dimanche 9 novembre 2014

.. حتى لا تتغوّل السّلطة القضائيّة


رسالة مفتوحة إلى السّيد الرّئيس الأوّل للمحكمة الإداريّة
«إذا أردت أن تطاع...»



تحيّة تليق بالجناب،
قرأت، سيّدي الرّئيس الأوّل للمجكمة الإداريّة، مثل جميع المواطنين تصريحًا نُسب إليكم في إحدى الصّحف السيارة في شأن عدم التزام وزارة التّعليم العالي والبحث العلمي وتكنولوجيّات المعلومات والاتّصال "بقرار المحكمة الإداريّة القاضي بتوقيف تنفيذ المنشور الوزاري المتعلّق بالانتخابات الجامعيّة."
وقد اعتبرتم، حسب الصّحيفة، ذلك "خطأ فاحشًا" خصوصًا أنّ الانتخابات التي نظّمها المنشور الصّادر بتاريخ 14 ماي 2014 حول انتخاب مديري الأقسام وأعضاء المجالس العلميّة والمديرين والعمداء وأعضاء مجالس الجامعات ورؤساء الجامعات ونوّابهم، قد تمّ الجزء الأعظم منها عند إدلائكم بتصريحكم الصحفيّ في بداية شهر جويلية 2014.
ولست أريد، سيّدي الرّئيس، أن أردّ على فحوى تصريحكم فقد تولّت وزارة التّعليم العالي الرّدّ بما رأته. وهو ردّ حصر الأمر من مسألة الالتزام بالقرار من عدمه.  وأقول لكم أنّني شخصيًّا حمدت الله على أنّ الوزارة لم تتورّط في التقيّد بما قرّرته المحكمة.
بيد أنّني أقول هذا مع اعتقادي الجازم وإيماني العميق بضرورة احترام قرارات المحكمة الإداريّة وتطبيقها. وهذا ليس من باب الالتزام بما ورد في الدّستور فحسب ولكنّه نابع من اعتقادي بأنّ أيّ سلطة مهما كانت وأيّ جهة تنفيذيّة يمكنها أن تخطئ أو تتعسّف أو تحرم المواطن من التّمتّع بحقّ من حقوقه بل يمكنها أن تتغوّل فتمسّ جوهريًّا بحقوق النّاس.
ولا شكّ أنّكم تعجبون من موقفي المبدئي هذا ومن سروري بعدم التزام وزارة التّعليم العالي بقراركم غير أنّ هذه الرّسالة ربّما أزالت بعض هذا الاستغراب وذهبت أبعد من ذلك لتقدّم لكم رأيًا قد يفيدكم في كلّ ما يتّصل بالنّظر في قضايا تتّصل التّعليم العالي.
فقد لاحظت من موقعي الوظيفيّ أنّ المحكمة الإداريّة اتّخذت قرارات بإيقاف التّنفيذ لم تكن من الزّاويتين القانونيّة والعمليّة قابلة للتّنفيذ. والأسباب وراء ذلك متعدّدة من بينها عدم مراعاة خصوصيّة الفضاء الجامعيّ والنّظر إلى الجوانب القانونيّة فيه بطريقة شكليّة لا تأخذ في الحسبان مقتضيات المسائل ومستلزماتها.
وسأترك جانبًا أحكامًا كثيرة بإيقاف التّنفيذ في قرارات تأديبيّة اتّخذتها بعض مجالس التّأديب. فأمرها هيّن. وسأدع جانبًا أحكامًا قديمة في مسائل تهمّ لجانًا علميّة محكمة لا يمكن إخضاعها للتّحكيم، وسأكتفي بمثالين دالّين يتناول أحدهما قرار إيقاف تنفيذ المنشور عدد 27/14 الصّادر بتاريخ 24 ماي 2014 ( وليس 14/27 كما ورد في قراركم المؤرّخ في 6 جوان 2014 وهذا الخطأ كما تعلمون يجعل القرار غير ذي معنى ) حول الانتخابات التي جرت ويتعلّق الثّاني بإيقاف التّنفيذ لتمتيع طالبة بتسجيل استثنائيّ في مدرسة الطّبّ البيطري رغم أنّ القانون يمنع ذلك وقد أصدرته السّيدة الرّئيسة الأولى للمحكمة الإداريّة التي خلفتموها.
فما هو الإشكال الذي دعاكم إلى المطالبة بتأجيل تنفيذ منشور وزير التّعليم العالي آنف الذّكر ؟
أشير بدءًا إلى أنّ القرار هو تأجيل التّنفيذ ويمكنكم بعده إصدار قرار بإيقاف التّنفيذ ثمّ بعد ذلك على الجامعيّين ومؤسّساتهم المختلفة أن ينتظروا تفضّل جناب المحكمة الإداريّة بإصدار حكمها في المسألة بعد سنتين أو ثلاث سنوات على الأقلّ حسب ما نعلم عن المدد التي تتطلّبها أحكام المحكمة الإداريّة.
معنى ذلك، سيّدي الرئيس، أنّ الهياكل المسيّرة لمؤسّسات التّعليم العالي ستظلّ مجمّدة لمدّة سنتين على الأقلّ تنتظر حكمكم النّهائيّ بسبب شبهة أن يكون منشور وزارة التّعليم العالي يمسّ بمصلحة بعض أعضاء هيئة التّدريس في بعض الأقسام ويحرمهم من التّمتّع بحقوقهم؟ نعم مجرّد شبهة تترك المؤسّسات معلّقة وإذا لم تحترم قراركم تكون قد ارتكبت هي والوزارة "خطأ فاحشًا" ؟
فأيّ خطإ أفدح من ترك المؤسّسات هكذا سبهللا وتعطّل مصالح آلاف الأساتذة والطّلبة والإداريّين والعملة لمجرّد سلطة تقديريّة منحها لكم القانون يجعلكم ترون خللاً مّا في المنشور المذكور؟ وأيّ خطغ فادح سيرتكب إذا وجد الجامعيّون أنفسهم سبحثون عن فتاوى وأساليب ملتوية كالتعيين للحفاظ على إدارات الهياكل البيداغوجيّة والعلميّة المشرفة؟ لهذا حمدنا الله وليس لغير هذا رغم إيماننا بضرورة تطبيق أحكام المحكمة الإداريّة.
ولكنّني، رغم علمي بأنّ القرارات التي تصدرونها هي أحكام، فإنّني شخصيًّا أحبّذ أن يصدر الحكم النّهائيّ بسرعة قياسيّة مثلما فعلت المحكمة مع المجلس الوطني التّأسيسي. هذا إذا رأيتم الأمر بالخطورة التي تعتقدون.
وإذا تركنا جانبًا هذا المظهر الشّكلي وعدنا إلى صلب الموضوع فاسمح لي أن أعلّق على المبرّرات التي قدّمتموها لاتّخاذ قرار تأجيل التّنفيذ.
فقد زعم محامي النقابة العامّة لأساتذة السلك المشترك والملحقين بالتعليم العالي أنّ المنشور المذكور إذ حصر حقّ التصويت لانتخاب مديري الأقسام في المدرّسين القارين بالقسم والمباشرين للتدريس كامل الوقت فإنّ الفصل 45 من الأمر عدد 2716 "لم يستوجب شرط الانتماء إلى رتبة من رتب التعليم العالي لممارسة حقّ التصويت". ويستخلص المدّعي أنّ إضافة هذا الشرط "قد حرم الطالبين من حقّهم في التصويت بالرغم من أنهم مدرّسين قارين (كذا)".
وهذا كلام لن تجد جامعيّا واحدا يقبل به لما فيه من تلاعب لفظيّ بل إنّ الإنصاف والاطّلاع على جميع قوانين التعليم العالي يثبت أنّ الأمر لا يتعلّق "بمدّرسين قارّين"
أو "مباشرين للتدريس كامل الوقت". فالجامعيّون هم "مدرّسون باحثون" ( وهي صفة تنتفي في زملائنا من السلك المشترك ومن أساتذة التعليم العالي الملحقين) ولهم نظام أساسيّ خاصّ بـ"سلك المدرّسين الباحثين التابعين للجامعات" كما ينصّ على ذلك الأمر عدد 1825 المؤرّخ في 6 سبتمبر 1993 وهو الأمر الذي حدّد رتب التعليم العالي للمدرّسين الباحثين في الفصل الثاني منه. فالجامعة سيّدي الرئيس الأوّل ليست دروسا فقط يلقيها هذا الأستاذ او ذاك مهما كانت رتبته بل هي بحث أيضا.
ولا أظنّ عاقلا، ناهيك عن خبير بالقانون، بوسعه أن يقرأ النصوص القانونيّة في قطاع من القطاعات معزولا بعضها عن بعض. هذا دون الحاجة إلى التذكير بأنّ المدرّس الجامعيّ وصفة الجامعيّ لا تنطبق قانونيّا وفي التقاليد العالميّة إلاّ على من دخل الجامعة بمناظرة علميّة ومثل أمام لجنة من الأكاديميّين. فشهادة الدكتورا وحدها لا تمنح أيّا كان صفة الجامعيّ والمدرّس الباحث فما بالك بمن يحمل الأستاذيّة أو الإجازة فحسب مثل زملائنا في السلك المشترك أو الملحقين.
وعلى هذا فإنّ الفصل 45 من الأمر عدد 2716 إذ نصّ صراحة على من يحقّ له الترشّح لخطّة مدير قسم من بين "إطار التدريس والبحث" فليس في حاجة إلى التصريح بمن يحقّ له التصويت لأنّ النصوص القانونيّة تقرأ في تكاملها إلاّ إذا كنّا نحتاج حقّا إلى إعادة تسمية الأشياء بأسمائها من جديد وهذا كما يعلم الجميع أمر مفض إلى الدور والتسلسل لا نهاية له وإضاعة لرصيد الذكاء الذي كان وراء وضع القوانين والكتابة والتدوين أصلا.
وهذا ما نقصده بتنزيل القانون في سياقه المخصوص (وهو مجمل النصوص القانونيّة الخاصّة بالقطاع وواقع الحياة الجامعيّة) وفي سياقع العام (وهو انعكاسات القانون الواقعيّة وتأثيرها في المؤسّسات التي لو طبّق قراركم في تأجيل التنفيذ لتعطّلت المصلحة العامّة)
أمّا الحكم الثّاني الذي أودّ أن أحيطكم به علمًا وأراه غير مناسب بل قل خاليًا من أيّ أساس قانونيّ بسبب وجود نصّ قانونيّ صريح فهو الحكم بإيقاف التّنفيذ لفائدة طالبة بمدرسة الطّبّ البيطريّ. فقد قرّرت السيّدة الرئيسة الأولى للمحكمة الإداريّة بتاريخ 4 مارس 2013 في القضيّة عدد 415525 " الإذن بتوقيف قرار رفض تمكين العارضة من التسجيل استثنائيّا قصد تثمين الوحدات التي حصلت عليها وإجراء الامتحانات الخاصّة بالوحدات المتبقية بعنوان السنة الجامعيّة 2012 - 2013".
والمشكلة بإيجاز أنّ جناب المحكمة اعتمدت فصلا من الأمر 516 لسنة 1973 مفاده "يمكن لكلّ طالب استنفد حقّه في الترسيم بالسنة الثانية من المرحلة الأولى من الدراسات الجامعيّة أن يثمّن الوحدات التي حصل عليها وأن يجري الامتحانات الخاصّة بالوحدات المتبقّية خلال العوام الموالية...". غير أنّ هذا النصّ يتضارب مع نظام الدراسات والامتحانات الخاصّ بالمدرسة الوطنيّة للطبّ البيطريّ أي الأمر عدد 1913 لسنة 2001. فهو ينصّ في فصله السابع على أنّه " لا يسمح بالرسوب في المدرسة القوميّة للطبّ البيطريّ إلاّ مرّة واحدة خلال كلّ مرحلة دراسات". أفليس هذا التضارب بين الأمر العام والأمر الخاص بكاف لتطبيق القاعدة القانونيّة التي تقدّم الخاصّ، إذا توفّر، على العامّ خصوصا بعد أن استوفت العارضة عدد التسجيلات المسموح بها؟
والأنكى أنّ تثمين الوحدات المذكور في الأمر 516 لا يعتدّ به في الدراسات البيطريّة وفي النظام الخاصّ بها. فالحضور إجباريّ والتكوين يعتمد أساسا الأشغال المسيّرة والأشغال التطبيقيّة. وهو جانب بيداغوجيّ لا نطلب من جناب المحكمة معرفته بل وضع الثقة في أهل الخبرة والميدان واستشارتهم قبل المسارعة إلى إيقاف التنفيذ حتّى لا يسقط قانون عام على غير سياقه المناسب له. ولكم سيّدي ان تتخيّلوا الارتباك الذي قد ينجرّ عن تطبيق قانون غير مناسب لخصوصيّات نظام دراسة وامتحانات مغاير.
وعلاوة على ذلك لو طبّقت المدرسة المذكورة ما استقرّ عليه رأي جناب المحكمة الموقّرة لاستوجب ذلك، من باب العدل والإنصاف وعملا بفقه القضاء، فتح الباب لغير الطالبة المدعية. والحالات تعدّ بالمئات فتخلق السابقة أزمة في استيعاب أصحاب الحقّ المفترضين الذين تعسّفت عليهم إدارة المدرسة الوطنيّة للطب
 البيطريّ وهياكلها البيداغوجيّة. وهي أزمة لن تحلّ إلاّ بغلق المدرسة نهائيّا بعد أن استحال سير التكوين فيها.
وهكذا ترون سيّدي الرّئيس أنّ وجهة نظر الوزارة والجامعات في خصوص مشاركة مدرّسي السلك المشترك والمدرّسين الملحقين لا تعسّف فيها لأنّهم ببساطة لا ينتمون إلى سلك المدّرسين الباحثين، وأنّ وجهة نظر الجامعة ومدرسة الطبّ البيطريّ لم تحرم مواطنا من حقّ له لأنّ القانون نفسه يمنع عليه التسجيل استثنائيّا. لذلك لم نفهم إصرار جناب المحكمة في الحالتين إلى تأجيل التنفيذ في الحالة الأولى وإيقافه في الحالة الثانية.
وأؤكّد أنّ الجانب الخلافيّ من المسألة يتّصل بتأويل النّصّ التأويل المتناسق وأنتم تعلمون كما نعلم أنّ أيّ تأويل إنّما عماده تنزيل النّصّ في سياقه ليكون نتاج التّأويل (ومن ثمّة الحكم الذي تصدرونه) متناسقًا مع بقيّة النّصوص الصّريحة التي  تُقرأ بروحها وفي تكاملها بدل القراءة الحرفيّة الكسولة وانعكاساتها السلبيّة. هذا ما تعلّمناه من دراسة أصول الفقه وبلاغة النصوص وتحليل الخطابات عامّة ولا نظنّ أنّ للتّأويل في النّصوص القانونيّة آليّات تخفى على غير رجال القانون وإذا كانت خافية فلا حول ولا قوّة إلاّ باللّه. ولكنّني أعلم أنّ في التّأويل ينطبق القول المأثور:"هم رجال ونحن رجال". ولا يمكن استعمال سلطة القضاء لفرض تأويل حرفيّ متعسّف كما لا يمكن اعتماد الشّبهات لتعطيل مؤسّسات برمّتها. فالقصد يظلّ دائمًا مؤسّسًا على التّوازن الدّقيق بين مصالح الأفراد والمجموعات ومصلحة المؤسّسات.