samedi 18 juillet 2015

قراءة في طلياني شكري المبخوت: رحلة لولبيّة في أجواء إيروسياسيّة


الحبيب بيدة
 المغرب، الخميس 09 جويلية 2015
عندما تشتدّ بك الرغبة لتصوير ما تصوّرته من خلال نوافذ كلمات تهادت فكوّنت جملا وفقرات ونصوصا، حملت صورا تعانقت فيها الأزمنة بالأمكنة، لا تملك إلّا أن تلبّي نداء الفضاء الرحب وتكتب أنت أيضا بنفس الوسائل
الحروف والكلمات والجمل والفقرات والنصوص التي تحاور الصور المبثوثة في المعاني لتفهم مقاصدها وتولّد من هذه المقاصد ما خفي عند التصوّر، وتتبّع مسار الصور. وتتّبع مسار الصور عند إنشائها لا يستطيع إليها سبيلا إلّا مصوّرها. لقد اشتدّت بي الرغبة في الكتابة عن «طلياني المبخوت» والكتابة على كتابته صعبة إذ لا ندري هل نكتب فوقها أم تحتها أم معها، ومن أين نبدأ الحديث -
والحديث من الحداثة- عن مساره اللولبي، الذي سار فيه الخطّ مستقيما حينا وملتويا حينا آخر ومنكسرا في أغلب الأحيان. وتحت هذه الإستقامة وهذا الالتواء وهذا الانكسار شبكة توقعنا بين ثناياها شوقا وعشقا، حتّى نخال أنفسنا قد وقعنا في شراكها وأصبحنا نصارع، صراعا جميلا، خيالا ووهما واقعيين، خيال الكاتب ووهمنا في واقع رواه لنا الصديق شكري وذكّرنا بتفاصيله بل بتفاصيل تفاصيله في زمن خلنا أنّنا نسيناه.
يذكّرنا الراوي كما يذكّر أفلاطون النفس التي سقطت من عليائها والتي وقعت في واقع الوهم وحملت أمانه الحياة والشعور بهذه الحياة التي لا تختلف في الشعور بها عن الجنّة التي أوقعنا منها الشيطان ساكنها مع الملائكة. فكان الإنسان الذي نسي ويبحث عن تذكّر هذا العالم الجنّي الذي يبدو الجنون فيه خلاصا. وجد في شعور «الطلياني» ومسالكه وجودا جديدا، وجود ملهم في سبيل اللقاء من جديد بهذا العالم الجنوني. إذ ونحن نقرأ ونجمع شتات أفكارنا وآليّات إدراكنا لفضاءات «الطلياني» ندرك أنّنا قد صعدنا بذاكرتنا في أجواء ماض منفلت دائما إلى مستقبله، وهو يسير في مسار لوالبيّ وإهليلجيّ فلا يستقرّ في مقام، إذ طغت أحواله على مقاماته.
الراوي والتموقع في الفضاء والمكان
وأوّل ما يطالعنا به الراوي ويجعله محلّ تساؤل عجيب وغريب هو مكانه، أين يوجد هذا الراوي هل هو وراء ستار أم هو وراء ثقب باب أم هو موجود في كلّ مكان وفي كلّ فضاء يتحرّك فيه «الطلياني»، بل يمكن أن نتخيّل من خلال الأحداث التي يرويها أنّه جنّيّ مجنون يسكن في كلّ خلايا الشخصيّة المركزيّة : شخصيّة عبد الناصر، بل ربّما ينتقل بين كلّ الشخصيّات ويسكن في كلّ
أنحاء أمكنة تحرّكها المادّي والروحي والنفسي والذاكراتي وبذلك استطاع أن يسكننا في كلّ هذه الفضاءات وجعلنا نتحرّك معه في كلّ مفردة من مفرداتها متعالقة في شبكاتها. حيث يجعلنا لا ننتبه فقط إلى دقائق هذه المفردات بل إلى تحرّك هذه الدقائق وتحريكنا لها وفق رغبتنا في التموقع بين خيوطها الرفيعة. ونشعر مع الراوي برغبة التموقع والتموضع في أمكنته لنشاهد من الثقب تارة
ونودّ اختراقه تارة أخرى، كما المارد الذي لا يريد الإنحباس في الطوطم ونودّ التحليق معه في أرجاء الفضاء المفتوح ملامسين وحاسّين ومدركين لكلّ لحظة خيال مجنّحين مع «الطلياني» ومع أفراد عائلته وجيرانه الأحبّاء والأشقياء متعاطفين حتّى مع الشيخ علالة «الكلب» الذي أدماه وهو يضع أباه محمود في القبر.
لن نعيد الحكاية المرويّة بخيال وواقع شكري المبخوت إذ نحن عاجزون عن إعادة روايتها. لكن ما نحاول الكتابة عنه هو هذه الملكة الفائقة القدرة على الحكي والمحاكاة. إذ جعلنا شكري الراوي نتماهى مع شخصيّاته ونحاول أن نتموقع في أجسادها وأرواحها وأنفسها لنشعر بلذّة حيواتها في جمالها وكمالها وجلالها، إذ لا وجود في هذه الحيوات للقبح كما لا يوجد هذا اللفظ في قواميس الفلاسفة المتصوّفين. فهي حيوات يبلغ بها الراوي درجات في السموّ الحكائي والحكوي، يجعلنا نصعد معها في ملكوت الحياة الأخرى، التي تنبع من تراجيديّتها وكوميديّتها، في هذا الزمن الذي
أصبح فيه كلّ شيء مسطّحا. ليس في رواية «الطلياني»، حسب رأينا، شخصيّة سلبيّة إذ هي شخصيّات ترقص وتتراقص على نخب حيوات وكأنّها حيّات تسعى في فضاءات مسرحيّة مسرّحة من عقالها، موهمة بحقيقتها أو هي محقّقة في وهمها، وذلك رغم اختيار المؤلّف لفضاءات مجتمعيّة وسياسيّة حاول أن يكون وفيّا لأمكنتها وأزمنتها ليظهر تجاذباتها وأزماتها وتحوّلاتها وتغيّراتها حتّى
لنكاد نجد أنفسنا في هذه الأزمنة وهذه الأمكنة التي سمّاها بأسمائها، مقاهي وأنهج وكلّيّات ومراكز عمرانيّة وغيرها. ونعتقد أنّ الذي بلغ منّا الستّين من العمر والذي عاش في العاصمة، طالبا أو موظّفا متتبّعا لأحداث سنوات السبعين والثمانين والتسعين من هذا القرن، يدرك بسهولة المتذكّر إذا لم تخنه هذه الملكة الجهنميّة كلّ تفاصيل هذه الأمكنة المرتبطة بزمنيّتها الدقيقة والتي تبدو في
أغلبها شاهدة على وفاء الراوي في ذكر الأحداث التي وقعت في شبكتها. ونعتقد أنّ المؤلّف بقدر ما كان يحاول أن يدلي برأيه وبقراءته لهذه الأحداث السياسيّة والمجتمعيّة وما حملته من أفكار متدافعة ومتجاذبة بين المعارضة اليساريّة والإسلاميّة والنظام الذي يمثّل الدولة بسلطاتها القمعيّة والبوليسيّة والدعائيّة ومنها السلطة الرابعة التي التبست بعبد الناصر وصديقه عبد الحميد الذي يمكن لكلّ قارئ للرواية معرفة شخصيّته الحقيقيّة انطلاقا من معرفته للوسط الإعلامي كما يمكن له أن يعرف بقيّة الشخصيّات التي كان من السهل كشفها.
ولا ندري من أين أتى المؤلّف بهذه التفاصيل حول تحرّكات «المناضلين السياسيين» السذّج منهم والرومنطيقيّين، مثل «الطلياني»، وتحرّكات الطلبة المشاغبين مثل زينة وكذلك محترفو السياسة من
الإنتهازيين مثل الصحبي القروي وكذلك أصحاب الكياسة من البراغماتيين والإداريين مثل عبد الحميد وسي عثمان إضافة إلى هوّاتها من الخبيثين والرديئين مثل صاحبة «منظّمة الأمّهات» منظّمة المواخير. فكلّها تفاصيل دقيقة لا يمكن أن نصل إلى إدراكها إلّا بعد بحث أكاديمي يعتمد على آليّات بحث سوسيولوجي واستطلاعي.
ولا نجد أنفسنا مهتمّين بهذه الأمور إذ ما أهمّنا هو هذه الملكة التي جعلت من ما قبل النصّ نصّا حاويا لحركة شخصيّات إيروسياسية أو جنسياسيّة وهذا بيت القصيد. إذ أراد المؤلّف أن يمتّع إحساساتنا وشعورنا الطبيعي والثقافي في نفس الآن وجعلنا نعشق السياسي إلى درجة أنّنا وقعنا في شرك تسييس العشق وتعشيق السياسي وجعلهما في تعالق متعوي. جعلنا نرغب في أن يعيش سياسيونا متعة الحبّ وأن يكون عشّاقنا من المناضلين الرومنطيقيّين وعشاق الحياة بكلّ ما تحتويه من جنون وبحث عن الانعتاق من سطحيّة اليومي وغباوته وسذاجته.
الشخوص بين الحركة واستنفار الحواس
تتحرّك شخوص الرواية، ومنها «الطلياني» وصديقه الراوي الذي يبقى شبحا «حقيقيّا» ينفذ إلى كلّ التفاصيل ويفصل ويصل للوصول إلى الأصل. يتحرّك هذا الشبح حركة أثيريّة نتحرّك معها ونعيش تجربة «الطلياني» مع نساءه التي تتميّز كلّها بأنوثة لا يمكن أن يتحرّر منها ومن إثارتها رجل لم تبق في نفسه وفي جسده سوى ذرّات تسعى إلى الحياة من جديد لتحبّ وتفرح وتحزن وتتألّم وتتمتّع وتلتذّ وترغب وتصرخ وتبكي وتبلغ شهوة عشق «هندي مستعدّ للموت عشقا».
ونتساءل، هل أنّ الشبح الذي سكن ملكات مخيّلة المؤلّف قد انبجس من أجساد وأنفس هؤلاء النسوة المتّقدات بنار الشهوة والرغبة، لتكوّن نصّ الحكاية التي يرويها بدقّة العاشق، أم أنّ الأحداث «السياسية» التي كانت فضاء لها هو هذا النصّ، أم أنّ هذا الفضاء قد أصبح هو الآخر حيّز عشق فامتزج بالرغبة واللذة معا وأمتعنا بجنونهنّ المسكون في أجسادهنّ، جنون للّا جنينة التي بدت لنا
تطلق العنان لمارد الرغبة في جسدها وجنون زينة الفيلسوفة الجميلة التي لم تشدّنا قصّة اغتصابها في طفولتها بقدر ما شدّنا إليها نباهتها الفكريّة ومشاغباتها السياسيّة إضافة إلى طرافة وعمق تعاملها الجنسياسي مع «الطلياني» الذي أحبّها لهذه الصفة فيها وهي الأنوثة الطبيعيّة الملتحمة بجنس بربري آت من جغرافيا ريفيّة، أو نجلاء هذه التي نحتها الشبح الراوي لتكون تمثال بجماليون والتي انتهت «شبه عاهرة» في ماخور محترفي السياسة ورغم ذلك فإنّها بقيت معشوقة لا لدى «الطلياني» فحسب بل لدى مدرك الرواية الذي يرى في تحرّرها اختيارا محترما بقطع النظر عن الاعتبارات المجتمعيّة. أمّا ريم هذه الفتاة التي أرادت أن تجرّب الحبّ مع بطل الرواية والتي لم يفصح المؤلّف عن امتدادها بفعل عجز «الطلياني» عن مواقعتها من دبر، للعقدة التي تحرّكت فيه وتذكّره لمحاولات اغتصابه من سي علالة.
كلّهن نساء اختار لهن المؤلّف الشبح القيرواني فضاء جغرافيّا ومجتمعيّا تونسيّا دون أن ينسى الحديث عن أنجليكا السويسريّة التي كان لها هي الأخرى حضور ولو كان باهتا لكنّه مثير للتساؤل أيضا حول ميولاتها تجاه الحبّ المناسباتي. ورغم أنّ الطلياني يمثّل الشخصيّة المركزيّة، مركز اللولب أو مقامه فإنّ الخطّ الملتوي الذي يدور حوله يحتوي هو الآخر مراكز متحوّلة تخلق هي الأخرى لوالب حولها تتفاعل وتتداخل لتكون شبكة رقشيّة غنائيّة تتموقع فيها تحوّلات وحركات إيروسياسيّة. حيث يمثّل الكلّ لوحة زخرفيّة تنبض بالحياة الوهم/واقعيّة وهذه لعمري القوى التعبيريّة التي
جعلتنا نحبّ وندرك جماليّا هذه اللوحة التي كان فيها المؤلّف مشكّلا بارعا ساهم إدراكه المرهف في رسم ونحت ونسج شخوصه لدرجة أنّنا لم نعد ننتبه أساسا للحكاية كحكي خطّي ذي مسار متواصل وممتدّ للأحداث بل ننتبه إلى مشاهد تبدو فيها كلّ الحواس الحسيّة مستنفرة، حواس البصر المفكّرة وحواس الشمّ المثارة وحواس اللمس الملتذّة وحواس اللسان المتذوّقة وحواس السمع المتّقدة، إضافة إلى حواس الحدس المخفيّة والتي تدير كلّ هذه الحواس مجتمعة.
وأخيرا وليس آخرا فقد جعلنا المؤلّف نأتلف مع كلّ حرف وكلّ كلمة وكلّ جملة قدّمها لنا مشحونة بمعاني العشق ونتمكّن منها وتتمكّن منّا، لنعيش في أجوائها التي صعدت بنا إلى ملكوت الواقع الذي رفض واقعه ليسمو من جديد، وليقول لنا إنّني لم أنس المعاني الكبرى للحياة التي اخترتها عندما رفضت الجنة ولكنّ الجنّة لا زالت في خيالي حاوية لملكات الجنّ الإله الإبيقوري ديونيسوس والجنّ الآخر الإله باشوس وهما يتلاعبان بعقول الملائكة آلهة الحبّ والجمال أفروديت وفينوس.
فالحياة تبقى حيّة تسعى ما دامت تعاش وتحمل كلّ المشاعر متقابلة ومتباينة ومتناقضة هذه المشاعر الجميلة رغم كلّ شيء.



Aucun commentaire: