jeudi 22 novembre 2012

ما ناقشني جاهل ...




1
  حين طلب منشّط تلفزيّ من المفكر التونسيّ ذائع الصيت عربيّا أن يشارك في حوار سأله المفكر عن بقية المحاورين.فأنبأه بما استقرّ عليه الرأي فأجابه بسؤال إنكاريّ يفيد اعتذارا عن الحضور، قائلا:"كيف تريدني أن أتحاور مع شخص بيني وبينه أربعة عشر قرنا؟" .
   كان المفكر الهادئ  في طبعه الجريء في أفكاره يحتجّ على ما وصل إليه وضع المناظرات في تلفزاتنا.إذ استحالت المحاورة منافرة وانقلبت المجادلة مهاترة وأضحت المناقشات مباطلة ومغالطة.إنّها خصائص تلفزيون الواقع ببذاءته وسطحيّته وكشفه عن الأعوار والخور بعد أن فتحت الثورة الفضاء العمومي لكلّ من هبّ ودبّ دون الشروط التي يقتضيها الحوار في مثل هذه الفضاءات.
     فالمقصد الأسنى من الحجاج هو الإدارةُ العقلانيّة للاختلاف في الظنّيّات والانتقال من احتمال العنف في الواقع إلى إمكان صياغة خطابٍ تفاعليّ لبناء حقيقة مشتركة.بيد أنّ بين الحجاج واللّجاج خيطا أوهي من بيوت العنكبوت:فبدل الاضطلاع، في الحجاج ، بأمانة العقل لتوليد الحجج والتأسيس عليها يكون الانتقال إلى اللّجاج وهو المخاصمة والتمادي في الغلظة وكيل التهم بلا ضابط أو عقلة.
2
    وتقع وراء استفهام المفكّر التونسي اللامع استفهامات أخرى مضمرة.ألا تكون محاورة النظير والشبيه من باب المذاكرة والمقابسة فتأتي خالية من  المفاوضة والمراجعة؟ ألا تقتضي المحاجّةُ المخالفةَ في المنطلقات والمواجهة في الرأي حتى لا نقول المناقضة في الأطروحات؟
   لا ريب في أنّ هذا لا يخفى عن مفكّرنا غير أنه يرفض ، على الأرجح ،الاختلاف الوحشيّ الذي لا يقوم على ساق من العقل ولا يستند إلى أخلاق المناظرة وكفاءة المناظر المختلف.
   والحقّ أنّ جلّ ما يصدر عن ديكة الجدال في ساحات تلفزاتنا أشبه ، في أحايين كثيرة،بتنافر جذريّ في المرجعيّات يعسر معه أن توجد لغة مشتركة للتخاطب والمدارسة.فما الذي ينتظر ممّن يعالج مثلا قضايا مجتمعنا الحديث ، على تعقّدها، بمفاهيم ومصطلحات أكل عليها الدهر وشرب . فقد توقّفت عنده المعرفة بالمجتمعات في زمن ثقافي جرفه التاريخ النابض وظلّ منغرسا جامدا في الوجدان؟أليس ذلك مدعاة لسوء الفهم والتفاهم؟ ومتى استقامت ، في هذا الاختلاف الجذريّ الوحشيّ ،مباحثةٌ ومدارسةٌ؟ وما الغرابة في أن تنقلب إلى منافرة ومخاصمة ومسالطة؟
3
   لقد تحرّرت، في أيّامنا السعيدة هذه،قرائح المتناظرين كلّيّا من مكبوتاتها وانطلقت ألسنتهم بما يجيش في الصدور من أوهام وأحقاد وعلل نفسيّة وفكريّة.فطفت على الألسنة استيهامات محيّرة وتصوّرات مذهلة.فماذا نسمّي دعوة أحدهم إلى إيجاد حلّ لمشكلة تأخّر سنّ الزواج بالسماح بأربع نساء أو بإباحة التسرّي أو حتّى بالترخيص لفحولنا الأشاوس في أن يتزوّجوا بنت عشر وثلاث؟.
     فما الذي بوسع المرء أن يناقش في هذه " الآراء- الاستيهامات" و قد ردّ صاحبهابظاهر اليد ما حدث ، منذ أربعة عشر قرنا،من تبدّلٍ في البنية الاجتماعيّة وتغيّرٍ في أنظمة الأخلاق وتطوّرٍ في التصوّرات الثقافيّة؟ ما الذي يمكن التباحث فيه مع من يضرب عرض الحائط ما شهدته الإنسانيّة، ونحن عربا ومسلمين جزء منها أساسيّ ،ثقافيا واجتماعيّا ،شئنا أم أبينا،من تحوّلات عميقة في العلوم والنظريّات الاجتماعيّة والقانونيّة والنفسيّة؟ وعلى هذا القياس وإن اختلفت جزئيّات المسائل وتفاصيل التباينات ودرجات الحدّة في الاختلافات.
    تلك هي المسافة الفاصلة التي تساءل عنها تصريحا وتضمينا صديقنا المفكر التونسيّ ذائع الصيت عربيّا بين متزامنين أحياز الزمان والتاريخ متباعدين في منطق الوعي الثقافي وزمنيّة المعرفة.
    أعلى نخبنا التي مازالت تتمسّك بمسكة من عقل أن تردّد في ما بينها وبين نفسها قول أبي حنيفة برّد اللّه ثراه عن بعض أهل عصره:" ما ناقشني جاهلٌ إلاّ وغلبني.." حتّى إذا كانت غلبة لا تستند إلى روح التاريخ وتحوّلات العصر الجارفة؟ فإن هي عندنا إلاّ من باب التفنّن في إضاعة الوقت والوعي الحضاريّين حتّى تتطهّر العقول من صدئها وأوهامها وتبرأ النفوس من عللها وأحقادها . 

Aucun commentaire: