lundi 6 août 2012

رمضان بورقيبة وأشباهه



1
    لم يكن بورقيبة كما يزعم منتقدوه وأعداؤه لائكيا أو معاديا للدين. إنّه مندرج في التقليد الثقافي التاريخي لقادة دول الإسلام في تعاملها مع المتن الدينيّ أكثر من تأثره بمنطق أتاتورك أو اليعاقبة الفرنسيين. فقد وظّف الدين في شؤون الحياة جميعا ليبرّر اختياراته الاجتماعيّة في شأن المرأة والأسرة بأقيسة اجتهاديّة وتأويلات للنصّ مقدّما نفسه مجتهدا في الإسلام مستلهما شعار الفقهاء " هم رجال ونحن رجال" بحسب اختلاف النوازل والأزمان.
    قد يروق هذا لمن يبحث عن فهم حديث تنويري لديننا ولكنه رهان خاسر ولا ريب لأنه يتضمن خلطا مرفوضا بين الفعل السياسيّ و ممارسة الاجتهاد الدينيّ .
  ولا تبرير لما أقدم عليه الزعيم إلاّ نظرته الأبويّة لمجتمع منهار يحمل إرثا من التخلف والانحطاط وبقايا الاستعمار و يرزح تحت كلكل البطالة والفقر والمرض والجوع والجهل والعادات البالية التي يتوهم انها من صلب الدين.
2
    لقد انتدب بورقيبة نفسه لتعليم شعبه فكان يلقى عليه عبر المذياع محاضراته في مدرسة المدنيّة الحديثة: محاضرات تتراوح بين مقاومة التخلف و شروط الهندام اللائق والطعام الصحيّ .
كان الزعيم يحلم بلد يشبه شعبا وقيما اجتماعيّة وأخلاقيّة سويسرا والدنمارك والسويد.
   وفي هذا السياق جاءت دعوته لإفطار رمضان فكانت فضيحة مجلجلة تمسّ ركنا مكينا من أركان الدين المعلومة بالضرورة.
  كان ذلك في خطاب روتيني حول ضرورة بناء اقتصاد منهار وتشغيل مائة وخمسين ألف عاطل عن العمل في مجتمع يعدّ أربعة ملايين ساكن: مائة وخمسون ألف عامل ليشقّوا الطرقات ويستصلحوا الأراضي.إنّه مشروع العمل في الحظائر مقابل مائتي مليم يوميا أي ما يعادل رطلين من اللحم.
   فعرّج الزعيم في الخامس من فيفري سنة 1960 ، قبل رمضان بأسابيع ثلاثة،على ما يشهده الاقتصاد خلال الشهر الفضيل من انهيار للإنتاج تتذرّع له العامة بمشقة الصيام.
3
    يشغّل السياسيّ الذي يلبس لبوس الإمام آليّات التأويل.والمقصد هو أن ينهض المؤمن بالأمة لتقوى على اعدائها: الفقر والتخلّف وبقايا الاستعمار.فلم يتبق إلاّالتبرير الدينيّ:ألم يأمر الرسول أصحابه عند فتح مكة بالإفطار آمرا المترددين منهم " أفطروا لتقووا على عدوّكم"؟.
فدعا الزعيم شعبه، قياسا وتمثيلا ، إلى الإفطار إعلاءً للجهاد في سبيل التقدم ودحر الفقر والخصاصة على صيام رمضان. وخلاصة رأيه واضحة صريحة : "إن ديننا دين فروض قائمة على العقل والمنطق (…) ولكن ما يتعارض منها مع ضرورة الحياة وما تقتضيه الحياة والكفاح من أجل الحياة فإنّها تسقط بطبيعتها ويصبح المسلم في حلّ منها" .
     وبقطع النظر عن صواب القياس وصحة الاجتهاد فقد ظلّت حاجة المؤمنين إلى نمط الجهاد الذي أمرهم به الدين  أقوى من حاجتهم إلى نوع الجهاد الذي دعاهم إليه الزعيم السياسي في براغماتية مقيتة لا ترى الإنسان إلاّ آلة منتجة مفرغة من الرموز.فربّما زيّنت حماسة التحديث وضغوط الواقع الاقتصادي الصعب لبورقيبة أن المساس بالعقائد يسير يسر تغيير المعاملات وسائر نواحي الاجتماع الإنسانيّ.
   نعم يحقّ له ولغيره الاجتهاد في شؤون الدين والدنيا ولكن الثابت انه لا يحق لأي كان خصوصا للسلطان أن يفرض اجتهاده على المؤمنين ولا على غير المؤمنين ولا يحقّ له التدخّل في ما ارتضوه ،تقليدا او اقتناعا، من روابط بينهم وبين خالقهم.
هذا درس رمضان للسياسيين المنتصبين أئمّة للناس رقباء على ضمائر الخلق وما أكثرهم اليوم وإن باسم الدفاع عن الإسلام  والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.


4 commentaires:

Lotfi Aïssa a dit…

صراحة أنا لا أرى فيما تأولته، قاصد مساءلة الذاكرة البورقيبية في علاقتها بصيام الشهر تحصيصا، إلا وجها باهتا لسياق تاريخي بدا للراسخين في معالجة مخلفات الماضي وتعقّب بصماته، قابلا
وخاصة بعد أن تخلصت البلاد من دونية الاستعمار ومهانته للانسلاخ خلقا جديدا! فضلا عن كونك تبدو لي - وما أضنني إلا مخطئا- وكأنك مصرّ على مغازلة شياطين الانس - وما أكثرهم هذه الأيام - عبر دقّ مسمار صدء
!في ذاكرة أيقونة حيّة
ملاحظة: ترددت كثيرا في كتابة هكذ انطباع" ولكنني أجل علمك بنفس القدر الذي أتمسك به خالص صداقتك"

chokri a dit…

لم التردّد يا صديقي وتأويلك ممكن ضمن اللغط العام حول البورقيبيّة
موقفي ينبني على ضرورة مراجعة الخصوصيّ والكونيّ و" الثوابت " في صلتها بالنوازل ولكن الأمر عندي مقتصر على المعاملات اما العبادات فلا تخضع إلا لتفكير أهل الملل والنحل ولا فائدة ترجى من تدخّل السياسيين و غير اهل العلم من رجال الدين والمؤمنين بها ضمن تاويلهم لاعتقاداتهم.
ألم يقل عمر بن الخطاب عن تقبيل الحجر الأسود مثلا ما معناه لو لم أر رسول الله يقبله لما قبلته؟
ولكن العقد الاجتماعي والتحديث وقضايا ه تتصل عندي بما هو من صميم المواطنة وفي نصي القادم عن بورقيبة ومجلة الاحوال الشخصيّة ( أنشره الإثنين القادم) ستجد موقفا آخر من الاجتهاد البورقيبي

وفي هذا النصّ ما يعنيني هو ما قلته وأعيد نشره هو ما يلي :"

نعم يحقّ له ولغيره الاجتهاد في شؤونّّ" الدين والدنيا ولكن الثابت انه لا يحق لأي كان خصوصا للسلطان أن يفرض اجتهاده على المؤمنين ولا على غير المؤمنين ولا يحقّ له التدخّل في ما ارتضوه ،تقليدا او اقتناعا، من روابط بينهم وبين خالقهم.
هذا درس رمضان للسياسيين المنتصبين أئمّة للناس رقباء على ضمائر الخلق وما أكثرهم اليوم وإن باسم الدفاع عن الإسلام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
"
فهل من مزيد لأبتعد عن شبهة المجاملة او المهادنة لمن لا يؤمنون بالحرّيات وعلى رأسها الحريّات الدينيّة وحرية الضمير والاعتقاد؟
شكرا على المرور والتعليق .

Lotfi Aïssa a dit…

قد يكون الأمر على ما تأولت إذن، فمن من شكّ في أن النصوص حمّالة معاني والمسارات على ما أقدر...

Khaled Abid a dit…

بت مقتنعا اكثر من اي وقت مضى بأن علاقة بورقيبة بالمسألة الدينية والإسلام تحديدا هي علاقة بنيت على خطا في الفهم انجرّ عنه خطأ متتابع فتراكم إلى أن بان على ما هو عليه الآن، لأنّ بورقيبة لم يكن علمانيا ولم يكن أتاتوركيا ولم يكن "ملحدا"...الخ، بورقيبة كان تونسيا اصطدم بالواقع المرّ لشعبه وبلاده وهما في الهوانيْن، هوان الاستعمار وهوان التخلف فعاهد نفسه على أن يخرجهما من الهوانيْن لكن بطريقته، وهنا حصل اللبس التاريخي والذي فرّخ جماعات بنت شرعيتها على اساس أنّ دولة الاستقلال دولة معادية للدين والإسلام، وفي هذه النقطة بالذات يكمن القصور الذي أنتج ما يمكن تسميته بسوء الفهم التاريخي والذي استوقر في الأذهان حتى لدى النخبة،