vendredi 10 juin 2011

حول قصيدة "تمرين على كتابة يوم الجمعة 14 جانفي 2011" للمنصف الوهايبي




هل الشعر بمعزل عن الدين حقّا؟
   اصطفاف في الفايسبوك حول قصيدة منصف الوهايبي "تمرين على كتابة يوم الجمعة 14 جانفي 2011" قدحا ومدحا ،وصراع التأويلات والفيديوات تلبيسا وتوضيحا :استنكار باسم الدين والمقدّس واسنكار للاستنكار باسم الدفاع عن حرّية المجاز والتخييل والتعبير.
   ولا يخفى في هذا الاصطفاف التداخل بين الشعر والدين مع بعض التوابل السياسيّة "لتوريط" أحد الأحزاب بمعاداة الإسلام والدعوة إلى الكفر لأن الوهايبي قرأ قصيدته في لقاء سياسيّ بمدينة صفاقس فبتر أحد مناضلي الفايسبوك منها مقطعا قصيرا لاتهام حزب "التجديد" والشاعر الذي يكتب في صحيفته " الطريق الجديد" بما يثير ضدّهما الرأي العام والغيورين على دين البلاد وهوّيّتها ومقدّساتها.
    والردّ الرسميّ للشاعر والحزب كان على وجهين:أمّا الشاعر فقد ذكّر بمبدإ نقديّ قديم في التراث العربيّ الإسلاميّ مفاده " الشعر بمعزل عن الدين" (والتعبير للقاضي الجرجاني في كتاب " الوساطة بين المتنبّي وخصومه")، وأما الحزب ففي بيان له قرأناه بالفرنسيّة فقد ذكّر بأن" تونس مسلمة وستظلّ " كذلك.
   هذا متن الاتهام والردّين باختزال شديد وهذه حاشيتنا بإيجاز .
   فالمعلوم أنّه ليس بدعة في تاريخ الثقافات العريقة ، بما فيها الثقافة العربيّة الإسلاميّة،أن يقيم المبدعون علاقة ما بالنصوص التأسيسيّة الكبرى الفاتحة لأبواب ( براديغمات ) في المعرفة بالكون والإله والإنسان ، ومنها وبالخصوص النصوص الدينيّة،والنصوص البانية للهوّيّات ، المنشئة لسنن في القول ولمعاني الوجود.
    إنّها متون تُوَلّدُ منها نصوص تشرحها أو تفكّكها فتبني عليها بتحقيقها وتشقيقها ونقدها ونقضها أحيانا.فهذا قدر النصوص – المتون الكبرى: أن تفتح فضاءات القول والتساؤل واسعة وأن يُرشّح الكتّاب استعاراتها الأساسيّة وأن تبني الخطابات المختلفة استنادا إليها ، توافقا واختلافا، معانيها وتصوّراتها.
   إنّ الذين يعضّون على النصوص الدينيّة ومتون الهوّيّة بالنواجذ ويخشون عليها من مجاز شاعر أو لعب مفكّر أو نقد زنديق أو تحامل ملحد ليصدرون عن نظرة مريبة مرتابة أساسها هويّة أوهى من خيوط العنكبوت.إنّهم لا يرون النصوص الثريّة المخصبة إلاّ تكرارا محضا وتعاودا مملاّ تسبيحا واجترارا يذهبان بمائها حتّى يجفّ نبعها الثرّ ويزيلان عنها جدّتها المتجدّدة حتّى تستقرّ في قوالب من القول لا تقول معنى ولا تعرب عمّا في الضمائر.
  والبيّن أنّ الوهايبي بنى نصّه على معنى ناظم يلتمس فيه صمتا مطبقا لكل شيء في تلك الجمعة الخالدة ، جمعة 14 جانفي 2011،بما في ذلك أذان الصلاة وترتيل القرآن :

هذه الجُمعَهْ
أغاني الرّعاهْ
أذانُ الصلاةْ
قلْ لهمْ: لا تُصلّوا
ولا تقرؤوا الفاتحهْ
هذه الجُمُعهْ
وقفوا مثلما يقفُ التونسيّونَ والتونسيّاتُ في هذه الجمُعَـهْ
رتـّـلوا:الحمدُ للشعبِ سيّدِنا أجمعينْ
رتـّـلوا:الحمدُ للشمس وَهْوَ يكوّرُها في يَـدَيْـهْ
نحنُ مِنـْـهُ ونحنُ لهُ إذ نكونُ علـيـْهْ
رتـّـلوا صامتينْ
رتـّــلوا:الحمدُ للأرضِ وَهْوَ يدورُ بها
ويُدوّرُها في يَـدَيـْهْ
وإذا كان لا بدّ من توْبةٍ أو صلاة
فتوبوا إليهِ.. وصلّوا عليه
ليشارك الجميع في لحظة الخلق الاستثنائيّة.وخلال ذلك كان التفاعل مع بعض الآيات استلهاما لزمنيّة الإنشاء من عدم واستحضارا لقدرة الشعب الكليّة على الإبداع.
إنّه صمت مطلوب إذ يرحل الطاغية ويهرب، للإصغاء إلى تلك اللحظة الشعريّة القصوى التي تَخْتَزلُ ، في بعدها الإنساني العام والأسطوريّ العميق، الزمنَ التونسيّ : ما مضى منه وما هو آت:
فـَلْـنـَكـُـنْ كلّنا أذُنا صاغيهْ
كلُّ شيءٍ هنا صامتٌ.. فاسمعُوا
هوَ ذا وقـْعُ أقدامهِ.. الطاغيهْ
وهْو يرحلُ.. أو وهْو يهربُ..
أو وهْو يمضي إلى حيثُ يمضي
سريعا بطيئا..سريعا.. بطيئا..بطيئا
لِيرقدَ في جثةٍ خاويهْ
       ومن المعلوم أنّ في كتابات الوهايبي منذ زمن بعيد محاورةً للنصوص القديمة عامّة الشعريّ منها والقرآنيّ والصوفيّ.فهو شاعر مثقّف ثقافة واسعة ملمّ بالعربيّة وأسرارها إلماما كبيرا. وهو إلى ذلك يعرف حقّ المعرفة أن الشعر والدين والأسطورة أنماط من الأقاويل قدرها أن تتعامل في ما بينها.
    وقد تكون قصيدته هذه أقلّ تعبيرا عن هذا الجانب في شعره ولكنّنا لا نعدم بينها وبين القرآني صلة تفاعل لا ينفع معها القول بأنّ الشعر بمعزل عن الدين إلاّ على معنى أن الأحكام التي تنسب إلى الدين ، فقها وتشريعا،لا يُقيَّمُ بها القول الشعريّ ولا يُحْكم عليه من خلالها.فالشعراء ،لا الفقهاء ، أمراءُ الكلام ومولّدو المعاني يجوز لهم ما لا يجوز لغيرهم.
    ولا نظنّ أنّ للإسلام ، دينا وثقافة  ،علاقةً بالأمر.فأن تكون مسلما ، أمسِ واليومَ، لا يعني ألاّ تكون مبدعا محاورا للنصّ المؤسّس.بل لعلّه من شروط الإبداع الانتماءُ إلى ذاكرة هذه اللّغة أو تلك.
    ولا نظنّ أن الانتماء إلى مجتمع مسلم مدعاة إلى الخضوع للمصابين بداء الهويّة الدينيّة  والمنشدّين إلى صورة ضامرة وهنة منها أو المدمنين على نسخة محنّطة قاتلة من نسخها.ففي جميع الثقافات والمجتمعات مقدّسات و رأي عام وحسّ مشترك يعمل فيها المبدعون والمفكّرون معاول النقد والتفكيك بلا هوادة.
    لذلك ،إذا تركنا جانبا التوظيف السياسيّ للقصيدة لأمر في حسابات "فقهاء الهوّيات الغبيّة" وأتباعهم ،فإنّ الإقرار بهوّيتنا العربيّة الإسلاميّة، وهو ما نتبنّاه وندافع عنه ،لا يعني التسليم بتحويلها إلى موضوع يحرّم النقاش في شأنه أو يمنع نقده.فالهويّة ونقدها وجهان متلازمان و لا يمكن بناء عليه الخضوع للرأي العام والحسّ المشترك وموقفه من الهويّة فالمسألة عندنا فعلُ كتابةٍ وعملُ إنتاجٍ لمعرفة بالهويّة من خلال نقدها بالمفاهيم والأنساق أو بالمجازات والاستعارات.والنقد في هذا الباب، من بعض معانيه، وضع الهويّة في أزمة مخصبة حتّى لا تتكلّس فتفتقر أو تمرض فتصبح مميتة.


     

2 commentaires:

محمّد الحاج سالم a dit…

رائع أنت كعادتك يا أستاذ شكري في تفكيك أنساق الخطاب ، أستسمحك في استضافة هذا "المضادّ الحيوي" فى موقع "مكتبة الشعب الكريم" حتى ينتفع به عموم أفراد "الشعب الكريم". مع تحياتي.

Lotfi Aïssa a dit…

Longue vie et bon vent...