lundi 27 juin 2011

" نحّي يدّك على مبدعينا "


   
  
   مفارقة غريبة حقّا: تظاهرة ثقافيّة دفاعا عن حرّيّة الإبداع تنقلب إلى تكبير وتكسير وتهديد وترهيب وعنف واعتداء.كلّ ذلك من أجل شريط وثائقيّ لــــ " ملحدة" تهاجم في نظر المعتدين الغاضبين "الإسلام" .


      لم أشاهد الشريط ولم أحضر التظاهرة ولكنّني قرأت على الفايسبوك بعض التعاليق التي أقتطف منها نتفا لا يهمّ قائلوها فكثيرها يتكرّر لفظا أو معنى:( تفصيح الكلام أو تعريبه من عندنا)
   * "علينا أن نرفض هذا النوع من الأشرطة (...) في ديننا وتقاليدنا حدود حتّى في الفنّ والإبداع"
   * "العنف غير مبرّر بل من شأنه أن يؤزّم الموقف ويصبح ذريعة للملحدين حتّى يصبحوا هم الضحيّة ويمرّروا بذلك مخطّطاتهم المسطّرة لطمس الهوّيّة العربيّة الإسلاميّة بداعي حرية التعبير"
* "مبالغ خياليّة لتسويق الكفر باسم الفنّ "
* "الفيلم المعروض يدعو إلى الإلحاد وهذا استفزاز"
* " التهكّم والاعتداء على الذات الإلهيّة وعلى الإسلام خطّ أحمر لأنّ تونس دولة مسلمة فإذا كانت هناك حرّيّة تعبير أو ديمقراطيّة ففي إطار دين الحقّ ، دين الإسلام"
* "القوى الظلاميّة هي التي تعادي هوّيّة الشعب ولا تجد الإبداع إلاّ ضدّ مقدّسات هذا الشعب"
* " هناك فرق بين أن تعلن إلحادك الفرديّ وأن تتهجّم على أقدس مقدّسات شعب بأكمله يؤمن باللّه على اختلاف درجات تديّنه"
* "ما الحكاية؟ هل ستصبح نادية الفاني وأفلامها الهزيلة بشهادة النقّاد شهيدة الفكر ورائدة الإبداع؟"
*هل ستصبح تلك الصلعاء شهيدة الفكر؟؟؟؟ أندافع عن سينما عصفور سطح والمخدّرات والشذوذ والجنس والسباب؟"
* "يحيى الأبطال الأشاوس الذين يقاومون عملاء الصهيونيّة والماسونيّة"
* " حيّى اللّه الرجال الصناديد"
    
  هذه نماذج من التعاليق التي سجّلناها مثلما سجّلنا تعاليق المندّدين بما وقع والمتخوّفين من " جحافل الإسلاميّين" و " أحفاد الخلافة" والمدافعين عن الثقافة وحرّية التعبير والفنّ والإبداع والديمقراطيّة.ولكنّها لفرط بداهتها لدى قطاع من نخبنا التونسيّة فإنّنا لن نذكرها.
   و الأرجح عندنا أنّ العنف الذي تفجّر بسبب الشريط السينمائيّ سيتكرّر في قادم الأيّام مادام صراع المواقع الثقافيّة والسياسيّة واستعراض العضلات باسم الدفاع عن الهويّة والإسلام والخطوط الحمراء مستمرّا كالندوب والدماميل التي كشفت عنها الثورة التونسيّة بعد أن أخفاها الاستبداد في السجون والمنافي وكمّم الأفواه التي تقولها ليستبدلها بلغة خشبيّة مبتذلة عن التسامح والتفتّح والاعتدال مانعا الصراع المحتوم من أن يصل إلى مداه.
     وقد يكون التنديد بما وقع ، سواء أصدر عن الأفراد أم الأحزاب أم الجمعيّات، ضروريّا.
     وقد يكون التذكير بالحقّ في التعبير والتفكير وحرّية المعتقد والضمير واجبا.
     وقد يكون الحلّ الآنيّ كامنا في تشغيل آليّات الحماية الأمنيّة والمتابعة القضائيّة ودعوة الدولة إلى صون حرمة الأفراد وحريّة الفنانين والمبدعين.
     غير انّ متن الإشكال ، في ما نرى ، واقع في حيّز أعمق من إفساد تظاهرة ثقافيّة أو الاعتراض على شريط مهما كان مساسه بالدين أو استفزازه للمشاعر الدينيّة لدى المؤمنين بدءا من عنوانه: " لا ربي لا سيدي" مع ترجمة فرنسيّة تستدعي الشعار الفوضويّ الشهير.
    فحدود الاستفزاز غير مرسومة بوضوح بل هي أشبه بالسراب تمطّطا وانحسارا.والأصل في اللّعبة اكتساح البياض لرفع الأعلام السوداء وتحويل الأصوات المتعدّدة المتنافرة إلى إيقاع واحد متناغم وإن كان تناغما موهوما.
     إنّنا امام صراع ثقافيّ أساسه الاستقواء بالحسّ المشترك وثقافة الجموع وهويّة الشعب وثوابته ومقدّساته ودينه مع توابل من أهداف الثورة وأرواح الشهداء ...إلخ.كلّ يدّعي وصلا بالشعب والثورة رافعا عقيرته بشعار " الشعب يريد ..." مالئا الفراغ بما يشاء ليتكلّم تارة باسم السماء وأخرى باسم الأرض.ثقافة " حامي الحمى والدين " تتناسل في صور أخرى ويجسّدها فاعلون آخرون باسم " الثورة المباركة المجيدة".
     والواقع أنّنا لن نحقّق الديمقراطيّة التي يتشدّق بها الجميع ولن نبلغ الحرّيّة التي يزعم حتّى أعداؤها القدامى الدفاع عنها إلاّ إذا أمكن للواحد منّا أن يعيد النظر في هذه المفاهيم وأن ينقدها دون أن يقف له وصيّ من أوصياء الربّ أو الشعب ، بتوكيل رسميّ أو بدونه، ليتهمه بالمروق والخروج عن الصفّ و إجماع الأمّة والشذوذ والزندقة  ودون أن يقوم له موتور مصاب بداء الهويّة أو الثوريّة الطارئة ليعمل فيه مبضع التخوين أو التكفير والارتداد شاهرا عليه سكين النحر على مذهب أتباع بن لادن أو ماء النار أو متفجّرات مصنوعة محلّيّا ....أو حتّى أنبوب غاز مشلّ للحركة مثلما حدث في قاعة سينما أفريكا آرت.
    إنّنا سنشهد على الأرجح صراعا مديدا بين أنموذجين ثقافيّين ونظرتين إلى الحياة :
     أنموذج  يبيع بضاعة معلّبة مستنسخة من أوهام التاريخ يستمدّ مادتها من الجماعة والملّة والأمّة والثوابت والعقل الفقهيّ المتشكّل في التاريخ والمتعالي عليه في آن واحد .وهو أنموذج يضفي القداسة على كلّ شيء من علاقة المؤمن بخالقه في تلك اللّحظة الرائعة الصافية إلى التعامل البنكي و آداب النكاح بحثا عن منظومة شاملة ترافق الفرد من المهد إلى اللحد وتزعم امتلاك قلوب الجماهير التي تعشّش فيها الحقيقة النهائيّة ، حقيقة العجائز والموتى الذين يحكموننا من وراء قبورهم .
   وأنموذج ينبني على السلب الجذريّ الذي يتغذّى من الفرديّ والخصوصيّ ويحفل بالزائل واللاّمفهوميّ منغرسا في التاريخ وقسوته بعيدا عن أَمْثَلة الواقع القائم.إنّه أنموذج قوامه مخالفة المشترك والجماعيّ : ينزع عن العالم حجاب القداسة ليراه في بشاعته ويعمل على إدخال الفوضى في المنظومات لدكّها وفضح بؤسها راغبا عن الانتشار بين الجماهير للتأثير فيها بقدر ما يرغب في حقيقة تطلب فلا تدرك.
      فما الذي ينتظره أهل الطمأنينة واليقين والهوّيّة المقدّسة من أهل الفنّ والإبداع؟ وأيّة حدود وخطوط حمراء يتحدّثون عنها؟
    لذلك رجحنا أنّ ما حدث سيتكرّر ، ولذلك لا ننتظر من الأحزاب القائمة بدينيّها ولائكيّها كلّيّا أو جزئيّا و بيمينها ويسارها ووسطها أيضا أيّ مشروع ثقافيّ حقيقيّ.
   كنت وستظلّ وحدك أيّها المبدع ... وحدك في العراء تكتب بدم القلب أسطورتك الشخصيّة لتقول بها ، يا للمفارقة، ما يريد مجتمعك البائس أن يقوله فينعقد لسانه.حينها، وحينها فقط، ستترجم بلغتك الفذّة ما قاله الشابيّ الذي حاصره مثلك المتزمتون وهاجمه حماة الحمى والدين : " الشعب يريد...." ولكن على ما قصد الشاعر لا على ما فهم مكفّروه القدامى والجدد.      

3 commentaires:

Anonyme a dit…

اصطفاف واضح مع المنطق الاستفزازي رغم الكلمات المات المنقة. لم يقنعني قولك يا سيدي الكريم رغم الوشاح من الموضوعية الذي تلفعت به لكنه يشف عنك ويهتك اعوجاج ظلك

chokri a dit…

" اصطفاف" و" اعوجاج " و " استفزاز" :نعم ولكنك تنسى اصطفاف من يدّعي أنّه الوحيد الذي يمتلك ترخيصا من الرب والشعب لفرض الحقيقة
وتنسى اعوجاج المنطق الذي لا يرى الحرّيّة إلاّ وليمة لآكلي البشر والأفكار وتنسى استفزاز من يستعمل العنف اللفظيّ والجسدي والتهديد بالنحر
إذا كنت تنسى هذا كلّه فلم تبحث عن الاقتناع
تحياتي وشكرا على تعليقك

Lotfi Aïssa a dit…

Voilà un exemple concret de ce que l'exaltation excessive autour du premier amendement de la constitution peut nous réserver pour le présent comme pour le futur...
A qui revient le droit de détenir ce "fond de commerce" identitaire?
Jamais je n'oserai une réponse. La raison réside peut être dans cet adage "Fontaine je ne boirai jamais de ton eau"...
Ecriture des marges, stimulante comme à l’accoutumé.
L.