dimanche 15 février 2015

الطلياني:شكري المبخوت يروي الواقع التونسي بعين مثق


جريدة الحياة
الأحد، 15 فيفري 2015  

رواية «الطلياني» هي باكورة التونسيّ شكري المبخوت (دار التنوير - بيروت). هذه الرواية التي شملتها القائمةُ الطويلة للبوكر العربية في نسخة العام 2015، وقال مؤلّفُها إنه بصدد كتابة جزئها الثاني، هي بالتوصيف مجموعة غصون حكائيّة يحمل بعضُها بعضاً، ويحنو الواحد منها على الآخر في حالة افتتان فنّي ودَلالي محمول في هندسةٍ سرديّةٍ لا يُخفي فيها هذا النصّ البِكرُ نزوعَه إلى التفوّق الذاتي من حيث أصالة المغامرةِ وأناقة الخطابِ وسلاسة اللغة وهي تمزج الحُبّ بوفير الألم.

لحظة حُبّ
«الطلياني» رواية إدانة: إدانة السلطة وأعوانها، وإدانة الإيديولوجيا ودعاتها، وإدانة القيم الاجتماعية وحرّاسها من المثقّفين والعامّة. وهي أيضاً رواية حلم وحبّ: حبّ «الطلياني» لـ «زينة»، وحبّ «زينة» للحريّة، وحبّ الراوي لمرويّاته. تفعل الرواية كلّ ذلك بجُرأةٍ كبيرة حاشدةً عُدّتَها التخييلية وعَتادَها اللغويّ لكشفِ كلّ مفردات الواقع التونسيّ وتتبُّع تفاصيلها المادية والنفسية. وهو ما يجوز معه القول إن «الطلياني» مغامرة في تسريد تاريخ تونس من آخر زمن بورقيبة إلى عهد بن علي تسريداً محكوماً برؤيةِ مثقّفٍ عايش تلك الفترة وخَبِرَ ويلاتها وتأزُّمَ مصائر الناس فيها.
تنهض هذه الرواية على دعامة حكاية حُبّ تجمع بين «عبد الناصر الطلياني» و»زينة»، وهما شابّان جامعيان يختلفان في الفكر والمرجع الاجتماعي، لكنّهما يلتقيان في هدف تثوير الواقع ونقد سكونيته. «الطلياني» هو طالب حقوق من سكّان تونس العاصمة، ذو وسامة إيطالية و»سحر فتّاك ترتمي أمامه أيّة غادة جاثية على ركبتيْها»، وهو أيضاً «بورجوازي صغير له كل المؤهّلات ليصبح بورجوازياً»، غير أنه «يختار أن ينحطّ ليُخالط البروليتاريا الرثّة وأبناء الفلاّحين» مدفوعاً إلى ذلك بإيديولوجيته اليسارية وتزعّمه لتيّار نقابي في كلية الحقوق. وفي خلال لحظة عنف سلطوي في كلية الآداب بمنوبة يلتقي بـ «زينة» طالبة الفلسفة الآتية من «إحدى القرى البربريّة بالشمال الغربي» والمتمرّدة على أقانيم واقعها بسبب كونها «ابنة بورقيبة الذي جعل النساء مُستَقِوِيات على الرجال والآباء والإخوة» وهو ما تُوصّفه بقولها: «أنا حرّة في نقد اليسار واليمين» وتعزّزه بالقول إنّ المثقَّف هو مَن «يُطلق النار على كلّ ما يتحرّك... يطرح الأزمة بالسؤال والاستفهام. يخلخل السائد». وقد مثّل هذا اللقاء قادحَ علاقة حبّ بين هذيْن الشابّين وسبيلَهما إلى تجاوز مصاعب العمل السياسي ومواجهات عيون الأمن وحتى التهديد بالتصفية الجسدية من قبل بعض التيارات اليسارية المتشدّدة التي تؤمن بأنّ «كلّ مَن يقف حجر عثرة في وجه الجماهير ينبغي تصفيته». بل إن ذاك اللقاء كان الجسر الذي عبرته الحكايةُ إلى شعاب حيوات شخصياتها على غرار «للاّ جنينة» وزوجها «الشيخ علاّلة الدرويش» «ونجلاء» و»سي محمود» و»صلاح» و»ريم» وتشابك علائقها وهي تنحت مصائرها وأحلامها بجوع أجسادها إلى اللذة مرّة، وبقابلية أفكارها للتلوّن وفق ما تستدعيه المصلحة الشخصية مرّة أخرى. وإنّ توهّج قصّة حبّ هذيْن الشابّيْن سيجعل قارئ الرواية يبتهج كلّما قرّب الراوي بين روحيْهما ويغضب كلما أوجد أسباب فراقهما لِمَا في حبّهما من ألمٍ ممزوج بتوهّج ثوريّ ممزوج بترهّل مؤسّسات الدولة وتنامي إرهاب أعوانها ورغبة الإسلاميّين في السيطرة على السلطة بالبلاد.
تخرّجت ّزينة من الجامعة» وعٌيّنت لتدريس الفلسفة في إحدى محافظات الجنوب التونسي، إلاّ أنها رأت في بعدها عن العاصمة مانعاً لها من مواصلة دراستها في المرحلة الثالثة، وهو ما وجد فيه «الطلياني» سبباً كافياً ليُقنعها بالزواج حتى يستطيع نقلها إلى العاصمة وفق شروط وزارة التربية في تقريب الأزواج. ومن ثمّة حرصت زينة على عدم إعلان زواجها لكونها ترى فيه فعلاً مفروضاً عليها حتى أنه لم يعرف بأمره أحد سوى أخت الطلياني «يُسر» وصديقة زينة «نجلاء». يقع الزوجان تحت طائلة أزمة ماديّة تدفع الطلياني إلى الاشتغال محرّراً في إحدى الصحف الحكومية، وتنهمك زينة في إعداد بحثها الأكاديميّ ناسية المرأة التي راحت تذبل فيها. وشيئاً فشيئاً تبرد علاقتهما، وتنفتح شهيّة الطلياني إلى خيانتها؛ فيخونها مع صديقتها نجلاء، ويبالغ في ذلك إلى الحدّ الذي اقتنعت فيه بضرورة طلب الطلاق منه. تسافر زينة، بعد الطلاق، إلى فرنسا وتتخلّى عن حلم إتمام دراستها وتتزوّج شيخاً يعمل باحثاً في إحدى الجامعات الفرنسية لا تكنّ له أيّ احترام، بينما يدخل الطلياني في حياة بوهيمية صورتها الجنس والخمر والسهر والحيرة سعياً منه إلى نسيان زينة، وهو ما انتهى به إلى تعرُّفِ «ريم» الطالبة بكلية الفنون الجميلة. غير أنّ زيارتها الأولى له بشُقّة أخيه صلاح بـ «حيّ النصر» تثير لديه ألماً حادّاً بسبب فشله في التواصل معها جسدياً، وهو ما عاد به إلى خزين ذاكرة طفولته حيث احتشدت أمامه صور «الشيخ علالة الدرويش» وهو يحاول مفاحشته في أكثر من مرّة، وفي كلّ مرة كان يهرب منه بمشقّة الصُّدفِ، وهو ما حفزه في مراهقته على التشفّي من هذا الشيخ بتلذّذ جسد زوجته «للاّ جنينة» التي كانت ربّته وهو صغير. وفي تلك اللحظة أيضاً، لحظة فشل «الطلياني» مع ريم، يبلغه خبرُ موت أبيه الشيخ محمود، فإذا به يذهب مباشرة إلى مقبرة «الزلاّج» في العاصمة، وينهال ضرباً على «الشيخ علالة الدرويش» وهو بصدد تأبين والده، فعل ذلك من دون احترامٌ منه لرهبة الموقف ولا حسابٍ لمكانة عائلته أو لحديث الناس عنه. وهو الحدث الذي اختاره الكاتب فاتحة مغامرته الحكائية.

قدّيسة الرواية
زينة «قصبة مُفكِّرة»، هكذا يصفها «الطلياني»، وهي على حدّ وصف الراوي «ممشوقة القوام كالرمح. وجه قمحيّ وضّاح... لا هي متأنّقة من أثر الحلاّقات ولا هي مهملة كجلّ المُناضلات»، بل «كانت جمالاً باذخاً يريد نفي وجوده بتقشّفها في إبدائه... ولو اعتنت بإبراز الحدّ الأدنى من أنوثتها لقلبت الدنيا رأساً على عقب». غير أن صاحبة هذا الجمال المُحبّ للحياة والمسكون بالتمرّد على كلّ شيء لاقت من الرواية تنكيلاً مُرّاً وهَدْماً عنيفاً لأحلامها. وهو تنكيل، وهو هدم، يحفزان القارئ على التعاطف معها تعويضاً عمّا يستشعره من كثرة الغُبن الذي لاقته في الحكاية المسرودة. ولعلّ هذا ما يثير فينا السؤال عن سبب اختيار الكاتب مساراً صعباً لحياة زينة، ولكننا سنؤجّل تأويل ذلك إلى حين، لنتفرّغ لكشف ملامح المرارة التي عانتها زينة وهي تروم نحتَ كيانها بيديها وتسطير تاريخ لها نضاليّ رغم إكراهات منظومات واقعها الاجتماعية والسياسية والثقافية التي عرف الكاتب كيف يُظهر عَسْفَها الفكري والعاطفيّ الشديدَ إلى الحدّ الذي يكاد فيه القارئ يستشعر طعمَ مرارتِه، لا بل ويحسّ بانصباب الأوجاع عليه.
عرفت زينة، وهي لم تزل تلميذة في الثانوي، صروفاً من الاضطهاد الجسدي والفكريّ من قبل أحد إداريي المؤسّسة التربويّة لمّا رفضت الانصياع لطلباته الجنسية. وعندما التحقت بالجامعة وافتكّت لها حضوراً سياسيّاً في أوساط الطلاب لاحقتها الشائعات؛ إذْ «لم يتوان خصوم طلبة اليسار من الإسلاميّين عن تكنيتها بعاهرة الثورة البروليتارية»، بل وقد «سمع الطلياني رفاقه يتحدّثون عن علاقات زينة الجنسية مع طلاب آخرين من القياديّين». ثمّ لمّا راحت تنقد في نقاشاتها الجامعية أفكار اليسار واليمين على حدٍّ سواء، طالب قائد تيار يساري - بعد أن خاف من أن يؤثّر نقدها في أتباعه ويصرفهم عنه - بتصفيتها جسدياً لولا تنبّهُ الطلياني إلى الأمر وتفاديه. كما مارست بيروقراطية الإدارة التونسية اضطهادها على زينة باشتراط زواجها حتى تتمّ نُقلتها من الجنوب إلى العاصمة لمواصلة دراستها. ولم تخلُ حياة زينة العاطفيّة من هزّات عنيفة صورتُها إقدام زوجها الطلياني على خيانتها مع صديقتها نجلاء في فراشها وبحضورها من دون قدرة منها على ردّ الفعل، واضطرارها في وقت لاحق إلى إجهاض جنينها رغم إحساسها بتأنيب الضمير.
بل إن اضطهاد زينة الوجداني يذهب إلى أبعد حدوده لمّا يخبرنا الراوي بأنها رغبت في العودة إلى العاصمة يوم وفاة أمها، مُصوِّرًا إيّاها تصويراً سلبياً تظهر فيه غير متأثّرة بحدث الموت وغير عابئة بخسارة أمّها. يُضاف إلى ذلك أن الكاتب جعل زينة تتزوّج، بعد وسامة الطلياني ورجولته، شيخاً فرنسياً لا يُجيد سوى الخضوع لأوامرها وقبول إهاناتها له.
وإجابة منا عمّا بدا لنا تطويحاً من الكاتب بروح بطلته زينة ووضعَه عقباتٍ صعبةً في مسيرتها الحياتيّة إنّما هو راجع في تأويلنا إلى إيمانه بأنّ تحقُّقَ مطلب حريّة المرأة التونسية، رغم كثرة التشريعات القانونية الضامنة لذلك - كمجلّة الأحوال الشخصية على سبيل المثال - يبقى رهينَ وعي المجتمع بدور الأنثى في دعم نهضته الحضارية، وقبول ثقافته الذكورية لحضور الأنثى فيها حضور المشارك الفاعل لا حضور الدّيكور والترف سواء كان على المستوى السياسي أم الاجتماعي. وإذا سأل سائل: هل زينة قدّيسة؟ نقول: ربّما لا، ولكنها بطلة فذّة لرواية تحدَّتْ ذاتَها.

Aucun commentaire: