dimanche 12 mai 2013

دستور الورقة البيضاء



1
لم يكن ثمّة من سبب وجيه للانطلاق من ورقة بيضاء في كتابة الدستور عدا ما يحمله مفهوم الثورة ذاته من معنى القطيعة والانفصال والبداية من أرض محروقة.
ثمّة ولا شكّ في كلّ نزعة ثوريّة حلمٌ بالتأسيس على فراغ، وبياضٌ ملازم للطهارة. ثمّة في كل ثورة اشتهاءُ الولادةِ من جديد بما في الولادة من نقاء وصفاء وبراءة.
بيد أن التاريخ بتعقّده ومكره ومنطقه يأبى الفصل، وإن شبّه لنا، ويكره الفراغ ويمدّ لسانه هازئا بالطهرانيّة المبالغ فيها.
والحقّ أن اليسار التونسيّ الفاشل المغرم عبر تاريخه بالطهر الثوريّ الكاذب، الحالم بمدينة لسنا متأكّدين من أنّها فاضلة حقّا، هو الذي بدأ فكرة التأسيس، مجلسا ولجانا لحماية الثورة ودستورا يعيد صياغة المواطنة والدولة بدأ حتّى بإفساد اجتماعات الخصوم بعد الثورة.
مزايداتٌ في سوق الأحلام الجميلة الشيّقة سرعان ما أصبحت وبالا على من استنبطها و صدّقها ثمّ رواها ونشرها بين النّاس.
كان اليسار يتوهّم، كعادته، أنّه الناطق الرّسميّ باسم الثورة حتّى لكأنّ نضال أجيال متعاقبة منه عذاباته وأدبيّاته واحتجاجه المتواصل يمنحه شرعيّة الحديث عن الجماهير والشعوب والفقراء والمضطهدين. وهاهو اليوم يحلم، مجرّد حلم بائس، بأن يبقى بعض الماضي الذي يراه مشرقا أمام زحف من يعتبرهم فقهاء الظلام. فلا شيء نهائيّا في التاريخ الذي قد يكون لولبيّا لا خطيّا يتّجه إلى الأمام ...إلى ميتافيزيقا التقدّم.
كم يلزم هذا اليسار الغبيّ الذي لم يغادر مربّع الوهم من الوقت كي يدرك أنّ شعبا ربعه في فقر مدقع وأكثر من ثلثه لا يفكّك حرفا سيدافع، حتما، عن حقّه في الجهل المقدّس وإيمان العجائز؟
كم يلزمه من الوقت ليدرك أنّ الأغلبيّة اليوم تعبير أمين عن عجز حداثة معطوبة عن تحديث العقول والإرادات وعن خطاب ثوريّ بليد منقول من الكتب الحمراء التي أكلتها الجرذان؟
2
جاؤوا من هناك، من المنافي التي استجاروا بها من رمضاء القمع. وجدوا في تلك الديار دساتير تحترم الكائن البشريّ وحرّيّاته باسم حقوق كونيّة مكفولة للجميع. وحين عادوا من المنافي ليسرقوا الدماء والأحلام مستعيدين كوابيسهم القديمة طفِقوا يشكّكون في كونيّة الحقوق التي تمتّعوا بها هناك في الغرب الكافر. ..حين عادوا بين ظهرانينا تذكّروا أصولهم الصافية الموهومة وهوّيّتهم النادرة العزيزة وخصوصيّتهم الثقافيّة الرائعة المتطوّرة.
تذكّروا فجأة أنّ شعبهم الفقير الجاهل أو المتعلّم الميسور، على حدّ السواء، لا يستحقّ بعض ما تمتّعوا به ...هناك في دار الصليب. هكذا أخذوا يناورون من أجل غرس بذرة الاستبداد الدينيّ في دستور أراده غيرهم ورقة بيضاء فاستغلّوا الفرصة السانحة ليسوّدوه بما في بواطن الكتب الصفراء من قديم القيم وفاسد التصوّرات.
هكذا هي الإرادة الشعبيّة التي تولّد الأغلبيّة فتصبح البداية من أرض محروقة إعلانا عن الانتقام من مسار التحديث ورموزه ومن الدولة وقيمها الجمهوريّة المستوردة. لتموتوا إذن بغيظكم..موتوا بالسمّ الذي وضعتموه في الورقة البيضاء.
3
لم يكن ثمّة من سبب للانطلاق من الورقة البيضاء عدا الوهم والحلم. فلن ننسى، أيّها الرفاق المناضلون المبدئيّون جدّا، أياديكم البيضاء علينا. لقد سوّدتم وجوهنا أمام الأمم.
 نعْمَ الخصوصيّات الثقافيّة التي تأبى لنا أن نكون مثل خلق اللّه حريّةً وكرامةً. لتحيى الدولة الاستبداديّة الناشئة باسم الواحد الأحد ومندوبيه على الأرض. ولتتمتّعوا بدستوركم الجديد الأبيض وأوراقه البيضاء: أوراق بيضاء تنضح ثوريّة ادّعاها اليسار الواهم الخائب ، وسعي إلى محو التاريخ الحديث حتّى تصبح البلاد ورقة بيضاء يكتب فيها الذين يدّعون الخوف من المولى القدير استبدادهم الآتي.
فلتموتوا جميعا بأوهامكم ..لهذه الأرض ذاكرتها الخصبة ودستورها الأصيل..ففيها حقّا ما يستحقّ الحياة.
                                      

1 commentaire:

ابن الحلفاوين a dit…

قلما قرأت كتابات بهذا المستوى من القوة البلاغية والوضوح المتني. شكرا على المقال دكتور