الإعلامي، كل ذلك تم في سياق التداخل الخطير بين الإعلام ورأس المال ورجال السياسة. هذا الثالوث الذي يمثل «كوكتيل مولوتوف» سيدمر أن لم تقع مواجهته في الوقت المناسب والآن الآن وليس غدا.
لماذا أثمرت موجات الربيع العربي برأيك كل هذا التطرف والإرهاب؟
• سؤال صعب جدا، هناك تفسيران كبيران، تفسير فيه جانب من الصحة لكن لا أميل إليه كثيرا، تصور يقوم على نوع من المؤامرة ضد هذا الربيع بل مؤامرة في ميلاد هذا الربيع. هذا التفسير بالمؤامرة لا أعرف مدى صوابه، لكن ما هو ثابت هو ان المنطقة العربية مغرية بثرواتها الطبيعية .
أما الأمر الثاني الممكن، في تقديري فيتمثل في وجود عوامل كبيرة جعلت الربيع ينقلب شتاء قارسا. فهناك تاريخ طويل جدا من الاستبداد، بحيث لم تسلم منه حتى المعارضات. فالمعارض هو صورة من المستبد ورأينا ظلما في نماذج عديدة من بلدان عديدة ورأينا معارضين للاستبداد أشد عنفا ودموية من الاستبداد نفسه. لقد كان الصراع حادا بشكل جعل الذين ينقلبون على الأنظمة يصبحون في موقع الظالم القديم أو المستبد القديم، وهذه حلقة مفرغة لا تتطهر إلا بالدم لأن العنف يولد العنف. الجانب الثاني ان بعض هذه البلدان دمرت فيها الثقافة أو في أحسن الأحوال علبت على نحو لم تترك للمجتمع آليات للتنفيس عن نفسه وعن هواجسه، ومخاوفه للتعبير عن تعدديته الفكرية والثقافية بحيث أصبح التواصل والتخاطب بين مختلف المكونات أمرا يكاد يكون مستحيلا. ففي غياب لغة الحوار والتدرب على أصول هذا الحوار لن نجد إلا لعلعة السلاح. الأمر الثالث هو على ما يبدو تفسره البنية التقليدية لعديد المجتمعات وهي بنية حافظ عليها نظام الاستبداد لأنها تدعم سلطته لكن ما ان ابتعد هذا العامل الموحد والمغري الذي يشتري الأصوات حتى انفجرت هذه الطوائف والقبائل في وجه بعضها البعض.
كيف يمكن برأيكم مواجهة هذا الإرهاب ووقف تمدد الجماعات التكفيرية ؟
• أنبه إلى أن الجانب الخطير ليس في هذه الميليشيات الدينية، لأنه اذا خلصت النية في مواجهتها سواء لدى الجهات الداخلية أو الخارجية أو لدى القوى الدولية فانه يمكن مقاومتها ونحن نعرف أن كثيرا من هذه الميليشيات ممولة من الخارج ومصادر تمويلها تعرفها المخابرات. إذن هناك أحيانا نية لتعفين الوضع والقاء المسألة على كاهل الجهات التي يجمع الناس على رفضها وهي هذه «الدواعش» والقوى المتخلفة والأشباح المخيفة القادمة من ماض دفين.
كيف ترون موقع القضية الفلسطينية وسط كل هذه التغيرات؟
• هي وضعية صعبة، علينا أن نكون واقعيين، من ما زال يتحدث عن القضية الفلسطينية وهنا لا يكفي ان نلقي اللوم على العرب إذ ينبغي ترتيب البيت الداخلي الفلسطيني، فحتى القوميين العرب الذين تحتل فلسطين المكانة الأولى لديهم قبل تونس، الآن يجدون أنفسهم في حيرة من انفسهم بين حماس وفتح، لا أتحدث عن بقية الفصائل. بطبيعة الحال أقول ذلك بمرارة ولكن السياق الاقليمي والعالمي أيضا لا يخدم القضية الفلسطينية ربما نحتاج إلى تحين فرصة تغير الأوضاع أو وجود معطى جديد في المعادلات. فلا بد من ذكاء سياسي أكبر لقلب الطاولة وقلب المعادلة. أعرف أن لدى الفلسطينيين القدرة على ان يعرفوا أكثر واقعهم وامكانيات المواجهة، هم ليسوا أول شعب في التاريخ يجدون انفسهم في وضعية مستحيلة، وضعية تجبرك على البقاء واقفا المهم ان لا تتحرك وهي وضعية صعبة … حتى الدعوات لم تعد تكفي.
روعة قاسم


Aucun commentaire: