jeudi 6 mars 2014

لا تحديث ولا تنوير إلاّ باللّغة العربيّة



لم أر أعجب من علاقة التونسيّين وجزء واسع من نخبتهم الحداثيّة بلغتهم الوطنيّة!
فقد طفت المسألة اللّغويّة في بلادنا على السطح مرّة أخرى بمناسبة مناقشة الفصل 38 من الدستور ولكنّها سرعان ما غاصت في التوازن الهشّ الذي تترجمه مفردات الهوّيّة والانفتاح. فمن هويّتنا لغةُ الضاد بمحمولها التاريخي والرمزيّ ومن مظاهر تفتّح التونسيّين إتقانهم للّغات الأجنبيّة واستعدادهم، نخبا ودولة باسم الحداثة، أن يتركوا لغتهم الوطنيّة التي تتبنّاها الدولة باعتبارها عنوان سيادة في مرتبة دونيّة.
لا أدري، وأنا استمع إلى صيحات الفزع التي تعالت،لم تذكّرت ردود فعل النخبة الحداثيّة في تونس على تعريب الفلسفة في السبعينات. كانت المواقف حادّا: يريدون تجفيف منابع الفكر التقدّمي وإطفاء شعلة التنوير والقضاء على الحداثة حتّى لكانّ التنوير والحداثة والتقدّميّة لا تقال إلاّ بلغة موليار وإذا قيلت بلفظ عربيّ تقهقرت بنا إلى ظلمات الانحطاط وأرجعتنا إلى صحراء الجزيرة العربيّة وكبّلتنا بنير الرجعيّة. والمفارقة أنّنا اليوم بفضل تعريب الفلسفة أصبحت لنا نخبة من أفضل الفلاسفة العرب تدعّم البحث الفلسفيّ بالعربيّة وتسهم في تحديث قطاع واسع من أمّة العرب.
كان من البيّن أنّه موقف إيديولوجيّ يقيم ضربا من التلازم الزائف ضيّق الأفق بين العربيّة والتراث والفكر الماضويّ المنغلق من جهة وبين الفرنسيّة ومواكبة العصر والانفتاح على الثقافات الأخرى من جهة ثانية.
إنّه تقابل حادّ لا سند له إلاّ أوهام قائليه. فأعظم مصلح في تاريخ بلادنا ، ونقصد الطاهر الحدّاد، كان أحاديّ اللّسان من أبناء جامع الزيتونة المعمور وأشهر شاعر تونسيّ معاصر أمدّ الثورة التونسيّة بشعارها المدنيّ الفتّاك لا يتقن غير العربيّة. ولكنّ أحاديّة اللّسان عندهما لم تمنعهما من أن يعبّرا عن روح الحداثة وأن يمثّلا علامتين ما تزالا حيّتين في المشروع الثقافيّ والاجتماعيّ الإصلاحي التونسيّ.
لسنا نمتدح بهذا العجز عن تعلّم اللّغات أو التقصير فيه ولسنا ندعو إلى الانغلاق اللّغويّ والفكريّ ولكنّنا نحتجّ بالشابي والحدّاد على الربط المتعسّف بين الحداثة واللّغات الأجنبيّة من ناحية وبين العربيّة والرجعيّة من ناحية أخرى. بل إنّنا نزعم أنّ التحديث الحقيقيّ الأصيل بالنسبة إلى مجتمعاتنا العربيّة الإسلاميّة لا يكون ناجعا نافعا إلاّ إذا كان باللّغة العربيّة ومن خلالها. فالكتابة بهذه اللّغة والتعبير بها عن شواغل الفكر والثقافة والعلم والاجتماع المعاصر هي السبيل الوحيدة لتبديل العقليّات عندنا وتجذير المفاهيم الحديثة. فلا حداثة إلاّ إذا أمكن التحديث اللّغويّ ولا تحديث لغويّا إلاّ بالاشتغال على هذه اللّغة ونقل المفاهيم إليها وإخصابها فيها والإبداع بها. أمّا التعويل على قول حداثتنا بلغات الثقافات الأخرى فلا يعدو أن يكون إثراء لتلك اللّغات لا أثر له في ثقافتنا.
وما ندعو إليه هو تخليص المسألة اللّغويّة من هذا النزاع الإيديولوجيّ البائس المعادي للعربيّة. فبدل التوجّس خيفة من كلّ ما له صلة بالعربيّة ينبغي إيلاؤها ما تستحقّ من عناية لا باعتبارها عنوان هويّة فحسب وإنّما باعتبار تنمية العربيّة والنهوض بها في سائر مناحي الحياة جزءا من التنمية الشاملة وتكريسا لما نصّت عليه المواثيق الدوليّة من حقوق لغويّة لمختلف المجموعات والشعوب. ولا سبيل إلى ذلك إلاّ رسم الدولة لسياسة لغويّة واضحة تكون عنوان سيادتها بما أنّ اللّغة في نهاية المطاف مسألة سياديّة بامتياز.
ولا يحقّ لمن يتعلّل بفقر المكتبة العلميّة العربيّة ولم يكتب بها بحوثه أو على الأقلّ يترجم إليها بعضها أن يحتجّ بذلك لرفض التعريب وصدّ كلّ محاولة في اتجاه ذلك. ولغة العلم اليوم على كلّ حال ليست هي الفرنسيّة التي تسود جامعاتنا ولا مبرّر في كثير من الاختصاصات لأن تدرّس بتلك اللّغة. أفلم ترفض المؤسّسات الساهرة على حظوظ الفرنسيّة في بداية السنة الجامعيّة الحاليّة (2013 - 2014) تدريس بعض المقرّرات في مستوى الماجستير بالأنجليزيّة دفاعا عن الفرنسيّة وعن السيادة الوطنيّة؟ فلم نجعل، إلى الآن في بلادنا، الفرنسيّة "لغة ذات مكانة خاصّة" رغم أنّ دستور 1959 والدستور الحالي يقرّ بأنّ العربيّة لغة الدولة ورغم أنّ الفرنسيّة اليوم مجرّد لغة أجنبيّة في أسوإ الحالات ولغة ثانية في أفضلها ستتزحزح شيئا فشيئا على الأرجح إلى مرتبة اللّغة الثالثة وراء الأنجليزيّة ؟
إنّ وجه العجب في هذا كلّه أنّنا باسم الانفتاح على الثقافات واللّغات الأجنبيّة نقلب المعادلة لتصبح ثقافتنا الوطنيّة في درجة أدنى ولغتنا العربيّة في مرتبة ثانويّة. فلتتعدّد اللّغات عندنا ولكنّ لخدمة لغتنا الوطنيّة لتكون جسرنا إلى خلاصة الذكاء الإنسانيّ، ولنتّصلْ بكلّ ثقافات الدنيا ولكن لغاية إثراء الجانب المبدع في ثقافتنا الوطنيّة.     

إذا لم نع هذا سنترك لغتنا العربيّة لأئمّة المساجد ونسلّم هوّيتنا العربيّة الإسلاميّة للمزايدين بهما والحال أنّ التحديث والإصلاح والتنوير يمرّ حتما عبرهما. أفلا يعقلون؟ 

Aucun commentaire: