vendredi 11 avril 2014

تكريم جورج طرابيشي المترجم والناقد الأدبيّ والمفكّر

كلمة بمناسبة تكريم جورج طرابيشي
(كلمة ألقيت بمناسبة تكريم "جمعيّة الأوان" و"رابطة العقلانيّين العرب"
للأستاذ جورج طرابيشي يوم السبت الخامس من أفريل 2014 ببيت الحكمة - تونس)


يطيب لي أن أكون بينكم في هذا الحفل، مع هذه النخبة النيّرة، لتكريم المفكّر والناقد والمترجم جورج طرابيشي.
وأودّ، بدءا، أن أتقدّم بالشكر الجزيل إلى جمعيّة "الأوان" على هذه الفرصة التي أتاحتها لنا  كي نلتقي ونتذاكر بعض ما في متن التنوير العربيّ تقديرا لمن أسهم في بنائه وتدبّرا لبعض فضاءاته المساءليّة ومعالجة لوضع رهاناته في ما يعيشه الإنسان العربيّ اليوم من منعطف تاريخيّ حاسم.
واسمحوا لي أن أجلو ما في هذا التكريم المعرفيّ من أبعاد رمزيّة عدّة. فالمحتفى به مكتبة من مكتبات الثقافة العربيّة الحديثة، مكتبة قائمة بذاتها، ولا مبالغة، بترجماتها الغزيرة ومؤلّفاتها اللاّفتة في النقد الأدبيّ وفي قضايا الفكر والثقافة والإيديولوجيا. وأكبر ظنّي أنّ هذا الإسهام الشخصيّ المتميّز لا يعود فحسب إلى سياسة مؤسّسة نشر لامعة كان على رأسها مثقّف من طراز نادر هو المرحوم بشير الداعوق بل يعود أساسا إلى أنّ جورج طرابيشي كان واحدا من جيل جديد من المثقّفين العرب أقبل منذ أوائل الستينات على الكتابة بقصد بناء ثقافة جديدة. وهو جيل سمّاه جورج طرابيشي بجيل "الرهانات الخاسرة"، أي جيل الخيبات القوميّة والثوريّة (الانقلابيّة) والاشتراكيّة. واليوم نرجو على أيّة حال ألاّ تكون نتيجة الرهان على الديمقراطيّة خيبة أخرى له ولنا.
 تقلّب جورج طرابيشي، كما هو معلوم، بين تصوّرات إيديولوجيّة كتب عنها وعمل على نشرها. وهذا الذي قد يراه البعض مطعنا في مسيرة هذا المثقّف وأضرابه نراه عنوان حيويّة جيل رائد بحث عن سبل خلاص مّا وعاش بحثه في حماسة لم تخل من اندفاع وعاش خيباته أيضا بكثير من المرارة. فسمة عدم الاستقرار، لدى الأذكياء النزهاء من أبناء جيل "الرهانات الخاسرة" هذا، تشفّ عن حسّ نقديّ رفيع وتمرّد أصيل على اليقين الزائف.
ولسنا نريد بهذا أن نحمّل طرابيشي وزر المراهنين الخاسرين، في هذا المسار الثقافيّ التاريخيّ، ولكنّنا نرى في ذلك ديناميكيّة فكريّة وإيديولوجيّة وسياسيّة، كانت بتزمّتها وانغلاقها أحيانا وإسقاطاتها التاريخيّة وتهافتها النظريّ أحيانا أخرى، جزءا من أفق التعبير عن شوق جيّاش عارم لتحديث المجتمع وتنوير الثقافة العربيّة. وما الخيبات والخسارات والأخطاء الموجعة جدّا أحيانا إلاّ استكشاف للدروب المغلقة والسبل الخاطئة. ولكنّها سبل ودروب من المفترض أن تتعلّم منها الثقافة العربيّة ما لاتحتاج إليه لتعرف ما تحتاج إليه كما قال الخليل بن أحمد الذي اختطّ مسلكا من مسالك عدّة في سبيل بناء معقوليّة في عهد من عهود التأسيس في تاريخنا الثقافيّ القابع فينا.
واعتقادي الشخصيّ أنّ مسيرة جورج طرابيشي الفكريّة، بتعرّجاتها المختلفة، تستجمعها عبارة واحدة: ضرورة النقد المستمرّ موقفَ قلقٍ لا يقنع بحدود المنجز ولا يطمئنّ إلى الثوابت بل يدفع دوما إلى أفق آخر ويعمل على تعرية كلّ الأوهام المكوّنه لجوهر الإيديولوجيا، تلك العدسة المقلوبة التي تبني تمثّلا مقلوبا عن القوى المعتملة في الواقع على حدّ استعارة ماركس.
وهل عرف العرب، في القرن المنقضي، أشدّ وقعا من فداحة الهزيمة، هزيمة 1967؟ فقد جعلت المثقّف الذي بقيت له مسكة من وعي نقديّ يراجع مسلّماته وينقد أوهامه عسى أن يستأنف ممكنات الأمل بقول وتصوّر جديدين؟
وفي هذا السياق، سياق تعبير جورج طرابيشي بوجه من الوجوه عن شواغل مثقّفي جيل الستينات الحداثيّين، ننزّل انتقاله من تصوّرات للحداثة تدفع التراث وكتبه المصفرّة بظاهر اليد إلى الاشتغال النقديّ على هذا التراث الفاعل في نسيج الفكر والحياة وذلك بالتعمّق في متونه المتراكبة المتشعّبة وبالاستنارة بمعارف العصر في إعادة قراءته. وهذا الانتقال في ظنّي، وأنا أستحضر ما تيسّرت لي قراءته من مكتبة طرابيشي الضخمة، دليل ناصع على أنّ الرجل عاش أسئلة ثقافته المتدافعة المتجدّدة بإصغاء المثقّف إلى نبض البحث الحيّ وباستعداد متواصل لمراجعة النفس كلّما اقتضت حركة الفكر في عمق السياق الثقافيّ ذلك.
أيّها الحضور الكريم، 
اسمحوا لي أن أتحدّث عن علاقتي بجورج طرابيشي الذي ألتقيه اليوم لأوّل مرّة. فنحن من جيلين متباعدين في الزمن لكنّنا متواصلان في الفكر ورهانات الكتابة والفعل الثقافيّ وذاك كلّه عابر للحدود جميعا أجيالا وأعمارا وأوطانا واختيارات إيديولوجيّة.
 كنت مثل جلّ أبناء جيلي من مرتادي مدرسة الجمهوريّة أطالع باللّغتين بيد أنّني نهلت الكثير ممّا يخصّ ثقافة الغرب الحديث من بعض ما عرّب طرابيشي في الماركسيّة خصوصا والفلسفة عموما. وما كنّا نهتمّ بلغة الكتاب بل بروح اللّغات ولغة الفكر في المكتوب. وأكثر ما كان يشدّنا في ترجمات طرابيشي انتخابه لمؤلّفات فاتحة ولعناوين جاذبة واختيار المرء في عبارة الجاحظ قطعة من عقله. نعم، وأضيف، وأنا أتحدّث عن جورج طرابيشي، هذا الاختيار قطعة من مشروعه الفكريّ النقديّ. فهذه الاختيارات كانت تفتح لنا آفاقا واسعة وتنبّهنا إلى كتّاب ومفكّرين مهمّين. ولا أريد أن يحمل قولي على أنّه رغبة عن الحديث عن محتوى ترجمات الرجل، فمنكم من سيتحدّث عنها حديث العارف المختصّ لا المتذكّر مثلي. غير أنّني شخصيّا مازلت إلى اليوم استخدم، من حيث أدري ولا أدري، العديد ممّا اقترح في باب المصطلح الفلسفيّ والنقديّ. وهذا دليل قويّ، في ما يبدو لي، على أنّ الكثير ممّا قدّمه في باب تحديث العربيّة وثقافتها تسرّب إلى لغة جيلي على الأقلّ فأثّر تأثيرا يصعب قيس مداه في أفكارنا وأسلوب تفكيرنا ولكنّه قائم بلا خلاف.
و إلى اليوم أذكر زيارة جورج طرابيشي إلى تونس سنة 1982. كان الفتى سنتها من تلاميذ الباكالوريا وقد قرأ بعناية وتركيز كتابه عن الحكيم، "لعبة الحلم والواقع" وهو منبهر بعمق التحليل وطرافة المأخذ وجدّة المداخل إلى مدوّنة الحكيم. وقد استقبله يومها بدار الثقافة ابن رشيق جمع غفير من المثقّفين والتلاميذ كما كان الكتّاب الجادّون يستقبلون زمن كانت الثقافة مطلبا أساسيّا في مجتمعنا.
وأحمل في جراب الذكريات استياءً من محاضرة جورج طرابيشي مردّه نقده اللاّذع لأديب محبوب عندنا تربّينا على كتاباته وفنّه. كان الفتى الغرّ يومها يعتقد انّ الكتّاب الكبار لا يطيح أحدهم بالآخر رغم اطلاعه على تشنيع ماركس بهيغل وهجاء لينين، ببذاءة مدهشة، على كاوتسكي. بيد أنّ الفتى الذي كانَ أصبح اليوم يتفهّم أنّ موقف طرابيشي من الحكيم وغير الحكيم محمول على نزعة نقديّة جذريّة، وقائم، في كثير ممّا كتب، على السجال الفكريّ وتوليد الرأي من الرأي المضادّ بقدر ما هو قائم على جرأة أدبيّة في ثقافة ترتاب من النقد والجدل غارقة في نرجسيّات لا تفصل بين الكاتب ومقالته.
والحقّ أنّني من الذين كانوا يقبلون دوما على قراءة كتابات طرابيشي فيجدون متعة المعرفة وبهجة القراءة بسبب ما فيها من حيويّة فكريّة. فكتبه تمتّع وتثقّف. وفيها ميزة أخرى أظنّ أنّها من صفات الكتابات الصادرة عن حيرة وهمّ ثقافيّ أصيلين: إنّها كتب تغيّر ما بنفسك إذ ترجعك إليها لتراجع ما استقرّ في عقلك وتلقي عليك من الأسئلة عسيرها بما فيها من نبرة سجاليّة مرتفعة، وإذ تنقل إليك هواجسها وإشراقاتها بما فيها من مخالفة لللمعهود أو سعي إلى قول ما لم يقل. وأنا ممّن تستهويهم مثل هذا القراءات التي هي بمثابة دعوة إلى رحلة شاقّة شيّقة، مرهقة ممتعة لأنّك تخرج منها على حال غير التي دخلت بها إليها. وما الذي يطلبه المرء من الكتّاب أكثر من هذا؟
أيها الحضور الكريم،
اسمحوا لي بان أرحّب باسمكم بالأستاذ جورج طرابيشي وان أعبّر عن ابتهاجي بهذا اللّقاء المعرفيّ حول مكتبته الزاخرة راجيا له دوام الصحّة ليواصل بعقله الشابّ على الدوام إشعاعه وإسهامه في مشروع التنوير والتحديث بنقد الأوهام القديمة والمعاصرة في آن.

وأرجو لكم جميعا أن تستمتعوا بهذه المأدبة الثقافيّة الفاخرة الحافلة بأطاييب الفكر النقديّ.                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                            

Aucun commentaire: