samedi 18 juillet 2015

"الطلياني" دعوة لتأمل "البؤس" والتذكير بالحرية


حوار مع محمود الغيطاني
مجلة البوابة، 1 يونيو 2015
تمنى الروائي التونسي شكري المبخوت أن يكون هو عبد الناصر الطلياني بعدما كتب روايته، ولكنه تساءل هل في حياته ما هو جدير بأن يُروى، وهل فيها أي شيء استثنائي، كما أكد أن روايته كانت بمثابة دعوة للتفكير والمحاورة وتأمّل البؤس المعمّم، وعن صورة اليساري القابل للتحول في أي لحظة قال: اليساريّ عُرضة لكلّ ما يعيشه المرء من ضعف وضغط للواقع، وسعي إلى أن يتلاءم معه بوجه من الوجوه، ومن هنا كان حوارنا معه

-        رغم أن روايتك "الطلياني" هي الأولى لك، إلا أنها حصدت جائزة الرواية العربية "البوكر"، هل كان في ذهنك الفوز بأي جائزة أثناء كتابتها؟
لا يمكن أن يكون الهدف من الرواية التتويج بجائزة مهما كانت؛ لأن الجوائز تخضع إلى عدة اعتبارات منها اللجنة والمشاركون ونوعيّة الروايات المرشّحة وغير ذلك، هل ترى أنت في النصّ ما يُشير إلى أنها كُتبت بتنازلات لصالح هذه الجهة المانحة أو تلك؟ ورغم ذلك كان ثمّة حدس بأنها رواية يمكنها أن "تُنافس" في الجوائز خصوصا بعد الفراغ منها، وإدخال التنقيحات اللاّزمة، يكفي أن دار التنوير غامرت بها، وراهنت عليها.
-        يرى البعض أن "الطلياني" هي مجرد سيرة ذاتية لك، وبما أن المعهود من الأعمال الأولى دائما أن تكون لصيقة بكاتبها فمن الطبيعي أن يكون فيها الكثير من حياته الخاصة، هل من الممكن أن نُعد عبد الناصر الطلياني بالفعل هو شكري المبخوت؟
أصبحت أتمنّى بعد الحظوة التي وجدتها شخصيّة الطلياني أن أكون هو! وأخلاقيّا لا يمكن لمن يكتب سيرته الذاتيّة أن يلتزم بالميثاق السيرذاتي عقدا يربطه بالقارئ، ولكن هل كانت حياتي جديرة بأن تُروى؟ هل فيها شيء استثنائيّ؟ لست متأكّدا، على كلّ حال أنا موجود في الرواية موزّع على شخصيّات مختلفة ولو بمقادير متفاوتة، فلا يمكن للشخصيّات أن تنطق مثلا إلاّ بثقافة كاتبها.  
-        تبدأ الطلياني بمشهد غير مألوف ومثير للكثير من التساؤلات، واتخذتها كروائي كتكأة لبدء الحدث الروائي، في حين أنك لم تكن في حاجة إلى هذه الحيلة الفنية كي تربط قارئك بها.
لم يكن المشهد الافتتاحيّ من الزوائد في تقديري؛ فهو بداية موفّقة مشوّقة في تقديري، وللمحلّل أن يجد فيها عناصر أولي تمهّد لتطوّر المنطق السرديّ في الرواية، أما ما رأيته فهو موقف أنت حرّ فيه، ولكنّني كقارئ لا أشاطرك الرأي فيه.
-        ألم تر أن الرواية كان بها مقاطع طويلة تتحدث عن الأيديولوجية الماركسية التي كان من الممكن لها أن تصرف القارئ غير المثقف، أو الجاهل بأدبيات الفكر الماركسي؟
إذا دققت في عدد الصفحات التي فيها ما ذكرت من حديث عن الأيديولوجية الماركسية فإنّك واجد أنّها تُعدّ على أصابع اليدين على أقصى تقدير في عمل ناهز الثلاثمائة وخمسين صفحة، فهل هذا كثير؟ أتفهّم بعض الانطباعات، ولكنك تنسى أنّ الكثيرين لا يعرفون السياق الثقافيّ الذي كان اليسار يتحرّك فيه فقدّرت أنّ تلك المعطيات ضروريّة لبيان جملة من الفروق بين التيارات اليساريّة الأرثوذكسيّة والنقديّة، فليس الأمر مرتبطا بالجهل أو بالمعرفة بل يرتبط ببناء عالم الخطاب الروائيّ ذاته، علاوة على وظائف أخرى على النقّاد إن شاؤوا أن يتتبّعوها.
-        تزخر تونس في الآونة الأخيرة بالكثير من أصحاب الفكر السلفي الذين يرغبون في تغيير المجتمع التونسي من الشكل المدني، وجره إلى الفكر السلفي، هل كان في ذهنك جماعات الإسلام السياسي بمثل هذه السطوة التي نراها الآن، وهل كانت الرواية بمثابة التحذير من هذا المد؟
هؤلاء جزء من السياق الثقافيّ الذي ذكرته لك، فإذا كنا اليوم في تونس على الأقلّ نجد مواقف سلفيّة ترمي إلى تغيير المجتمع في إنتاجه مطابقة تصوّرات موروثة موهومة، فإنّ الطرف الذي اضطلع بذلك في الفترة التي تناولتها الرواية هو الفكر الإخواني، ولا ننسى بُعيد الثورة التونسيّة أنّ التحالف بين الإخوان في تونس والسلفيّين ولو في مستوى القواعد كان قائما بصفة موضوعيّة، وإذا كانت الرواية تحذّر من شيء فهو المحافظة التي تسود المجتمع وتمثّل المهاد الحقيقي لظهور هذه التيّارات الطهرانيّة في ظاهرها ببحثها عن أصل وهميّ.
-        تكشف في روايتك الطلياني عجز الفكر اليساري عن توجيه المجتمعات، وفشله في ذلك، حتى أن هذا الفكر أحيانا ما يتخذ نفس آلية التصفية التي يؤمن بها تيار الإسلام السياسي، هل يعني ذلك أن اليسار يتساوى مع اليمين في عجزه باتجاه التغيير؟
المسألة أشدّ تعقيدا ممّا ذكرت، فالموضوع هو مجتمع كامل بكلّ فئاته وطبقاته وتياراته يعيش قهر الجسد وغياب الحرية الفرديّة وتدمير المخيال والانغلاق الفكري، وما العنف الذي تتحدّث عنه إلاّ نتيجة وليس سببا، فلست في مجال إدانة أو تعرية لليسار أو اليمين، فهما للناظر عاريان بعجزهما وأوهامهما ولكن الرواية تقترح تأمّل الجذر الجامع بين أفراد يبحثون عن معناهم ويتلعثمون في قول حريتهم، وهذه معضلة تتجاوز بؤس اليمين واليسار.
-        في روايتك رأينا انهيار اليسار والمثقف العربي تماما، حتى أنهما يكادان أن يتساويا في انهيار المنظومة التي يعتمدان عليها، هل ترى أن هناك بديلا لهما؟
ليس من دوري اقتراح البدائل، فالرواية دعوة للتفكير والمحاورة وتأمّل البؤس المعمّم، وإذا شئت فهي تذكير بالحرّيّة الفرديّة وتطرح سؤالا أظنّه خطيرا هل يمكن للجسد المقموع أن يتحرّر ويحرّر المجتمع؟ أم أنّه محكوم بالوقوع في دائرة مفرغة؟
-        هل ترى أن تونس بالفعل على أرض الواقع، دولة يؤمن سكانها بالحريات، وأن المرأة فيها تتمتع بالحرية الحقيقية، أم أنها مجرد حرية شكلية؟
خذ لك صور نساء الطلياني تجد الإجابة عن سؤالك، لم أكتب الطلياني مادحا أو ذامّا وإنّما لتشريح مجتمع متأزّم يعيش صراعات ومفارقات لا يجد سبيلا لحسمها أو تجاوزها ومنها وهم تحرير المرأة قانونيّا في حين أنّها تعيش داخل المجتمع المحافظ قمعا شديدا يتجلّى في مختلف مظاهر الحياة اليوميّة، ثمّ إنّ الحريّة مسار وسيرورة لا تتوقّف وليست مُعطى جاهزا، ما كان يهمّني هو البحث عن الحريّة والسعي إليها والإصرار على تحقيقها رغم العثرات والانكسارات.
-        ثمة اتهام لليسار العربي في روايتك بأنه من السهل أن يبيع فكره في مقابل اقتناص الفرص الجيدة، مثلما حدث مع عبد الناصر الطلياني حينما عمل في الجريدة التي تتحدث باسم النظام.
لك أن ترى ذلك، ولكنّ اليساريّ عُرضة لكلّ ما يعيشه المرء من ضعف وضغط للواقع، وسعي إلى أن يتلاءم معه بوجه من الوجوه، إنّ ما اعتبرته اتهاما وإدانة لليسار هو عندي تعبير عن إنسانيّة البطل اليساري الذي نؤمثله في أذهاننا، ونطلب منه أن يكون سوبرمان مثالي لا يخون ولا يضعف ولا يجبن ولا يتردّد، فالمشكلة في التصوّر القبلي لليساريّ، وليس في ما وصفته الرواية، ومهما يكن من أمر ففي الرواية أكثر من أنموذج لليساريّ.
-        هل شكري المبخوت كيساري قديم يرى أنه من الممكن له التصرف مثلما تصرف عبد الناصر الطلياني ويغير من مسار حياته نتيجة حاجته لذلك؟
لا أدري أنا سرت في اتجاه مّا معروف لدى الجميع، ولست أنموذجا يُحتذى ولا شخصيّة روائيّة يمكننا ان نحلّل تناقضاتها وتردّداتها.
-        حينما انقلب بن علي على نظام بورقيبة انهار عالم الرواية تماما، حتى أن الجميع حدثت له الكثير من التحولات، الطلياني، وانهيار حياته مع زينة، نجلاء وتحولها من أجل خدمة السلطة بجسدها، وغير ذلك، هل كنت تقصد أن انقلاب بن علي قد أدى إلى انهيار المجتمع التونسي آخذا معه كل الأيديولوجيات والقيم التي يؤمن بها الأفراد؟
ليس بالضرورة؛ فبذور التحوّل والانكسار موجودة من قبل، ولم تقم الرواية إلاّ بتأطير الاحتمالات السرديّة، فالشخصيّات تحمل قبل بن علي بذور انكسارها وخميرة خيباتها، ولكن لا شيء يمنع من تأويل ما يوجد في نصّ الرواية على النحو الذي فعلته أنت، وإذا شئنا الدقّة التاريخيّة فإنّ الفترة القصيرة التي تحدثت فيها عن عهد بن علي وهي لا تتجاوز السنتين أو الثلاث لم تشهد الانهيار الذي تتحدّث عنه، لم يكن انقلاب 7 نوفمبر بداية انهيار تام للقيم ولا وعدا بتجديدها، إنّما هو استرسال داخل الدولة والنمط التونسيّ وإن كانت التحوّلات الحقيقيّة تبرز بوضوح أواسط التسعينات.
-        نلاحظ أن الرواية تكاد تكون منقسمة إلى قسمين، القسم الأول يهتم بتاريخ الطلياني في الماضي وحياته في الجامعة وعلاقته بزينة، بينما القسم الثاني يهتم بتطورات حياة الطلياني وتحولاته حتى انفصاله عن زينة، هل كنت تتعمد هذا التقسيم؟
هو التقسيم الذي فرضه تطوّر شخصيّة عبد الناصر نفسه الذي كان الراوي يتتبّع مسيرته لفهم سبب ما أتاه من فعل شنيع في المقبرة، كان تقصّيا للحظات الخيبة إلى أن وصل إلى ليلة وفاة الأب بعد أن تضافرت الأسباب ليحصل ما حصل.
-        أرى أن ثمة تقاطعا بين رواية "الطلياني" وروايتي "الرجل الذي فقد ظله"، و"زينب والعرش" للروائي الراحل فتحي غانم، حيث تتحدث كليهما عما يدور في عالم الصحافة من مؤامرات، هل كان ذلك في ذهنك؟
هذه القراءة التناصيّة لا أنفيها ولا أثبتها، ولكنّني صدقا لم أستحضر روايتي فتحي غانم، وعلى كلّ حال يفضى تعميق هذا المنحى في القراءة لا محالة إلى ضروب أخرى من التناص خصوصا في الرواية العربيّة.
-        أرى أنه من الممكن إطلاق لفظة "رواية التطهر" على روايتك، بمعنى أنك كروائي ينتمي إلى اليسار العربي أردت أن تعترف بكل سلبيات اليسار التي مر بها، وأسباب سقوط اليسار العربي كي تتطهر مما يثقلك.
 لا يزعجني أن يرى قارئ مّا ما رأيته أنت من معنى التطهير، بيد أنّ الأمر عندي هو أقرب إلى التأمّل في إخفاق اليسار وفي عقم تجربته رغم تعلّقه بالحياة ودفاعه عن مُثل سامية، لست في الرواية من الذين يحاكمون اليسار ولا ممّن يمدحه؛ فأهمّ من اليسار عندي هو التفكير فيما وصلنا إليه بعد الربيع العربيّ الذي استحال شتاء قارسا، مازال سؤال الحريّة عندي أهمّ من التيارات الإيديولوجيّة والسياسيّة بما فيها اليسار.






Aucun commentaire: