mercredi 10 juin 2015

«الطلياني» .. حين يصبح الحب مرآة للحراك السياسي


نداء أبوعلي ( روائية سعودية)
 الاقتصاديّة (السعوديّة)، 10 /06 / 2015
تسلّط جوائز كالبوكر للرواية العربية الضوء على إحدى الروايات كل عام. تتوجها لتعتلي منصة يتهافت عليها النقّاد والقرّاء، لتتعاقب عليها عمليات التشريح والنقد المتأرجح بين مدح وذمّ. في عام 2015 اعتلت منصّة جائزة البوكر رواية الطلياني للروائي والناقد الأدبي التونسي شكري المبخوت، وقد قوبلت باحتفاء وإشادة في ذات الوقت الذي أثارت فيه ذات الرواية اللغط والاستنكار لنجاحها، بعد توقعات بفوز روايات أخرى بالجائزة كشوق الدراويش وطابق 99 وممر الصفصاف.
رواية الطلياني وإن تعد الأولى للمبخوت تعكس خبرته في النقد الأدبي، تلك التي دفعته لمعرفة تقنيات وأدوات الكتابة، ما ارتقى بالرواية بناء وحبكة، أضف إلى ذلك كون شكري المبخوت يحمل رؤية أكاديمية خاصّة، بحصوله على درجة الدكتوراة في الأدب، وترأسه لجامعة منوبة بتونس. ذلك الزخم الأكاديمي أمدّه بمجتمع ثقافي يمكنه من تعبئة صفحات الرواية بأحداثها الجامعة لعوالم الصحافة وأروقة الجامعة. في الآن ذاته يستقي المبخوت أحداث الرواية من حالة العالم العربي بثوراته المتتالية، ووضع وطنه الذي يعيش حالة انغمار ثوري، إذ يتطرق الروائي شكري إلى حقبة الثمانينيات في تونس، وبروز حراك سياسي بتجاذب ما بين اليساريين والإسلاميين، وتصاعد للحراك الطلاّبي. وإن كان البطل الأهم هو الحب الذي يعد مرآة للحراك السياسي والتقلبات النفسية والمزاجية المتدرجة من مرحلة الشباب إلى التقدّم في السن. عكف شكري المبخوت على الغوص في تفاصيل الحب وأصحابه وبناء الشخصيات المحورية بكثافة للأحداث، فيما تجاهل الغوص في اللغة ليختار تبسيطها بسلاسة بعيدة عن العمق اللغوي والوصف الجمالي، فلا تستوقفك عبارات مميزة تطرب أثناء قراءتها. مجرد تلهف لمعرفة التفاصيل القادمة دون إعمال في التركيز على تركيب الكلمات.
يتناغم العشق في حياة عبد الناصر، الشخصية المحورية في رواية الطلياني، مع مراحله الحياتية. هو الملقّب بالطلياني، نظراً لوسامته، قادر على الاختباء في قلوب نساء فاتنات بفروقات ثقافية وفلسفية. جميعهن يتهافتن صوب صاحب الملامح الأجنبية. تظهر في تفاصيل الرواية جلياً عقدة الرجل الأبيض ومدى الافتتان به، تلك التي تفضي بعدد من شخوص الرواية بالهجرة إلى الخارج هرباً من الوضع المتردي في حياتهم، واختيار مشاركة حياتهم في الخارج مع أجانب كتعويض للإخفاقات العاطفية المحلية.
استهلّ شكري المبخوت روايته بمقدمة بحمم بركانية تشويقية، فعبد الناصر الذي ينعته الآخرون بالعبثي الفوضوي يختار لحظة دفنه والده الحاج محمود ليكيل لإمام المسجد بضربات مبرحة دونما سبب جليّ. لن يتمكن القارئ من معرفة تداعيات ومسببات تلك الحادثة حتى يشارف على نهاية الرواية. تلك البداية تنم عن حالة انهيار بديعة لشخصية عبد الناصر التي سيغوص في ثناياها في فترة الدراسة الجامعية، والانغماس في الأنشطة السياسية الطلابية، بانسيابية مطلقة. حتى علاقته بمحبوبته زينة منذ بداية تعرفهما من خلال الحراك الطلابي، تنثال على القارئ بوصف بديع، يمر في محاولة لفت انتباهها وتدرج علاقتهما من الافتتان حين يصف لزينة حالته: "أنا أشعر معك بحالة اكتمال ما.. لا أعرف له اسماً"، حتى يصل إلى التدله المفضي لارتباطهما سراً في البداية ومن ثم يتناقص بانشغالهما بالهم الثقافي والتعليمي الذي يطغى على الحب فيغتاله، ليصل إلى مرحلة برود متناه وانهيار لتصبح العلاقة بينهما مجرد مساكنة. يسير كل منهما في طريق مغاير، هو كصحافي متصاعد يتلقى إحباطات متتالية وهي بدراستها، التي صرفتها عن التركيز بأمورها الأخرى، ليسقط كلاهما بإحباطات متنامية. يتجلى ذلك من خلال عبارات مقتضبة كتلك التي تصف فيها زينة مشاعرها المتردية حيال عبد الناصر: "لم يعد غزله يثيرها.. رغم أنه غير متصنع.." هناك إيحاء قوي بتأثر الشخصيات باليسارية التي تجسّد حالة من انعدام المشاعر والانفعال. فحتى تشكك عبد الناصر بتعلق زوجته بآخر لا يدفعه إلى الاكتراث.
تلك التفاصيل الممعنة في علاقة الحب الآزفة وشخصيتي عبد الناصر وزينة يقابلها قصور من قبل شكري المبخوت في إحياء شخوص آخرين من خلال تفاصيلهم، الأهم منهم شخصية الراوي، الحاضر الغائب بين سطور الرواية، فهو صديق مشترك للزوجين، شديد الافتتان بهما، وبالأخص بزينة. على الرغم من مشاركته لتجربتهما الدراسية والسياسية، يظهر الراوي بلا وجود ولا صوت. شخصيته هامشية يستنكر القارئ كيفية معرفة القارئ تفاصيل حميمية للزوجين، إذ يستحيل أن يكون قد حاز عليها منهما. هناك تجاهل آخر لشخصيات أخرى تظهر مبتورة مسطحة متآكلة التفاصيل كأخوات ووالدة عبد الناصر، وأخيه الأكبر عبدالرحمن، المثقف المهاجر إلى فرنسا، الوحيد الذي يردد: "أنا فخور بك. وبانكساراتك أيضاً"، وكأنه يرمز إلى المغترب صاحب منظور أكثر انفتاحاً وتقبلاً لحالاته واختلافه عن الآخرين. يظهر الأخ الأكبر في بداية الرواية بحضور قوي يتلاشى بغتة، لينتظر القارئ حضوره المباغت مرة أخرى دون جدوى. ظهور شخصية نجلاء الفاتنة جاء ناجحاً بتدرجه والاحتفاظ بالغموض المفضي بانجذاب لا ينضب. أما شخصية للاّ جنينة أو زوجة الإمام، فتتفاوت ما بين بداية مقتضبة إلى ظهور مفاجئ عند الاقتراب من نهاية الرواية، هذا الظهور يكشف عن جوانب مهمة لعبدالناصر في طفولته وبداية سن الشباب لديه.
يرمز طغيان الوجود النسائي في الرواية إلى أهميته، إذ تتبلور شخصية عبدالناصر من خلال وجود المرأة في حياته. فزينة الشابة الثائرة التي تعد رأساً للحرية يفتتن به الجميع، تعد رمزاً لمرحلة نقاء الحب والإيمان به يوازيه تلك المرحلة من التمسك بالعقيدة السياسية بمبادئها الكلية وقيمها. تظهر شخصية نجلاء فيما بعد لتجسّد مرحلة الاستفاقة من الحلم والأخلاقيات المحيطة به واختلاس العشق الممنوع وترك المباح. هي مرحلة التمرد على كل القيم السابقة والاكتفاء بالتلذذ بتلك اللحظات المسترقة. تعقب نجلاء مرحلة الانحدار ومحاولة استجداء الحب، إذ يصل عبدالناصر إلى مرحلة الهوس وافتتان بشابة لا تلتفت إليه إلا بعد جهد وتخطيط من قبله، يعكف فيما بعد على محاولة تغيير اسمها في دور سينمائي زائف، إذ يقنعها بقدرته على إقناع مخرج بإدراجها في طاقم التمثيل. لترمز إلى مرحلة ما بعد الحب، مرحلة الإحباط والانهيار ومحاولة العودة إلى الماضي بشتى السبل.
الرواية تبدع في تجسيد تلك الإجهاضات والانتكاسات الإنسانية، ومحاولة التمرد على كل شيء، بالأخص من قبل المرأة التونسية الرافضة للأدوار التقليدية المنوطة بها، كشخصيات تحتقر مؤسسة الزواج وفكرة الإنجاب، فتذبل حتى تتنصل من تلك القيود. هناك احتقان ذاتي واجتماعي، ومحاولة تلصص الآخرين على الحياة الخاصة تصل إلى مرحلة تحرشات مقيتة، كالتي واجهها كل من عبدالناصر وزينة، تلك التحرشات تعد رمزية قوية لانتهاك الحرية الشخصية. الإحباطات الممعنة تغير مفاهيم الشخصيات، فأولئك المحذرون من خطر الوقوع بوحل الفوضوية المقيتة يقعون بها عقب كل تلك الإحباطات. نجح الروائي شكري المبخوت في استخدام أسلوب جاذب يدفع بالقارئ بالتعلّق بأحداث الرواية حتى النهاية. يقابل مثل هذه الروايات تعطش من قبل القارئ العربي لمعرفة واكتشاف المجتمع التونسي من خلال إبداعاته الأدبية.


Aucun commentaire: