jeudi 8 octobre 2015

رواية «الطلياني» إذ تكشف ارتباكات التلقي


محمد العباس (كاتب سعوديّ)
القدس العربي، 7 أكتوبر 2015

لم يحدث في جميع دورات الجائزة العالمية للرواية العربية «بوكر» أن تعرضت الرواية الفائزة للهجوم والانتقاص من أدبيتها واستحقاقها، كما حدث لرواية «الطلياني» لشكري المبخوت، التي حصدت الجائزة في الدورة الأخيرة في فبراير/شباط الماضي.
فقد تم الطعن في نزاهة وكفاءة لجان التحكيم في مجمل الدورات، كما نالت بعض الروايات الفائزة نصيبها من التشكيك الوقتي، أو عدم الاهتمام أصلاً بمطالعتها. وباستثناء رواية «عزازيل» ليوسف زيدان، ورواية «ساق البامبو» لسعود السنعوسي لم تحرك الروايات الأخرى الفائزة أي جدل قرائي أو نقدي يُذكر، إلا ما أعقب إعلان النتائج من سجالات سطحية وتبريرات. أما رواية المبخوت فمنذ إعلان فوزها وإلى اليوم مازالت محل اهتمام واستنكار واعتراض وإعجاب. الأمر الذي يعني في ما يعنيه أنها رواية تحظى بمقروئية واسعة.
إن لاستمرار الجدل حول أحقيتها بالجائزة، من الدلالات ما يحتّم البحث في سبب هذا الصدى الذي يفجر بدوره متوالية من التساؤلات، ليس في ما يتعلق بالجائزة والرواية فحسب، بل بطبيعة التلقي عند الإنسان العربي. فهي رواية تفتقر إلى الخيال، من منظور المحتجين على استحقاقها. باردة في عرض المشاعر والأحاسيس. انبساطية في سرديتها. شخصياتها نمطية ومكررة ومستهلكة. حبكتها على درجة من العادية. إلى آخر الاتهامات التي تنال من أدبيتها، لدرجة موضعتها في مرتبة أدنى على حافة المفاضلة مع بعض الروايات التي لم تتأهل للفوز. وكأن الروايات التي فازت في الدورات السابقة كانت جانحة في الخيال، مفعمة بالمشاعر الحارقة، مؤدية لفروض السرد كما ينبغي، محبوكة ببراعة روائية احترافية. والصحيح أن بعض تلك الروايات لم تخضع أصلاً للقراءة.
هكذا جاء التلقي الثقافي للرواية دون مستوى أفق التوقع، بحيث لم يتعادل بحال مع الاستقبال الإعلامي، حيث بات المبخوت ضيفاً ونجماً للمنابر والوسائل الإعلامية المطبوعة والمسموعة والمرئية، ليعدّد مآثر روايته وليؤدي طقوس تسويقها، كما هو الحال مع كل الروايات الفائزة. فما رآه بعض المحافظين دونجوانية كلاسيكية تمت قراءتها بمنظور إيروسياسي تحرُّري. وما أُخذ على الرواية من كثافة الجرعة الفكرية ذات المنزع الثقافي النقدي تحديداً، الذي يتحدر منه المبخوت، تعامل معه آخرون كشكل من أشكال فكرنة الرواية. وما قيل عن التسعير الجنسي الذي يستحوذ على الشخصيات، لم يكن بتصور بعض القراء إلا إثارة مدروسة لاستفزاز الحواس، واستعراض البنية المجتمعية بصورة مرآوية أمينة وصادمة وهكذا.
الرواية ليست مكتملة من ناحية البناء الفني والمعالجة الموضوعية إلى الحد الذي يمكن أن توصف بالتحفة الأدبية، ولكنها ليست على تلك الدرجة من الضعف، كما حاول بعض القراء والنقاد الحط من قدرها. فهي بمقاييس الرواية العربية التي تُكتب اليوم يمكن أن تكون من أفضل ما أنتجه الروائيون العرب. بمعنى أنها تشبه الرواية العربية في صيرورتها وتجلياتها الأخيرة. ولا تتجاوز المعايير الفنية والموضوعية التي تم تثبيتها منذ عقدين تقريباً عند تلك المحطة المزدحمة بالروائيين. بمعنى أنها نتاج البنية الفكرية العربية وما تحتمله من خصائص أدبية، ولذلك يمكن القول إنها في حالة من حالات التجاور والتماهي مع مجمل المنجز. وهو الأمر الذي يعمق التساؤل عن كم المقالات المنذورة للحد من حضورها.
يُفترض أن تكون كل رواية فائزة بجائزة محل تسابق القراء والنقاد. ويكون سقف التوقع على درجة من العلو، لأن الرواية التي تتقدم مئات الروايات وتدفع بها إلى الوراء يتأمل فيها المهتمون بأن تشكل قمة الوعي الروائي، وخلاصة فن الكتابة عبر ذلك الجنس الإبداعي. ولذلك يُقبل عليها القراء بحماسة ونهم واندفاع. ولا يتعاملون معها كأي رواية عادية. وهذا هو أحد الأسباب الجوهرية في طبيعة الاستقبال البارد المخيب لرواية «الطلياني» عند القراء الذين يتعاملون مع الرواية بموجب معايير الرواية الاصطفائية. كما أن موضوع الرواية كان له الأثر الأكبر في التلقي المرتبك. لأن الحديث عن الثقافة الحزبية وتداعياتها مسألة غير مرغوبة ولا جاذبة عند القارئ الخليجي. وهذا القارئ بالتجديد صار يشكل جبهة ذوقية عريضة في العقود الأخيرة، ولذلك تبدو الرواية في أضعف حالات استقبالها عند الخليجيين.
كذلك كون الرواية من تونس يرفع مستوى الآمال. فهي قاطرة ما يُسمى بالربيع العربي. ووجود «نداء تونس» في صدارة المشهد السياسي إلى جانب القوى التي تطرح نفسها كتيارات تقدمية تنويرية، تضع الرواية تحت هذا المنظور. لأن الرواية لا تُقرأ بمعزل عن بانوراما الحياة. ولهذا السبب قوربت الرواية بنفس طهوري حزبي، سواء من قبل القارئ الليبرالي أو المؤيد للحركات السلفية. بمعنى أن الرواية أُريد لها أن تكون مدخلاً للحالة التونسية، في حين كان المبخوت يؤسس قارئه الضمني ضمن أفق تقليدي إلى حد ما، حيث عاد بالصراع إلى بذرته الأولى. وبالتالي انغلقت الرواية كموضوع وتداعيات داخل المدار التونسي خلال الحقبة البورقيبية. ولم يجد فيها القارئ العربي سوى مفردات الحياة التونسية، بالإضافة إلى أن الروائي التونسي لا يمتلك ذلك اللوبي من القراء المتعاطفين معه مهما كان مستوى روايته، كما يتوفر في الحالة المصرية والخليجية مثلاً، الأمر الذي صعّب المهمة على المبخوت.
وربما لأن القارئ العربي وصل إلى طريق مسدود مع كم الروايات المتزاحمة وتشابه موضوعاتها وأدائياتها، كما نبت له لسان ليسائل الجوائز والقائمين عليها والروائيين أيضاً، إذ لم تعد بهرجة أول حفلة بوكرية قابلة للإعادة، كما أن طابور المكرمين في جائزة كتارا تحت عنوان الفوز مروا على المشهد مرور الكرام، وكأن الجائزة لم تحدث، إذ لم تترك الروايات الفائزة أي أثر، وهذا الصمت والتهميش المعلن يبدو في صالح رواية «الطلياني» التي لا زالت تحتل موقعها الجدلي، حيث يُختلف عليها كما يُختلف بها، خصوصاً في تونس حيث وجد المثقفون في الرواية مادة خصبة للسجال الموضوعي والفني.
ما بين صفعة عبدالناصر للإمام علالة الدرويش وآخر صفحة في الرواية يلهث القارئ وراء السر الخفي الذي سيبني المبخوت بموجبه روايته. ويتوقع أن يكون الكشف مدّوياً، ولكن النهاية تبدو مخيبة حيث التعرية الاجتماعية التقليدية لواقع رجل الدين المتحرش المخادع. وكأن المبخوت يخدع القارئ أيضاً بمفاجأة باهتة، ودون مستوى التوقع. وهو الأمر الذي أنبأ عن حسّ التسطيح للشخصيات التي استشعرها بعض القراء، على الرغم من محاولاته الذكية لرسم خط بياني فكري شعوري لزينة ونجلاء وعبدالناصر وللاجنينة وسي محمود. وسرد سيرة موجعة لحيوات تحاول الثبات والتغيير في مشهد سياسي إجتماعي رجراج، حيث الإدانة الواسعة والشاملة للأحزاب والأيديولوجيا والسلطة بنبرة شعاراتية صاخبة مغلفة برداء ثقافي سميك. أي موضعة المجتمع تحت سيف المناقدة، وهي الثيمة التي تمت معالجتها في مئات الروايات، وهذا هو بالتحديد ما جعل بعض القراء يرجحون فوزها كرواية تقليدية بنائياً وموضوعياً، أي بسبب تقليدية لجنة التحكيم.
البوكر تجيد تسويق نجومها وتوطينهم في وجدان القارئ العربي، ولكن ليس بمقدورها فرض رواية خالية من المعنى مفتقرة إلى فن الصنعة الأدبية. ورواية «الطلياني» قد تكون محظوظة ببقعة الضوء البوكرية المسلّطة عليها، إلا أنها تختزن ما يربك المتلقي ويثير فيه الرغبة للفهم والاستمتاع. وما ذلك العناد القرائي الواسع والاشتباك المستمر والمباشر مع موضوع وفنية الرواية إلا الدليل على بعض استحقاقها، فهي لا تؤرخ بقدر ما تستبطن التاريخ. وإذا كانت تبدّد جملة من العناوين الوعرة في الحياة العربية في ما يتعلق بالممارسة السياسية والعلاقات ما بين المرأة والرجل والتحولات الاجتماعية، فإنها على الأقل زرعت شخصيتين يصعب تفادي أثرهما على القارئ العربي حتى حين، عبدالناصر الملقب بالـ»الطلياني» لفرط وسامته، وزينة التي حصرت كقصبة مفكّرة، وكأن المبخوت يعمق حضور الفحل في الرواية العربية كما يحيي فاعلية المرأة المتحرّرة بالأدوات ذاتها والإيقاع ذاته. وهو الاختبار الذي ما زال القارئ العربي يراوح فيه.



Aucun commentaire: