lundi 15 juin 2015

"الطلياني" يُعلن سقوط اليسار والمثقف العربي





محمود الغيطاني
 مجلة البوابة (مصر)، 11 ماي 2015


الحقيقة التي لا يمكن إنكارها في الإبداع الروائي أن الرواية الجيدة هي الرواية التي تجذب القارئ منذ بدايتها؛ فيصبح أسيرا لها غير قادر على الفكاك منها منذ الكلمة الأولى حتى نهايتها، وأظن أن هذا ما فعله الروائي التونسي شكري المبخوت في روايته "الطلياني".
إنها الرواية التي يُجابهنا فيها المبخوت بهزائم اليسار التونسي، ولذلك يحاول استعادة النضال الثوري للحركة اليسارية التونسية أيام الحبيب بورقيبة بكل ما في حركة اليسار التونسي من آمال، وطموحات، وأحلام كبيرة، وما تلى هذه الآمال من انكسارات وتغيرات جذرية حدثت لحركة اليسار بالكامل على مستوى تونس، والعالم أجمع، وإن كان الروائي هنا يحاول التركيز على هذه الحركة أيام حكم الحبيب بورقيبة، وجزء من حكم زين العابدين بن علي بعدما انقلب على الحكم.
يبدأ المبخوت روايته بحدث غير مستساغ يدعو للدهشة القصوى، وهو ضرب الطلياني "عبد الناصر" -المُلقب بهذا اللقب لوسامته وشبهه الكبير بالإيطاليين- للشيخ علّالة إمام المسجد في المقابر حينما كان الشيخ علّالة يدفن سي محمود أبو الطلياني؛ مما يدعو إلى دهشة الجميع وتساؤلهم عن السر وراء هذا الفعل غير المنتظر، ولعل مثل هذا الحدث الغريب منذ بداية الرواية كان هو نقطة الانطلاق الروائية التي اعتمد عليها المبخوت بذكاء كي ينطلق منها إلى سرد أحداث الرواية على لسان صديق الطلياني حتى نهايتها، وهو الحدث الذي لم نعرف السبب وراء غموضه إلا مع السطور الأخيرة منها، مما يدل على ذكاء الروائي الذي جعل القارئ منجذبا خلفه، لاهثا حتى النهاية كي يعرف السر وراء ذلك الفعل.
نجح الروائي انطلاقا من هذا الحدث في تصوير جميع شخصياته الروائية والحديث عنهم بسلاسة، سواء عبد الناصر "الطلياني" الشخصية المتعصبة لليسار التونسي، والحركات الماركسية، وقيادته لهذه الحركة في الجامعة؛ حتى أنه كان حريصا على أن يرسب كل عام؛ لأنه لا يرى من هو قادر على قيادة الحركة اليسارية من بعده في مواجهة المد الإسلامي القميء الذي يحاول أن يلقي بظلاله على كل شيء في تونس، مرورا بأخيه صلاح الدين الباحث الجامعي المرموق، والخبير لدى مؤسسات مالية دولية، حتى أمه الحاجة زينب المرأة المُسيطرة التي تحاول دائما أن تكون هي القائد في البيت على الجميع، حتى لو كانت قيادتها للزوج سي محمود المُنصاع لرغباتها، والغير راغب في الاصطدام معها، بالإضافة إلى جميع بناتها.
تكاد الرواية أن تنقسم إلى قسمين أساسيين في أحداثها رغم أن المبخوت لم يحاول تقسيمها مثل هذا التقسيم على المستوى الشكلي، وفي القسم الأول يتحدث عن عائلة الطلياني ثم لا يلبث أن ينصب الحديث عن عبد الناصر وحده من خلال علاقاته في الجامعة، وقيادته لحركات اليسار التونسي، وإن كان يؤكد من خلال الأحداث أن اليسار لا يختلف كثيرا في برجماتيته عن المد الإسلامي، بل هو لا يختلف عن المد الإسلامي في دمويته كثيرا، فالجميع يحاول الوصول إلى الهدف الذي يراه صحيحا من خلال نفس الآلية، وهي آلية القتل، والإقصاء، ولعل هذا اتضح بقوة حينما ظهرت "زينة" البنت الريفية المثقفة التي تدرس الفلسفة في كلية الآداب والتي تحاول من خلال حلقاتها النقاشية في الجامعة نقاش آليات اليسار، وفلسفته، وغيرها من الأمور الأخرى الداعية إلى التأمل مثل التاريخ، والفلسفة، ولكن لأنها لا تنتمي إلى أي لون من الألوان الحزبية؛ فإنها تمتلك بالفعل حريتها في نقد كل ما تراه يحتاج إلى النقد، فنراها تنتقد آليات اليسار وبعض مثالبه؛ الأمر الذي يجعل بعض ممن ينتمون إلى اليسار يتشككون فيه؛ مما جعل المحامي الشهير الذي يقود الحركات اليسارية داخل الجامعة يقول للطلياني: "لابد من تحييدها، من عزلها، من تصفيتها، كل من يقف حجر عثرة في وجه حركة الجماهير ينبغي تصفيته، ألم تقرأ أدبيات العنف الثوري، أتعتقد أنه مجرد كلام؟"، فيرد عليه الطلياني مندهشا ببراءة وسذاجة ثورية: "كيف نصفيها، أنغتالها؟"، فيرد عليه واثقا: "أنا أحلل الوضع وأعطي التعليمات، تفاصيل التنفيذ يحددها الرفاق"، ولعله من خلال هذا الحديث بين الطلياني والزعيم اليساري يتضح لنا أن آليات الجميع سواء كان اليسار، أم اليمين هي آليات واحدة من العنف، والإقصاء، الأمر الذي يجعل الطلياني يبدأ في التشكك من حركات اليسار ويحاول أن يعمل انشقاقات وعمل مجموعات أخرى من اليسار تنفي العنف في الوصول إلى ما يرغبونه من حالة ثورية، لكنه لا يستطيع في نفس الوقت التوقف عن التفكير في مبدأ ديكتاتورية البروليتاريا التي يقرها الفكر الماركسي.
يحاول الطلياني إنقاذ "زينة" من هذا المصير؛ فيرتبط معها بعلاقة حب بعد أن يتم الاعتداء عليهما في حرم الجامعة من قبل الشرطة، والقبض عليهما، وهناك يقابل ضابط الشرطة سي عثمان الذي يحاول مساعدته إكراما لوالده سي محمود، باعتبارهما أبناء حي واحد، لكنه يحكي له عن الليلة التي باتت فيها زينة معه في بيته؛ مما يجعل الطلياني يشك في زينة نفسها باعتبارها تشي بالثوريين، كما تذهب به هواجسه إلى الشك في صديقه الذي يشاركه السكن، وهو أسلوب عتيد من الشرطة تمارسه في العالم أجمع بأن تجعل المحتجزين في قضايا ثورية يتشككون في جميع من حولهم؛ ولذلك يقول له سي عثمان: "مشكلتكم أنكم تتوهمون أنفسكم أذكي الخلق جميعا، لا تعرفون الدولة وتريدون الإطاحة بالنظام، أنتم والإخوانجية مغرورون، شرط النضال هو التواضع والمثابرة، في حين أنكم مغرورون"، وهو ما يجعل كل من يخرج من عندهم متشككا حتى في نفسه، حينما يحاولون إيهامهم أن السلطة بالفعل تعرف عنهم كل شيء.
يتحدث المبخوت في القسم الأول من روايته كثيرا عن أدبيات اليسار ومفاهيمه، الأمر الذي يجعل الرواية أكثر نخبوية حتى أن القارئ العادي غير المطلع على الحركات اليسارية أو أدبياتها قد ينصرف عنها غير قادر على إكمالها؛ بسبب أدبيات اليسار الجافة التي قد تخرج به من الفعل الروائي وتسقطه في شرك الثرثرة الأيديولوجية، لكنه كان من الذكاء ما جعله يُضمن هذه الأدبيات في السرد الروائي من خلال العديد من الأحداث المتلاحقة التي جعلتها مقبولة نسبيا للقارئ العادي، فحينما نرى زينة تقول له: "تتحدث عن التاريخ ولا تريد أن تستنير به، هل شارك الطلبة في الثورة الفرنسية، في الثورة البلشفية، في الثورة الصينية؟ دعك من دورهم في الثورة الإيرانية التي لا تعترف بها، لقد بنيتم وهما، وسجنتم أنفسكم فيه، ستقوم الثورة لأن المجتمع يتطلبها، وليس لأنها نبتة نظرية في الذهن، ألم يعلمك ماركس هذا الدرس التاريخي المادي؟"، يتضح لنا أن أدبيات اليسار، ومناهجه السياسية تكاد أن تُغرق الرواية حتى أن المقولات الأيديولوجية قد باتت هي السمة الرئيسية فيها؛ مما قد يجعل القارئ غير المحترف، وغير العالم بأدبيات اليسار وتاريخه منصرفا عنها لولا أن المبخوت حاول صياغة هذه الأيديولوجيا من خلال مجموعة من الحكايات الفرعية كي يكسر حدة الجفاف في هذا الأمر.
يتزوج الطلياني من زينة دون معرفة  الأهل حينما يتم تعيينها في إحدى المدارس الثانوية البعيدة عن العاصمة؛ الأمر الذي سيعطلها كثيرا عن إكمال دراستها العليا، حيث كان أملها الوحيد في الحياة أن تحصل على درجة الدكتوراه كي تكون مدرسة للفلسفة، وقد صورها الروائي باعتبارها شخصية لا يهمها في حياتها سوى هذا الهدف، حتى أنها قد تنسى كل حياتها من أجل الوصول إلى هدف تدريس الفلسفة في الجامعة، ورغم أنها تحب الطلياني إلا أنها لا تعترف بأن ما بينهما هو زواج بل مجرد عقد صداق؛ لأنها كانت مضطرة إليه، ولم يكن برغبتها، وهو الأمر الذي يُحدث الكثير من الشروخ في علاقتها بالطلياني، الأمر الذي يستمر كثيرا حتى تنهار تماما علاقة الزواج والحب الذي بينهما؛ فزينة منشغلة عنه طيلة الوقت ولا تهتم سوى بدراستها، حتى أن الحياة بينهما تستحيل إلى مجرد شريكين في مكان واحد يلتقيان بالمصادفة، ورغم أنه يحاول دائما أن يعضدها والوقوف إلى جانبها وتشجيعها، إلا أنها لا تُقدر ذلك، بل إنها حينما حصلت على أجرها من التدريس اشترت العديد من الأشياء والملابس لنفسها، ولم تفكر في أي هدية له الأمر الذي جعله يفكر في الحدث كثيرا، وأنها لا تهتم به قدر اهتمامه بها، وهو ما جعله يبتعد عنها ويبدأ في العديد من العلاقات النسائية الخارجية، لاسيما صديقتها نجلاء التي ارتبط بها ارتباطا قويا، حيث كانت تعطيه ما لا يجده لدى زينة، وبالتالي كان طموح زينة هو القاتل الأول لعلاقته بها.
هل ثمة من يذكر روايتي "الرجل الذي فقد ظله"، و"زينب والعرش" للروائي الراحل فتحي غانم؟ أظن ان قارئ رواية شكري المبخوت لابد سيتذكر هاتين الروايتين حينما يبدأ في تأمل الجزء الثاني من رواية الطلياني، ففي القسم الثاني من هذه الرواية ينخرط الطلياني في العمل الصحفي كي يستطيع الإنفاق على نفسه وعلى زينة، ومن خلال هذا الجزء يحاول المبخوت فضح هذا الوسط بكل ما فيه من زيف، ونفاق، وشيزوفرانيا، وحقد يتميز به هذا الوسط، وقد ساعده في هذا العمل بمهارة ثقافته الموسوعية التي جعلته هو الأول والأثير لدى رئيس التحرير الذي يكاد أن يتبناه في كل شيء؛ حتى أنه قد فكر في ملحق ثقافي خصيصا من أجله، وهو الملحق الذي أدى إلى ارتفاع أعداد مبيعات الجريدة الحكومية كثيرا؛ مما يدل على نجاح الطلياني في هذه المهمة الموكلة إليه، ولكن لعل الروائي هنا كان من الذكاء ما جعله يدفع الطلياني للعمل في جريدة حكومية تتحدث باسم السلطة، وحكومة بورقيبة في حين أنه له تاريخا ثوريا ويساريا طويلا، مما يظهر التناقض الذي يعيشه المثقف العربي الذي ينادي بأمر في حين أن سلوكه يكاد يتناقض تماما مع ما يذهب إليه، ولذلك نرى أن الطلياني يأخذ بنصائح رئيس التحرير سي عبد الحميد الذي يقول له: "لكن الصحفي الحقيقي هو الذي له صلات بالداخلية، بالكبار فيها، يتزود بالمعلومات ليعرف اتجاهات الريح، لابد له من علاقات مع دوائر القرار شريطة ألا يصبح واشيا، قوادا، نماما، رخيصا؛ فتغلق دونه حنفية الأسرار، ولحاسا متزلفا، حقيرا؛ فيُركل ويُرمى به خارج الدائرة"، هنا نرى قدر البراجماتية وعدم الصدق فيما يذهب إليه جميع رجال الصحافة تقريبا، وهو الأمر الذي آمن به الطلياني وبدأ ينتهجه في حياته متناسيا تاريخه الثوري النضالي الذي كان يعاوده بين الفينة والأخرى، لكن انغماسه في مثل هذا الوسط الصحفي، وعلاقاته بالداخلية وأصحاب القرار جعله يسقط في قاع هذه العلاقات إلى غير رجعة؛ الأمر الذي زاد من تأزمه النفسي، وصراعه بين ما كان عليه، وما أمسى عليه الآن، وهو الأمر الذي دمره نفسيا تماما؛ فسقط في هوة عميقة من العلاقات المشبوهة مع السلطة، ومن ثم سقط أيضا في علاقات نسائية لا حصر لها مع جميع ألوان النساء غير قادر على التمييز بين من تصلح لعلاقة، أو لا تصلح. 
وهنا تحاول زينة الانفصال التام عن الطلياني والهجرة إلى فرنسا من أجل مستقبلها، بعدما انفصلت تماما عنه من الناحيتين العاطفية، والمادية بسبب حلمها الذي لا ينتهي من أجل نيل شهادتها العليا؛ ليقع الطلياني في أزمة نفسية طاحنة تجعله يعيش في مأساة لا تخرج دائرتها عن عمله في الجريدة، واصطياد النساء التي لا يعرف كيف يميز بينها من هي صالحة لعلاقة، ومن لا تصلح، وبين السكر الدائم، في حالة هي أقرب للجحيم بينما يستعيد أحيانا تاريخه الثوري، أو يحاول المتاجرة به أحيانا أخرى، وهنا نعرف على لسان الراوي أن الطلياني قد أخبره في نهاية الأمر بمحاولة الشيخ علّالة التحرش به جنسيا في صغره؛ وهو الأمر الذي استعاده بقوة حينما رأى الشيخ يوم دفن والده سي محمود مما أدى به إلى الاعتداء عليه ومحاولة قتله.
يحاول المبخوت في هذه الرواية صياغة العالم التونسي، والعربي بالكامل من خلال تصوير اخفاقات اليسار العربي، وقد نجح في ذلك من خلال لغة سلسة متميزة تستطيع الأخذ بلب القارئ بسهولة، حتى أنه يلهث خلف هذه اللغة الرشيقة المنسابة حتى نهاية الرواية غير راغب في انتهائها، والخروج من حكاياتها الفرعية التي تُدلل على أن المبخوت لديه شهوة الحكي التي تجعله قادر على استنطاق حكايات من حكايات أخرى، وهكذا تتوالد الحكايات المنصبة كلها في قضية الإخفاق العربي المخزي من خلال عالمه الذي يعيشه في نهاية حكم بورقيبة، وبداية حكم بن علي.
رواية الطلياني هي رواية نستطيع أن نُطلق عليها اسم "رواية التطهر" التي حاول من خلالها المبخوت التطهر من كل آثام اليسار العربي، وانهيار المثقف وسقوطه في وحل الزيف، والنفاق، والشيزوفرينيا، بل هي رواية تفضح كل آثام اليسار، وحركات المد الديني اللذين لا يختلفان في الحقيقة عن بعضهما البعض إلا من خلال المسميات فقط، بينما هما في حقيقة الأمر يتشدقان بمجموعة من المقولات النظرية فقط، في حين أنهما على أرض الواقع يتراجعان ويختفيان تماما، إما بالتحالف المخزي مع السلطة، والتعاون معها على مصلحة الجميع، مفضلين في ذلك مصلحتهما الشخصية، أو بالهروب من الوطن إلى أوطان أخرى بعيدا عن أرض الواقع، بعد أن أشعلا الثورات بمقولاتهم الثورية، أو الدينية، ليتركونها كالنار تأكل بعضها بعضا.







Aucun commentaire: