jeudi 20 mars 2014

عن بعض أوهام استقلاليّة الجامعات




أخيرًا، بعد سنتين من إضاعة الوقت والعناد غير المبرّر، التزمت وزارة التّعليم العالي، بتمكين الجامعات من استقلاليّتها والانتقال بها إلى صيغة مؤسّسة عموميّة ذات صبغة علميّة وتكنولوجيّة. ونعتبر هذا القرار المبدئي خطوة مهمّة على بداهتها عندنا، في اتّجاه إعادة صياغة العلاقات بين الوزارة والجامعات والمؤسّسات المنضوية تحتها.
غير أنّ هذا القرار يخفي جملة من الإشكالات التي تحتاج إلى معالجة رصينة عقلانيّة حتى لا تكون الاستقلاليّة المنشود مجرّد تخفّف الوزارة من أعباء اليوميّ ومشاكله ونقلها إلى الجامعات. فالمفترض أن تكون عمليّة الانتقال هذه انتقالا إلى تصوّر جديد في حوكمة الجامعات ومؤسّسات التّكوين والبحث فرصة لتطويرهما.
ولعلّ الوهم الأوّل الذي ينبغي التنبيه عليه بتوضيحه واتّخاذ الموقف المناسب منه هو جعل الاستقلاليّة رديفًا، ولو في مرحلة أولى، لتسهيل الإجراءات الماليّة وطرق التصرّف وتمكين الجامعات من سهولة أكبر في الصّرف بحكم خضوعها المنتظر إلى التّشريع التّجاري.
ولئن كان نظام المحاسبة العموميّة عائقًا، علاوة على المناشير والقوانين الصادرة عن الوزارة الأولى ووزارة المالية، أمام إنجاز مشاريع كثيرة وتعطيل آليّات العمل فإنّ الاكتفاء بمعالجة جزء من هذا الإشكال من خلال تغيير صبغة الجامعات تمثّل، في تقديرنا، اختزالاً خطيرًا للمقصود باستقلاليّة الجامعات.
فالمطلوب أكثر من مجرّد تسهيل قواعد الصّرف والتّصرّف إذ أنّ الاستقلاليّة باعتبارها التّجسيد الفعلي للحرّيات الأكاديميّة تقتضي تحكّم الجامعات في المدخلات جميعًا بصفتها مؤسّسات تبحث عن النّجاعة والمردوديّة في تقديم خدماتها وأداء مهامّها.
والواقع اليوم يثبت أنّ مختلف مكوّنات العمل الجامعي ممركزة بيد وزارة التّعليم العالي على نحو يجعل الجامعات لا تؤدّي مهامّها. فلا وجود لجامعة اليوم تختار مواردها البشريّة من إطار تدريس وإطار إداري وحتى عملتها. وهذه الجامعات لا تتحكّم في رصيدها العقاري ولا تملك بناءاتها وتجهيزاتها. علاوة على أنّها لا تختار طلبتها. فكيف يمكنها أن تشتغل وأن تحاسب على برامجها وأهدافها؟
والمطلوب هنا فتح النّقاش الجدّي لمراجعة هذا الخلل الجذري دون مسبقات. فإذا أخذنا مثلاً مشكلة التّوجيه الجامعي فإنّ الاكتفاء بالنّظام المعمول به الآن لا يساعد على تطوير الجامعات وتحسين التّكوين والوصول إلى الجودة ومحاسبة المؤسّسات على قدرتها التّشغيليّة وإدماج طلبتها. وليس من العسير الوصول إلى تصوّر جديد يمكن تطبيقه تدريجيًّا يراعي مبدأ "لكلّ حامل باكالوريا مقعد في الجامعة" بقدر ما يراعي ضرورة أن تكون للجامعات معاييرها الخاصّة والنوعيّة في انتقاء الطّلبة. فالمهمّ عندنا ان نعترف بأنّه بافمكانى أحسن ممّا هو موجود وأنّ التوجيه الجامعيّ الحالي لن يساهم إلاّ في تأبيد المشاكل.
أمّا الوهم الثاني الذي ينبغي مقاومته فهو الاعتقاد بانّ الاستقلاليّة ستكون في صالح جامعات السواحل الأقدم دون جامعات الدواخل الأحدث. وهذه كذبة كبيرة ووهم خطير. فالوزارة عاجزة فعليّا بتحكّمها في المدخلات جميعا عن تطوير هذه الجامعات مهما فعلت. خذ لك انتداب الأساتذة مثلا. فالمنظومة الحالية للانتداب بمركزيّتها وبآليّة النقل بعد أربع سنوات تجعل هذه الجامعات ومؤسّساتها في حالة نقص دائم. والحال انّه ليس يعسر علينا أن نتصوّر نظاما غير ممركز للانتداب مثلما معمولا به في جلّ جامعات الدنيا بما في ذلك في المغرب، وهو بلد شبيه جدّا ببلدنا. فما الذي يمنع من تمكين الجامعات الداخليّة أساسا منفردة أو مجتمعة من حريّة اختيار إطارها التدريسي وفتح مناظرات مع التزام الجامعات الكبيرة في دورة انتداب أو أكثر بعدم فتح خطط جديدة؟ فكلّ الدلائل تشهد على أنّ نظام الانتداب والترقية الحالي غير ناجع في تلبية الحاجيات على الأقلّ؟
وإضافة إلى هذا يمكن التفكير، بالنسبة إلى الجامعات الداخليّة، في انتقال متدرّج بحسب رغبة تلك الجامعات أو استعداداتها للانتقال إلى صيغة جديدة في حوكمتها حتّى تكون لنا جامعات نموذجيّة تختبر المسالك الجديدة في حوكتمها وأخرى تلتحق بها على نحو متدرّج.
أمّا الوهم الثّالث فهو الاعتقاد بأنّ الاستقلاليّة هي ترك حبل القرارات الأكاديميّة وغير الأكاديميّة على غارب الجامعات.  وهو فهم خاطئ لأنّ الاستقلاليّة تقتضي ضربًا من التّعاقد مع الوزارة التي تظلّ راسمة للسّياسات العامّة للدولة والاستراتيجيّات المشتركة التي ينبغي أن تنخرط فيها الجامعات. لذلك فحقيقة الاستقلاليّة ليست تفصّيًّا من المسؤوليّة بإزاء الوزارة بل هي تمكين للجامعات من وسائل العمل لبناء مشاريع على أسس عقلانيّة موضوعيّة حتّى تؤدّي ووظائفها الاقتصاديّة والاجتماعيّة والثّقافيّة. يشترط هذا التصوّر، على ما يوجد في القوانين الحاليّة غير المطبّقة، نوعين من العقود: فمن ناحية عقود أهداف بين الجامعات والوزارة يتمّ على أساسها تمويل الدّولة لهذه الجامعة أو تلك ثمّ من ناحية أخرى عقود أهداف بين المؤسّسات والجامعات التي تتبعها.
فالمسألة قائمة على ضرب من التّراتب في الوزارة والجامعات والمؤسّسات والالتزامات المتبادلة بينها على أساس برامج واضحة. وهذه الالتزامات المتبادلة تفرض التّقييم الدّاخلي والخارجي والمحاسبة بالخصوص. فلا استقلاليّة دون التزامات ولا التزامات دون محاسبة.

لقد بدأت "معركة الاستقلاليّة " على ما نأمل تؤتي أكلها ولكنّ الطريق طويلة شاقّة. ولا مناص من السير في هذه الطريق الوعرة بوعي وجدّيّة وإخلاص عسانا نوقف انحدار منظومتنا الجامعيّة واهتراءها قبل فوات الأوان. فالرهان ليس دائرا على شكل الحوكمة، وليست الاستقلاليّة هدفا في حدّ ذاتها بل الرهان معقود على مضامين التكوين وتحمّل المسؤوليّة الأخلاقية والحضاريّة بإزاء أبناء تونس ومستقبل الذكاء التونسيّ. فمن كان له تصوّر آخر للوصول إلى ذلك غير طريق الاستقلاليّة فليقنعنا به مادامت المنظومة الحاليّة تكاد تعلن إفلاسها.

Aucun commentaire: