mardi 12 mars 2013

صناعة الدّكتاتور




1
تبدو مسألة الاستقلاليّة محورًا حارقًا في ثقافتنا السّياسيّة اليوم. حديث هنا وهناك عن استقلاليّة القضاء والهيئة التّعديليّة للإعلام وهيئة الانتخابات واستقلاليّة الجامعات. و مسألة الاستقلاليّة مطروحة أيضا بالنّسبة إلى منظّمات المجتمع المدني والمنظّمات المهنيّة وحتى الرّابطات الرّياضيّة المختلفة.
والأرجح عندي أنّ انتشار ثقافة الاستقلاليّة يحمل معه رغبتيْن مشروعتيْن. إحداهما مطابقة المعايير الدّوليّة والمواصفات المطلوبة في المجتمعات الحديثة والأخرى التّفكيك الحقيقي لمنظومة الاستبداد.
فالدّكتاتور نَهِمٌ لا يفكّر إلاّ في ابتلاع المؤسّسات والمنظّمات ووضعها تحت كلكله تسنده في ذلك الدّولة ، بمنطق المصلحة العليا ذاته إذ هي على استعداد دائم للتّعدّي على الحقوق وتساعده نزعة المجتمع السّياسي للهيمنة على المجتمع المدني.
لذلك تصبح الاستقلاليّة، في هذه المرحلة ، مرحلة الانتقال الدّيمقراطي ، المعيار الأوّل لتمييز المدافعين عن الثّورة (خارج قواعد البلاغة الثّوريّة الرّثّة) من المنحازين إلى الثّورة المضادّة ، وما أكثرهم. على هذا أرى المجتمع وأرى الكتل في مجلسنا التّأسيسي الموقّر الذي مازال قسم منه يدّعي حماية الثّورة ولم يستسغ بعد شرط البعد الحقوقي الكوني في تأسيس الدّستور الجديد بتعلاّت عفا عليها الزّمن.
2
ليس من السّهل التّخلّص من ثقافة الدّكتاتور للذّهاب مباشرة إلى ثقافة الحرّيّة. نتفهّم ذلك ولكن بعض السّلوكات والتّصرّفات تدعو إلى الحيرة.
فهيمنة السّياسي على المؤسّسات الرّياضيّة مثلاً ليست سببًا كافيًا لإلغاء مبدإ المساءلة والمحاسبة مع سلطة الإشراف خصوصًا بعد خيبة منتخبنا في جنوب إفريقيا. ليس الأمر متعلّقًا بالوزير الذي قد لا يكون في مكانه الحقيقي ، وهو اللاّعب السّاحر الذي متّعنا بالفرجة ، بقدر ما هو متعلّق بواجب أن تقدّم الجامعة ، على استقلاليّتها المكفولة ، حساباتها المالية وبرامج تحضيراتها وتربّصاتها الذي أفضى إلى مرارة عودة منتخبنا منكسرًا.
ولكنّ أخطر ما في الأمر ، هو تجرّؤ السّيد رئيس جامعة كرة القدم على مراسلة زعيم سياسي يشكو إليه الوزيرَ الذي ينتمي إلى حزبه. فبأيّ منطق مذلٍّ مازال قائمًا على رؤية أساسها المنقذ البطل الزّعيم الواحد الأحد يكتب رئيس جامعة لزعيم حزب سياسي مهما تكن قيمته في عينيه ؟ هل رحل بن علي حقًّا من عقول هؤلاء المسؤولين ؟ أليس في البلاد مؤسّسات شرعيّة ووسائل قانونيّة لمواجهة ما قد يراه هذا أو ذاك تدخّلاً سياسيًّا سافرًا في عمل جامعة رياضيّة لها استقلاليتها ؟ هل عيّنه الوزير أم الزّعيم السّياسي حتى يلتجئ إليه ؟ فما قيمة الانتخاب حينئذٍ خصوصًا أنّ رؤساء أندية كرة القدم لم يخفوا مساندتهم له؟ ما قيمة الارتباط بالجامعة الدّولية لكرة القدم التي تمثّل سلطة ماليّة وسياسية أقوى من جميع الأحزاب إلى حدّ أمكنها في أعتى الدّكتاتوريات أن تفرض مبدأ الاستقلاليّة عليها بما في ذلك على الدّكتاتور المخلوع.
فلو وجّه السّيد رئيس جامعة كرة القدم مكتوبه إلى السّيد جوزيف بلاتر ، رئيس "الفيفا" لكان صنيعه مفهومًا رغم كلّ ما سيرمى به من اتّهام بالاستقواء بالأجنبي (هي تهمة ابتذلها النّظام السّابق) أمّا أن يخاطب رئيس حزب بعينه ينتمي إليه وزير الشّباب والرّياضيّة فهذا دليل منصوب على أنّ رئيس جامعة كرة القدم مازال يستبطن خطاطة الدّكتاتوريّة وأمثاله من أكبر الأخطار على الحرّيّة التي لا يعرفون كيف يسيرون في أرجائها الفسيحة.
3
قد يبدو رهان الكرة وخيبة المنتخب الوطني ورسالة رئيس الجامعة إلى السّيّد راشد الغنّوشي وصراعه مع وزيره أمورًا ثانويّة مقارنةً بعدالة معطّلة وزيادات في الأسعار مشطّة ودستور لم يولد بعد وحكومة في سوق المزايدات البائسة وتحقيقات لم تبلغ مداها وأخطار أمنيّة محدقة وما إلى هذا ممّا نكّد به الدّهر وبعض أخوتنا في الوطن حياتَنا.
ولكنّ عظائم الأمور حين ندقّق تبدأ بصغائرها، واستقلاليّة جامعة كرة القدم التي فرضتها المعايير الدّوليّة صورة مصغّرة من الاستقلاليّة التي يرونها بعيدة ونراها قريبة، يعطّلونها بألاعيب خسيسة تليق بدكتاتور أصيل ولكنّها آتية ولا ريب.
فقط لننتبه إلى مَنْ صيغت عقولهم على مقاس الاستبداد ورضعوا حليبه فيسارعون لاستنساخ أفعاله. هم من سيصنعون الدّكتاتور.


Aucun commentaire: