samedi 18 juillet 2015

تونس: بين التاجر الداهية والفلاح الثائر



العربي الجديد، 12 يوليو 2015

يعدّ الهادي التيمومي من أكثر المؤرّخين التّونسيّين غزارة في الإنتاج وتنوّعاً في تناول وجوه مختلفة من تاريخ تونس. وهذا وحده كاف للاهتمام بما كتبه حول تشكّل الهويّة التّونسيّة وصيرورتها. فكتابه " كيف صار التّونسيّون تونسيّين؟" يندرج ضمن مشروع بحثيّ بناه صاحبه في أناة. فقد كتب سنة 2010 عن سَنّ أوّل دستور في العالم الإسلاميّ بتونس ثمّ أردفه بدراسة عن فترة حكم بن عليّ سنة 2012. وكان قبل ذلك قد عنى بالتأريخ للفترة البورقيبيّة 2006 علاوة على أطروحته الأساسيّة في دكتوراه الدّولة حول تاريخ تونس الاجتماعيّ. هذا دون العودة إلى كتاباته المتنوّعة حول تاريخ تونس المعاصر سواء من جهة انتفاضات الفلاّحين 1994 أو نقابات الأعراف 1983 أو النّشاط الصّهيوني في تونس 1982.
انفجار الهوّيات
تميّز المشهد التونسيّ بعد 14 يناير/ كانون الثاني 2011 بهوس مرضيّ بالهويّة كان من مظاهره تمزّق التّونسيّين بين تصوّرات مختلفة لنسيجهم التاريخيّ والثقافيّ. إذ ركّزوا مرّة على البعد الإسلاميّ وثانية على البعد العربيّ وثالثة على "التّونسة" ورابعة على الأمازيغيّة. واشتدّ هذا الهوس مع صعود الإسلاميّين إلى دفّة الحكم.
وفي مواجهة مرض الهوّيّة هذا يعتقد التّيمومي أنّ الوعي التاريخيّ أشبه ما يكون بممارسة "العلاج النّفسي" الجماعيّ للتّخلّص من ثقل الماضي وبلورة الوعي بالذّات.
وفضلاً عن سياق ما بعد الثورة ناقش التيمومي، بحسّ المؤرّخ المحترف، مسألة الهوس بالهويّة في إطار أوسع هو ما شهده العالم منذ التّسعينيات من تحوّلات اقتصاديّة (العولمة) وتكنولوجيّة (الثّورة الرّقميّة) وإيديولوجيّة (صراع الحضارات وسقوط الأنظمة الشّيوعيّة وظهور ثقافات ممانعة للهيمنة الغربيّة).
والطّريف أنّ التيمومي لا يخفي توسّله بالنّظريّة الماركسيّة اللّينينيّة في كتابة التّاريخ. فهو الرّمز الأهمّ لهذه المدرسة في تونس ولكنّه ينكبّ على تحليل الخصوصيّة القوميّة الضيّقة للتّونسيّين بل يكتب في بعض المواضع تقريضاً يبلغ أحياناً مراتب عالية من الشّاعريّة. وليس خافياً على أحد أنّ اليسار التّونسيّ عبر تاريخه كان متعلّقاً بالبعد الأممي رافضاً للمفهوم القوميّ للأمّة التّونسيّة التي كانت من أعمدة الخطاب البورقيبيّ.
فهل كان التيمومي، وهو يتناول الهويّة التّونسيّة، معبّراً، بشكل ما، عن خوف اليساريّين والحداثيّين التّونسيّين عموماً من وجود نزعة أمميّة أخرى تقوم على الدّين ويمثّلها بالخصوص حزب حركة النهضة الإسلامي التوجه؟
أليس هذا ما جعله يدعو إلى "تنمية الهويّة التّونسيّة وتجديدها" في تفاعل مع القيم الحضاريّة من قبيل العلم والدّيمقراطيّة والحرّية والمساواة بين المرأة والرّجل وفصل الدّين عن الدّولة وإن كان، في ظاهر قول التيمومي، من باب "ترتيب البيت الدّاخلي التّونسيّ" الذي شاء التّاريخ أن تكون هويّة ساكنيه إسلاميّة بصفة رئيسيّة وعربيّة بصفة أساسيّة ووطنيّة تونسيّة بصفة حاسمة.

التاجر الداهية والفلاّح الثائر
صاغ التيمومي للإجابة عن سؤاله في عنوان الكتاب، فرضيّة قرأ بها تاريخ تونس مفادها: "التّاجر هو الصّانع الرّئيسي لتاريخ تونس منذ أدخل الفينيقيّون هذه البلاد في التّاريخ وبين هذا التّاجر والفلاّح تكامل تناحريّ".
فقد حضر التّاجر حضوراً طاغياً في أزهى فترتين تاريخيّتين بارزتين حضاريّاً ونقصد الفترة البونيقيّة والفترة الإسلاميّة إلى حدود الاستعمار الفرنسي 1881. فلئن كان الفينيقيّون تجّاراً فإنّ الإسلام دين تجارة.
وقد ظلّت العلاقة بين التّاجر والفلاّح تنوس بين التّعاون والتّصادم. والحاصل دائماً من ذلك هو "استثمار" التّاجر لتمرّد الفلاّح و"عجز" الفلاّح سياسيّاً. وتدلّ على ذلك عشرُ انتفاضات فلاحيّة تأكّد فيها قانون التّعاكس بين ثورة الفلاّح واستفادة التّاجر الدّاهية بدءاً من الانتفاضة الشّعبيّة الكبرى سنة 1864 (ثورة علي بن غذاهم) وصولاً إلى ثورة 14 يناير 2014 لتتواصل "مأساة الفلاّح" إلى اليوم.
في إشكالات "التّونسة" وملامحها
لا يخلو الحديث عن الشّخصيّة التّونسيّة، سواء بالمعنى القوميّ أو بالمعنى النّفسي، من توتّر ناتج عن اختلاف التّصوّرات سواء لدى القائلين بها أو الرّافضين لها. ولكن في الحالتين يبرز موقف بورقيبة المتميّز. فهو يؤمن بـِ "القوميّة التّونسيّة" و"يقلّل من أهميّة البعد العربي الإسلاميّ" ويعمل على ربط تونس بِـ "العالم الحرّ الغربيّ". ووقف كذلك ضدّ النّاصريّة التي اعتبرها "هيمنة مقنّعة على تونس وعلى غيرها من الدول العربيّة". والثابت أنّ دولة بورقيبة هي التي انتقلت بتونس من كيان ما قبل قوميّ إلى كيان قوميّ. وما كان ذلك ممكناً إلاّ بوضع مسافة مع التيّارين العروبي والإسلاميّ.
وتبرز هذه القوميّة عند التيمومي من خلال الشّخصيّة التّونسيّة التي لخّصها في أربعة عشر ملمحاً يتراوح بين الخصال الممدوحة والخصال المذمومة (الفصل الثّاني، ص43-90). وأبرزها "خلق المكايسة والتّحذلق والكلام الجميل" الذي قد ينقلب إلى "المداهنة والمماحكة والغشّ (...) والخصومات واللّجاج وتعاهد الأيمان الكاذب على الأثمان ردّاً وقبولاً". ويتمتّع التّونسيّ بـ"فضول خارق للعادة ورغبة في التّعلّم والفهم" ولكنّه في الآن نفسه ليس صبوراً للتّعمّق في الثّقافة لبحثه عن المنفعة العاجلة. ويُقْبِل التّونسيّ على الحياة ويكره "النّكد حتى في أكثر اللّحظات مأساويّة" ولكنّه يتباهى بقيم الفحولة. والمفارقة أنّ من صفاته المحمودة، حسب التيمومي، أنّه "لم يؤمن أبداً بدونيّة المرأة ذلك الإيمان المتصلّب المتشدّد". وهي سمة تبدو مناقضة لِمَا قبلها. وورث التّونسيّ عن البربر والعرب والمسلمين كرم الضّيافة. ويتميّز التّونسيّ بأنّ "مقياس صحّة أيّة فكرة هي النّجاح العمليّ". وهذه من خصال التّاجر لكنّه بالمقابل "يؤمن بالسّحر والشّعوذة". والتّونسيّ معتدل وسطيّ متسامح مسالم وهو بفضل هذه الخصائص منفتح على الآخر ويقبل المغايرة ولكنّ المفارقة أنّ هذا المسالم لا يتورّع عن "ممارسة العنف وخاصّة منه اللّفظيّ".
بيد أنّ التّيمومي يشير في سياقات أخرى من الكتاب إلى أنّ هذه الملامح المميّزة للشّخصيّة التّونسيّة لا تنفي اختلافاً بين الشّخصيّة القاعديّة للتّاجر والشّخصيّة القاعديّة للفلاّح. فلم اقتصر التيمومي على إسقاط أخلاقيّات التّاجر على عموم الشّعب التّونسيّ؟
الانتماء القوميّ التونسيّ
يمكن الإجابة عن السّؤال المركزيّ، "كيف صار التّونسيّون تونسيّين؟" من خلال مظهريْن أساسيّين أوّلهما توْنسة الغزاة وثانيهما التّبلور التّدريجي لفكرة الاستقلال وتجاوز العوائق القبليّة والعرقيّة الدّينيّة.
فقد دخلت تونس إلى الحضارة مع البونيقيّين واندرجت في مدار الإسلام بعد الفتح العربي. إذ بنى الفينيقيّون المدن وطوّروا التّجارة البحريّة وأدخلوا الكتابة وركّزوا مفهوم الدّولة من خلال دستور قرطاج وفصلوها عن الدّين وطوّروا الصّناعات والفلاحة. فترسّخ الانتماء الشّرقي للبلاد ممّا سهّل تقبّل الإسلام في بداية القرن التّاسع.
وحين جاء العرب إلى إفريقيّة اعتبرهم البربر "من أبناء البلد بالتّبنّي" وهو ما يدلّ، حسب التيمومي، على وجود هويّة تونسيّة ضمنيّة يمكن بها تفسير علاقة سكّان إفريقيّة بالغزاة والفاتحين.
وكان تتويج ذلك باستقلال الدّولة الحفصيّة لتحكم تونس مدّة قرون ثلاثة "توْنس" خلالها التّونسيّون الإسلام وتشكّلت لهجتهم واستقام لهم كيان سياسي وقام ضرب من التّوحيد الاقتصاديّ بما يعني توفّر مقوّمات التّجانس الدّيني واللّغويّ والعرقيّ والوحدة الاقتصاديّة. فكان العهد الحفصيّ بذلك أبرز علامات الهويّة التّونسيّة.
وخلال الحقبة العثمانيّة التّركيّة تتوْنس الأتراك وكوّنوا حسّاً وطنيّاً إذ سيطرت الدّولة منذ القرن 17 على المجال التّونسيّ لتكتمل ملامح هذا الوعي شبه القوميّ خلال حركة التّحديث في القرن التّاسع عشر بإحداث العلم التّونسيّ وسنّ أوّل دستور في العالم العربيّ والإسلاميّ.
تفسير النتائج بالأسباب
ينزّل التيمومي بحثه في الهويّة التّونسيّة في إطار التّاريخ الثّقافيّ. فهو يعتبر الهويّة "ذهنيّة جماعيّة" أساسها "النّظرة التي تحملها مجموعة بشريّة عن نفسها وتريد من المجموعات البشريّة الأخرى أن تعاملها بها". فتكون بهذا انتماء واعياً واختياريّاً على عكس الثّقافة.
لقد قام بتتّبع الحقبات المختلفة والأحداث المتفرّقة بحثاً عن "روح البلد" معتمداً على تمشّ منهجيّ قوامه الانطلاق من الحاضر والعودة القهقرى إلى الماضي لفهم الحاصل اليوم. ولكن ههنا تبدو المفارقة التي قد تؤدّي إلى ضرب ممّا يسمّيه المناطقة القدامى بالدور والتسلسل. فهذا الحاضر بيّن له أيضاً أنّ مسار تبلور الهويّة التّونسيّة ومفتاحها هو الشّخصيّة التّونسيّة كما زعم. وعماد هذا المسار على التّدريج محطّات ثلاث: سياسيّة مع الفينيقيّين الذين أدخلوا "البلاد في الحضارة وفي التّاريخ"، ودينيّة مع العرب المسلمين الذين أدخلوا البلاد في "بوتقة الحضارة العربيّة الإسلاميّة" واقتصاديّة منذ القرن السّادس عشر بِـ "إدماج البلاد في المنظومة الرّأسماليّة العالميّة".
فكيف تكون هذه "الروح التونسيّة"، مع ما في الكلمة من دلالات ميتافيزيقيّة، موضوع بحث في صيغ تشكلّها تاريخيّاً وتكون، في الآن نفسه، مفسّرة لقاعدة تاريخيّة كثيراً ما ركّز عليها التيمومي وقبله البشير بن سلامة مفادها أنّ احتواء الغزاة والاندماج بهم يكون على مقتضى قبولهم بالشخصيّة التونسيّة؟ أفليس هذا تفسيراً للنتائج بالأسباب؟


Aucun commentaire: