jeudi 19 mars 2015

الطلياني": توترات تونسية على إيقاع عربيّ



خالد الحروب
جريدة "الشرق"، الإثنين 23-02-2015


لا هو من قبيل الخفة في التعبير ولا السخرية في القول الزعم بأن تشابه الهموم العربية مشرقا ومغربا يُعد وجها من العناصر المشتركة التي تؤكد عوامل وحدة العرب، مثاليا ونظريا على الأقل، واستنساخ التعامل مع تلك الهموم من الجار العربي جزء من تلك العناصر أيضا. لماذا، تأملاً، تعاقبت ثورات الربيع العربي من بلد عربي لآخر، ولم تنتقل إلى بلدان الجوار غير العربي: إلى النيجر وتشاد، أو تركيا وإيران، أو إثيوبيا وارتريا، على سبيل العدوى مثلاً؟ على كل حال ليس هذا حديث هذه السطور، لكنه بعض مما تثيره قراءة الكاتب والمثقف التونسي القدير شكري المبخوت في روايته الممتعة "الطلياني".
هنا نقلب ملفات إرث البورقيبية التي شكلت تونس ما بعد الاستقلال، وتمثلاتها المتنوعة: ثقافة، واجتماعاً، وتسيساً،...، واستبداداً. والبورقيبية، وكما كانت الأتاتوركية، حالة تفيض بالدراما، ذاك أنها متعددة الأوجه وحمالة للتفسيرات، وفيها وعليها ما يكفي ويؤهلها للتمرد على أي محاولة توصيف اختزالية. هي قاطرة تونس نحو الحداثة ولولاها لربما ظلت البلد يترنح في زنقات التقليد، ثقيلة الخطوة، ومترددة الاتجاه كما هو حال كثير من البلدان العربية والإسلامية. وهي، أي البورقيبية، مقام المرأة التونسية ودفعتها إلى موقع متقدم قياساً بنظيراتها في الجوار العربي وربما بعده. لكنها، أي البورقيبية، كانت استبدادية وأبوية صرفة تحوم حول "المجاهد الأكبر" وما يراه ويقرره. في عنفوان شبابه ونضجه وعطائه امتلك جبروت الشخصية كي يقود البلاد ويفرض رؤيته لتونس المنطلقة نحو المستقبل والمنفلتة من الماضي. في مراحل العنفوان تلك داس على المعارضة وهمشها، يسارييها أولاً ثم إسلامييها. حُشر المعارضون في الجامعات واتحادات الشغل، وانفرد القائد الأوحد بتوجيه دفة البلاد.
لكن عندما استبدت حتمية الزمن بالقائد واحتلت الشيخوخة والعجز ما كان نصيبا للعنفوان واليقظة، تقدم أحد أخلص مساعديه ليخلص البلاد مما صار يُرى نزقا في القائد وليس حكمة فيه. صار لابد من إنقاذ البلاد من مؤسسها وحاميها الأول، فجاء زين العابدين بن علي. وعد الشعب، ويسارييه وليبرالييه وإسلامييه، بعهد دستوري جديد، قوامه الثورة على فكرة "تسلم الحكم مدى الحياة". كان ذلك سنة 1987، وكلنا نعرف بقية القصة بعد ذلك. هذه هي السردية العريضة للواقعة التونسية في النصف الثاني من القرن الماضي وصولا إلى لحظة سقوط المنقذ ابن علي. خلف هذه السردية كانت حياة المجتمع تمور بكل ما تمور به مجتمعات العرب: امتدادات عميقة ومتواصلة وراسخة للموروث الاجتماعي، والديني، والقبلي، والأبوي، يعشش بعيدا عن، ورغما من، أحلام النخب سواء أكانت حاكمة أم معارضة، يسار متصاعد يبحث عن موقعه بين حكم ليبرالي السمت لكنه استبدادي النزعة، وإسلاموية ناهضة تعتاش على الموروث وتحرض وارثيه على رفض الحداثة وتغريبها المجتمع، بنى اقتصادية هشة لم تتمكن لا من تطهير رقاع الفقر العريض، ولا من استيعاب أجيال الشباب الذين فاض كثيرهم في شوارع البطالة تتلقفهم تنظيمات متطرفة، أو عصابات التشرد، أو بكل بساطة مشاعر الضياع والتوهان. قليلهم تمكن من الهرب من الأوطان والهجرة للخارج والارتماء في أحضان الغرب المشتوم صباحا مساء، وكل ذلك وغيره تحت سيطرة نظام سياسي مطبق الإحكام على المجتمع، فيه الحريات السياسية مجففة، والمناصب العليا ونصف وربع العليا محجوزة للمنافقين والمتسلقين والمداحين.
في قلب تلك التناقضات وفي بيئة متوسطة عادية نتعرف، وفي المشهد الأول من الرواية، على عبد الناصر، الشاب المتمرد الناقم على عائلته، وهو يسير أسهما في جنازة والده الحاج محمود. في لحظة الدفن والعشرات من محبي الحاج يتحلقون حول القبر ويرددون الأدعية والآيات وراء "الإمام علاله"، أمام جامع الحارة، الذي يزجي رأس الحاج محمود فوق اللحد، ينتفض عبد الناصر ويضرب بقدمه وجه الإمام بكل قوة فينفر منه الدم، ويغادر المقبرة أسهما والكل تصعقه المفاجأة، ومعها تتحول الجنازة إلى فوضى مباغتة، بعد هذا المشهد الافتتاحي نحتاج إلى أكثر من ثلاثمائة صفحة كيف نفهم سبب هذا التصرف "الأرعن" الذي لم يكن ليليق بابن الحاج محمود صاحب السيرة الحميدة المشهود لها من الجميع، حوقل الناس وعادوا إلى بيوتهم مذهولين، ولا يقل عنهم ذهولا القراء الذين استعجلوا تقليب الصفحات لمعرفة السبب. بين دفتي الكتاب، ومن ضربة الشاب اليساري المتمرد لوجه السلطة الموروثة وإلى معرفتنا بأن أمام الجامع ذاك حاول مرارا الاعتداء جنسيا على عبد الناصر أيام كان ولدا صغيرا يحوم في الحواري وحول الجامع، نجوب مع المبخوت في حكايا تونس، وتوتراتها، وناسها، وفقرها، وأيديولوجياتها، وحيرتها، ونسائها، وسير العشق المكتمل والمنقوص.
عبد الناصر، والذي يعرفه الجميع بلقب أسبغ عليه باكراً وهو "الطلياني" نظرا لـ"وسامته الأوروبية"، شخصية درامية بامتياز، وفيه كل التناقضات الممكنة. فهذا اليساري المهجوس بتحقيق العدالة والمساواة في المجتمع، والمناضل عن حقوق الناس في وجه السلطة، هو نفسه الشخصية المرذولة من قبل عائلته، وهي العائلة التي لا يهتم بها، وكأنها تقع خارج تعريف "الشعب" و"المجتمع" الذي يدافع عنه. نبله في النضال وفي الحب عندما تعرف على زينة، الريفية القروية، المُبهرة في الجامعة وفي تفوقها في الفلسفة، لا يوازيه إلا نذالاته وخياناته المتكررة لمن اعتبرها قديسة قلبه. تنظيراته في ضرورة الثورة الجذرية واقتلاع الوضع القائم واستبداله، تنزوي تدريجيا لصالح أفكار "الإصلاح من الداخل" والاقتراب من دوائر النظام والاشتغال في ماكينته. أفكار "الإصلاح من الداخل"، عمليا وحياتياً، يقع جذرها في الحاجات المادية وإكراهات الحياة، والتنظير المؤدلج لها ليس سوى التكرار المعروف لنفس القصة، حيث تُوظف مهارات لغة الايدولوجيا لسوق المسوغات والمبررات لنقض تلك الايدولوجيا نفسها، أو تحويرها لتتواءم مع الخيارات الجديدة.
شقيق عبد الناصر، صلاح الدين، يقدم إطلالة مُعلمة في الرواية فهو المتفوق دراسياً، والذي أنهى الدكتوراه في الاقتصاد، ويعمل في سويسرا مع مؤسسات دولية كبرى تريد أن تقود دول العالم المتخلفة إلى سياسات تحرير السوق وليبراليته. زينة، المناضلة والمتفلسفة وحبيبية ثم زوجة عبد الناصر، يقتلها طموحها، ثم تفترسها ماديات الحياة عندما تحس بطعم المال والمرتب الشهري. تحاول أن تتعامل مع الحرية التي "منحها" بورقيبة لنساء تونس، فتلتبس عليها الأمور. تقول: "لقد أعطانا بورقيبة قيدا جديدا ظنناه انعتاقا فتورطنا. لم يعد بإمكاننا أن نعود إلى الوراء. وإذا أردنا أن نتقدم تعذر علينا ذلك. أما البيت فسجن صغير وأما الشارع فسجن كبير. أحدهما يعمره سجان بليد لا تنتهي طلباته. طفل صغير دللته أمه ولم يستطع الفطام منها، والآخر يعمره السفلة بتحرشهم بالنساء وعنف لغتهم الجنسية الناضحة كبتا ونظراتهم التي تعري المرأة تعرية".

ليست هذه مراجعة للرواية، بل بعض التأملات في بعض من جاء فيها، ومن دون هذه الملاحظة نكون هنا قد ظلمنا شكري المبخوت وصنيعته "الطلياني".

Aucun commentaire: