jeudi 30 mai 2013

الجامع والجامعة




1
لا أجد اسما لما وقع غير الضحك على الذقون.
وقعت القصّة في رحاب جامع الزيتونة المعمور بعد أن خرج عن سيطرة الدولة ووزارتها الراعية للشأن الدينيّ. كان ذلك بمناسبة الذكرى الأولى لما سمّي باستئناف التعليم الزيتونيّ الأصليّ. وليس في الحدث ما يدعو إلى الدهشة فهو نتيجة منطقيّة لمسار سابق متواصل. لكنّ الطريف هو أنّ من نصّب نفسه، في غمرة الفلتان ونشوة الحرّيّة إماما أعظم، اكتسب هذه السنة شرعيّة اغتصاب الإمامة من النبيّ الأكرم مباشرة. فقد فكّر الإمام المنتصب تلقائيّا في التخلّي عن المنصب المغتصب لكنّ الرسول زاره في المنام ليثنيه عن عزمه داعيا إيّاه إلى مواصلة رسالته التطهيريّة للجامع حتّى يستعيد عافيته العلميّة.
بيد أنّ هذا الشيخ الإمام لا يُعرف له نسبٌ عائليّ شريف يشرّع له ،كما شرّع لمن سبقه، الإمامةَ  ولا يُذكر له تأليفٌ علميّ أو اجتهاد فقهيّ يستند إليه في الأحقيّة التي زعمها. فقطْ تمّت الأمور في غفلة من الجميع ثمّ، لأمر مّا، باركه وزيرا التربية والتعليم العالي والشيخ الأكبر زعيم الحزب الحاكم في البلاد رضي الله عنه. وهاهو منذ أيّام يضيف إلى مباركة السلطة السياسيّة شرعيّةً نبويّةً وإن كانت في المنام.
هذا شأن الجامع وشيوخه نعرضه ولا رأي لنا فيه غير الاستغفار والحوقلة وكلاهما لا يهمّان أحدا غير من أنشأهما على وجه الدعاء أو غيره من الوجوه التي قد يحملان عليها في مثل هذه المقامات. ولسنا نهتمّ في هذا بالخصوص بتحديد الذقون التي ضحك عليها الشيخ ولكنّنا سننتظر من سيضحك في نهاية الحكاية السمجة ضحكا كالبكاء.
2
 ما يعنينا من حفل إحياء الذكرى الأولى لما سمّى باستئناف التعليم الزيتونيّ إنّما هو تعبير أحد مهندسينا البارعين العاملين في أرقى مراكز البحث الأمريكيّة عن نيّته في إحداث " جامعة زيتونيّة لعلوم الطبّ والهندسة" ( كذا!).
نعم خرّيج المدرسة الوطنيّة للمهندسين بتونس وابن مدرسة الجمهوريّة الحديثة والباحث في جامعات كندا والولايات المتحد الأمريكيّة تأخذه الحميّة، حميّة مّا، فيلقي الكلام على عواهنه.
نتفهّم أن يكون الوفاء لأب زيتونيّ كان يصحّح المصاحف المطبوعة في بلادنا عاملا من عوامل الحماسة، و قد نجد في رمزيّة الجامع الأعظم ومكانته في القلوب ما يبرّر هذه الحميّة ولكن أن تنقلب الحميّة والحماسة إلى جامعة للطب والهندسة فدون ذلك، في تقديرنا، خرط القتاد كما كانت تقول العرب أو لعلّه مصداق لحكمة الأجداد "إنّ البلاء موكّل بالمنطق".
فإذا كانت الزيتونة رأسمال رمزيّا مشتركا فكلّ جامعاتنا زيتونيّة بمعنى من المعاني أصلها أضحى، منذ نصف قرن، ثابتا وهي ترنو إلى أن تعانق فروعُها السماء وإن لم يكن من الممكن، في عصرنا هذا، أن تكون لا شرقيّة ولا غربيّة إلاّ على معنى أنّ العلم كونيّ كلّيّ.
 أمّا إذا كان القصد من وعد المهندس البارع تدريس الطبّ والهندسة تحت إشراف نظارة الجامع المتكوّنة من شيوخ لا يفقهون إلاّ في الدّين، وهذا من باب المسامحة وحسن الظنّ، فهو لممّا يخالف نواميس الجامعات ومعاييرها في العالم كلّه فيكون لنا اسم ولا مسمّى تحته. والأرجح أنّه من باب اللّغو الذي لا يصدر عن عاقل يعرف العلم والتعليم والبحث والجامعة وكيفيّة تسيير شؤونها.
3
 إنّ الجامعات اليوم، لمن يطلب النهضة العلميّة الحقّ، ليست بناءات وأموالا وتسميات. بل هي أساليب في إدارة الشأن الجامعيّ بيداغوجيّا وأكاديميّا، وهي كفاءات من أرفع طراز وبرامج ومسارات دراسيّة لها مواصفات دوليّة وبحوث وإنتاج علميّ نظريّ وتطبيقيّ وترقيات على أساس منشورات علميّة محكّمة في مجلاّت عالميّة يصدر أغلبها بالأنجليزيّة أساسا.
فإذا كان مهندسنا البارع في علم الحيل، أو الميكانيكا كما تقول الفرنجة، قد باع الحضور الكريم من الشيوخ، على سبيل الحماسة التي يدعو إليها المقام، فقد حقّق غايته في الإشباع النفسيّ لمن استضافه وكرّمه وكرّم والده الشيخ وإذا كان جادّا في قوله فليس لنا إلاّ أن نحوقل ونستغفر مرّة أخرى.
فالجامعة مفهوم حديث، وهي غير الجامع، ومؤسّسة لا يُدرّس فيها إلاّ ما اتفقت عليه الجماعة العلميّة العالميّة. فما الهندسة التي ستدرّس في الجامعة الزيتونيّة الموعودة ولا نجدها في مدارس الهندسة المنتشرة بالبلاد؟ وما نوع الطبّ الذي لا تحترم جامعاتُنا الحاليّة قواعدَه وفنونه ومراسمه؟
إنّ لجامعاتنا ولمنظومة التعليم في بلادنا من العلل والأمراض ما يكفي. وهي تتطلّب، بعد عقد النيّة وصحّة العزم والإرادة السياسيّة الواضحة، وقتا طويلا وجهدا سخيّا لعلاجها. ولا أظنّنا نحتاج، خصوصا من نوابغنا الذين خبروا حقيقة العلم المنتج النافع لدى صنّاعه، أن يشاركوا في حفل صبغ العلم والتكنولوجيا بالإيديولوجيّات الزائفة والهوّيّات المأزومة حتّى لا يكون المآل مزيدا من الضحك على الذقون فنجد أنفسنا جميعا مع آخر الضاحكين ...ضحكا كالبكاء. 

3 commentaires:

Anonyme a dit…

مع صحة ما ذهبت إليه بخصوص الجامع، إلا أن جامعاتنا لا تقل سوءًا عن الجامع فهي في ذيل الترتيب العالمي، و خاصة الجامعة التي تترأسها يا من تدعي معرفة المعايير. الجمل كان يشوف حدبته تتقطع رقبته

chokri a dit…

إلى الأخ الذي لا يتجرّأ على ذكر غسمه ويسمح لنفسه بالتهجّم على الآخرين .
أوافقك على أنّ ترتيب الجامعات التونسيّة أردأ مما تتصوّر. ولكن يبدو أنك لم تفهم بعد أن الحديث عن المكعايير له أهله والحجامغة التي أشرف عليها منذ سنة ونصف جزء من منظومة لاأتحكم فيها شخصيّا بسبب غياب الاستقلاليّة الحقيقيّة للجامعات في تونس وهو قرار سياسيّ وليس فرديّا.
زد على ذلك أيها المجهول أن الجامعة التي تتحدث عنها تحسن ترتيبها العالميفي السنة والنصف التي أشرف فيها عليها بأكثر من ألفي نقطة بوسائل بسيطة و إمكانات ذاتيّة رغم السياق المستحيل الذي يهتمك فيه أمثالك بالتنبير لا بالعمل الجاد وزالتشخيص الدقيق للمشاكل.
وهذا بفضل المعرفة بالمعايير . وقد تحسن الترتيب وهو غير مرض في جميع الحالات رغم أن الجامعة التي يشرف عليها صاحب المدوّنة أكثرها في الإنسانيّات وهي لا تؤخذ بعين الاعتبار في الترتيب والتصنيف.
شكرا على مرورك وتنبيرك وخصوصا تشخيصك للمشكلة وربطها بشخصي الفقير إلى ربّه

Lotfi Aïssa a dit…

لطالما خلنا حصانة بالعلم والسماحة من لوثة الغوغائيين، مستبعدين أن
يكون لهم موطئ قدم تحت سمائنا. لكن بائعي الأوهام المتاجرين بالدين ممن يهابون ظلالهم ويتوجسون خيفة من أمراض أنفسهم، هم من يدفعون نحو إغراق سوق المعرفة بمغلوث نقدمهم، مُحتسبين إفكا على صانعي العقول المتنورة الناهلة من منابع المعرفةالرصينة المحترمة لذكاء التونسيين العارفة بتقاليدهم وعادتهم،المحترمة لمقدساتهم.