mercredi 25 mars 2015

“الطلياني” والفساد القاتل في الواقع العربي


قراءة في رواية “الطلياني” والفساد القاتل في الواقع العربي
فاطمة عطفة
جريدة رأي اليوم، 25 مارس 2015

رواية جميلة ومشوقة، يتمنى قارئها أن لا يتركها قبل أن ينتهي منها. ومن الجملة الأولى يطرح الكاتب مشكلة ارتكبها البطل، ساعة دفن والده، إذ يبدأ العمل الروائي بهذه المفاجأة الغريبة: “لم يفهم أحد من الحاضرين في المقبرة يومها لِمَ تصرّف عبد النّاصر بذلك الشكل العنيف، ولم يجدوا حتى في صدمة موت الحاج محمود سببًا مقنعًا”.
كانت الجنازة كبيرة احتراما لما تتمتع به عائلة الحاج الراحل من مكانة مرموقة في تونس العاصمة، وفيها رجال إعلام وسياسة وبعض الوزراء. وعبد الناصر، حين يدعوه خاله للوقوف مع المصلين، ينهره بحنق وامتعاض: “تعرف كما يعرفون أني لا أصلي ولا أصوم”. ونتصور أن هذا طرف من المشكلة، وليس جوهرها حيث انقض عبد الناصر على الإمام يضربه حتى أدماه، وهو يلحد أباه، لكن “لم يشهد الحادثة إلا من كان في الدوائر الأولى”. (ص 7)
الرواية مؤلفة من 12 فصلا، تبدأ بـ “الزقاق الأخير” وتنتهي بفصل “رأس الدرب”، وخلال هذا التصميم الدائري يتابع الراوي سيرة عائلة الحاج محمود، وزوجته الحديدية زينب، وابنيه: صلاح الدين الاقتصادي، المهاجر إلى سويسرا، وأخيه الأصغر عبد الناصر الملقب بالطلياني لأن ملامحه توحي بذلك، إضافة إلى ابنتين، لا يمر ذكرهما إلا لماما. والراوي صديق الطلياني، لكن الكاتب لا يكشف لنا اسمه. وتشكل الجامعة صورة مصغرة عن الجماعات الحزبية في تونس، من أقصى اليمين الإسلامي إلى أقصى اليسار الماركسي، مرورا بالوسط الليبرالي والاشتراكي. ويشكل بطل الرواية: عبد الناصر في الحقوق وزينة في الفلسفة أبرز ملامح هذه الصورة، وإن كانت سيطرة الإسلاميين وشبحهما المنذر  باستلام السلطة، رغم الملاحقات الأمنية لهم، أخطر ما تواجهه الحركة الطلابية والبلاد بوجه عام.
سأكتفي هنا بذكر لقب عبد الناصر (الطلياني) بدلا من اسمه المركب، أو باعتباره (البطل)، رغبة بالاختصار. وحين يقوم الإسلاميون بحركة إضراب واحتجاج قوية تؤدي إلى حملة اعتقالات، ويكون الطلياني وزينة من جملة المعتقلين خطأ. وفي المعتقل يستدعيه ضابط كبير ويعامله باحترام، ثم يخبره أنه كان من أبناء حارته وينظر إلى عائلته باحترام، وينصحه بأن يخفف من مواقفه الحادة ويؤكد له أنه غير مطلوب وكذلك زميلته زينة، ثم يتركه في المكتب منتظرا مع كومة من الصحف ويخرج مغلقا الباب وراءه بالمفتاح. لكن الطلياني لا يجد في الصحف ما يستحق ضياع الوقت، ويغريه مكتب الضابط المغلق فيقوم بتقليب الأوراق وفتح الأدراج بحثا عن الأسرار، ويفاجأ في أحد الملفات بتقارير عنه وعن غيره، فيضع أحدها في جيبه ويعود إلى مكانه بسرعة حين سمع حركة المفتاح في الباب، وعند الوداع ينصحه الضابط بأن يهتم بزينة. ويبدو أن الضابط خرج بقصد لكي يبرهن للبطل، بعد فترة، أن عين الأمن ساهرة وهم يعرفون كل شيء ويتغاضون كثيرا عن الحماقات الصغيرة، لأنه يكاشف عبد الناصر بسرقة الملف ويكتفي بلومه على ذلك!
أدت حادثة الاعتقال المؤقت إلى اقتران البطلين، ولكن بعقد صداق وليس بعقد زواج معلن أمام أهل زينة، بل يبقى الأمر سرا دون علمهم وهم في الريف البعيد، ويكون الشاهدان: أخت الطلياني الصغرى والراوي، إذ يقول: “كنت أنا شاهد زينة بطلب منهما. فهما لا يثقان في أحد، ثم إنني صديق طفولة الطلياني والمرافق الرسمي لزينة في الكلية”. (ص 121-122)
بدأ الطلياني يعمل بعد التخرج في الصحافة، وسرعان ما تألق في عمله، بينما تعمل زينة في التدريس وتتابع التحضير للدكتوراه. وفي أحد الأيام يكتب مقالة بعنوان “حقائق مذهلة قد تساعد على كشف المؤامرة”، وقبل نشرها يأخذ رأي رئيس التحرير سي عبد الحميد، وبعد أن اطلع “سيد الصحافيين في تونس على بعض الجمل قال له: “أين تظن نفسك في أمريكا.. في فرنسا.. من سيحميك؟”.
- “لكن لا شيء ضد الدولة في ما كتبت.. ومعلوماتي من مصادر عليمة..”.
- “لا تهم مصادرك.. هذه المعلومات ذات طابع أمني لا يحق لك استعمالها..”.
– “مصادري أمنية ثابتة. ألم تقل لي إن الصحفي الحقيقي هو الذي له صلات بالأمن دون أن يصبح واشيا؟”.
- “صحيح ولكن لكي تعرف اتجاهات الريح.. لا لكي تقف في مهب الريح عاريا.. الفرق كبير. أنت الأن من سيحميك؟”.
– “الصحفي يقول الحقيقة وينقل الخبر.. إنه تحقيق وليس مقال رأي”.
ابتسم سي عبد الحميد ابتسامة:
- “اسمع يابني.. الحقيقة في تونس لها مصدر واحد هو الدولة.. وهذه الأيام وزارة الداخلية هي الدولة.. والدولة هي الداخلية عندنا.. لم يطلب منك أحد أن تحل محل الوزير بن علي. له ثقة الزعيم فلا تشاركه في ما يعرفه. دعك من كذبة الحثيقة. ثم ما رأيك لو كانت مصادرك تريد أن تتلاعب بك؟”. وبعد فترة يحدث الانقلاب على بو رقيبة ويستلم زين العابدين بن علي الحكم، والجيل الشاب يستبشر خيرا لأن البيان الذي صدر كان مبشرا بالديمقراطية، لكن سرعان ما تتكشف الأمور.
وقبل الزواج تخبر زينة الطلياني أنها تعرضت في القرية لحالة اغتصاب ليلي دون أن تعرف الفاعل، ولم تخبر أحدا من أهلها، وقد تغاضى عبد الناصر عن هذا الموضوع أملا في أن يساعدها لتخفيف أثر هذه العقدة النفسية التي تعاني منها. لكن زواجهما ينتهي بالطلاق بعد موت أمها. وخلال زيارتها لأهلها مع صديقتها بصحبته ولم تخبر أحدا منهم بأنه زوجها، لكنهم تصوروا أنه زوج صديقتها، وقد آلم الطلياني هذا الاستهتار، ثم أجرت عملية إجهاض دون أن تخبره بذلك أيضا، وكان هذا كافيا لانفصالهما.
بعد الطلاق يغرق بالشراب والسهر واقتناص الملذات دون تمييز. ونكتشف سر المشكلة التي حدثت في البداية، حين يكشف الطلياني لصديقه الراوي أن الإمام حاول اغتصابه أكثر من مرة في طفولته، رغم أنه عنين ومتزوج ابنة الإمام السابق، لكن يحاول الاعتداء على الغلمان أملا في إنعاش رجولته عسى أن تتحسن علاقته بزوجته التي ملأت رائحتها الزنخة الحارة.

الروائي شكري المبخوت مهندس بارع في بناء عمله الروائي، وبراعة التوازن بين الخاص والعام، وهو يورد العديد من الأحداث التونسية بتواريخها المحددة. وقد بدأ الرواية من تصرف الطلياني، لكي يجعل القارئ يلهث مسرعا حتى ينتهي من قراءتها ويكتشف السر. وربما أجمل ما في هذا العمل أن الكاتب يترك الكثير لخيال القارئ حتى يستكمل الأحداث التي يعرفها أو سمع عنها، ولا بد أن يصاب القارئ بالصدمة من هول الفساد المستشري في الدولة، أي دولة، وخاصة من خلال ما يكشف رئيس التحرير للطلياني الذي يعمل معه في صحيفة رسمية. يقول الراوي: “باح عالم الصحافة والثقافة لعبد الناصر بأسراره كلها. أصبح يراه مارستانا كبيرا دمر نزلاءه بالأكاذيب والأوهام والخمرة والكبت والظطلة أحيانا. زال الفارق الكيفي بين حملة الأقلام والفكر وحملة الخناجر وباعة الخمر خلسة”. (ص 272). ويحسب للرواية معرفته العميقة بأحداث بلده سنة بسنة سواء بالحركة الطلابية أو العمالية، وجهاز الدولة الإداري وخاصة وتحديد المؤسسة الهيمنة صاحبة القرار.

Aucun commentaire: