vendredi 17 avril 2015

الطلياني: عدالة الرواية في إنصاف الحاكم والمحكوم وما بينهما


كمال الشيحاوي، جريدة الصحافة، 07 / 04 / 2015

على خلاف ما يقال عادة في حرص المدرّسين الجامعيين على الانضباط لقواعد الكتابة وأصولها وغلبة روح المحافظة لديهم فإن تاريخ الأدب التونسي يثبت الكثير من المغامرات والاندفاعات الكبيرة التي خاضها أساتذة في مجال الأدب نذكر منهم «محمود المسعدي» وما أحدثه من ثورة في الكتابة القصصية و«صالح القرمادي» و«الطاهر الهمامي» و«فرج لحوار» و«صلاح الدين بوجاه» وما صنعوه من مغامرات في «الكتابة الحية» و«في غير العمودي والحرّ» وفي «التجريب» بمختلف أشكاله.
و الجامعي «شكري مبخوت» الذي جاء إلى الإبداع الأدبي بشكل متأخر زمنيا يندرج ضمن هؤلاء المغامرين فقد فاجأ العارفين بمنجزه الأكاديمي الدقيق في مجالي «اللّغة» و«البلاغة» بروايته الأولى «الطلياني».  و حقّقت الرواية التي بلغت الآن طبعتها الثالثة نجاحا قياسيا مقارنة بما يصدر في تونس عموما فاختيرت ضمن القائمة الطويلة لجائزة «البوكر» العربية للرواية ثمّ نجحت في الفوز بأن تكون ضمن القائمة القصيرة لهذه الجائزة والتي تشمل ستّ رويات. وهو تتويج رمزي وماديّ لم يسبقه إليه في تونس سوى الروائي «الحبيب السالمي». وفي انتظار امكانية أن تقتنص المرتبة الأولى لهذه الجائزة فقد نالت مؤخّرا جائزة معرض تونس الدولي للكتاب في مجال الإبداع.
ورواية «الطلياني» التي تمتد على 340 صفحة تقريبا «كلاسيكية» في معمارها السردي. فالبناء فيها دائري يشير في نهايته إلى ما بدأ به. وظاهريا تبدو الرواية محاولة لتفسير أسباب العنف الذي مارسه «عبد الناصر»/البطل الرئيسي في القبر على الإمام الذي جاء لدفن والده «الحاج محمود». كانت حادثة غريبة ومثيرة ومحاطة بالكثير من الألغاز. وكأنّ الرواية كلّها محاولة لفكّ هذا اللّغز، مع أن الأمر لم يكن سوى تعلّة فنّية.
أسند «المؤلّف» الورقي مهمّة السرد الاستعادي في مجمله  لصديقه ليروي فصولا من حياة بطله الرئيسي «عبد الناصر» وعدد من الشخصيات التي لها صلة به على الصعيد الأسري وفي أروقة الجامعة وساحاتها وفي فضاءات العمل والحياة العامة التي عرفتها تونس خلال السنوات التي سبقت مجيء نظام «بن علي للحكم» والسنوات الأولى التي تلت مجيئة وتحديدا أوائل تسعينات القرن الماضي.
تجري الأحداث في الرواية  بشكل متسلسل زمنيا ومتباطئ من كثرة الاستطرادات والاستعادات وقليلا ما كان نسقها مشوّقا ولعلّ ذلك راجع لكونها رواية «شخصيات» بامتياز. وقد أظهر «المبخوت» قدرات مميّزة في السرد ونجح كثيرا في الوصف وخصوصا في تصوير بعض اللّقاءات العاطفية والجنسية الحميمة بأسلوب فيه من الدّقة والعمق والجرأة والإثارة التي نستشعرها من داخل النصّ في بلاغة وسلاسة. وذلك بعيدا عمّا نقرأه في روايات أخرى من أساليب «فضائحية» تعوّض ضعفها الأدبي بضروب من الإثارة المبتذلة.
قامت الرواية بدور أدبي في كشف جوانب ممّا عاشته تونس سياسيا واجتماعيا في تلك الفترة وما استتبع ذلك من فضح لأساليب نظام بن علي الذي تحكّم بالإعلام وبالفضاء العام بواسطة عدد كبير من الأمنيين والسياسيين والإعلاميين الذين شكّلوا جهازا مترابط المصالح والأهداف وهي لم تقف عند ذلك فحسب بل فضحت جزءا ممّن ينسبون إلى العائلة الديمقراطية واليسارية ممّن تحوّلوا إلى مدافعين شرسين على النظام يبرّرون سطوته ويساعدونه على بسط نفوذه بالكامل. وفي هذا المقطع من الرواية حديث عن أحد هؤلاء المخبرين في إحدى صحف «النظام» ويدعى «أبو السعود ح» : «أحسنت. اليوم أصبح أخطر علينا من الدستوريين أنفسهم كأنّه يريد أن يكفّر عن سنين معارضته للنظام أو يسترضي أسياده أو ينتقم من صورته التي يراها لدى المحرّرين فيخصّيهم بمقصّه بعد أن خصى نفسه».
تمثل رواية «الطلياني» إضافة هامة لمدوّنة الرواية التونسية والعربية و«كلاسيكيتها»المحبّبة التي تذكّرنا بعيون الرواية العربية في ستينات وسبعينات القرن الماضي (نجيب محفوظ وحنا مينة) يمكن تأويلها على أنّها محاولة للامساك ببناء ما (ولو في مجال الفن الروائي) كان مهدّدا كغيره من البناءات بالتصدّع والانهيار والتخريب في تلك الفترة والمساحات الشاسعة التي منحتها لمن كانوا على هامش النظام الحاكم من الشخصيات مثّلت نوعا من التحية والتكريم لهم. والرواية بهذا المعنى إذن احتفاء بقيم وأفكار وبجيل حاول باختلاف حساسياته وحساباته الفكرية والسياسية أن يفتكّ هامشا من منظومة الاستبداد التي كانت سائدة وأن يوسّع هذا الهامش ما استطاع إلى ذلك سبيلا ولم يكن مجال الإعلام الثقافي سوى صورة من صور هذه المقاومة في مجالات سياسية وحقوقية وثقافية اعلامية مختلفة.




Aucun commentaire: